تفسير سورة النور
[ من الآية (6) إلى الآية (10) ]
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)}
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (أن تشهد أربع شهاداتٍ)، (فشهادة أحدهم أربع شهاداتٍ)
قرأ حفص وحمزة والكسائي (أربع شهاداتٍ) رفعا.
وقرأ الباقون (أربع شهاداتٍ) نصبًا.
قال أبو منصور: من قرأ (أربع) بالرفع على خبر الابتداء، المعنى: فشهادة أحدهم التي تدرأ حدّ القاذف أربع.
ومن نصب (أربع) فالمعنى: فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات بالله - والشهادة ها هنا: الأيمان، لا كشهادة شاهد). [معاني القراءات وعللها: 2/202] (م)
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (3- وقوله تعالى: {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} [6].
قرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم {أربع} بالرفع، جعلوه خبر الابتداء، والمبتدأ {فشهادة}.
قال أبو حاتم: من رفع فقد لحن؛ لأن الشهادة واحدة. وقد أخبر عنها بجمع. ولا يجوز هذا كما لا يجوز زيد إخوتك. وغلط؛ لأن الشهادة وإن كانت واحدة في اللفظ فمعناها الجمع، وهذا كقوله صلاتي جمعين، وصومي شهر.
[إعراب القراءات السبع وعللها: 2/100]
وقرأ الباقون: {أربع} بالنصب، جعلوه مفعولاً، أي: تشهد أربع شهادات). [إعراب القراءات السبع وعللها: 2/101]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله: فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله [النّور/ 6] في ضمّ العين وفتحها.
فقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم أربع شهادات بالله بالضمّ.
وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم: (أربع شهادات بالله) فتحا.
قال أبو علي: من نصب قوله: (أربع شهادات بالله) نصبه
[الحجة للقراء السبعة: 5/310]
بالشهادة، وينبغي أن يكون قوله: فشهادة أحدهم مبنيا على ما يكون مبتدأ، تقديره: ما الحكم؟ أو: ما الغرض؟ أن يشهد أحدهم أربع شهادات، أو فعليهم أن يشهدوا، وإن شئت حملته على المعنى، لأنّ المعنى: يشهد أحدهم، فقوله: بالله يجوز أن يكون من صلة الشهادة، ومن صلة شهادات إذا نصبت الأربع، وقياس من أعمل الثاني أن يكون قوله: بالله من صلة شهادات، وحذف من الأول لدلالة الثاني عليه، كما تقول: ضربت وضربني زيد. ومن رفع فقال:
فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله فإنّ الجارّ والمجرور من صلة شهادات، ولا يجوز أن يكون من صلة شهادة، لأنّك إن وصلتها بالشهادة فقد فصلت بين الصلة والموصول، ألا ترى أن الخبر الذي هو أربع شهادات يفصل). [الحجة للقراء السبعة: 5/311]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فشهادة أحدهم أربع شهادات باللّه إنّه لمن الصّادقين * والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين * ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات باللّه إنّه لمن الكاذبين * والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصّادقين} 6 - 9
قرأ حمزة والكسائيّ وحفص {فشهادة أحدهم أربع} بالضّمّ وقرأ الباقون بالنّصب
قال الزّجاج من قرأ أربع فعلى خبر الابتداء المعنى فشهادة أحدهم الّتي تدرأ حد القاذف {أربع} والمبتدأ فشهادة ومن نصب {أربع} فالمعنى فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات وينتصب انتصاب المصادر كما تقول شهدت شهادة
قرأ حفص {والخامسة أن غضب الله عليها} بالنّصب على تأويل وتشهد الخامسة
وقرأ الباقون والخامسة بالرّفع على الابتداء والخبر
قرأ نافع {إن} خفيفة {لعنة الله} على الابتداء وقرأ الباقون {أن لعنة الله}
[حجة القراءات: 495]
قرأ نافع {إن} خفيفة {غضب} بكسر الضّاد وفتح الباء {الله} فاعل رفع {غضب} فعل ماض واسم الله رفع بفعله قال سيبويهٍ ها هنا هاء مضمرة وأن خفيفة من الثّقيلة المعنى أنه غضب الله عليها قال الشّاعر:
في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن هالك كل من يحفى وينتعل
وقرأ الباقون أن غضب الله عليها). [حجة القراءات: 496] (م)
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (3- قوله: {أربع شهادات} قرأه حفص وحمزة والكسائي برفع {أربع} وهو الأول، وقرأه الباقون بالنصب.
وحجة من رفع أنه جعله {أربع} خبرًا عن «شهادة» في قوله: «فشهادة أحد» فيكون {بالله} متعلقًا بـ {شهادات}، ولا يتعلق بـ «شهادة» لأنك كنت تفرق بين الصلة والموصول بخبر الابتداء.
