سورة الإسراء
[ من الآية (13) إلى الآية (17) ]
{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)}
قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (ونخرج له يوم القيامة)
قرأ يعقوب (ويخرج له يوم القيامة) بالياء وضم الراء، " كتابا)، وقرأ الباقون (ونخرج له) بالنون وكسر الراء.
قال أبو منصور: من قرأ (ويخرج له يوم القيامة كتابًا) أي: ما طار له من عمله يخرج كتابًا مكتوبًا، ونصب (كتابًا) على الحال، والقراءة الجيدة (ونخرج له يوم القيامة كتابًا).
[معاني القراءات وعللها: 2/88]
وعلى هذه القراءة نصب قوله (كتابًا) بـ (نخرج) لأنه مفعول به). [معاني القراءات وعللها: 2/89]
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (يلقاه منشورًا)
قرأ ابن عامر (يلقّاه، بضم الياء وتشديد القاف، وقرأ الباقون (يلقاه) بفتح الياء والتخفيف، وأمال القاف حمزة والكسائي.
قال أبو منصور: من قرأ (يلقّاه) فالمعنى: يلقّى كلّ إنسان كتابه منشورًا، أي: يستقبل به.
ومن قرأ (يلقاه) فالمعنى: يلقى كل إنسان كتابه منشورًا، ونصب (منشورًا) على الحال). [معاني القراءات وعللها: 2/89]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (3- وقوله تعالى: {كتابا يلقاه منشورا} [13].
قرأ ابن عامر وحده {يلقاه} مشددًا، جعل الفعل لغير الإنسان، أي:
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/364]
الملائكة تلقاه بالكتاب الذي فيه نسخة عمله، وشاهده: {وكل إنسان ألزمناه طائره} [13] فيلزم الطائر ويلقى الكتاب.
وقرأ الباقون: {يلقاه} جعل الفعل للإنسان، لأن الله تعالى إذا ألزمه طائرة لقي هو الكتاب وصحائف عمله كما قال تعالى: {ومن يفعل ذلك يلقى أثاما} ولم يقل: يلق أثاما. وهذا واضح بين). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/365]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله عز وجل: كتابا يلقاه منشورا [13].
فقرأ ابن عامر وحده: (كتابا يلقاه) بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف.
وقرأ الباقون: يلقاه بفتح الياء وتسكين اللام وتخفيف القاف.
حمزة والكسائي: يميلان القاف.
من قرأ (يخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) فالمعنى: يخرج طائره له كتابا يلقاه منشورا، وهي قراءة الحسن ومجاهد فيما زعموا.
فأما طائره فقيل فيه: حظّه، وقيل: عمله. وما قدّم من خير أو شرّ، فيكون المعنى على هذا، ويخرج عمله كتابا أي ذا كتاب ومعنى ذا كتاب: أنه مثبت في الكتاب الذي قيل فيه لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها [الكهف/ 49] وقوله: أحصاه الله ونسوه [المجادلة/ 6] وقال: هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت [يونس/ 30] وقوله: هاؤم اقرؤوا كتابيه [الحاقة/ 19].
[الحجة للقراء السبعة: 5/87]
وإنما قيل لعمله طائر، وطير في بعض القراءة على حسب تعارف العرب لذلك في نحو قولهم: جرى طائره بكذا. ومثل هذا في ياسين: قالوا طائركم معكم [19] وفي الأعراف: إنما طائرهم عند الله [131]. وروينا عن أحمد بن يحيى عن أبي المنهال المهلبي قال: حدثنا أبو زيد الأنصاري: أن ما مرّ من طائر أو ظبى أو غيره فكلّ ذلك عندهم طائر، وأنشد أبو زيد لكثير في تصييرهم كل ما زجر طائرا، وإن كان ظبيا أو غيره من البهائم. فقال:
فلست بناسيها ولست بتارك إذا عرض الأدم الجواري سؤالها قال: ثم أخبر في البيت الثاني أن الذي زجره طائر فقال:
أأدرك من أم الحكيم غبطة... بها خبّرتني الطّير أم قد أتى لها
وأنشد لزهير في ذلك:
فلمّا أن تفرق آل ليلى... جرت بيني وبينهم ظباء
جرت سنحا فقلت لها مروعا... نوى مشمولة فمتى اللقاء
قال أبو زيد: فقولهم: سألت الطير، وقلت للطير: إنما هو:
[الحجة للقراء السبعة: 5/88]
زجرتها، وقولهم: خبرتني الظباء والطير بكذا: إنما هو وقع زجري عليها على كذا وكذا من خير وشرّ، ويقوّى ما ذكره أبو زيد قول الكميت:
ولا أنا ممّن يزجر الطير همّه... أصاح غراب أم تعرّض ثعلب
وأنشد لحسان بن ثابت:
ذريني وعلمي بالأمور وسيرتي... فما طائري فيها عليك بأخيلا
أي: رأيي ليس بمشئوم، وأنشد لكثير:
أقول إذا ما الطير مرّت مخيلة... لعلّك يوما فانتظر أن تنالها
مخيلة: مكروهة. وهو من الأخيل.
