تفسير السلف
تفسير قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {قل أرأيتم ما أنزل اللّه لكم من رزقٍ فجعلتم منه حرامًا وحلالاً قل آللّه أذن لكم أم على اللّه تفترون}.
يقول تعالى ذكره لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {قل} يا محمّد لهؤلاء المشركين: {أرأيتم} أيّها النّاس {ما أنزل اللّه لكم من رزقٍ} يقول: ما خلق اللّه لكم من الرّزق فخوّلكموه، وذلك ما تتغذّون به من الأطعمة؛ {فجعلتم منه حرامًا وحلالاً} يقول: فحلّلتم بعض ذلك لأنفسكم، وحرّمتم بعضه عليها؛ وذلك كتحريمهم ما كانوا يحرّمونه من حروثهم الّتي كانوا يجعلونها لأوثانهم، كما وصفهم اللّه به فقال: {وجعلوا للّه ممّا ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا فقالوا هذا للّه بزعمهم وهذا لشركائنا} ومن الأنعام ما كانوا يحرّمونه بالتّبحير والتّسيب ونحو ذلك، ممّا قدّمناه فيما مضى من كتابنا هذا.
يقول اللّه لنبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: قل يا محمّد {آللّه أذن لكم} بأن تحرّموا ما حرّمتم منه {أم على اللّه تفترون} أي تقولون الباطل وتكذبون؟
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قال: إنّ أهل الجاهليّة كانوا يحرّمون أشياءً أحلّها اللّه من الثّياب وغيرها، وهو قول اللّه: {قل أرأيتم ما أنزل اللّه لكم من رزقٍ فجعلتم منه حرامًا وحلالاً} وهو هذا، فأنزل اللّه تعالى: {قل من حرّم زينة اللّه الّتي أخرج لعباده} الآية.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: ثني أبي، قال: ثني عمّي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {قل أرأيتم ما أنزل اللّه لكم من رزقٍ فجعلتم}.. إلى قوله: {أم على اللّه تفترون} قال: هم أهل الشّرك.
- حدّثني القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: ثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، عن عطاءٍ الخراسانيّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {فجعلتم منه حرامًا وحلالاً} قال: الحرث والأنعام.
قال ابن جريجٍ: قال مجاهدٌ: البحائر والسّيب.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {فجعلتم منه حرامًا وحلالاً} قال: في البحيرة والسّائبة.
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قوله: {قل أرأيتم ما أنزل اللّه لكم من رزقٍ فجعلتم منه حرامًا وحلالاً}.. الآية يقول: كلّ رزقٍ لم أحرّم حرّمتموه على أنفسكم من نسائكم وأموالكم وأولادكم {آللّه أذن لكم} فيما حرّمتم من ذلك {أم على اللّه تفترون}.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ، في قوله: {قل أرأيتم ما أنزل اللّه لكم من رزقٍ فجعلتم منه حرامًا وحلالاً} فقرأ حتّى بلغ: {أم على اللّه تفترون} وقرأ {وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصةٌ لذكورنا ومحرّمٌ على أزواجنا} وقرأ: {وقالوا هذه أنعامٌ وحرثٌ حجرٌ} حتّى بلغ: {لا يذكرون اسم اللّه عليها} فقال: هذا قوله: جعل لهم رزقًا، فجعلوا منه حرامًا وحلالاً، وحرّموا بعضه وأحلّوا بعضه. وقرأ: {ثمانية أزواجٍ من الضّأن} اثنين ومن المعز اثنين قل آلذّكرين حرّم أم الأنثيين أمّا اشتملت عليه أرحام الأنثيين أيّ هذين حرّم على هؤلاء الّذين يقولون وأحلّ لهؤلاء؟ {نبّئوني بعلمٍ إن كنتم صادقين} {أم كنتم شهداء إذ وصّاكم اللّه بهذا} إلى آخر الآيات.
- حدّثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذٍ، قال: حدّثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضّحّاك، يقول في قوله: {قل أرأيتم ما أنزل اللّه لكم من رزقٍ فجعلتم منه حرامًا وحلالاً} هو الّذي قال اللّه: {وجعلوا للّه ممّا ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا} إلى قوله: {ساء ما يحكمون}). [جامع البيان: 12/200-203]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قل أرأيتم ما أنزل اللّه لكم من رزقٍ فجعلتم منه حرامًا وحلالًا قل آللّه أذن لكم أم على اللّه تفترون (59)
قوله تعالى: قل أرأيتم ما أنزل اللّه لكم من رزقٍ
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا صفوان ثنا الوليد، ثنا خليدٌ عن قتادة قل أرأيتم ما أنزل اللّه لكم من رزقٍ يقول: رزقًا لم أحرّمه عليكم فتحرّمونه على أنفسكم من نسائكم وأولادكم.
- حدّثنا أبي، ثنا محمود بن خالدٍ، ثنا الوليد ثنا الأوزاعيّ، ثنا عمر بن عبد العزيز قال... قول اللّه عزّ وجلّ: قل أرأيتم ما أنزل اللّه لكم من رزقٍ فجعلتم منه حرامًا وحلالا.
قوله تعالى: فجعلتم منه حرامًا وحلالا
- أخبرنا محمّد بن سعدٍ فيما كتب إليّ، حدّثني عمّي حدّثني أبي عن أبيه، عن عبد الله بن عباس قول: قل أرأيتم ما أنزل اللّه لكم من رزقٍ فجعلتم منه حرامًا وحلالا قال: هم أهل الشّرك كانوا يحلّون الأنعام ما شاءوا ويحرّمون ما شاءوا.
- حدّثنا حجّاج بن حمزة، ثنا شبابة، ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، قوله: فجعلتم منه حرامًا وحلالا: في البحيرة السّائبة.
- حدّثنا عبد العزيز بن منيبٍ، ثنا أبو معاذٍ النّحويّ، ثنا عبيد بن سليمان، عن الضّحّاك، في قوله: أرأيتم ما أنزل اللّه لكم من رزقٍ فجعلتم منه حراما وحلالا: هو الّذي قال اللّه: وجعلوا للّه ممّا ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا إلى قوله: ساء ما يحكمون.
- حدّثنا أبي، ثنا هشام بن خالدٍ ثنا شعيب بن إسحاق، ثنا ابن أبي عروبة، عن قتادة، قوله: فجعلتم منه حرامًا وحلالا يقول: كلّ رزقي لم أحرّم وأنتم حرّمتموه على أنفسكم من نسائكم وأموالكم وأولادكم قل آللّه أذن لكم أم على اللّه تفترون.
قوله تعالى: قل آللّه أذن لكم أم على اللّه تفترون
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا صفوان، ثنا الوليد، ثنا خليدٌ، عن قتادة: قل آللّه أذن لكم أم على اللّه تفترون: فيما حرّم عليكم من ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 6/1960-1961]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم نا آدم نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد فجعلتم منه حراما وحلالا قال يعني البحيرة والسائبة والوصيلة والحام). [تفسير مجاهد: 294]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (حدّثنا عليّ بن عيسى، ثنا محمّد بن عمرٍو الحرشيّ، ثنا يحيى بن يحيى، أنبأ المعتمر بن سليمان التّيميّ، ثنا أبي، ثنا أبو نضرة، عن أبي سعدٍ، مولى أبي أسيدٍ الأنصاريّ قال: سمع عثمان بن عفّان رضي اللّه عنه، أنّ وفد أهل مصر قد أقبلوا، فاستقبلهم، فلمّا سمعوا به، أقبلوا نحوه قال: وكره أن يقدموا عليه المدينة، قال: فأتوه فقالوا له: ادع بالمصحف، وافتتح السّابعة، وكانوا يسمّون سورة يونس السّابعة، فقرأها حتّى أتى على هذه الآية " {قل أرأيتم ما أنزل اللّه لكم من رزقٍ فجعلتم منه حرامًا وحلالًا قل آللّه أذن لكم أم على اللّه تفترون} [يونس: 59] فقالوا له: قف، أرأيت ما حميت من الحمى آللّه أذن لك أم على اللّه تفتري؟ قال: فقال: امضه، نزلت في كذا وكذا فأمّا الحمى فإنّ عمر حمى الحمى قبلي لإبل الصّدقة، فلمّا ولّيت، وزادت إبل الصّدقة، فزدت في الحمى، لما زاد في الصّدقة «صحيحٌ على شرط مسلمٍ ولم يخرجاه»). [المستدرك: 2/369]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآيات 59 – 60
أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق} الآية، قال: هم أهل الشرك كانوا يحلون من الحرث والأنعام ما شاؤوا ويحرمون ما شاؤوا.
