شرح ابن القيم (ت:751هـ) [الشرح المطول]
قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى: (المَلِكُ :
([و] مِنْ أسمائِهِ: " المَلِكُ "، ومَعْنَى المُلْكِ الحَقِيقِيِّ ثَابِتٌ لهُ سبحانَهُ بكلِّ وَجْهٍ)([1])؛ (فهوَ الآمِرُ الناهِي المُعِزُّ المُذِلُّ، الذي يُصَرِّفُ أُمُورَ عبادِهِ كما يُحِبُّ وَيُقَلِّبُهُم كما يَشَاءُ. ولَهُ مِنْ مَعْنَى المُلْكِ ما يَسْتَحِقُّهُ من الأسماءِ الحُسْنَى: كالعزيزِ الجَبَّارِ المُتَكَبِّرِ، الحَكَمِ العَدْلِ، الخافِضِ الرافعِ، المُعِزِّ المُذِلِّ، العظيمِ، الجليلِ، الكبيرِ، الحسيبِ، المَجِيدِ، الوَالِي، المُتَعَالِي، مَالِكِ المُلْكِ، المُقْسِطِ، الجامِعِ، إلى غيرِ ذلكَ من الأسماءِ العائدةِ إلى المُلْكِ)([2]).
([فـ]هذهِ الصفةُ تَسْتَلْزِمُ سائرَ صفاتِ الكمالِ؛ إذْ مِن المُحَالِ ثُبُوتُ المُلْكِ الحقيقيِّ التامِّ لِمَنْ ليسَ لهُ حياةٌ ولا قدرةٌ ولا إرادةٌ ولا سمعٌ ولا بصرٌ ولا كلامٌ ولا فعلٌ اختياريٌّ يَقُومُ بهِ.
وكيفَ يُوصَفُ بالمُلْكِ مَنْ لا يَأْمُرُ ولا يَنْهَى، ولا يُثِيبُ ولا يُعَاقِبُ، ولا يُعْطِي ولا يَمْنَعُ، ولا يُعِزُّ وَيُذِلُّ، وَيُهِينُ وَيُكْرِمُ، وَيُنْعِمُ وَيَنْتَقِمُ، وَيَخْفِضُ وَيَرْفَعُ، وَيُرْسِلُ الرُّسُلَ إلى أقطارِ مَمْلَكَتِهِ، وَيَتَقَدَّمُ إلى عَبِيدِهِ بأوامرِهِ ونَوَاهِيهِ. فأيُّ مُلْكٍ في الحقيقةِ لِمَنْ عَدِمَ ذلكَ؟!!.
وهذا يُبَيِّنُ أنَّ المُعَطِّلِينَ لأسمائِهِ وصفاتِهِ جَعَلُوا مَمَالِيكَهُ أَكْمَلَ منهُ، وَيَأْنَفُ أحدُهُم أنْ يُقَالَ في أميرِهِ ومَلِكِهِ مَا يَقُولُهُ هوَ في ربِّهِ، فَصِفَةُ مِلْكِيَّةِ الحقِّ مُسْتَلْزِمَةٌ لوجودِ ما لا يَتِمُّ التصرُّفُ إلاَّ بهِ، والكلُّ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، فَلَمْ يَتَوَقَّفْ كَمَالُ مُلْكِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فإنَّ كلَّ ما سِوَاهُ مُسْنَدٌ إليهِ، وَمُتَوَقِّفٌ في وجودِهِ على مَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ)([3]).
(فـَ…حَقِيقَةُ المُلْكِ إنَّمَا تَتِمُّ بالعطاءِ والمَنْعِ والإكراهِ والإهانةِ والإثابةِ والعقوبةِ والغَضَبِ والرِّضَى وَالتَّوْلِيَةِ والعَزْلِ، وَإِعْزَازِ مَنْ يَلِيقُ بهِ العزُّ وإِذْلالِ مَنْ يَلِيقُ بهِ الذُّلُّ.