فأمّا قوله في عنقه [الإسراء/ 13] فمعناه والله أعلم: لزوم ذلك له وتعلّقه به، وهذا مثل قولهم: طوقتك كذا، وقلّدتك كذا، أي صرفته نحوك، وألزمته إياك. ومنه: قلده السلطان كذا، أي: صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادة، ومكان الطوق، قال الأعشى:
قلّدتك الشّعر يا سلامة ذا ال... إفضال والشّعر حيث ما جعلا
[الحجة للقراء السبعة: 5/89]
وقال أوس بن حجر:
تجول وفي الأعناق منها خزاية... أوابدها تهوي إلى كلّ موسم
وقال الهذليّ:
فليست كعهد الدار يا أمّ خالد... ولكن أحاطت بالرّقاب السلاسل
وأنشد الأصمعيّ:
إنّ لي حاجة إليك فقالت... بين أذني وعاتقي ما تريد
ومن قرأ: ونخرج له يوم القيامة كتابا، وهو قراءة الجمهور، فالكتاب ينتصب بأنه مفعول به كقوله: هاؤم اقرؤوا كتابيه [الحاقة/ 19] وقوله: اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [الإسراء/ 14]، هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون [الجاثية/ 29].
فأما قوله: يلقاه منشورا فيدلّ عليه قوله: وإذا الصحف نشرت [التكوير/ 10]. فأما من قرأ: (يلقاه) فهو من قولك: لقيت الكتاب، فإذا ضعفت قلت: لقانيه زيد، فيتعدى الفعل بتضعيف العين إلى مفعولين بعد ما كان يتعدّى بغير التضعيف إلى مفعول واحد. فإذا
[الحجة للقراء السبعة: 5/90]
بني الفعل للمفعول به نقص مفعول من المفعولين، لأن أحدهما يقوم مقام الفاعل في إسناده فيبقى متعديا إلى مفعول واحد، وعلى هذا قوله: ويلقون فيها تحية وسلاما [الفرقان/ 75] وفي البناء للفاعل:
ولقاهم نضرة وسرورا [الإنسان/ 11].
وإمالة حمزة والكسائي القاف حسنة وتركها حسن). [الحجة للقراء السبعة: 5/91]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا}
قرأ ابن عامر {كتابا يلقاه منشورا} بضم الياء وفتح اللّام وتشديد القاف جعل الفعل لغير الإنسان أي الملائكة تتلقاه بكتابه الّذي فيه نسخة عمله وهو من قولك لقيت الكتاب فإذا ضعفت قلت لقانيه زيد فيتعدى الفعل بتضعيف العين إلى مفعولين بعدما كان يتعدّى بغير التّضعيف إلى مفعول واحد ويقوّي هذا قوله {ولقاهم نضرة}
وقرأ الباقون {يلقاه} بفتح الياء جعلوا الفعل للإنسان لأن الله تعالى إذا ألزمه طائره لقي هو الكتاب كما قال تعالى {يلق أثاما}
[حجة القراءات: 398]
{ومن يفعل ذلك يلق أثاما} ولم يقل يلق أثاما وهذا بين واضح متى بني الفعل للمفعول به نقص مفعول من المفعولين لأن أحدهما يقوم مقام الفاعل في إسناده إليه فيبقى متعدّيا إلى مفعول واحد). [حجة القراءات: 399]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (3- قوله: {كتابًا يلقاه} قرأ ابن عامر بضم الياء وفتح اللام مشددا، بناه للمفعول، وعداه إلى مفعولين: أحدهما مضمر في {يلقاه} قام مقام الفاعل، يعود على صاحب الكتاب، والآخر الهاء، {منشورًا} نعت لـ «الكتاب» والهاء لـ «الكتاب»، ودليل التشديد قوله: {ولقاهم نضرة} «الإنسان 11» وقرأ الباقون بفتح الياء، وإسكان اللام، والتخفيف، عدوه إلى مفعول واحد، وهو الهاء، وفي {يلقاه} ضمير الفاعل، وهو صاحب الكتاب، وهو الاختيار، لأن الجماعة عليه). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/43]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (4- {وَيَخْرُجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آية/ 13] بالياء مفتوحةً، والراء مضمومةً:
قرأها يعقوب وحده، ونصب {كِتابًا} مثل القراء.