وأخرج ابن أبي شيبة والحاكم وصححه والبيهقي في "سننه"، وابن عساكر عن أبي سعيد مولى أبي أسيد الأنصاري قال: أتى وفد أهل مصر عثمان بن عفان رضي الله عنه فقالوا له: ادع بالمصحف وافتتح السابعة - وكانوا يسمون سورة يونس السابعة - فقرأها حتى أتى على هذه الآية {قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا} فقالوا له: قف أرأيت ما حميت من الحمى أألله أذن لك أم على الله تفتري فقال: امضه إنما نزلت في كذا وكذا فأما الحمى فإن عمر رضي الله عنه حمى الحمى لإبل الصدقة فلما وليت وزادت إبل الصدقة زدت في الحمى). [الدر المنثور: 7/670]
تفسير قوله تعالى: (وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وما ظنّ الّذين يفترون على اللّه الكذب يوم القيامة إنّ اللّه لذو فضلٍ على النّاس ولكنّ أكثرهم لا يشكرون}.
يقول تعالى ذكره: وما ظنّ هؤلاء الّذين يتخرّصون على اللّه الكذب فيضيفون إليه تحريم ما لم يحرّمه عليهم من الأرزاق، والأقوات الّتي جعلها اللّه لهم غذاءً، أنّ اللّه فاعلٌ بهم يوم القيامة بكذبهم وفريتهم عليه، أيحسبون أنّه يصفح عنهم ويغفر؟ كلاّ بل يصليهم سعيرًا خالدين فيها أبدًا.
{إنّ اللّه لذو فضلٍ على النّاس} يقول: إنّ اللّه لذو تفضلٍ على خلقه بتركه معاجلة من افترى عليه الكذب بالعقوبة في الدّنيا، وإمهاله إيّاه إلى وروده عليه في القيامة. {ولكنّ أكثرهم لا يشكرون} يقول: ولكنّ أكثر النّاس لا يشكرونه على تفضّله عليهم بذلك وبغيره من سائر نعمه). [جامع البيان: 12/203-204]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (وما ظنّ الّذين يفترون على اللّه الكذب يوم القيامة إنّ اللّه لذو فضلٍ على النّاس ولكنّ أكثرهم لا يشكرون (60)
قوله تعالى: وما ظنّ الّذين يفترون على اللّه الكذب يوم القيامة
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا منجاب بن الحارث، ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، قوله: يفترون قال: يكذّبون.
الوجه الثّاني:
- حدّثنا محمّد بن يحيى، ثنا العبّاس بن الوليد النّرسيّ، ثنا يزيد بن زريعٍ، عن سعيدٌ، عن قتادة، قوله: يفترون أي: يشركون.