4- وحجة من نصب أن «شهادة» بمعنى {أن يشهد} فأعمل {يشهد} في {أربع} فنصبه، ورفع «الشهادة» بمضمر، كأنه قال: فلازم شهادة أحدهم، أو واجب شهادة أحدهم، أو فالحكم شهادة أحدهم، أو فالفرض شهادة أحدهم.
ويجوز أن يكون {إنه لمن الصادقين} خبرًا عن شهادة، ويجوز أن يكون مفعولًا للشهادة، فتعلق الشهادة كما تعلق العلم. ويجوز أن تنصب {أربع شهادات} على المصدر، كما تقول: شهدت مائة شهادة وضربته مائة سوط). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/134]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (3- {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} [آية/ 6] بالرفع:
قرأها حمزة والكسائي و-ص- عن عاصم.
والوجه أنه ارتفع بكونه المبتدأ الذي هو {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ}.
وقرأ الباقون {أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ} بالنصب.
والوجه أن نصبه بالشهادة، والتقدير: فالحكم أن يشهد أحدهم أربع شهاداتٍ، فالشهادة مصدرٌ بمعنى الفعل، فانتصب به {أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ}
[الموضح: 907]
انتصاب المصادر، كأنه قال فالحكم شهادة أحدهم أربع مراتٍ). [الموضح: 908]
قوله تعالى: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (أنّ لعنت اللّه...)، (أنّ غضب اللّه)
قرأ نافع ويعقوب (أن) ساكنة النون خفيفة، و(لعنة الله) رفع، (أن غضب الله) فعل ماض.
قرأه نافع وحده.
وقرأ يعقوب (أنّ غضب اللّه) بفتح الغين والضاد وضم الباء.
وقرأ الباقون (أنّ لعنت) و(أنّ غضب اللّه) بتشديد النون، والنصب فيهما.
قال أبو منصور: العرب إذا شددت (أنّ) نصبت الاسم، وإذا خففت ووليها فهو اسم مرفوع،
ومن قرأ (أنّ غضب اللّه) بفتح الغين والضاد فهو مصدر.
ومن قرأ (أن غضب الله) فغضب فعل ماضٍ). [معاني القراءات وعللها: 2/202] (م)
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (4- وقوله تعالى: {والخامسة أن لعنة الله عليه} [7].
و{أن غضب الله} [9]
قرأ نافع وحده بتخفيف «أن» و{لعنة} رفع بالابتداء، وغضب فعل ماض. واسم الله تعالى رفع بفعله.
وقرأ الباقون بتشديد [«أن»] ونصب الغضب واللعنة.
ومعنى هذه الآية أن من قذف محصنة مسلمة بفاحشة فلم يأت بأربعة شهداء جلد ثمانين، ومن رمي امرأته بفاحشة تلاعنا. والملاعنة: أن يبدأ الرجل فيحلف بالله الذي لا إله إلا هو أنه صادق فيما رماها به، ويشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به، وتشهد المرأة أربع شهادات بالله إنه من الكاذبين فيما رماها به، وتشهد الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. ثم يفرق بينهما فلا يجتمعان أبدًا.
فأما من قذف مسلمة فلا تقبل شهادته أبدًا. ويقبل الله توبته. وقال آخرون: تقبل شهادته إن كانا الله قد قبل توبته. فيجعل الاستثناء في قوله: {أولئك هم الفاسقون * إلا الذين تابوا} [4، 5] استثناء متصلاً. وقرأ حفص وحده، {والخامسة} [7، 9] بالنصب على تأويل. وتشهد الخامسة.
والباقون يرفعون على الابتداء والخبر). [إعراب القراءات السبع وعللها: 2/101] (م)
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (وكلهم قرأ: والخامسة [النور/ 7] رفعا غير حفص عن عاصم فإنه قرأ (والخامسة) نصبا.