قالَ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)} [آل عمران: 26-27].
وقال تَعَالَى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن: 29].
يَغْفِرُ ذَنْباً وَيُفَرِّجُ كَرْباً وَيَكْشِفُ غَمًّا وَيَنْصُرُ مَظْلُوماً وَيَأْخُذُ ظَالِماً، وَيَفُكُّ عَانِياً، وَيُغْنِي فَقِيراً، ويَجْبُرُ كَسِيراً، وَيَشْفِي مَرِيضاً، وَيُقِيلُ عَثْرَةً، وَيَسْتُرُ عَوْرَةً، وَيُعِزُّ ذَلِيلاً، وَيُذِلُّ عَزِيزاً، وَيُعْطِي سَائِلاً، وَيَذْهَبُ بِدَوْلَةٍ وَيَأْتِي بِأُخْرَى، وَيُدَاوِلُ الأيامَ بينَ الناسِ، وَيَرْفَعُ أَقْوَاماً وَيَضَعُ آخَرِينَ، يَسُوقُ المقاديرَ التي قَدَّرَهَا قَبْلَ خلقِ السَّمَاواتِ والأرضِ بخمسينَ ألفَ عَامٍ إِلَى مَوَاقِيتِهَا، فلا يَتَقَدَّمُ شيءٌ منها عنْ وقتِهِ ولا يَتَأَخَّرُ، بلْ كلٌّ مِنْهَا قدْ أَحْصَاهُ كما أَحْصَاهُ كِتَابُهُ، وَجَرَى بهِ قَلَمُهُ، وَنَفَذَ فيهِ حكمُهُ، وَسَبَقَ بهِ عِلْمُهُ، فهوَ المُتَصَرِّفُ في المَمَالِكِ كُلِّهَا وَحْدَهُ تَصَرُّفَ مَلِكٍ قَادِرٍ قَاهِرٍ عَادِلٍ رَحِيمٍ، تَامِّ المُلْكِ، لا يُنَازِعُهُ في مُلْكِهِ مُنَازِعٌ، أوْ يُعَارِضُهُ فيهِ مُعَارِضٌ، فتَصَرُّفُهُ في المملكةِ دَائِرٌ بينَ العدلِ والإحسانِ والحكمةِ والمصلحةِ والرحمةِ، فلا يَخْرُجُ تَصَرُّفُهُ عنْ ذلكَ.
وفي تَفْسِيرِ الحافظِ أبي بكرٍ أحمدَ بنِ مُوسَى بنِ مَرْدَوَيْهِ منْ حديثِ الحِمَّانِيِّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عنْ مُعَاوِيَةَ بنِ يَحْيَى، عنْ يُونُسَ بنِ مَيْسَرَةَ، عنْ أبي إِدْرِيسَ، عنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّهُ سُئِلَ عنْ قولِهِ تَعَالَى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن: 29] فقالَ: سُئِلَ عنها رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالَ: ((مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَغْـفِــرَ ذَنْباً وَيُفَــرِّجَ كَــرْباً، وَيَرْفَعَ قَوْمــاً، وَيَضَــعَ آخَرِينَ)) ([4]).
(فَهُوَ مَلِكُهُم المُتَصَرِّفُ فِيهِم، وَهُمْ عَبِيدُهُ وَمَمَالِيكُهُ، وهوَ المُتَصَرِّفُ فِيهِم، المُدَبِّرُ لَهُم كما يشاءُ، النافذُ القدرةِ فِيهِم، الذي لهُ السلطانُ التامُّ عليهم، فهوَ مَلِكُهُم الحقُّ، الذي إِلَيْهِ مَفْزَعُهُم عندَ الشدائدِ والنوائبِ، وهوَ مُسْتَغَاثُهُم وَمَعَاذُهُم وَمَلْجَؤُهُم، فلا صَلاحَ لهم ولا قِيَامَ إلاَّ بهِ، وَبِتَدْبِيرِهِ، فليسَ لهم مَلِكٌ غيرُهُ يَهْرُبُونَ إليهِ إذا دَهَمَهُم العدوُّ وَيَسْتَصْرِخُونَ بهِ إذا نَزَلَ العدوُّ بِسَاحَتِهِمْ. )([5])
([فإنَّ] المخلوقَ ليسَ عندَهُ للعبدِ نَفْعٌ ولا ضرٌّ، ولا عَطَاءٌ ولا منْعٌ، ولا هُدًى ولا ضَلالٌ، ولا نَصْرٌ ولا خِذْلانٌ، ولا خَفْضٌ ولا رَفْعٌ، ولا عِزٌّ ولا ذلٌّ، بل اللهُ وَحْدَهُ هوَ المَلِكُ، الذي لَهُ مُلْكُ ذَلِكَ كُلِّهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)} [فاطر: 2] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)} [يونس: 107] ([6]) ). [المرتبع الأسنى: ؟؟]
([1]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/152).
([2]) بَدَائِعُ الفوائدِ (2/249).
وقال رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في مَدارجِ السَّالكِينَ (3/334): (واسمُهُ (المَلِكُ) يدلُّ على ما يستلزمُ حقيقةَ مُلكِه: من قُدرتِه، وتدبيرِه، وعطائِه ومنعِه، وثوابِه وعقابِه، وبثِّ رُسلِه في أقطارِ مَملكَتِه، وإعلامِ عبيدِه بمراسيمِه، وعهودِه إليهِم، واستوائِه على سريرِ مَملكَتِه الذي هو عَرشُه المَجِيدُ).
([3]) شِفَاءُ العَلِيلِ (2/152).
([4]) طَرِيقُ الهِجرتَيَنِ (127).
([5]) بَدَائِعُ الفوائدِ (2/247).
([6]) إغاثةُ اللهفانِ (1/53).
مُلحَقٌ: وقالَ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في بدائعِ الفوائدِ (4/165): (المَلِكُ الحقُّ هو الذي يكونُ له الأمرُ والنهيُ؛ فيَتَصَرَّفُ في خلقِه بقولِه وأمرِه.
وهذا هو الفرقُ بين المَلِكِ والمالِكِ؛ إذِ المالكُ هو المُتصرِّفُ بفِعلِه، والملكُ هو المُتصرِّفُ بفِعلِه وأمرِه. والربُّ تَعالَى مَالِكُ المُلْكِ فهو المُتصرِّفُ بفِعلِه وأمرِه.
فمَن ظَنَّ أنه خَلَقَ خَلْقَهُ عَبَثًا لم يَأْمُرْهُمْ ولم يَنْهَهُمْ فقد طَعَنَ في مُلْكِهِ، ولم يُقَدِّرْهُ حقَّ قَدْرِه كما قالَ تعالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِه إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ علَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}). فمَن جَحَدَ شَرْعَ اللهِ وأَمْرَهُ ونَهْيَهُ، وجَعَلَ الخلْقَ بمَنزلةِ الأنعامِ المُهْملَةِ؛ فقد طَعَنَ في مُلكِ اللهِ ولم يُقَدِّرْهُ حقَّ قَدْرِه).
وقال في بدائعِ الفوائدِ (2/248): (المَلِكُ: هو المُتصرِّفُ بقولِه وأمرِه. فهو المُطاعُ إذا أَمَرَ، ومُلْكُه لهم تابعٌ لخَلقِه إياهم، فمُلْكُه من كمالِ رُبوبيَّتِه، وكونُه إِلَهَهُمُ الحقَّ من كمالِ مُلكِه).
وقال في شفاءِ العليلِ (2/188): (ومنها: أنه سبحانَهُ المَلِكُ التامُّ المُلكِ، ومِن تَمامِ مُلكِه عُمومُ تَصرُّفِه، وتنوُّعُه بالثوابِ والعقابِ والإكرامِ والإهانةِ والعَدْلِ والفَضْلِ والإعزازِ والإذلالِ).