- حدّثنا أبي ثنا أحمد بن أبي الحواريّ ثنا رباحٌ، ثنا عبد اللّه بن سليمان ثنا موسى بن أبي الصّبّاح في قول اللّه: إنّ اللّه لذو فضلٍ على النّاس قال: إذا كان يوم القيامة يؤتى بأهل ولاية اللّه فيقومون بين يدي اللّه ثلاث أصنافٍ قال: فيؤتى برجلٍ من الصّنف الأوّل فيقول: عبدي لماذا عملت: فيقول: يا ربّ خلقت الجنّة وأشجارها وثمارها وأنهارها وحورها ونعيمها وما أعددت لأهل طاعتك فيها فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري شوقًا إليها قال: فيقول: عبدي إنّما عملت الجنّة هذه الجنّة فادخلها، ومن فضلي عليك أعتقك من النّار قال: يدخل الجنّة هو ومن معه قال: يؤتى بالعبد من الصّنف الثّاني قال: فيقول: عبدي لماذا عملت فيقول: يا ربّ خلقت نارًا وخلقت أغلالها وسعيرها وسمومها ويحمومها، وما أعددت لأهل عذابك فيها ولأهل معصيتك فيها فأسهرت ليلي وأطبت نهاري خوفًا منها فيقول: عبدي إنّما عملت خوفًا من النّار فإنّي قد أعتقك من النّار، ومن فضلي عليك أدخلتك جنّتي فيدخل الجنة هو ومن معه الجنّة ثمّ يؤتى برجلٍ من الصّنف الثّالث فيقول: عبدي لماذا عملت؟ فيقول ربّ حبًّا لك وشوقًا إليك وعزّتك لقد أسهرت ليلي وأظمأت نهاري شوقًا إليك وحبًا لك فيقول تبارك وتعالى: عبدي إنّما عملت حبًّا لي وشوقًا إليّ فيتجلّى له الرّبّ فيقول ها أنا ذا انظر إليّ ثمّ يقول: من فضلي عليك أن أعتقك من النّار وأدخلك جنّتي وأزيرك ملائكتي وأسلّم عليك بنفسي فيدخل هو ومن معه الجنّة.
قوله تعالى: ولكنّ أكثرهم لا يشكرون
- حدّثنا أبي، ثنا هشام بن خالدٍ الدّمشقيّ، ثنا شعيب بن إسحاق، ثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، قوله: ولكنّ أكثر النّاس لا يشكرون وإنّ المؤمن ليشكر نعم اللّه عليه وعلى خلقه.
قال قتادة وذكر لنا أن أبا الدّرداء كان يقول: يا ربّ شاكرٍ نعمه غيره، ومنهم عليه لا يزيد: ويا ربّ حامل فقهٍ غير فقيهٍ). [تفسير القرآن العظيم: 6/1961-1962]
تفسير قوله تعالى: (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) )
قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ المَصْرِيُّ (ت: 197 هـ): (أخبرني ابن لهيعة عن أبي صخر عن [القرظي في قول] الله: {لولا أن رأى برهان ربه}، رأى، {ولا تقربوا [الزنا إنه كان] فاحشةً ومقتاً وساء سبيلا}، فقال: ما إليك [من سبيلٍ (؟) .. .. ]، {عليكم لحافظين (10) كراما [كاتبين} ........ ]، فقال: ما إليك من سبيلٍ، ثم رأى [ .... {اليوم تجزى كل] نفسٍ بما كسبت}، فقال: ما إليك [من سبيلٍ .. ] وآية أخرى: {وما تكون في شأنٍ [وما تتلو منه من قرآنٍ] ولا تعملون من عملٍ إلا كنا [عليكم شهودا] إذ تفيضون فيه}). [الجامع في علوم القرآن: 2/145-146] (م)
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وما تكون في شأنٍ وما تتلو منه من قرآنٍ ولا تعملون من عملٍ إلاّ كنّا عليكم شهودًا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربّك من مثقال ذرّةٍ في الأرض ولا في السّماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلاّ في كتابٍ مبينٍ}.
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: {وما تكون} يا محمّد {في شأنٍ} يعني في عملٍ من الأعمال، {وما تتلو منه من قرآنٍ} يقول: وما تقرأ من كتاب اللّه من قرآنٍ، {ولا تعملون من عملٍ} يقول: ولا تعملون من عملٍ أيّها النّاس من خير أو شرٍّ؛ {إلاّ كنّا عليكم شهودًا} يقول: إلاّ ونحن شهودٌ لأعمالكم وشؤونكم إذ تعملونها وتأخذون فيها.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك روي القول عن ابن عبّاسٍ وجماعةٍ.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه بن صالحٍ، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {إذ تفيضون فيه} يقول إذ تفعلون.
وقال آخرون: معنى ذلك: إذ تشيعون في القرآن الكذب.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثت عن المسيّب بن شريكٍ، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك: {إذ تفيضون فيه} يقول: فتشيعون في القرآن من الكذب.
وقال آخرون: معنى ذلك: إذ تفيضون في الحقّ.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {إذ تفيضون فيه} في الحقّ ما كان.
- قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا عبد اللّه، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، مثله.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: ثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، مثله.
وإنّما اخترنا القول الّذي اخترناه فيه، لأنّه تعالى ذكره أخبر أنّه لا يعمل عباده عملاً إلاّ كان شاهده، ثمّ وصل ذلك بقوله: {إذ تفيضون فيه} فكان معلومًا أنّ قوله: {إذ تفيضون فيه} إنّما هو خبرٌ منه عن وقت عمل العاملين أنّه له شاهدٌ لا عن وقت تلاوة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم القرآن؛ لأنّ ذلك لو كان خبرًا عن شهوده تعالى ذكره وقت إفاضة القوم في القرآن، لكانت القراءة بالياء: إذ يفيضون فيه خبرًا منه عن المكذّبين فيه.
فإن قال قائلٌ: ليس ذلك خبرًا عن المكذّبين، ولكن خطابٌ للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه شاهده إذ تلا القرآن.
فإنّ ذلك لو كان كذلك لكان التّنزيل: إذ تفيض فيه لأنّ النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم واحدٌ لا جمعٌ، كما قال: {وما تتلو منه من قرآنٍ} فأفرده بالخطاب، ولكن ذلك في ابتدائه خطابه صلّى اللّه عليه وسلّم، بالإفراد، ثمّ عوده إلى إخراج الخطاب على الجمع نظير قوله: {يا أيّها النّبيّ إذا طلّقتم النّساء} وذلك أنّ في قوله: {إذا طلّقتم النّساء} دليلاً واضحًا على صرفه الخطاب إلى جماعة المسلمين مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم مع جماعة النّاس غيره؛ لأنّه ابتدأ خطابه ثمّ صرف الخطاب إلى جماعة النّاس، والنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فيهم.
وخبرٌ عن أنّه لا يعمل أحدٌ من عباده عملاً إلاّ وهو له شاهدٌ يحصي عليه ويعلمه، كما قال: {وما يعزب عن ربّك} يا محمّد عمل خلقه، ولا يذهب عليه علم شيءٍ حيث كان من أرضٍ أو سماءٍ.
وأصله من عزوب الرّجل عن أهله في ماشيته، وذلك غيبته عنهم فيها، يقال منه: عزب الرّجل عن أهله يعزب، ويعزب لغتان فصيحتان، قرأ بكلّ واحدةٍ منهما جماعةٌ من القرّاء. وبأيّتهما قرأ القارئ فمصيبٌ، لاتفاق معنيهما واستفاضتهما في منطق العرب غير أنّي أميل إلى الضّمّ فيه لأنّه أغلب على المشهورين من القرّاء.
وقوله: {من مثقال ذرّةٍ} يعني: من زنة نملةٍ صغيرةٍ، يحكى عن العرب: خذ هذا فإنّه أخفّ مثقالاً من ذاك؛ أي أخفّ وزنًا.
والذّرّة واحدة الذّرّ، والذّرّ: صغار النّمل. وذلك خبرٌ عن أنّه لا يخفى عليه جلّ جلاله أصغر الأشياء، وإن خفّ في الوزن كلّ الخفّة، ومقادير ذلك ومبلغه، ولا أكبرها وإن عظم وثقل وزنه، وكم مبلغ ذلك. يقول تعالى ذكره لخلقه: فليكن عملكم أيّها النّاس فيما يرضي ربّكم عنكم، فإنّا شهودٌ لأعمالكم، لا يخفى علينا شيءٌ منها، ونحن محصوها ومجازوكم بها.
واختلفت القرّاء في قراءة قوله: {ولا أصغر من ذلك ولا أكبر}.
فقرأ ذلك عامّة القرّاء بفتح الرّاء من أصغر وأكبر على أنّ معناها الخفض، عطفًا بالأصغر على الذّرّة، وبالأكبر على الأصغر، ثمّ فتحت راؤهما لأنّهما لا يجريان. وقرأ ذلك بعض الكوفيّين: ولا أصغر من ذلك ولا أكبر رفعًا، عطفًا بذلك على معنى المثقال؛ لأنّ معناه الرّفع. وذلك أنّ من لو ألقيت من الكلام لرفع المثقال، وكان الكلام حينئذٍ: وما يعزب عن ربّك مثقال ذرّةٍ ولا أصغر من مثقال ذرّةٍ ولا أكبر، وذلك نحو قوله: {من خالقٍ غير اللّه} وغير اللّه.
وأولى القراءتين في ذلك بالصّواب قراءة من قرأ بالفتح على وجه الخفض والرّد على الذّرّة؛ لأنّ ذلك قراءة قرّاء الأمصار وعليه عوامّ القرّاء، وهو أصحّ في العربيّة مخرجًا، وإن كان للأخرى وجهٌ معروفٌ.
وقوله: {إلاّ في كتابٍ} يقول: وما ذاك كلّه إلاّ في كتابٍ عند اللّه مبينٍ عن حقيقة خبر اللّه لمن نظر فيه أنّه لا شيء كان أو يكون إلاّ وقد أحصاه اللّه جلّ ثناؤه فيه، وأنّه لا يعزب عن اللّه علم شيءٍ من خلقه حيث كان من سمائه وأرضه.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا عبد اللّه، قال: ثني معاوية، عن عليٍّ، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {وما يعزب} يقول: لا يغيب عنه.
- حدّثني محمّد بن عمارة، قال: حدّثنا عبيد اللّه، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ: {وما يعزب عن ربّك} قال: ما يغيب عنه). [جامع البيان: 12/204-208]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (وما تكون في شأنٍ وما تتلو منه من قرآنٍ ولا تعملون من عملٍ إلّا كنّا عليكم شهودًا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربّك من مثقال ذرّةٍ في الأرض ولا في السّماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلّا في كتابٍ مبينٍ (61)
قوله تعالى: وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآنٍ ولا تعملون من عملٍ إلّا كنّا عليكم شهودًا إذ تفيضون فيه
- حدّثنا عليّ بن الحسين، ثنا إسحاق بن إبراهيم، ثنا عبد اللّه بن إبراهيم الصّنعانيّ، عن أبيه، قال: كان بعض العلماء إذا اخرج من منزله كتب في يده: وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآنٍ ولا تعملون من عملٍ إلّا كنّا عليكم شهودًا إذ تفيضون فيه الآية.
قوله تعالى: إذ تفيضون
- حدّثنا أبي، ثنا أبو صالحٍ، ثنا معاوية بن صالحٍ، عن عليّ بن طلحة، عن ابن عبّاسٍ، قوله: إذ تفيضون فيه يقول: تفعلون.
قوله: فيه
- حدّثنا حجّاج بن حمزة، ثنا شبابة، ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ قوله: إذ تفيضون فيه: في الحقّ ما كان.
قوله تعالى: وما يعزب عن ربّك من مثقال ذرّةٍ
- حدّثنا عبد اللّه بن سعيدٍ الكنديّ، ثنا عبيد اللّه بن موسى، عن إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهدٍ عن ابن عبّاسٍ وما يعزب عن ربك قال: ما يغيب عن ربّك تبارك وتعالى.
قوله تعالى: ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتابٍ مبينٍ
- حدّثنا أبي، ثنا هشام بن خالدٍ، ثنا شعيب بن إسحاق، ثنا سعيدٌ عن قتادة، قوله: في كتابٍ مبينٍ قال: كلّ ذلك في كتابٍ عند اللّه مبينٌ). [تفسير القرآن العظيم: 6/1962-1963]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم نا آدم نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله إذ يفيضون فيه يعني في الحق بما كان). [تفسير مجاهد: 294-295]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآية 61.
أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما {إذ تفيضون فيه} قال: إذ تفعلون.
وأخرج عبد بن حميد والفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما {وما يعزب} قال: ما يغيب.
وأخرج الفريابي، وابن جرير عن مجاهد رضي الله عنه، مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي رضي الله عنه {وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة} قال: لا يغيب عنه وزن ذرة {ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين} قال: هو الكتاب الذي عند الله). [الدر المنثور: 7/671]