[الحجة للقراء السبعة: 5/311]
القول في ذلك أنّ من نصب (أربع شهادات بالله) وأضمر لقوله: فشهادة أحدهم أو حمله على المعنى، نصب (الخامسة) لأنّ الخامسة من الشهادات، فيكون المعنى: شهد أربع شهادات بالله، والخامسة، فيكون محمولا على ما حمل عليه الأربع في الإعراب، لأنّه بمعناه. ومن رفع أربع شهادات على أنّه خبر فشهادة أحدهم لزمه أن يرفع الخامسة أيضا. فيكون المعنى: أربع شهادات، والشهادة الخامسة، وما بعده من (أنّ) في موضع نصب. والخامسة بأن غضب الله هذا هو القياس، ويجعل الخامسة يتعلق بها الباء التي تقدر في بأنّ لأنّه بمعنى الشهادة فيتعلق به الجار كما يتعلق بالشهادة كما يتعلق إلى بالرفث في قوله: الرفث إلى نسائكم [البقرة/ 187] لمّا كان الرّفث بمعنى الإفضاء. ولا يجوز أن يكون تعلقه بالشهادة الموصوفة بالخامسة، لأنّ الموصول إذا وصفته لم يتصل به شيء بعد الوصف، فرواية غير حفص عن عاصم والخامسة يحملها على ما روي عنه من قوله: أربع شهادات المعنى: أربع شهادات والخامسة. ومن نصب الخامسة مع رفعه أربع شهادات بالله حمله على فعل دلّ عليه ما تقدم لازما. تقدم من قوله: فشهادة أحدهم أربع شهادات يدلّ على يشهد أحدهم ويشهد الخامسة بكذا. ومن نصب (أربع شهادات بالله) جاز في قوله: والخامسة أن يكون معطوفا على ما في صلة المصدر، وجاز أن يكون في صلة شهادات، لأنّه لم يفصل بين الصلة والموصول بالأجنبي، كما يفصل إذا رفع أربع شهادات، فإن رفع أربع شهادات لم يكن إلّا معطوفا على صلة شهادات، ولا يجوز أن يعطف على صلة المصدر الأوّل، لأنّك تفصل حينئذ بين الصلة والموصول بخبر الموصول، ويجوز أن لا تقدّر به العطف على الصلة، ولكن تضمر
[الحجة للقراء السبعة: 5/312]
فعلا يحمل عليه، وتنصبه به. وإذا رفع الخامسة، وقد رفع الأربع، حمل الخامسة على الأربع، لأنّها شهادة، كما أنّ «الأربع» شهادات، ومجموع ذلك خبر المبتدأ الذي هو فشهادة أحدهم. ومن نصب الخامسة وقد رفع أربع شهادات قطعه منه ولم يجعل الخبر المجموع، ولكن حمله على ما الكلام من معنى الفعل كأنّه ويشهد الخامسة، يضمر هذا الفعل، لأنّ في الكلام دلالة عليه.
قال: ولم يختلفوا في الأولى أنّها مرفوعة.
يعني بالأولى قوله: والخامسة بعد قوله: فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة ووجه ذلك أنّه لا يخلو أن يكون ما قبله من قوله: (أربع شهادات) مرفوعا أو منصوبا، فإن كان مرفوعا أتبع الرّفع، التّقدير: شهادة أحدهم أربع والخامسة، فيكون محمولا على ما قبلها من الرّفع، وإن كان ما قبله من قوله (أربع) منصوبا قطعه عنه، ولم يحمله على النصب. وحمل الكلام على المعنى، لأنّ معنى قوله: فشهادة أحدهم أربع شهادات: عليهم أربع شهادات، وحكمهم أربع شهادات والخامسة، فيحمله على هذا، كما أنّ قوله:
إلّا رواكد جمرهنّ هباء
[الحجة للقراء السبعة: 5/313]
معناه ثم رواكد فحمل قوله:
ومشجّج أمّا سواء قذاله عليه. ويجوز في القياس النصب في الخامسة الأولى، رفع أربع شهادات أو نصب، وإذا نصب فعلى قوله فشهادة أحدهم أربع شهادات والخامسة فيعطفه على الأربع المنصوبة. وإن رفع أربع شهادات، جاز النصب في الخامسة، لأن المعنى: يشهد أحدهم أربع شهادات، ويشهد الخامسة فينصبه لما في الكلام من الدّلالة على هذا الفعل، وأحسب أنّ غيرهم قد قرأ بذلك). [الحجة للقراء السبعة: 5/314]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله: والخامسة أن لعنة الله عليه وأن غضب الله عليها [النور/ 7 - 9] فقرأ نافع وحده: (أن لعنة الله) و (أن غضب الله) بكسر الضاد رفع وقرأ الباقون: أن لعنة الله وأن غضب الله مشدّدة النون فيهما.
قال أبو الحسن: لا أعلم الثقيلة إلّا أجود في العربية، لأنّك إذا خفّفت فالأصل عندي التثقيل فتخفّف وتضمر، فأن تجيء بما عليه المعنى، ولا تكون أضمرت، ولا حذفت شيئا أجود، وكذلك: (إن الحمد لله) [يونس/ 10] وجميع ما في القرآن مما يشبه هذا.
فأمّا قراءة نافع: (والخامسة أن لعنة الله عليه)
[الحجة للقراء السبعة: 5/314]
قال سيبويه: من قال: (والخامسة أن غضب الله) فمعناه عنده: أنّه غضب الله عليها، ولا تخفّف في الكلام أبدا وبعدها الأسماء إلّا وأنت تريد الثقيلة على إضمار القصّة فيها، وكذلك قوله: أن الحمد لله رب العالمين [يونس/ 10] فيمن خفّف وعلى هذا قول الأعشى:
.. قد علموا أن هالك كلّ من يحفى وينتعل وإنّما خفّفت الثقيلة المفتوحة على إضمار القصّة والحديث، ولم تكن كالمكسورة في ذلك، لأنّ الثقيلة المفتوحة موصولة، والموصول يتشبّث بصلته أكثر من تشبّث غير الموصول بما يتصل، فلم يخفّف إلّا على هذا الحدّ، ليدلّ على اتصالها بصلتها أشدّ.