والوجه أن الفعل مسندٌ إلى ما يدل عليه قوله تعالى {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ
[الموضح: 750]
طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ}، والمراد ألزمناه عمله، والضمير في قوله {يَخْرُجُ} راجعٌ إلى الطائر وهو العمل، والتقدير: يخرج له عمله يوم القيامة كتابًا، أي في حال كونه كتابًا، وهو منصوب على الحال أي مكتوبًا أو ذا كتابٍ، والفعل على هذا من خرج.
وقرأ الباقون {ونُخْرِجُ لَهُ} بالنون المضمومةً، والراء مكسورةً.
والمراد نُخرج نحن له كتابًا، والمخرج هو الله عز وجل، والكتاب منصوب؛ لأنه مفعولٌ به، والفعل على هذا من أخرج). [الموضح: 751]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (5- {يُلَقَّاهُ} [آية/ 13] بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف:
قرأها ابن عامر وحده.
والوجه أن الفعل من لقيته المضعف العين، وهو الذي يتعدى إلى مفعولين؛ لأنه منقول بالتضعيف من لقي، تقول لقي فلانٌ الشيء ولقيته إياه، فلما بني للمفعول به أُقيم أحد المفعولين مقام الفاعل فنقص منهما مفعولٌ وبقي الفعل متعديًا إلى مفعول واحد وهو الهاء في {يُلَقَّاه}، والمفعول الأول الذي أُقيم مقام الفاعل مستترٌ في الفعل، والتقدير يُلقّى هو إياه، و{مَنْشُورًا} منصوبٌ على الحال.
وقرأ الباقون {يَلْقَاهُ} بفتح الياء وتسكين اللام.
والوجه أنه من لقي الذي يتعدى إلى مفعول واحد، تقول لقي زيدٌ الشيء،
[الموضح: 751]
والهاء ضمير المفعول به، و{منشورًا} حالٌ أيضًا.
وأمال القاف حمزة والكسائي.
والوجه أن الألف منقلبة عن الياء، فحسنت إمالتها لذلك.
والباقون تركوا إمالتها). [الموضح: 752]
قوله تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)}
قوله تعالى: {مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)}
قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (أمرنا مترفيها)
قرأ يعقوب وخارجة عن نافع (ءامرنا) بألفين، مثل: (ءامنا)، وكذلك حماد بن سلمة عن ابن كثير.
وقرأ الباقون: (أمرنا) مقصورًا مخففا.
وقال أبو العباس ختن ليث: سمعت أبا عمرو يقرأ "أمّرنا) بتشديد الميم.
وروى هدبة عن حماد بن سلمة عن ابن كثير أنه قرأه كذلك.
وقرأ الباقون (أمرنا) بتخفيف الميم وقصر الألف.
[معاني القراءات وعللها: 2/89]
قال أبو منصور: من قرأ (أمرنا) مقصورًا فله وجهان:
أحدهما: أمرناهم بالطاعة ففسقوا فحق عليهم العذاب، وهو كقولك - أمرتك فعصيتني، فقد علم أن المعصية مخالفة الأمر، وكذلك الفسق: الخروج عن أمر الله، والوجه الثاني في (أمرنا) أنه بمعنى: كثرنا مترفيها، يقال آمرهم الله، وأمرهم، أي: كثرهم، وروى عن النبي صلى الله عليه أنه قال: "خير المال سكة مأبورة، أو مهرة مأمورة" وهي كثيرة النتاج - ويقال: أمر بنو فلانٍ يأمرون، إذا كثروا - ومنه قول لبيد:
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا... يومًا يصيروا للهلك والنكد
ومن قرأ (آمرنا) بالمد فلا معنى له إلا أكثرنا، آمر الله ماله فأمر يأمر - وكان أبو عبيدة يقول: أمر الله ماله، وأمره بمعنى واحد.
وقوله (آمرنا مترفيها) يصلح أن يكون في شيئين:
أحدهما: كثرة عدد المترفين،
والآخر: كثير حروثهم وأموالهم.
ومن قرأ (أمّرنا مترفيها) فمعناه: سلطنا مترفيها، أي: جعلنا لهم إمارة وسلطانًا.
وأجود هذه الوجوه (أمرنا) بقصر الألف على التفسير الأول، واللّه أعلم). [معاني القراءات وعللها: 2/90]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (4- وقوله تعالى: {أمرنا مترفيها} [16].
اتفق القراء السبعة على {أمرنا} بالتخفيف وفتح الميم وقصر الألف، وله معنيان: أمرناهم بالطاعة ففسقوا فيها.
وتكون من الكثرة، يقال: أمر بنو فلان إذا كثروا وأمرهم الله فهم مأمورون، وأمرهم فالله مؤمر، وهم مؤمرون.
فأما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير المال: مهرة مأمورة أو سكة مأبورة» فإنه يعني بالمهرة: الكثيرة النتاج، وإنما قيل المأمورة، من أجل
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/365]
المأبورة. والسكة: الطريق من النخيل، والمأبورة: المصلحة الملقحة. ولو انفردت لقيل: مؤمرة، كما يقال: «جاء بالغدايا والعشايا» وغد: لا يجمع على غدايا ولكن لما قارن العشايا أجري لفظه على لفظه ليزدوج الكلام. وقال آخرون: يقال: أمر الشيء وأمره غيره كما يقال: نزحت البئر ونزحتها. وفغرفوه وفغر عن ابن كثير. وإنما ذكرت هذا الحرف؛ لأن خارجة روى عن نافع وحماد ابن سلمة عن ابن كثير {آمرنا مترفيها} بالمد على ما فسرت. وروى ختن ليث عن أبي عمرو {أمرنا متفريها} مثل قراءة أبي عثمان النهدي جعله من الإمارة.
وحدثني ابن مجاهد عن السمري عن الفراء قال: قرأ الحسن: {آمرنا مترفيها} بكسر الميم ومد الأليف وهذه رديئة؛ لأن (فعل) لا يتعدى عند أكثر النحويين من أمر؛ لأن أمر لازم إلا أن يجعله لغتين فيعدى أمر كما يعدى أمر فأخبرني ابن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة قال: لا يجوز أن يكونا أمرنا، الأصل آمرنا فتحذف المدة كما قرأ بعضهم: {ولأمرنهم فليبتكن ءاذان الأنعام}.
وحدثني أحمد بن علي عن أبي عبيد قال: الاختيار {أمرنا مترفيها}
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/366]
لأن المعاني الثلاثة تشتمل عليه، يكون من الأمر ومن الإمارة، ومن الكثرة، أنشدني – في أمر الرجل: إذا صار أميرًا -:
كرنبوا ودولبوا
وحيث شئتم فاذهبوا
قد أمر المهلب
أي: صار أميرًا. ومعنى كربنوا، أي: لقحوا نخلكم ودولبوا: أي علقوا دوابيكم). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/367]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (قال: ولم يختلفوا في قوله: أمرنا مترفيها [16] أنها خفيفة الميم، إلا ما روى خارجة عن نافع: (آمرنا) ممدودة مثل: آمنا، حدّثني موسى بن إسحاق القاضي قال: حدثنا هارون بن حاتم، قال: حدّثنا أبو العباس ختن ليث قال: سمعت أبا عمرو يقرأ: (أمرنا مترفيها)، مشدّدة الميم.
وروى نصر بن عليّ عن أبيه عن حماد بن سلمة، قال سمعت ابن كثير يقرأ: (آمرنا) ممدودا.
قال أبو عبيدة: (أمّرنا) أي: أكثرنا، يقال: أمر بنو فلان، إذا كثروا، وأنشد للبيد:
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا... يوما يصيروا للقلّ والنّفد
قال: وقال بعضهم أمرنا [مثل أخذنا وهي] في معنى: أكثرنا،
[الحجة للقراء السبعة: 5/91]
قال: وزعم يونس أن أبا عمرو قال: لا يكون في هذا المعنى أمرنا، قال أبو عبيدة: وقد وجدنا تثبيتا لهذه اللغة:
«سكّة مأبورة، ومهرة مأمورة»
. أي: كثيرة الولد. قال: وقال قوم: أمرنا: من الأمر والنهي.