وأمّا قراءة نافع (أن غضب الله) فإنّ (أن) فيه المخفّفة من الثقيلة، وأهل العربية يستقبحون أن تلي الفعل حتى يفصل بينها وبين الفعل بشيء، ويقولون: استقبحوا أن تحذف ويحذف ما تعمل فيه، وأن تلي ما لم تكن تليه من الفعل بلا حاجز بينهما، فتجتمع هذه الاتساعات فيها، فإن فصل بينها وبين الفعل بشيء لم يستقبحوا ذلك كقوله: علم أن سيكون منكم مرضى [المزمل/ 20] و: أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولا [طه/ 89] و: علمت أن قد قام. وإذا فصل بشيء من هذا النحو بينه وبين الفعل زال بذلك أن تلي ما لم يكن حكمها أن تليه. فإن قيل: فقد جاء: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [النجم/ 39] وجاء: نودي أن بورك من في النار ومن حولها
[الحجة للقراء السبعة: 5/315]
[النمل/ 8] فإنّ (ليس) تجري مجرى ما ونحوها ممّا ليس بفعل. فأمّا نودي أن بورك فإن قوله بورك على معنى الدعاء، فلم يجز دخول لا، ولا قد، ولا السين، ولا شيء ممّا يصحّ دخوله في الكلام، فيصحّ به الفصل وهذا مثل ما حكاه من قولهم: أما أن جزاك الله خيرا. فلم يدخل شيء من هذه الفواصل من حيث لم يكن موضعا لها، وغير الدّعاء في هذا ليس كالدّعاء، ووجه قراءة نافع: أن ذلك، قد جاء في الدّعاء ولفظه لفظ الخبر. وقد يجيء في الشّعر، وإن لم يكن شيء يفصل بين أن وبين ما تدخل عليه من الفعل، فإن قلت: فلم لا تكون أن. في قوله: (أن غضب الله) أن الناصبة للفعل وصل بالماضي؟
فيكون كقول من قرأ: (وامرأة مؤمنة أن وهبت نفسها للنبي) [الأحزاب/ 50] فإن ذلك لا يسهل. ألا ترى أنّها متعلقة بالشهادة، والشهادة بمنزلة العلم لا تقع بعدها الناصبة). [الحجة للقراء السبعة: 5/316] (م)
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الأعرج بخلاف وأبي رجاء وقتادة وعيسى وسلام وعمرو بن ميمون، ورويت عن عاصم: [أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ] [أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ].
وقرأ: [أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ] رفع وخفف النون، و[أَنَّ غَضَبُ اللَّهِ] نصب -يعقوب.
قال أبو الفتح: أما من خفف ورفع فإنها عنده مخففة من الثقيلة وفيها إضمار محذوف للتخفيف، أي: أنه لعنةُ الله عليه وأنه غضبُ الله عليها، فلما خففت أضمر اسمها وحذف، ولم يكن من إضماره بد؛ لأن المفتوحة إذا خففت لم تصر بالتخفيف حرف ابتداء، وإنما تلك إن المكسورة، وعليه قول الشاعر:
[المحتسب: 2/102]
فِي فِتيَةٍ كسُيُوفِ الهنْدِ قَدْ عَلِمُوا ... أنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى ويَنْتَعِلُ
أي: أنه هالك كل من يحفى وينتعل.
وسبب ذلك أن اتصال المكسورة باسمها وخبرها اتصال بالمعمول فيه، واتصال المفتوحة باسمها وخبرها اتصالان: أحدهما اتصال العامل بالمعمول، والآخر اتصال الصلة بالموصول.
ألا ترى أن ما بعد المفتوحة صلة لها؟ فلما قوي مع الفتح اتصال أن بما بعدها لم يكن لها بد من اسم مقدر محذوف تعمل فيه، ولما ضعف اتصال المكسورة بما بعدها جاز إذا خففت أن تفارق العمل وتخلص حرف ابتداء، ولا يجوز أن تكون "أنْ" هنا بمنزلة أي للعبارة، كالتي في قول الله سبحانه: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا}، معناه أي: امشوا. قال سيبويه: لأنها لا تأتي إلا بعد كلام تام، وقوله: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ} كلام تام، وليست "الخامسة" وحدها كلاما تاما فتكون "أن" بمعنى "أي"، ولا تكون "أن" هنا زائدة كالتي في قوله:
ويوْمًا تُوَافِينا بوجْه مُقَسَّمٍ ... كَأَنْ ظَبْيَةٍ تَعْطُو إلَى وارِقِ السَّلَمْ
لأن معناه والخامسة أن الحال كذلك، يدل على ذلك قراءة الكافة: {أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ} وأن {غَضَبَ اللَّهِ} ). [المحتسب: 2/103]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (5- قوله: {أن لعنت الله} و{أن غضب الله} قرأه نافع فيهما بتخفيف {أن} ورفع «اللعنة» على الابتداء، وعليه الخبر وكسر الضاد من {غضب} على أنه فعل ماض، يرتفع به الاسم بعده، و{أن} يراد بها الثقيلة، ولا تخفف {أن} المفتوحة إلا وبعدها الأسماء، فتضمر معها الهاء، وإذا خففت المكسورة أضمرت معها القصة أو الحديث، وقد تقدم شرح الفرق
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/134]
بينهما، وقرأ الباقون بتشديد {أن} ونصب «اللعنة» وفتح الضاد من {غضب} يجعلونه مصدرًا، وينصبونه بـ {أن} ويخفضون الاسم بعده، على إضافة الغضب إليه، والاختيار ما عليه الجماعة). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/135] (م)
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (6- قوله: {والخامسة} قرأ حفص بالنصب، وهو الثاني، وقرأ الباقون بالرفع.