قال أبو علي: لا يخلو قوله: أمرنا فيمن خفّف العين، من أن يكون فعلنا من الأمر، أو من: أمر القوم، وأمرتهم، مثل شترت عينه، وشترتها، ورجع ورجعته، وسار وسرته. فمن لم ير أن يكون أمرنا من أمر القوم، إذا كثروا، كأبي عمرو، فإنّ يونس حكى ذلك عنه، فإنّه ينبغي أن يجعل أمرنا من الأمر الذي هو خلاف النهي، ويكون المعنى أمرناهم بالطاعة فعصوا، وفسقوا. ومن قال: (آمرنا مترفيها) فإنه يكون: أفعلنا، من أمر القوم، إذا كثروا، وآمرهم الله، أي:
أكثرهم. وذلك إن ضاعف فقال: أمّرنا، ونظير ذلك قولهم: سارت الدابة وسيّرتها، وسرتها، وفي التنزيل: هو الذي يسيركم في البر والبحر [يونس/ 22]. وقال لبيد:
لسيّان حرب أو تبوءوا بخزية... وقد يقبل الضّيم الذليل المسيّر
وكما عدّي بتضعيف العين، كذلك يعدّى بالنقل بالهمز، فيكون آمرنا. وزعم الجرميّ أن آمرنا أكثر في اللغة، ومثل أمر وأمرته، سلك وسلكته، وفي التنزيل: كذلك سلكناه في قلوب المجرمين
[الحجة للقراء السبعة: 5/92]
[الحجر/ 12] وما سلككم في سقر [المدثر/ 42] وقال:
حتّى إذا سلكوهم في قتائدة...
ويقوّي حمل أمرنا على النقل من أمر، وإن لا يجعل من الأمر الذي هو خلاف النهي، لأن الأمر بالطاعة على هذا يكون مقصورا على المترفين، وقد أمر الله بطاعته جميع خلقه، من مترف وغيره، ويحمل أمرنا على أنه مثل: آمرنا. ونظير هذا كثر وأكثره الله وكثره، ولا يحمل أمرنا على المعنى: جعلناهم أمراء، لأنه لا يكاد يكون في قرية واحدة عدّة أمراء، فإن قلت: يكون منهم الواحد بعد الواحد، فإنهم إذا كانوا كذلك لا يكثرون في حال، وإنما يهلك الله لكثرة المعاصي في الأرض، وعلى هذا جاء الأمر في التنزيل في قوله: يا عباد الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياى فاعبدون [العنكبوت/ 56] فأمرهم بالهجرة من الأرض التي تكثر فيها المعاصي إلى ما كان بخلاف هذه الصفة.
ومما جاء فيه أمر بمعنى الكثرة قول زهير:
والإثم من شرّ ما يصال به... والبرّ كالغيث نبته أمر
فقوله: أمر: اسم الفاعل من أمر يأمر، وزعموا أن في حرف أبيّ (بعثنا فيها أكابر مجرميها) فهذا يقوي معنى الكثرة). [الحجة للقراء السبعة: 5/93]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة علي بن أبي طالب عليه السلام [آمَرْنَا] في وزن عَامَرْنا، واختلف عن ابن عباس والحسن وأبي عمرو وأبي العتاهية وقتادة وابن كثير وعاصم والأعرج، وقرأ بها
[المحتسب: 2/15]
ابن أبي إسحاق وأبو رجاء والثقفي وسلام وعبد الله بن أبي يزيد والكلبي.
وقرأ [أمَّرْنا] مشددة الميم، ابن عباس بخلاف، وأبو عثمان النهدي، وأبو العالية بخلاف، وأبو جعفر محمد بن علي -بخلاف- والحسن -بخلاف- وأبو عمرو -بخلاف- والسدي وعاصم، بخلاف.
وقرأ: [أَمِرْنا] بكسر الميم، بوزن عَمِرْنا-الحسن ويحيى بن يعمر.