وحجة من نصبه أنه نصبه على إضمار فعل، دل عليه الكلام تقديره: ويشهد الخامسة، أي الشهادة الخامسة؛ لأن {شهادة} تدل على «يشهد» ونصبه على أنه موضوع موضع المصدر، ويجوز نصب الخامسة في قراءة من نصب {أربع شهادات} على العطف على {أربع} ويجوز نصب {أربع}، و{الخامسة} على أنهما موضوعان موضع المصدر.
7- وحجة من رفع أنه عطفه على {أربع} إن كان ممن يقرأ {أربع شهادات} بالرفع، وإن كان يقرأ أربع} بالنصب رفع الخامسة على خبر ابتداء محذوف، تقديره: وشهادة أحدهم الخامسة، ويجوز أن يحمله على المعنى؛ لأن {أربع شهادات} وإن نصبته فمعناه الرافع فترفع {الخامسة} على العطف على معنى {أربع شهادات} ). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/135]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (4- {أَنْ لَعْنَتُ الله} [آية/ 7]، و{أَنْ غَضَبُ الله} [آية/ 9] بالتخفيف فيهما، ورفع اللعنة والغضب:
قرأهما نافع ويعقوب.
والوجه أن {أَنْ} مخففةٌ من الثقيلة، والأمر أو الشأن مضمرٌ، وقد ذكرنا أنَّ أنْ إذا خففت أضمر بعدها الأمر أو الشأن في الأغلب، فيكون الأمر أو الشأن اسم أنْ، والجملة التي بعده خبر أنْ، ورفع قوله {لَعْنَةُ الله} {غَضَبُ الله} على أن كل واحدٍ منهما مبتدأ، والجار مع المجرور الذي بعده خبره، والمبتدأ مع الخبر جملةٌ هي خبر أنْ، والتقدير أنه أي أن الأمر لعنة الله عليه وأن الشأن غضب الله عليه، كما قال تعالى {وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} عند من خفف، والتقدير أنه الحمد لله، على معنى أن الأمر أو الشأن، وقد مضى ذكر هذا.
وأما نافعٌ فإنه جعل {غَضِبَ} فعلًا ماضيًا وكسر الضاد وفتح الباء ورفع اسم الله.
[الموضح: 908]
والوجه أنّ أنْ مخففةٌ من الثقيلة كما قدمنا، واسمها مضمرٌ، وهو ضمير الأمر أو الشأن، والتقدير أنه غضب الله عليها، لكن أهل العربية يستقبحون أن تلي المخففة الفعل حتى يفصل بينها وبين الفعل بشيء نحو قوله تعالى {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ} و{أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ}. ونحو قولك علمت أن قد قام زيدٌ، لكنه قد جاء في الدعاء بغير فصلٍ نحو قوله تعالى {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ}.
ونافع حمله على ذلك.
وأما ارتفاع اسم الله فبأنه فاعل {غَضِبَ} و-إن- عن يعقوب {أَنْ غَضَبَ الله} بفتح الضاد، ونصب الباء، والجر في اسم الله.
والوجه أنه جعل {غَضَبَ} اسمًا لا فعلًا، فنصبه بأن المخففة، وجعل عملها مخففة كعملها مشددةً، وهذا قليلٌ، وجر اسم الله بإضافة غضبٍ إليه.
وقرأ الباقون {أنَّ} بالتشديد في الحرفين و{لَعْنَةَ الله} و{غَضَبَ الله} بالنصب فيهما، وإضافتهما إلى الله.
والوجه أن {أنَّ} مشددةٌ على أصلها، وهي تنصب الأسماء وترفع الأخبار وكل واحدٍ من {لَعْنَةَ الله} و{غَضَبَ الله} اسم {أنَّ}، والجار والمجرور الذي بعده خبر {أنَّ} ). [الموضح: 909] (م)
قوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ ۙ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (أن تشهد أربع شهاداتٍ)، (فشهادة أحدهم أربع شهاداتٍ)
قرأ حفص وحمزة والكسائي (أربع شهاداتٍ) رفعا.
وقرأ الباقون (أربع شهاداتٍ) نصبًا.
قال أبو منصور: من قرأ (أربع) بالرفع على خبر الابتداء، المعنى: فشهادة أحدهم التي تدرأ حدّ القاذف أربع.
ومن نصب (أربع) فالمعنى: فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات بالله - والشهادة ها هنا: الأيمان، لا كشهادة شاهد). [معاني القراءات وعللها: 2/202] (م)
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (وقوله: إنه لمن الكاذبين [النور/ 8] في قول من نصب أربع شهادات بالله يجوز أن يكون من صلة شهادة أحدهم، وتكون الجملة التي هي إنه لمن الكاذبين في موضع نصب، لأنّ الشهادة كالعلم فيتعلق بها (إن) كما يتعلق بالعلم، والجملة في موضع نصب بأنّه مفعول به، وأربع شهادات ينتصب انتصاب المصادر.
ومن رفع أربع شهادات لم يكن قوله: إنه لمن الكاذبين إلّا من صلة شهادات دون شهادة، كما كان قوله: بالله من صلة شهادات دون صلة شهادة، لأنّك إن جعلته من صلة شهادة فصلت بين الصلة والموصول). [الحجة للقراء السبعة: 5/311]
قوله تعالى: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (أنّ لعنت اللّه...)، (أنّ غضب اللّه)
قرأ نافع ويعقوب (أن) ساكنة النون خفيفة، و(لعنة الله) رفع، (أن غضب الله) فعل ماض.
قرأه نافع وحده.
وقرأ يعقوب (أنّ غضب اللّه) بفتح الغين والضاد وضم الباء.
وقرأ الباقون (أنّ لعنت) و(أنّ غضب اللّه) بتشديد النون، والنصب فيهما.
قال أبو منصور: العرب إذا شددت (أنّ) نصبت الاسم، وإذا خففت ووليها فهو اسم مرفوع،
ومن قرأ (أنّ غضب اللّه) بفتح الغين والضاد فهو مصدر.
ومن قرأ (أن غضب الله) فغضب فعل ماضٍ). [معاني القراءات وعللها: 2/202] (م)
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (والخامسة أنّ)
قرأ حفص وحده (والخامسة أنّ غضب اللّه) نصبًا.
وقرأ الباقون (والخامسة) بالرفع.
قال أبو منصور: من نصب (الخامسة) فالمعنى: وليشهد الخامسة.
ومن قرأ (والخامسة) فهي معطوفة على قوله: (فشهادة أحدهم أربع)، بالرفع.
وقال الفراء: الخامسة في الآيتين مرفوعتان بما بعدهما من (أنّ) و(أنّ)، ولو نصبتهما على وقوع الفعل كان صوابًا، كأنك قلت: وليشهد الخامسة بأنّ لعنة الله). [معاني القراءات وعللها: 2/203]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (4- وقوله تعالى: {والخامسة أن لعنة الله عليه} [7].
و{أن غضب الله} [9]
قرأ نافع وحده بتخفيف «أن» و{لعنة} رفع بالابتداء، وغضب فعل ماض. واسم الله تعالى رفع بفعله.
وقرأ الباقون بتشديد [«أن»] ونصب الغضب واللعنة.
ومعنى هذه الآية أن من قذف محصنة مسلمة بفاحشة فلم يأت بأربعة شهداء جلد ثمانين، ومن رمي امرأته بفاحشة تلاعنا. والملاعنة: أن يبدأ الرجل فيحلف بالله الذي لا إله إلا هو أنه صادق فيما رماها به، ويشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به، وتشهد المرأة أربع شهادات بالله إنه من الكاذبين فيما رماها به، وتشهد الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين. ثم يفرق بينهما فلا يجتمعان أبدًا.
فأما من قذف مسلمة فلا تقبل شهادته أبدًا. ويقبل الله توبته. وقال آخرون: تقبل شهادته إن كانا الله قد قبل توبته. فيجعل الاستثناء في قوله: {أولئك هم الفاسقون * إلا الذين تابوا} [4، 5] استثناء متصلاً. وقرأ حفص وحده، {والخامسة} [7، 9] بالنصب على تأويل. وتشهد الخامسة.
والباقون يرفعون على الابتداء والخبر). [إعراب القراءات السبع وعللها: 2/101] (م)
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله: والخامسة أن لعنة الله عليه وأن غضب الله عليها [النور/ 7 - 9] فقرأ نافع وحده: (أن لعنة الله) و (أن غضب الله) بكسر الضاد رفع وقرأ الباقون: أن لعنة الله وأن غضب الله مشدّدة النون فيهما.
قال أبو الحسن: لا أعلم الثقيلة إلّا أجود في العربية، لأنّك إذا خفّفت فالأصل عندي التثقيل فتخفّف وتضمر، فأن تجيء بما عليه المعنى، ولا تكون أضمرت، ولا حذفت شيئا أجود، وكذلك: (إن الحمد لله) [يونس/ 10] وجميع ما في القرآن مما يشبه هذا.
فأمّا قراءة نافع: (والخامسة أن لعنة الله عليه)
[الحجة للقراء السبعة: 5/314]
قال سيبويه: من قال: (والخامسة أن غضب الله) فمعناه عنده: أنّه غضب الله عليها، ولا تخفّف في الكلام أبدا وبعدها الأسماء إلّا وأنت تريد الثقيلة على إضمار القصّة فيها، وكذلك قوله: أن الحمد لله رب العالمين [يونس/ 10] فيمن خفّف وعلى هذا قول الأعشى:
.. قد علموا أن هالك كلّ من يحفى وينتعل وإنّما خفّفت الثقيلة المفتوحة على إضمار القصّة والحديث، ولم تكن كالمكسورة في ذلك، لأنّ الثقيلة المفتوحة موصولة، والموصول يتشبّث بصلته أكثر من تشبّث غير الموصول بما يتصل، فلم يخفّف إلّا على هذا الحدّ، ليدلّ على اتصالها بصلتها أشدّ.
وأمّا قراءة نافع (أن غضب الله) فإنّ (أن) فيه المخفّفة من الثقيلة، وأهل العربية يستقبحون أن تلي الفعل حتى يفصل بينها وبين الفعل بشيء، ويقولون: استقبحوا أن تحذف ويحذف ما تعمل فيه، وأن تلي ما لم تكن تليه من الفعل بلا حاجز بينهما، فتجتمع هذه الاتساعات فيها، فإن فصل بينها وبين الفعل بشيء لم يستقبحوا ذلك كقوله: علم أن سيكون منكم مرضى [المزمل/ 20] و: أفلا يرون أن لا يرجع إليهم قولا [طه/ 89] و: علمت أن قد قام. وإذا فصل بشيء من هذا النحو بينه وبين الفعل زال بذلك أن تلي ما لم يكن حكمها أن تليه. فإن قيل: فقد جاء: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى [النجم/ 39] وجاء: نودي أن بورك من في النار ومن حولها
[الحجة للقراء السبعة: 5/315]
[النمل/ 8] فإنّ (ليس) تجري مجرى ما ونحوها ممّا ليس بفعل. فأمّا نودي أن بورك فإن قوله بورك على معنى الدعاء، فلم يجز دخول لا، ولا قد، ولا السين، ولا شيء ممّا يصحّ دخوله في الكلام، فيصحّ به الفصل وهذا مثل ما حكاه من قولهم: أما أن جزاك الله خيرا. فلم يدخل شيء من هذه الفواصل من حيث لم يكن موضعا لها، وغير الدّعاء في هذا ليس كالدّعاء، ووجه قراءة نافع: أن ذلك، قد جاء في الدّعاء ولفظه لفظ الخبر. وقد يجيء في الشّعر، وإن لم يكن شيء يفصل بين أن وبين ما تدخل عليه من الفعل، فإن قلت: فلم لا تكون أن. في قوله: (أن غضب الله) أن الناصبة للفعل وصل بالماضي؟
فيكون كقول من قرأ: (وامرأة مؤمنة أن وهبت نفسها للنبي) [الأحزاب/ 50] فإن ذلك لا يسهل. ألا ترى أنّها متعلقة بالشهادة، والشهادة بمنزلة العلم لا تقع بعدها الناصبة). [الحجة للقراء السبعة: 5/316] (م)
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فشهادة أحدهم أربع شهادات باللّه إنّه لمن الصّادقين * والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين * ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات باللّه إنّه لمن الكاذبين * والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصّادقين} 6 - 9
قرأ حمزة والكسائيّ وحفص {فشهادة أحدهم أربع} بالضّمّ وقرأ الباقون بالنّصب
قال الزّجاج من قرأ أربع فعلى خبر الابتداء المعنى فشهادة أحدهم الّتي تدرأ حد القاذف {أربع} والمبتدأ فشهادة ومن نصب {أربع} فالمعنى فعليهم أن يشهد أحدهم أربع شهادات وينتصب انتصاب المصادر كما تقول شهدت شهادة
قرأ حفص {والخامسة أن غضب الله عليها} بالنّصب على تأويل وتشهد الخامسة
وقرأ الباقون والخامسة بالرّفع على الابتداء والخبر
قرأ نافع {إن} خفيفة {لعنة الله} على الابتداء وقرأ الباقون {أن لعنة الله}
[حجة القراءات: 495]
قرأ نافع {إن} خفيفة {غضب} بكسر الضّاد وفتح الباء {الله} فاعل رفع {غضب} فعل ماض واسم الله رفع بفعله قال سيبويهٍ ها هنا هاء مضمرة وأن خفيفة من الثّقيلة المعنى أنه غضب الله عليها قال الشّاعر:
في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن هالك كل من يحفى وينتعل
وقرأ الباقون أن غضب الله عليها). [حجة القراءات: 496] (م)
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (5- قوله: {أن لعنت الله} و{أن غضب الله} قرأه نافع فيهما بتخفيف {أن} ورفع «اللعنة» على الابتداء، وعليه الخبر وكسر الضاد من {غضب} على أنه فعل ماض، يرتفع به الاسم بعده، و{أن} يراد بها الثقيلة، ولا تخفف {أن} المفتوحة إلا وبعدها الأسماء، فتضمر معها الهاء، وإذا خففت المكسورة أضمرت معها القصة أو الحديث، وقد تقدم شرح الفرق
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/134]
بينهما، وقرأ الباقون بتشديد {أن} ونصب «اللعنة» وفتح الضاد من {غضب} يجعلونه مصدرًا، وينصبونه بـ {أن} ويخفضون الاسم بعده، على إضافة الغضب إليه، والاختيار ما عليه الجماعة). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/135] (م)
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (4- {أَنْ لَعْنَتُ الله} [آية/ 7]، و{أَنْ غَضَبُ الله} [آية/ 9] بالتخفيف فيهما، ورفع اللعنة والغضب:
قرأهما نافع ويعقوب.
والوجه أن {أَنْ} مخففةٌ من الثقيلة، والأمر أو الشأن مضمرٌ، وقد ذكرنا أنَّ أنْ إذا خففت أضمر بعدها الأمر أو الشأن في الأغلب، فيكون الأمر أو الشأن اسم أنْ، والجملة التي بعده خبر أنْ، ورفع قوله {لَعْنَةُ الله} {غَضَبُ الله} على أن كل واحدٍ منهما مبتدأ، والجار مع المجرور الذي بعده خبره، والمبتدأ مع الخبر جملةٌ هي خبر أنْ، والتقدير أنه أي أن الأمر لعنة الله عليه وأن الشأن غضب الله عليه، كما قال تعالى {وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} عند من خفف، والتقدير أنه الحمد لله، على معنى أن الأمر أو الشأن، وقد مضى ذكر هذا.
وأما نافعٌ فإنه جعل {غَضِبَ} فعلًا ماضيًا وكسر الضاد وفتح الباء ورفع اسم الله.
[الموضح: 908]
والوجه أنّ أنْ مخففةٌ من الثقيلة كما قدمنا، واسمها مضمرٌ، وهو ضمير الأمر أو الشأن، والتقدير أنه غضب الله عليها، لكن أهل العربية يستقبحون أن تلي المخففة الفعل حتى يفصل بينها وبين الفعل بشيء نحو قوله تعالى {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ} و{أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ}. ونحو قولك علمت أن قد قام زيدٌ، لكنه قد جاء في الدعاء بغير فصلٍ نحو قوله تعالى {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ}.
ونافع حمله على ذلك.
وأما ارتفاع اسم الله فبأنه فاعل {غَضِبَ} و-إن- عن يعقوب {أَنْ غَضَبَ الله} بفتح الضاد، ونصب الباء، والجر في اسم الله.
والوجه أنه جعل {غَضَبَ} اسمًا لا فعلًا، فنصبه بأن المخففة، وجعل عملها مخففة كعملها مشددةً، وهذا قليلٌ، وجر اسم الله بإضافة غضبٍ إليه.
وقرأ الباقون {أنَّ} بالتشديد في الحرفين و{لَعْنَةَ الله} و{غَضَبَ الله} بالنصب فيهما، وإضافتهما إلى الله.
والوجه أن {أنَّ} مشددةٌ على أصلها، وهي تنصب الأسماء وترفع الأخبار وكل واحدٍ من {لَعْنَةَ الله} و{غَضَبَ الله} اسم {أنَّ}، والجار والمجرور الذي بعده خبر {أنَّ} ). [الموضح: 909] (م)
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (5- {وَالْخَامِسَةَ} [آية/ 9] الثانية بالنصب:
رواها –ص- عن عاصم.
والوجه أنه عطفٌ على قوله {أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ} من قوله {وَيَدْرَؤُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ} وتشهد الخامسة، أي الشهادة الخامسة.
وقرأ الباقون –وياش- عن عاصم {وَالْخَامِسَةُ} بالرفع.
ولم يختلفوا في الخامسة الأولى أنها بالرفع.
والوجه في الثانية أنها معطوفةٌ على موضع {أَنْ تَشْهَدَ}؛ لأن موضعه رفعٌ بأنه فاعل {يَدْرَؤُ} والتقدير: ويدرؤ عنها العذاب شهادة أربع شهادات والشهادة الخامسة، فهي عطف على موضع الفاعل.
ويجوز أن تكون رفعًا بالابتداء {أَنَّ غَضَبَ الله} في موضع الخبر، والتقدير والشهادة الخامسة حصول الغضب عليها.
وأما الرفع المتفق عليه في الخامسة الأولى فوجهه أنه لا يخلو إما قبل الكلمة من قوله {أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ} من أن يكون رفعًا أو نصبًا على ما سبق، فإن كان رفعًا كانت الخامسة معطوفةً عليه، وإن كان نصبًا قطعها عنه ولم يجعلها محمولةً عليه بل حملها على المعنى؛ لأن معنى قوله {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ}: عليهم أربع شهاداتٍ أو حكمهم أربع شهادات، فعطف الخامسة على هذا الموضع). [الموضح: 910]
قوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)}