قال أبو الفتح: يقال: أَمِرَ القومُ إذا كثروا، وقد أَمَرَهُم الله أي: كثَّرهم. وكان أبو علي يستحسن قول الكسائي في قول الله تعالى: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} : أي كثيرا، من قول الله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا}، ومن قولهم: أَمِرَ الشيءُ، إذا كثر. ومنه قولهم: خَيرُ المالِ سكة مأبُورَة، أو مُهْرَةٌ مأمُورة. فالسكّةُ الطريقة من النخل، ومأبورة أي: ملقحة، ومهرة مأمورة أي: مُكثِرةُ النسل.
وكان يجب أن يقال: مُؤْمَرَة لأنه من آمَرَها الله، لكنه أتبعها قوله: مَأبُورَة، كقولهم: إنه ليأتينا بالغَدَايا والعَشَايا. هذا على قول الجماعة إلا ابن الأعرابي وحده؛ فإنه قال: الغَدَايا جمع غَدِيّة، كما أن العشايا جمع عَشِيّة. ولم يكن يرى أن الغدايا ملحقٌ بقولهم: العَشَايا، وأنشد شاهدا لذلك:
ألا ليت حظيّ من زيارة أُمِّيَّهْ ... غَدِيّاتُ قيظ أو عشيّاتُ أَشْتِيَهْ
وقد قالوا أيضا: أمَرَها اللهُ مقصورا خفيفا، بوزن عَمَرَها؛ فيكون مأمُورَة على هذا من هذا، ولا تكون ملحقةً بمأبُورَة.
[المحتسب: 2/16]
وأما [أَمَرَّنَا مُتْرَفِيهَا] فقد يكون منقولا من أمِرَ القومُ أي: كثُروا. كعلِمَ وعلِمْتُه. وسلِمَ وسلمْتُه.
وقد يكون منقولا من أمَرَ الرجل إذا صار أميرا. وأمَرَ علينا فلان: إذ وَلِيَ. وإن شئت كان [أمَّرْنا] كثرنا، وإن شئت من الأمْرِ والإمارة.
فأما [أمِرْنا] فَعِلْنا، بكسر الميم، فأخبرنا أبو إسحاق وإبراهيم بن أحمد القرميسيني عن أبي بكر محمد بن هارون الروباني عن أبي حاتم قال: قال أبو زيد: يقال: أمِرَ اللهُ مالَه وآمَرَه. قال أبو حاتم: ورَوَوْا عن الحسن أن رجلا من المشركين قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني أرى أمْرَكَ هذا حقيرًا، فقال عليه السلام: إنه سَيَأْمَرُ أي ينتشر، قال: وقال أبو عمرو: معنى {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا}، أي: أمرناهم بالطاعة، فعصوا. وقال زهير:
والإثمُ من شرِّ ما يصال به ... والبر كالغيث نبتُه أمِرُ
وأنشد أبو زيد، رويناه عنه وعن جماعة غيره:
أمُّ جوارٍ ضنؤها غيرُ أمِرْ ... صهصلقُ الصوتِ بعينها الصبِرْ
وقال لبيد:
إن يُغبَطوا يَهبُطوا وإن أمِرُوا ... يومًا يصيرُوا للْهُلْكِ والنفدِ
ومن بعد فالأمر من أم ر، وهي مُحَادَّةٌ للفظ ع م ر ومساوقة لمعناها، لأن الكثرة أقرب شيء إلى العمارة. وما أكثر وأظهر هذا المذهب في هذه اللغة! ومن تنبه عليه حظي بأطرف الطريف، وأظرف الظريف). [المحتسب: 2/17]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (6- {آمَرْنَا} {آية/ 16] بالمد والتخفيف:
قرأها يعقوب وحده.
والوجه أنه منقول بالهمزة من أآمر القوم إذا كثروا، وآمرتهم أنا إذا كثرتهم، فهو على أفعلت.
وقرأ الباقون {أَمَرْنَا} بالقصر والتخفيف.
والوجه أنه يجوز أن يكون متعدي أمر فيكون فعل بالفتح متعدي فَعِلَ بالكسر، كما تقول شَتِرَ زيدٌ وشترته أنا.
ويجوز أن يكون من الأمر الذي هو خلاف النهي أي أمرناهم بالطاعة فعصوا.
وعن أبي عمرو {أَمَّرْنَا} بالتشديد.
[الموضح: 752]
والوجه أنه منقولٌ بالتضعيف من أمر إذا كثر، والمراد كثرنا أيضًا، وهو كالقراءة الأولى في المعنى). [الموضح: 753]
قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين