العودة   جمهرة العلوم > المنتديات > منتدى جمهرة مسائل الفقه

إضافة رد
 
أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 20 شعبان 1435هـ/18-06-2014م, 10:56 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي مقدمة المجموع شرح المهذب للنووي

مقدمة المجموع شرح المهذب للنووي

1- مذاهب السّلف من الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم
2-
نسب الرسول صلى الله عليه وسلم
3-
نسب الشّافعيّ رحمه اللّه وطرفٌ من أموره وأحواله
4- نسب أبي إسحاق الشيرازي رحمه الله وطرف من أموره وأحواله
5-
فضل الاشتغال بالعلم
... - الأدلة من الكتاب والسنّة على فضل تعلّم العلم وتعليمه
... - الآثار الواردة عن السلف في فضل العلم
... - ترجيح الاشتغال بالعلم على نوافل الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات القاصرة.
... - أبيات في فضل طلب العلم
... - ذم من أراد بفعله غير الله تعالى
... - الحثّ على إكرام الفقهاء والنهي عن إيذائهم.

6-أقسام العلم الشرعي
... - أقسام العلم الشرعي
... - حكم العلوم الخارجة عن العلم الشرعي
... - حكم تعليم الطّالبين وإفتاء المستفتين
7-
آداب المعلم
... - آداب المعلم في نفسه
... - آداب المعلم في درسه واشتغاله
... - ينبغي للمعلّم أن يطرح على أصحابه ما يراه من مستفاد المسائل
... - ألّا يتأذّى ممّن يقرأ عليه إذا قرأ على غيره
8-
آداب المتعلّم
... - آداب المتعلم في نفسه ودرسه
... - من آداب المتعلم
... - آدابٍ يشترك فيها العالم والمتعلّم
9-
آداب الفتوى والمفتي والمستفتي
... - ينبغي للإمام أن يتصفّح أحوال المفتين
... - المفتون قسمان
... - للمفتي المنتسب أربعة أحوال
... - حكم العامّيّ إذا عرف حكم حادثةٍ بناءً على دليلها
... - في آداب الفتوى
... - آداب المستفتي وصفته وأحكامه
10-فصول مهمّة تتعلّق بالمهذّب
... - إذا قال الصّحابيّ قولًا ولم يخالفه غيره
... -
الحديث ثلاثة أقسامٍ
... - إذا قال الصّحابيّ أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا
... - الحديث المرسل لا يحتجّ به
... - إذا كان الحديث ضعيفًا لا يقال فيه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
... - قول الشافعي « إذا وجدتم في كتابي خلاف سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم... ».
... - الخلاف في جواز اختصار الحديث في الرواية.
... - إكثار المؤلف من الاحتجاج برواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
... - بيان القولين والوجهين والطّريقين.
... - كلّ مسألةٍ فيها قولان للشّافعيّ رحمه اللّه قديمٌ وجديدٌ؛ فالجديد هو الصحيح وعليه العمل.
... - حيث أطلق في المهذّب أبا العبّاس فهو ابن سريجٍ، وإذا أريد به ابن القاص قيّده.
... - المزنيّ وأبو ثورٍ وأبو بكر بن المنذر أئمّةٌ مجتهدون، ولهم أقوال في المذهب.


رد مع اقتباس
  #2  
قديم 20 شعبان 1435هـ/18-06-2014م, 11:00 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

مذاهب السّلف من الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم

قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ)
: (بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله البرّ الجوّاد. الّذي جلّت نعمه عن الإحصاء بالأعداد. خالق اللّطف والإرشاد. الهادي إلى سبيل الرّشاد. الموفّق بكرمه لطرق السّداد. المانّ بالتّفقّه في الدّين على من لطف به من العباد. الّذي كرّم هذه الأمّة زادها اللّه شرفًا بالاعتناء بتدوين ما جاء به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حفظًا له على تكرّر العصور والآباد. ونصّب كذلك جهابذةً من الحفّاظ النّقّاد: وجعلهم دائبين في إيضاح ذلك في جميع الأزمان والبلاد. باذلين وسعهم مستفرغين جهدهم في ذلك في جماعاتٍ وآحادٍ. مستمرّين على ذلك متابعين في الجهد والاجتهاد. أحمده أبلغ الحمد وأكمله وأزكاه وأشمله.
وأشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له الواحد القهّار. الكريم الغفّار وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله. وحبيبه وخليله. المصطفى بتعميم دعوته ورسالته. المفضّل على الأوّلين والآخرين من بريّته. المشرّف على العالمين قاطبةً بشمول شفاعته. المخصوص بتأييد ملّته وسماحة شريعته. المكرّم بتوفيق أمّته للمبالغة في إيضاح منهاجه وطريقته. والقيام بتبليغ ما أرسل به إلى أمّته. صلوات اللّه وسلامه عليه وعلى إخوانه من النّبيّين وآل كلٍّ وسائر الصّالحين. وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدّين
(أمّا بعد)
فقد قال اللّه تعالى العظيم العزيز الحكيم {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزقٍ وما أريد أن يطعمون} وهذا نصٌّ في أنّ العباد خلقوا للعبادة ولعمل الآخرة والإعراض عن الدّنيا بالزّهادة: فكان أولى ما اشتغل به المحقّقون.
واستغرق الأوقات في تحصيله العارفون. وبذل الوسع في إدراكه المشهورون. وهجر ما سواه لنيله المتيقّظون بعد معرفة اللّه وعمل الواجبات التّشمير في تبيين ما كان مصحّحًا للعبادات الّتي هي دأب أرباب العقول وأصحاب الأنفس الزّكيّات، إذ ليس يكفي في العبادات صور الطّاعات بل لا بدّ من كونها على وفق القواعد الشّرعيّات وهذا في هذه الأزمان وقبلها بأعصارٍ خالياتٍ.
قد انحصرت معرفته في الكتب الفقهيّات المصنّفة في أحكام الدّيانات، فهي المخصوصة ببيان ذلك وإيضاح الخفيّات منها والجليّات، وهي الّتي أوضح فيها جميع أحكام الدّين والوقائع الغالبات والنّادرات، وحرّر فيها الواضحات والمشكلات، وقد

أكثر العلماء رضي اللّه عنهم التّصنيف فيها من المختصرات والمبسوطات، وأودعوا فيها من المباحث والتحقيقات والنفائس الجليلات
وجميع ما يحتاج إليه وما يتوقّع وقوعه ولو على أندر الاحتمالات البدائع وغايات النّهايات، حتّى لقد تركونا منها على الجليّات الواضحات، فشكر اللّه الكريم لهم سعيهم وأجزل لهم المثوبات، وأحلّهم في دار كرامته أعلى المقامات، وجعل لنا نصيبًا من ذلك ومن جميع أنواع الخيرات، وأدامنا على ذلك في ازديادٍ حتّى الممات، وغفر لنا ما جرى وما يجري منّا من الزّلّات، وفعل ذلك بوالدينا ومشايخنا وسائر من نحبّه ويحبّنا ومن أحسن إلينا وسائر المسلمين والمسلمات، إنّه سميع الدّعوات جزيل العطيّات.
ثمّ إنّ أصحابنا المصنّفين رضي اللّه عنهم أجمعين وعن سائر علماء المسلمين أكثروا التّصانيف كما قدّمنا وتنوّعوا فيها كما ذكرنا واشتهر منها لتدريس المدرّسين وبحث المشتغلين المهذّب والوسيط وهما كتابان عظيمان صنّفهما إمامان جليلان.
أبو إسحاق إبراهيم بن عليّ بن يوسف الشيرازي، وأبو حامد محمد بن محمّد بن محمّدٍ الغزاليّ رضي اللّه عنهما وتقبّل ذلك وسائر أعمالهما منهما وقد وفرّ اللّه الكريم دواعي العلماء من أصحابنا رحمهم الله على الاشتغال بهذين الكتابين وما ذاك إلّا لجلالتهما وعظم فائدتهما وحسن نيّة ذينك الإمامين، وفي هذين الكتابين دروس المدرّسين وبحث المحصّلين المحقّقين، وحفظ الطّلّاب المعتنين فيما مضى وفي هذه الأعصار في جميع النّواحي والأمصار: فإذا كانا كما وصفنا وجلالتهما عند العلماء كما ذكرنا. كان من هم الأمور العناية بشرحهما إذ فيهما أعظم الفوائد وأجزل العوائد فإنّ فيهما مواضع كثيرةً أنكرها أهل المعرفة وفيها كتبٌ معروفةٌ مؤلّفةٌ فمنها ما ليس عنه جوابٌ سديدٌ ومنها ما جوابه صحيحٌ موجودٌ عتيدٌ فيحتاج إلى الوقوف على ذلك من لم تخصره معرفته، ويفتقر إلى العلم به من لم تحط به خبرته: وكذلك فيهما من الأحاديث واللغات وأسماء النقلة والرواة والاحترازات والمسائل المشكلات، والأصول المفتقرة إلى فروع وتتمات مالا بدّ من تحقيقه وتبيينه بأوضح العبارات.

فأمّا الوسيط فقد جمعت في شرحه جملًا مفرّقاتٍ سأهذّبها إن شاء اللّه تعالى في كتابٍ مفردٍ واضحاتٍ متمّماتٍ، وأمّا المهذّب فاستخرت اللّه الكريم الرؤوف الرّحيم في جمع كتابٍ في شرحه سمّيته بالمجموع واللّه الكريم أسأل أن يجعل نفعي وسائر المسلمين به من الدّائم غير الممنوع، أذكر فيه إن شاء اللّه تعالى جملًا من علومه الزّاهرات، وأبيّن فيه أنواعًا من فنونه المتعدّدات فمنها تفسير الآيات الكريمات، والأحاديث النّبويّات، والآثار الموقوفات، والفتاوى المقطوعات، والأشعار الاستشهاديّات، والأحكام الاعتقاديّات والفروعيّات، والأسماء واللّغات،والقيود والاحترازات، وغير ذلك من فنونه المعروفات، وأبيّن من الأحاديث صحيحها وحسنها وضعيفها مرفوعها وموقوفها متّصلها ومرسلها ومنقطعها ومعضلها وموضوعها مشهورها وغريبها وشاذّها ومنكرها ومقاربها ومعلّلها ومدرجها وغير ذلك من أقسامها ممّا ستراها إن شاء اللّه تعالى في مواطنها وهذه الأقسام الّتي ذكرتها كلّها موجودةٌ في المهذّب وسنوضّحها إن شاء اللّه تعالى.
وأبيّن منها أيضًا لغاتها وضبط نقلتها ورواتها، وإذا كان الحديث في صحيحي البخاريّ ومسلمٍ رضي اللّه عنهما أو في أحدهما اقتصرت على إضافته إليهما ولا أضيفه معهما إلى غيرهما إلّا نادرًا لغرضٍ في بعض المواطن لأنّ ما كان فيهما أو في أحدهما غنيٌّ عن التّقوية بالإضافة إلى ما سواهما، وأمّا ما ليس في واحدٍ منهما فأضيفه إلى ما تيسّر من كتب السّنن وغيرها أو إلى بعضها.
فإذا كان في سنن أبي داود والتّرمذيّ، والنّسائيّ الّتي هي تمام أصول الإسلام الخمسة أو في بعضها اقتصرت أيضًا على إضافته إليها. وما خرج عنها أضيفه إلى ما تيسّر إن شاء اللّه تعالى مبيّنًا صحّته أو ضعفه.
ومتى كان الحديث ضعيفًا بيّنت ضعفه ونبّهت على سبب ضعفه إن لم يطل الكلام بوصفه.
وإذا كان الحديث الضّعيف هو الّذي احتجّ به المصنّف أو هو الّذي اعتمده أصحابنا صرّحت بضعفه ثمّ أذكر دليلًا للمذهب من الحديث إن وجدته وإلّا فمن القياس وغيره
.
وأبيّن فيه ما وقع في الكتاب من ألفاظ اللّغات وأسماء الأصحاب وغيرهم من العلماء والنّقلة والرّواة مبسوطًا في وقتٍ ومختصرًا في وقتٍ بحسب المواطن والحاجة.
وقد جمعت في هذا النوع كتابا سميته بتهذيب الأسماء واللّغات جمعت فيه ما يتعلّق بمختصر المزنيّ والمهذّب والوسيط والتّنبيه والوجيز والرّوضة الّذي اختصرته من شرح الوجيز للإمام أبي القاسم الرّافعيّ رحمه اللّه من الألفاظ العربيّة والعجميّة والأسماء والحدود والقيود والقواعد والضّوابط وغير ذلك مما له ذكر في شيء من هذه الكتب السّتّة ولا يستغني طالب علمٍ عن مثله فما وقع هنا مختصرًا لضرورةٍ أحلته على ذلك وأبيّن فيه الاحترازات والضّوابط الكلّيّات.

وأمّا الأحكام فهو مقصود الكتاب فأبالغ في إيضاحها بأسهل العبارات، وأضمّ إلى ما في الأصل من الفروع والتتمات، والزوائد المستجادات، والقواعد المحرّرات، والضّوابط الممهّدات، ما تقرّ به إن شاء اللّه تعالى أعين أولي البصائر والعنايات، والمبرّئين من أدناس الزّيغ والجهالات، ثمّ من هذه الزّيادات ما أذكره في أثناء كلام صاحب الكتاب.
ومنها ما أذكره في آخر الفصول والأبواب وأبيّن ما ذكره المصنّف وقد اتّفق الأصحاب عليه وما وافقه عليه الجمهور وما انفرد به أو خالفه فيه المعظم.

وهذا النّوع قليلٌ جدًّا، وأبيّن فيه ما أنكر على المصنّف من الأحاديث والأسماء واللّغات، والمسائل المشكلات مع جوابه إن كان من المرضيات.
وكذلك أبيّن فيه جملًا ممّا أنكر على الإمام أبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزنيّ في مختصره وعلى الإمام أبي حامدٍ الغزاليّ في الوسيط وعلى المصنّف في التّنبيه مع الجواب عنه إن أمكن فإنّ الحاجة إليها كالحاجة إلى المهذّب.
وألتزم فيه بيان الرّاجح من القولين والوجهين والطّريقين والأقوال والأوجه والطّرق ممّا لم يذكره المصنّف أو ذكره ووافقوه عليه أو خالفوه.

واعلم أنّ كتب المذهب فيها اختلافٌ شديدٌ بين الاصحاب بحيث لا يحصل للمطالع وثوق بكون ما قاله مصنّفٌ منهم هو المذهب حتّى يطالع معظم كتب المذهب المشهورة فلهذا لا أترك قولًا ولا وجهًا ولا نقلًا ولو كان ضعيفًا أو واهيًا إلّا ذكرته إذا وجدته إن شاء اللّه تعالى مع بيان رجحان ما كان راجحًا وتضعيف ما كان ضعيفًا وتزييف ما كان زائفًا والمبالغة في تغليط قائله ولو كان من الأكابر.
وإنّما أقصد بذلك التّحذير من الاغترار به.
وأحرص على تتبّع كتب الأصحاب من المتقدّمين والمتأخّرين إلى زماني من المبسوطات والمختصرات.
وكذلك نصوص الإمام الشّافعيّ صاحب المذهب رضي اللّه عنه فأنقلها من نفس كتبه المتيسرة عندي كالإمام والمختصر والبويطيّ وما نقله المفتون المعتمدون من الأصحاب.
وكذلك أتتبّع فتاوى الأصحاب ومتفرّقات كلامهم في الأصول والطّبقات وشروحهم للحديث وغيرها وحيث أنقل حكمًا أو قولًا أو وجهًا أو طريقًا أو لفظة لغةٍ أو اسم رجلٍ أو حالةً أو ضبط لفظةٍ أو غير ذلك وهو من المشهور أقتصر على ذكره من غير تعيين قائليه لكثرتهم إلّا أن أضطرّ إلى بيان قائليه لغرضٍ مهمٍّ فأذكر جماعةً منهم ثمّ أقول وغيرهم وحيث كان ما أنقله غريبًا أضيفه إلى قائله في الغالب وقد أذهل عنه في بعض المواطن.
وحيث أقول الّذي عليه الجمهور كذا أو الّذي عليه المعظم أو قال الجمهور أو المعظم أو الأكثرون كذا ثمّ أنقل عن جماعةٍ خلاف ذلك فهو كما أذكره إن شاء اللّه تعالى.
ولا يهولنّك كثرة من أذكره في بعض المواضع على خلاف الجمهور أو خلاف المشهور أو الأكثرين ونحو ذلك فإنّي إنّما أترك تسمية الأكثرين لعظم كثرتهم كراهةً لزيادة التّطويل وقد أكثر اللّه سبحانه وتعالى وله الحمد والنّعمة كتب الأصحاب وغيرهم من العلماء من مبسوطٍ ومختصرٍ وغريبٍ ومشهورٍ.
وسترى من ذلك إن شاء اللّه تعالى في هذا الكتاب ما تقرّ به عينك ويزيد رغبتك في الاشتغال والمطالعة وترى كتبًا وأئمّةً قلّما طرقوا سمعك وقد أذكر الجمهور بأسمائهم في نادرٍ من المواضع لضرورةٍ تدعو إليهم وقد أنبّه على تلك الضّرورة
.
وأذكر في هذا الكتاب إن شاء اللّه تعالى مذاهب السّلف من الصّحابة والتّابعين فمن بعدهم من فقهاء الأمصار رضي اللّه عنهم أجمعين بأدلّتها من الكتاب والسّنّة والإجماع والقياس.
وأجيب عنها مع الإنصاف إن شاء اللّه تعالى وأبسط الكلام في الأدلّة في بعضها وأختصره في بعضها بحسب كثرة الحاجة إلى تلك المسألة وقلّتها وأعرض في جميع ذلك عن الأدلّة الواهية وإن كانت مشهورةً.

فإنّ الوقت يضيق عن المهمّات.
فكيف يضيع في المنكرات والواهيات.
وإن ذكرت شيئًا من ذلك على ندورٍ نبّهت على ضعفه
.
واعلم أنّ معرفة مذاهب السّلف بأدلّتها من أهمّ ما يحتاج إليه لأنّ اختلافهم في الفروع رحمةٌ وبذكر مذاهبهم بأدلّتها يعرف المتمكّن المذاهب على وجهها والرّاجح من المرجوح ويتّضح له ولغيره المشكلات.
وتظهر الفوائد النّفيسات.
ويتدرّب النّاظر فيها بالسّؤال والجواب.
ويفتح ذهنه ويتميّز عند ذوي البصائر والألباب.
ويعرف الأحاديث الصّحيحة من الضّعيفة والدّلائل الرّاجحة من المرجوحة ويقوم بالجمع بين الأحاديث المتعارضات والمعمول بظاهرها من المؤولاات ولا يشكل عليه إلّا أفرادٌ من النّادر.
وأكثر ما أنقله من مذاهب العلماء من كتاب الإشراف والإجماع لابن المنذر وهو الإمام أبو بكرٍ محمّد بن إبراهيم بن المنذر النّيسابوريّ الشّافعيّ القدوة في هذا الفنّ ومن كتب أصحاب أئمّة المذاهب ولا أنقل من كتب أصحابنا من ذلك إلّا القليل لأنّه وقع في كثيرٍ
من ذلك ما ينكرونه.
وإذا مررت باسم أحدٍ من أصحابنا أصحاب الوجوه أو غيرهم أشرت إلى بيان اسمه وكنيته ونسبه وربّما ذكرت مولده ووفاته وربّما ذكرت طرفًا من مناقبه.
والمقصود بذلك التّنبيه على جلالته.
وإذا كانت المسألة أو الحديث أو الاسم أو اللّفظة أو نحو ذلك له موضعان يليق ذكره فيهما ذكرته في أوّلهما فإن وصلت إلى الثّاني نبّهت على أنّه تقدّم في الموضع الفلانيّ.
وأقدّم في أوّل الكتاب أبوابًا وفصولًا تكون لصاحبه قواعد وأصولًا.
أذكر فيها إن شاء اللّه نسب الشّافعيّ رحمه اللّه وأطرافًا من أحواله وأحوال المصنّف الشّيخ أبي إسحاق رحمه اللّه وفضل العلم وبيان أقسامه ومستحقّي فضله وآداب العالم والمعلّم والمتعلّم.
وأحكام المفتي والمستفتي وصفة الفتوى وآدابها وبيان القولين والوجهين والطّريقين وماذا يعمل المفتي المقلّد فيها: وبيان صحيح الحديث وحسنه وضعيفه وغير ذلك مما يتعلق به كاختصار الحديث.
وزيادة الثقاة.
واختلاف الرّواة في رفعه ووقفه ووصله وإرساله وغير ذلك.
وبيان الإجماع وأقوال الصّحابة رضي اللّه عنهم.
وبيان الحديث المرسل وتفصيله.
وبيان حكم قول الصّحابة أمرنا بكذا أو نحوه.
وبيان حكم الحديث الّذي نجده يخالف نصّ الشّافعيّ رحمه اللّه وبيان جملةٍ من ضبط الأسماء المتكرّرة أو غيرها كالرّبيع المراديّ والجيزيّ والقفّال وغير ذلك واللّه أعلم
.
ثمّ إنّي أبالغ إن شاء اللّه تعالى في إيضاح جميع ما أذكره في هذا الكتاب وإن أدّى إلى التّكرار ولو كان واضحًا مشهورًا ولا أترك الإيضاح وإن أدّى إلى التّطويل بالتّمثيل.
وإنّما أقصد بذلك النّصيحة وتيسير الطّريق إلى فهمه فهذا هو مقصود المصنّف النّاصح.
وقد كنت جمعت هذا الشّرح مبسوطًا جدًّا بحيث بلغ إلى آخر باب الحيض ثلاث مجلدات ضخمات ثم رأيت الاستمرار على هذا المنهاج يؤدّي إلى سآمة مطالعه.
ويكون سببًا لقلّة الانتفاع به لكثرته.

والعجز عن تحصيل نسخةٍ منه فتركت ذلك المنهاج فأسلك الآن طريقةً متوسّطةً إن شاء الله تعالى لا من المطولات المملات.
ولا من المختصرات المخلّات.
وأسلك فيه أيضًا مقصودًا صحيحًا وهو أنّ ما كان من الأبواب الّتي لا يعمّ الانتفاع بها لا أبسط الكلام فيها لقلّة الانتفاع بها وذلك ككتاب اللّعان وعويص الفرائض وشبه ذلك لكن لا بدّ من ذكر مقاصدها
.
واعلم أنّ هذا الكتاب وإن سمّيته شرح المهذّب فهو شرحٌ للمذهب كلّه بل لمذاهب العلماء كلّهم وللحديث وجعل من اللغة والتاربخ والأسماء وهو أصلٌ عظيمٌ في معرفة صحيح الحديث وحسنه وضعيفه.
وبيان علله والجمع بين الأحاديث المتعارضات.

وتأويل الخفيّات. واستنباط المهمّات.
واستمدادي في كل ذلك وغيره اللطف والمعونة من الله الكريم الرؤوف الرّحيم وعليه اعتمادي وإليه تفويضي واستنادي.
أسأله سلوك سبيل الرّشاد. والعصمة من أحوال أهل الزّيغ والعناد. والدّوام على جميع أنواع الخير في ازديادٍ. والتّوفيق في الأقوال والأفعال للصّواب.

والجري على آثار ذوي البصائر والألباب. وأن يفعل ذلك بوالدينا ومشايخنا وجميع من نحبّه ويحبّنا وسائر المسلمين إنّه الواسع الوهّاب.
وما توفيقي إلّا باللّه عليه توكّلت وإليه متابٌ.
حسبنا اللّه ونعم الوكيل ولا حول ولا قوّة إلّا باللّه العزيز الحكيم). [المجموع شرح المهذب: 1/2-6]


رد مع اقتباس
  #3  
قديم 20 شعبان 1435هـ/18-06-2014م, 11:00 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي فصلٌ في نسب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم

نسب الرسول صلى الله عليه وسلم

قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ):
(فصلٌ في نسب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم

وقدّمته لمقاصد منها تبرّك الكتاب به.
ومنها أن يحال عليه ما سأذكره من الأنساب إن شاء اللّه تعالى.

وقد ذكره المصنف مستوفى في باب قسم الفئ فهو صلّى اللّه عليه وسلّم أبو القاسم محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصيّ بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر بن مالك بن النّضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان
إلى هنا مجمعٌ عليه وما بعده إلى آدم مختلفٌ فيه ولا يثبت فيه شيء.
وقد ذكرت في تهذيب الأسماء واللّغات عن بعضهم أنّ للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ألف اسمٍ وذكرت فيه قطعةً تتعلّق بأسمائه وأحواله صلّى اللّه عليه وسلّم واللّه أعلم). [المجموع شرح المهذب: 1/7]


رد مع اقتباس
  #4  
قديم 20 شعبان 1435هـ/18-06-2014م, 11:01 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي بابٌ في نسب الشّافعيّ رحمه اللّه: وطرفٌ من أموره وأحواله

نسب الشّافعيّ رحمه اللّه وطرفٌ من أموره وأحواله

قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ):
(بابٌ في نسب الشّافعيّ رحمه اللّه: وطرفٌ من أموره وأحواله

هو الإمام أبو عبد اللّه محمّد بن إدريس بن العبّاس بن عثمان بن شافع بن السّائب بن عبد الله بن عبد يزيد بن هاشم بن المطّلب بن عبد مناف بن قصيٍّ القرشيّ المطّلبيّ الشّافعيّ الحجازيّ المكّيّ يلتقي مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في عبد منافٍ.
وقد أكثر العلماء من المصنّفات في مناقب الشّافعيّ رحمه اللّه وأحواله من المتقدّمين كداود الظّاهريّ وآخرين.
ومن المتأخّرين كالبيهقيّ وخلائق لا يحصون ومن أحسنها تصنيف البيهقيّ وهو مجلّدتان مشتملتان على نفائس من كلّ فنٍّ.
وقد شرعت أنا في جمع متفرّقات كلام الأئمّة في ذلك وجمعت من مصنّفاتهم في مناقبه.
ومن كتب أهل التفسير والحديث والتاريخ والأخبار والفقهاء والزّهّاد وغيرهم في مصنّفٍ متوسّطٍ بين الاختصار والتّطويل وأذكر فيه إن شاء اللّه من النّفائس ما لا يستغني طالب علمٍ عن معرفته لا سيّما المحدّث والفقيه ولا سيّما منتحل مذهب الشّافعيّ رضي اللّه عنه.

وأرجو من فضل اللّه أن يوفّقني لإتمامه على أحسن الوجوه.
وأمّا هذا الموضع الّذي نحن فيه فلا يحتمل إلّا الإشارة إلى بعض تلك المقاصد.

والرّمز إلى أطرافٍ من تلك الكلّيّات والمعاقد.
فأقول مستعينًا باللّه متوكّلًا عليه مفوّضًا أمري إليه.

الشّافعيّ قريشيٌّ مطّلبيٌّ بإجماع أهل النّقل من جميع الطّوائف وأمّه أزديّةٌ وقد تظاهرت الأحاديث الصّحيحة في فضائل قريشٍ وانعقد إجماع الأمّة على تفضيلهم على جميع قبائل العرب وغيرهم.
وفي الصّحيحين عن رسول الله صلى عليه وسلّم
« الأئمّة من قريشٍ » وفي صحيح مسلمٍ عن جابرٍ رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم
قال « النّاس تبعٌ لقريشٍ في الخير والشّرّ » وفي كتاب التّرمذيّ أحاديث في فضائل الازد.
فصلٌ في مولد الشّافعيّ رضي اللّه عنه ووفاته وذكر نبذٍ من أموره وحالاته
وأجمعوا أنّه ولد سنة خمسين ومائةٍ وهي السّنة الّتي توفّي فيها أبو حنيفة رحمه اللّه.
وقيل إنّه توفّي في اليوم الّذي ولد فيه الشّافعيّ ولم يثبت التّقييد باليوم ثمّ المشهور الّذي عليه الجمهور أنّ الشّافعيّ ولد بغزّة وقيل بعسقلان وهما من الأراضي المقدّسة الّتي بارك اللّه فيها فإنّهما على نحو مرحلتين من بيت المقدس ثمّ حمل إلى مكّة وهو ابن سنتين وتوفّي بمصر سنة أربعٍ ومائتين وهو ابن أربعٍ وخمسين سنةً.
قال الرّبيع: توفّي الشّافعيّ رحمه اللّه ليلة الجمعة بعد المغرب وأنا عنده ودفن بعد العصر يوم الجمعة آخر يومٍ من رجبٍ سنة أربعٍ ومائتين وقبره رضي اللّه عنه بمصر عليه من الجلالة وله من الاحترام ما هو لائقٌ بمنصب ذلك الإمام.

قال الرّبيع رأيت في المنام أنّ آدم صلّى اللّه عليه وسلّم مات فسألت عن ذلك فقيل هذا موت أعلم أهل الأرض لأنّ اللّه تعالى علّم آدم الأسماء كلّها فما كان الايسيرا فمات الشّافعيّ ورأى غيره ليلة مات الشّافعيّ قائلًا يقول اللّيلة مات النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلم.
نشأ يتيمًا في حجر أمّه في قلّةٍ من العيش وضيق حالٍ وكان في صباه يجالس العلماء ويكتب ما يستفيده في العظام ونحوها حتّى ملأ منها خبايا.
وعن مصعب بن عبد اللّه الزّبيريّ قال
« كان الشّافعيّ رحمه الله في ابتدأ أمره يطلب الشّعر وأيّام العرب والأدب ثمّ أخذ في الفقه بعد ».
قال وكان سبب أخذه في العلم أنّه كان يومًا يسير على دابّةٍ له وخلفه كاتبٌ لأبي فتمثّل الشافعي ببيت شعرٍ فقرعه كاتب أبي بسوطه ثمّ قال له مثلك يذهب بمرؤته في مثل هذا أين أنت من الفقه فهزّه ذلك فقصد مجالسة الزّنجيّ مسلم بن خالدٍ وكان مفتي مكّة ثمّ قدم علينا فلزم مالك بن أنسٍ.
وعن الشّافعيّ رحمه اللّه قال:
« كنت أنظر في الشّعر فارتقيت عقبةً بمنًى فإذا صوتٌ من خلفي عليك بالفقه ».
وعن الحميديّ قال:
« قال الشّافعيّ خرجت أطلب النّحو والأدب فلقيني مسلم بن خالدٍ الزنجي فقال يافتى من أين أنت؟ قلت: من أهل مكّة قال: أين منزلك؟ قلت: شعبٌ بالخيف قال: من أيّ قبيلةٍ أنت؟ قلت: من عبد منافٍ قال: بخٍ بخٍ لقد شرّفك اللّه في الدّنيا والآخرة ألا جعلت فهمك في هذا الفقه فكان أحسن بك ».
ثمّ رحل الشّافعيّ من مكّة إلى المدينة قاصدًا الأخذ عن أبي عبد اللّه مالك بن أنسٍ رحمه اللّه: وفي رحلته مصنّفٌ مشهورٌ مسموعٌ فلمّا قدم عليه قرأ عليه الموطّأ حفظًا فأعجبته قراءته ولازمه وقال له مالكٌ:
« اتّق اللّه واجتنب المعاصي فإنّه سيكون لك شأنٌ ». وفي رواية أخرى أنه قال له: « انه اللّه عزّ وجلّ قد ألقى على قلبك نورًا فلا تطفه بالمعاصي ».
وكان للشّافعيّ رحمه اللّه حين أتى مالكًا ثلاث عشرة سنةً ثم ولى باليمين.
واشتهر من حسن سيرته وحمله النّاس على السّنّة والطّرائق الجميلة أشياء كثيرةٍ معروفةٍ.

ثمّ ترك ذلك وأخذ في الاشتغال بالعلوم ورحل إلى العراق وناظر محمّد بن الحسن وغيره ونشر علم الحديث ومذهب أهله ونصر السّنّة وشاع ذكره وفضله وطلب منه عبد الرّحمن بن مهديٍّ إمام أهل الحديث في عصره أن يصنّف كتابًا في أصول الفقه فصنّف كتاب الرّسالة وهو أوّل كتابٍ صنّف في أصول الفقه.
وكان عبد الرّحمن ويحيى بن سعيد

القطّان يعجبان به.
وكان القطّان وأحمد بن حنبلٍ يدعوان للشّافعيّ في صلاتهما وأجمع النّاس على استحسان رسالته وأقوالهم في ذلك مشهورةٌ.
وقال المزني:
« قرأت الرسالة خمس مائة مرة مامن مرّةٍ إلّا واستفدت منها فائدةً جديدةً وفي روايةٍ عنه قال أنا أنظر في الرّسالة من خمسين سنةٍ ما أعلم أنّي نظرت فيها مرّةً إلّا واستفدت شيئًا لم أكن عرفته ».
واشتهرت جلالة الشّافعيّ رحمه اللّه في العراق وسار ذكره في الآفاق وأذعن بفضله الموافقون والمخالفون.

واعترف بذلك العلماء أجمعون وعظمت عند الخلفاء وولاة الأمور مرتبته واستقرّت عندهم جلالته وإمامته وظهر من فضله في مناظراته أهل العراق وغيرهم ما لم يظهر لغيره.
وأظهر من بيان القواعد ومهمّات الأصول ما لا يعرف لسواه.
وامتحن في مواطن ما لا يحصى من المسائل فكان جوابه فيها من الصّواب والسّداد بالمحلّ الأعلى والمقام الأسمى.
وعكف عليه للاستفادة منه الصّغار والكبار والأئمّة والاحبار من أهل الحديث والفقه وغيرهم
.
ورجع كثيرون منهم عن مذاهب كانوا عليها إلى مذهبه وتمسّكوا بطريقته كأبي ثورٍ وخلائق لا يحصون.
وترك كثيرٌ منهم الأخذ عن شيوخهم وكبار الائمة لانقاطاعهم إلى الشّافعيّ لمّا رأوا عنده ما لا يجدونه عند غيره وبارك اللّه الكريم له ولهم في تلك العلوم الباهرة والمحاسن المتظاهرة والخيرات المتكاثرة وللّه الحمد على ذلك وعلى سائر نعمه الّتي لا تحصى.
وصنّف في العراق كتابه القديم ويسمّى كتاب الحجّة ويرويه عنه أربعةٌ من جلّة أصحابه وهم أحمد بن حنبلٍ وأبو ثورٍ والزّعفرانيّ والكرابيسيّ ثمّ خرج إلى مصر سنة تسعٍ وتسعين ومائةٍ.

قال أبو عبد الله حرملة بن يحي: « قدم علينا الشافعي سنة تسع وتسعين »: وقال الرّبيع: « سنة مائتين » ولعلّه قدم في آخر سنة تسعٍ جمعًا بين الرّوايتين.
وصنّف كتبه الجديدة كلّها بمصر وسار ذكره في البلدان وقصده الناس من الشام والعراق واليمين وسائر النّواحي للأخذ عنه وسماع كتبه الجديدة وأخذها عنه وساد أهل مصر وغيرهم وابتكر كتبًا لم يسبق إليها منها أصول الفقه.

ومنها كتاب القسامة. وكتاب الجزية وقتال أهل البغي وغيرها.
قال الإمام أبو الحسن محمّد بن عبد اللّه بن جعفرٍ الرّازيّ في كتابه مناقب الشافعي: سمعت أبا عمر واحمد بن عليّ بن الحسن البصريّ قال سمعت محمد بن حمدان بن سفيان الطرايفي البغداديّ يقول حضرت الرّبيع بن سليمان يومًا وقد حطّ على باب داره سبعمائة راحلةٍ في سماع كتب الشّافعيّ رحمه اللّه ورضي اللّه عنه.

فصلٌ في تلخيص جملةٍ من حال الشّافعيّ رضي اللّه عنه
اعلم أنّه كان من أنواع المحاسن بالمقام الأعلى والمحلّ الأسنى
لما جمعه اللّه الكريم له من الخيرات
ووفّقه له من جميل الصّفات
وسهّله عليه من أنواع المكرمات
فمن ذلك شرف النّسب الطّاهر والعنصر الباهر واجتماعه هو ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في النّسب.
وذلك غاية الفضل ونهاية الحسب.
ومن ذلك شرف المولد والمنشأ فإنّه ولد بالأرض المقدّسة ونشأ بمكّة.
ومن ذلك أنّه جاء بعد أن مهّدت الكتب وصنّفت.

وقرّرت الأحكام ونقّحت.
فنظر في مذاهب المتقدّمين وأخذ عن الأئمّة المبرزين وناظر الحذّاق المتقنين فنظر مذاهبهم وسبرها وتحقّقها وخبرها فلخّص منها طريقةً جامعةً للكتاب والسّنّة والإجماع والقياس ولم يقتصر على بعض ذلك وتفرّغ للاختيار والترجيح والتكميل والتنقيح مع كمال قوّته وعلوّ همّته وبراعته في جميع أنواع الفنون واضطلاعه منها أشد اضطلاح وهو المبرّز في الاستنباط من الكتاب والسّنّة البارع في معرفة النّاسخ والمنسوخ والمجمل والمبيّن والخاصّ والعامّ وغيرها من تقاسيم الخطاب فلم يسبقه أحدٌ إلى فتح هذا الباب لأنّه أوّل من صنّف أصول الفقه بلا خلافٍ ولا ارتيابٍ وهو الّذي لا يساوى بل لا يدانى في معرفة كتاب اللّه تعالى وسنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وردّ بعضها إلى بعضٍ وهو الإمام الحجّة في لغة العرب ونحوهم فقد اشتغل في العربيّة عشرين سنةً مع بلاغته وفصاحته ومع أنّه عربيّ اللّسان والدّار والعصر وبها يعرف الكتاب والسّنّة.
وهو الّذي قلّد المنن الجسيمة جميع أهل الآثار وحملة الأحاديث ونقلة الأخبار بتوقيفه إيّاهم على معاني السّنن وتنبيههم وقذفه بالحق على باطن مخالفي السّنن وتمويههم فنعّشهم بعد أن كانوا خاملين وظهرت كلمتهم على جميع المخالفين ودمغوهم بواضحات البراهين حتّى ظلّت أعناقهم لها خاضعين
.
قال محمّد بن الحسن رحمه اللّه: « إن تكلّم أصحاب الحديث يومًا ما فبلسان الشّافعيّ يعني لما وضع من كتبه »
وقال الحسن بن محمّدٍ الزّعفرانيّ: « كان أصحاب الحديث رقودًا فأيقظهم الشّافعيّ فتيقّظوا »
وقال أحمد بن حنبلٍ رحمه اللّه: « ما أحدٌ مسّ بيده محبرةً ولا قلمًا إلّا وللشّافعيّ في رقبته منّةٌ فهذا قول إمام أصحاب الحديث وأهله ومن لا يختلفون في ورعه وفضله »
ومن ذلك أنّ الشّافعيّ رحمه اللّه مكّنه اللّه من أنواع العلوم حتّى عجز لديه المناظرون من الطّوائف وأصحاب الفنون واعترف بتبريزه وأذعن الموافقون والمخالفون في المحافل المشهورة الكبيرة المشتملة على أئمّة عصره في البلدان وهذه المناظرات معروفةٌ موجودةٌ في كتبه رضي اللّه عنه وفي كتب الائمة المتقدمين والمتأخرين وفي كتاب الأمّ للشّافعيّ رحمه اللّه من هذه المناظرات جملٌ من العجائب والآيات، والنّفائس الجليلات، والقواعد المستفادات
وكم من مناظرةٍ وقاعدةٍ فيه يقطع كلّ من وقف عليها وأنصف وصدق أنّه لم يسبق إليها
ومن ذلك أنّه تصدّر في عصر الأئمّة المبرزين للإفتاء والتّدريس والتّصنيف وقد أمره بذلك شيخه أبو خالدٍ مسلم بن خالدٍ الزّنجيّ إمام أهل مكّة ومفتيها وقال له افت يا أبا عبد اللّه فقد واللّه آن لك أن تفتي وكان للشّافعيّ إذ ذاك خمس عشرة سنةً.
وأقاويل أهل عصره في هذا كثيرةٌ مشهورةٌ وأخذ عن الشّافعيّ العلم في سنّ الحداثة مع توفّر العلماء في ذلك العصر وهذا من الدّلائل الصّريحة لعظم جلالته وعلوّ مرتبته وهذا كلّه من المشهور المعروف في كتب مناقبه وغيرها
.
ومن ذلك شدّة اجتهاده في نصرة الحديث واتّباع السّنّة وجمعه في مذهبه بين أطراف الأدلّة مع الإتقان والتّحقيق والغوص التّامّ على المعاني والتّدقيق.
حتّى لقّب حين قدم العراق بناصر الحديث وغلب في عرف العلماء المتقدّمين والفقهاء الخراسانيّين على متّبعي مذهبه لقب أصحاب الحديث في القديم والحديث.
وقد روينا عن الإمام أبي بكرٍ محمّد بن إسحاق بن خزيمة المعروف بإمام الأئمّة وكان من حفظ الحديث ومعرفة السّنّة بالغاية العالية أنّه سئل هل تعلم سنّةً صحيحةً لم يودعها الشّافعيّ كتبه قال لا.
ومع هذا فاحتاط الشّافعيّ رحمه اللّه لكون الإحاطة ممتنعةً على البشر فقال ما قد ثبت عنه رضى عنه من أوجهٍ من وصيّته

بالعمل بالحديث الصّحيح وترك قوله المخالف للنّصّ الثّابت الصّريح وقد امتثل أصحابنا رحمهم اللّه وصيّته وعملوا بها في مسائل كثيرةٍ مشهورةٍ كمسألة التثويب في الصبح ومسألة اشتراط التحلل في الحجّ بعذرٍ وغير ذلك وستراها في مواضعها إن شاء اللّه تعالى
ومن ذلك تمسكه بالاحاديث الصحيحة، واعراضه عن الأخبار الواهية الضّعيفة.
ولا نعلم أحدًا من الفقهاء اعتنى في الاحتجاج بالتّمييز بين الصّحيح والضّعيف كاعتنائه ولا قريبًا منه فرضي اللّه عنه

ومن ذلك أخذه رضي اللّه عنه بالاحتياط في مسائل العبادات وغيرها كما هو معروفٌ من مذهبه.
ومن ذلك شدّة اجتهاده في العبادة وسلوك طرائق الورع والسّخاء والزّهادة
وهذا من خلقه وسيرته مشهورٌ معروفٌ، ولا يتمارى فيه إلّا جاهلٌ أو ظالمٌ عسوفٌ.
فكان رضي اللّه عنه بالمحلّ الأعلى من متانة الدّين وهو من المقطوع بمعرفته عند الموافقين والمخالفين وليس يصح في الاذهان شيء

إذا احتاج النّهار إلى دليل وأمّا سخاؤه وشجاعته وكمال عقله وبراعته فإنّه ممّا اشترك الخواصّ والعوامّ في معرفته فلهذا لا أستدلّ له لشهرته وكلّ هذا مشهورٌ في كتب المناقب من طرقٍ.
ومن ذلك ما جاء في الحديث المشهور " إنّ عالم قريشٍ يملأ طباق الأرض علمًا " وحمله العلماء من المتقدّمين وغيرهم من غير أصحابنا على الشّافعيّ رحمه اللّه واستدلّوا له بأنّ الأئمّة من الصّحابة رضي اللّه عنهم الّذين هم أعلام الدّين لم ينقل عن كلّ واحدٍ منهم إلّا مسائل معدودةٌ إذ كانت فتاواهم مقصورةً على الوقائع بل كانوا ينهون عن السؤال عن ما لم يقع وكانت هممهم مصروفةً إلى قتال الكفّار لإعلاء كلمة الإسلام وإلى مجاهدة النّفوس والعبادة فلم يتفرّغوا للتّصنيف.
وأمّا من جاء بعدهم وصنّف من الأئمّة فلم يكن فيهم قريش قبل الشّافعيّ ولم يتّصف بهذه الصّفة أحدٌ قبله ولا بعده.
وقد قال الإمام أبو زكريّا يحيى بن زكريّا السّاجيّ في كتابه المشهور في الخلاف إنّما بدأت بالشّافعيّ قبل جميع الفقهاء وقدّمته عليهم وإن كان فيهم أقدم منه اتباعه للسّنّة فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال:
« قدّموا قريشًا وتعلّموا من قريشٍ » وقال الإمام أبو نعيمٍ عبد الملك بن محمد بن عدي الاستراباذى صاحب الرّبيع بن سليمان المراديّ في هذا الحديث علامةٌ بيّنةٌ إذا تأمّله النّاظر المميّز علم أنّ المراد به رجلٌ من علماء هذه الأمّة من قريشٍ ظهر علمه وانتشر في البلاد وكتب كما تكتب المصاحف ودرسه المشايخ والشّبّان في مجالسهم واستظهروا أقاويله وأجروها في مجالس الحكّام والأمراء والقرّاء وأهل الآثار وغيرهم قال وهذه صفةٌ لا نعلم أنّها أحاطت بأحدٍ إلّا بالشّافعيّ فهو عالم قريشٍ الّذي دوّن العلم وشرح الأصول والفروع ومهّد القواعد.
قال البيهقيّ بعد رواية كلام أبي نعيمٍ.
وإلى هذا ذهب أحمد بن حنبلٍ في تأويل الخبر.
ومن ذلك مصنّفات الشّافعيّ في الأصول والفروع الّتي لم يسبق إليها كثرةً وحسنًا فإنّ مصنّفاته كثيرةٌ مشهورةٌ كالأمّ في نحو عشرين مجلّدًا وهو مشهورٌ وجامع المزنيّ الكبير وجامعه الصّغير ومختصريه الكبير والصّغير.

ومختصر البويطيّ والرّبيع وكتاب حرملة وكتاب الحجّة وهو القديم والرّسالة القديمة والرّسالة الجديدة والأمالي والإملاء وغير ذلك ممّا هو معلومٌ من كتبه، وقد جمعها البيهقيّ في المناقب.
قال القاضى الإمام أبو محمد الحسين
ابن محمّدٍ المروزيّ في خطبة تعليقه: « قيل إنّ الشّافعيّ رحمه اللّه صنّف مائةً وثلاثة عشر كتابًا في التّفسير والفقه والأدب وغير ذلك وأمّا حسنها فأمرٌ يدرك بمطالعتها فلا يتمارى في حسنها موافقٌ ولا مخالفٌ، وأمّا كتب أصحابه الّتي هي شروحٌ لنصوصه ومخرّجةٌ على أصوله مفهومةٌ من قواعده فلا يحصيها مخلوقٌ »
مع عظم فوائدها وكثرة عوائدها وكبر حجمها وحسن ترتيبها ونظمها كتعليق الشّيخ أبي حامدٍ الاسفراينى وصاحبيه القاضي أبي الطّيّب وصاحب الحاوي ونهاية المطلب لإمام الحرمين وغيرها ممّا هو مشهورٌ معروفٌ وهذا من المشهور الّذي هو أظهر من أن يظهر.
وأشهر من أن يشهر.
وكلّ هذا مصرّحٌ بغزارة علمه وجزالة كلامه وصحّة نيّته في علمه وقد نقل عنه مستفيضًا من صحّة نيّته في علمه نقولٌ كثيرةٌ مشهورةٌ وكفى بالاستقراء في ذلك دليلًا قاطعًا وبرهانًا صادعًا.
قال السّاجيّ في أوّل كتابه في الخلافة: سمعت الرّبيع يقول: سمعت الشّافعيّ يقول: « وددت أنّ الخلق تعلّموا هذا العلم على أن لا ينسب إليّ حرفٌ منه فهذا إسنادٌ لا يتمارى في صحّته فكتاب السّاجيّ متواترٌ عنه وسمعه من إمامٍ عن إمامٍ »
وقال الشّافعيّ رحمه اللّه: « ما ناظرت أحدًا قطّ على الغلبة ووددت إذا ناظرت أحدًا أن يظهر اللّه الحقّ على يديه »: ونظائر هذا كثيرةٌ مشهورةٌ عنه
ومن ذلك مبالغته في الشّفقة على المتعلّمين وغيرهم ونصيحته للّه تعالى وكتابه ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم والمسلمين وذلك هو الدّين كما صحّ عن سيّد المرسلين صلّى اللّه عليه وسلّم وهذا الّذي ذكرته وإن كان كلّه معلومًا مشهورًا فلا بأس بالإشارة إليه ليعرفه من لم يقف عليه فإنّ هذا المجموع ليس مخصوصًا ببيان الخفيات وحل المشكلات
فصل (في نوادر من حكم الشافعي وأحواله أذكرها إن شاء اللّه تعالى رموزًا للاختصار)
قال رحمه اللّه طلب العلم أفضل من صلاة النافلة: وقال من أراد الدنيا فعليه بالعلم ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم: وقال ما تقرب إلى الله تعالى بشيء بعد الفرائض أفضل من طلب العلم

وقال ما أفلح في العلم إلّا من طلبه بالقلّة: وقال رحمه اللّه النّاس في غفلةٍ عن هذه السورة {والعصر ان الانسان لفى خسر} وكان جزّأ اللّيل ثلاثة أجزاءٍ الثّلث الأوّل يكتب والثّاني يصلّي والثّالث ينام
وقال الرّبيع: « نمت في منزل الشّافعيّ ليالي فلم يكن ينام من اللّيل إلّا أيسره ».
وقال بحر بن نصرٍ:
« ما رأيت ولا سمعت كان في عصر الشّافعيّ أتقى للّه ولا أورع ولا أحسن صوتًا بالقرآن منه ».
وقال الحميديّ:
« كان الشّافعيّ يختم في كلّ شهرٍ ستّين ختمةً ».
وقال حرملة: سمعت الشّافعيّ يقول:
« وددت أنّ كلّ علمٍ أعلمه تعلّمه النّاس أؤجر عليه ولا يحمدونني ».
وقال أحمد بن حنبلٍ رحمه اللّه: « كأنّ اللّه تعالى قد جمع في الشّافعيّ كلّ خيرٍ ».
وقال الشّافعيّ رحمه اللّه: « الظرف الوقوف مع الحق كما وقف
».
وقال:
« ما كذبت قطّ ولا حلفت باللّه تعالى صادقًا ولا كاذبًا ».
وقال:
« ما تركت غسل الجمعة في بردٍ ولا سفرٍ ولا غيره ».
وقال:
« ما شبعت منذ ستّ عشر سنةً إلّا شبعةً طرحتها من ساعتي ».
وفي روايةٍ من عشرين سنةً: وقال: « من لم تعزّه التّقوى فلا عزّ له
».
وقال:
« ما فزعت من الفقر قط ».
وقال:
« طلب فضول الدنيا عقوبةٌ عاقب اللّه بها أهل التّوحيد »
وقيل للشّافعيّ مالك تدمن
إمساك العصا ولست بضعيف فقال لا ذكر أنّي مسافرٌ يعني في الدّنيا.
وقال:
« من شهد الضّعف من نفسه نال الاستقامة، وقال من غلبته شدّة الشّهوة للدّنيا لزمته العبوديّة لأهلها ومن رضي بالقنوع زال عنه الخضوع ».
وقال:
« خير الدّنيا والآخرة في خمس خصالٍ غنى النّفس وكفّ الأذى وكسب الحلال ولباس التّقوى والثّقة باللّه تعالى على كلّ حالٍ ».
وقال للربيع:
« عليك بالزهد ».
وقال:
« أنفع الذخائز التّقوى وأضرّها العدوان ».
وقال:
« من أحبّ أن يقتح اللّه قلبه أو ينوّره فعليه بترك الكلام فيما لا يعنيه واجتناب المعاصي ويكون له خبيئةٌ فيما بينه وبين اللّه تعالى من عملٍ ».
وفي روايةٍ فعليه بالخلوة وقلّة الأكل وترك مخالطة السّفهاء وبغض أهل العلم الّذين ليس معهم إنصافٌ ولا أدبٌ.
وقال:
« يا ربيع لا تتكلّم فيما لا يعنيك فإنّك إذا تكلّمت بالكلمة ملكتك ولم تملكها ».
وقال ليونس بن عبد الأعلى:
« لو اجتهدت كلّ الجهد على أن ترضي النّاس كلّهم فلا سبيل فأخلص عملك ونيّتك لله عز وجل».
وقال:
« لا يعرف الرياء إلا مخلص »
وقال:
« لو أوصى رجل بشيء لا عقل النّاس صرف إلى الزّهّاد».
وقال:
« سياسة النّاس أشدّ من سياسة الدّوابّ ».
وقال:
« العاقل من عقله عقله عن كلّ مذمومٍ».
وقال:
« لو علمت أنّ شرب الماء البارد ينقص من مروءتي ما شربته »
وقال:
« للمروءة أربعة أركانٍ حسن الخلق والسّخاء والتّواضع والنّسك ».
وقال:
« المروءة عفّة الجوارح عمّا لا يعنيها».
وقال:
« أصحاب المروءات في جهدٍ ».
وقال:
« من أحبّ أن يقضي اللّه له بالخير فليحسن الظّنّ بالنّاس ».
وقال:
« لا يكمل الرّجال في الدّنيا إلّا بأربعٍ بالدّيانة والأمانة والصّيانة والرّزانة».
وقال:
« أقمت أربعين سنةً أسأل إخواني الّذين تزوّجوا عن أحوالهم في تزوّجهم فما منهم أحدٌ قال إنّه رأى خيرًا ».
وقال:
« ليس بأخيك من احتجت إلى مداراته ».
وقال:
« من صدق في أخوّة أخيه قبل علله وسدّ خلله وغفر زلله ».
وقال:
« من علامة الصّديق أن يكون لصديق صديقه صديقًا».
وقال: « ليس سرورٌ يعدل صحبة الإخوان ولا غمٌّ يعدل فراقهم ».
وقال: « لا تقصّر في حقّ أخيك اعتمادًا على مودّته».
وقال: « لا تبذل وجهك إلى من يهون عليه ردّك ».
وقال: « من برّك فقد أوثقك ومن جفاك فقد أطلقك».
وقال: « من نمّ لك نمّ بك ومن إذا أرضيته قال فيك ما ليس فيك وإذا أغضبته قال فيك ما ليس فيك».
وقال: « الكيّس العاقل هو الفطن المتغافل ».
وقال: « من وعظ أخاه سرًّا فقد نصحه وزانه ومن وعظه علانيةً فقد فضحه وشانه».
وقال: « من سام بنفسه فوق ما يساوي ردّه اللّه إلى قيمته».
وقال: « الفتوّة حليّ الأحرار ».
وقال: « من تزيّنّ بباطلٍ هتك ستره ».
وقال:
«التّواضع من أخلاق الكرام والتّكبّر من شيم اللّئام».
وقال:
« التّواضع يورث المحبة والقناعة تورث المحبّة والقناعة تورث الرّاحة».
وقال:
« أرفع النّاس قدرًا من لا يرى قدره وأكثرهم فضلًا من لا يرى فضله ».
وقال:
« إذا كثرت الحوائج فابدأ بأهمّها ».
وقال:
« من كتم سرّه كانت الخيرة في يده ».
وقال:
« الشّفاعات زكاة المروءات ».
وقال:
« ما ضحك من خطأٍ رجلٌ إلّا ثبت صوابه في قبله »
وهذا الباب واسعٌ جدًّا لكن نبّهت بهذه الاحرف على ما سواها
فصلٌ

قد أشرت في هذه الفصول إلى طرفٍ من حال الشّافعيّ رضي اللّه عنه وبيان رجحان نفسه وطريقته ومذهبه ومن أراد تحقيق ذلك فليطالع كتب المناقب الّتي ذكرتها.
ومن أهمّها كتاب البيهقيّ رحمه اللّه وقد رأيت أن أقتصر على هذه الكلمات لئلّا أخرج عن حدّ هذا الكتاب وأرجو بما أذكره وأشيعه من محاسن الشّافعيّ رضي اللّه عنه وأدعو له في كتابتي وغيرها من أحوالي أن أكون موفيًا لحقّه أو بعض حقّه عليّ لما وصلني من كلامه وعلمه وانتفعت به وغير ذلك من وجوه إحسانه إليّ رضي اللّه عنه وأرضاه وأكرم نزله ومثواه: وجمع بيني وبينه مع أحبابنا في دار كرامته. ونفعني بانتسابي إليه وانتمائي إلى صحبته
). [المجموع شرح المهذب: 1/7-18]


رد مع اقتباس
  #5  
قديم 20 شعبان 1435هـ/18-06-2014م, 11:01 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي بابٌ (في فضيلة الاشتغال بالعلم وتصنيفه وتعلّمه وتعليمه والحثّ عليه والإرشاد إلى طرقه)

فضل الاشتغال بالعلم

قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ):
(بابٌ في فضيلة الاشتغال بالعلم وتصنيفه وتعلّمه وتعليمه والحثّ عليه والإرشاد إلى طرقه

قد تكاثرت الآيات والأخبار والآثار وتواترت.

وتطابقت الدّلائل الصّريحة وتوافقت على فضيلة العلم والحثّ على تحصيله والاجتهاد في اقتباسه وتعليمه.
وأنا أذكر طرفًا من ذلك تنبيهًا على ما هنالك.
قال اللّه تعالى {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون}.
وقال تعالى {وقل رب زدني علما}.
وقال تعالى {إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء}.
وقال تعالى {يرفع اللّه الّذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}.
والآيات كثيرةٌ معلومةٌ.
وروينا عن معاوية رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: « من يرد اللّه به خيرًا يفقّهه في الدّين » رواه البخاريّ ومسلمٌ.
وعن أبي موسى عبد اللّه بن قيسٍ الأشعريّ رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: « إنّ مثل ما بعثني اللّه به من الهدى والعلم كمثل غيثٍ أصاب أرضًا فكانت منها طائفةٌ طيّبةٌ قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع اللّه بها النّاس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب طائفةً منها أخرى إنّما هي قيعانٌ لا تمسك الماء ولا تنبت كلأً فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني اللّه به فعلم وعلّم ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى اللّه الّذي أرسلت به » رواه البخاريّ ومسلمٌ.
وعن ابن مسعودٍ رضي اللّه عنه قال: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: « لا حسد إلا في اثنين رجلٌ آتاه اللّه مالًا فسلّطه على هلكته في الحق ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها » روياه.
والمراد بالحسد الغبطة وهي أن يتمنّى مثله.
ومعناه ينبغي أن لا يغبط أحدًا إلّا في هاتين الموصلتين إلى رضاء اللّه تعالى.
وعن سهل بن سعدٍ رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال لعليٍّ رضي الله عنه: « فو الله لأن يهدي اللّه بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من حمر النّعم » روياه.
وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: « من دعا إلى هدًى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا ومن دعا إلى ضلالةٍ كان عليه من الاتم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم » رواه مسلمٌ.
وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: « إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاثٍ صدقةٌ جاريةٌ أو علمٌ ينتفع به أو ولدٌ صالحٌ يدعو له » رواه مسلمٌ وعن أنسٍ رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: « من خرج في طلب العلم فهو في سبيل اللّه حتّى يرجع » رواه التّرمذيّ وقال حديثٌ حسنٌ.
وعن أبي أمامة الباهليّ رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
« فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم » ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: « إنّ اللّه وملائكته وأهل السّموات والأرض حتى النملة في حجرها وحتّى الحوت ليصلّون على معلّمي النّاس الخير » رواه التّرمذيّ وقال حديثٌ حسنٌ
وعن أبي سعيدٍ الخدريّ رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: « لن يشبع مؤمنٌ من خيرٍ حتّى يكون منتهاه الجنّة » رواه التّرمذيّ وقال حديثٌ حسنٌ
وعن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما أنّ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم قال: « فقيهٌ واحدٌ أشدّ على الشّيطان من ألف عابدٍ » رواه التّرمذيّ
وعن أبي هريرة مثله وزاد لكل شيء عمادٌ وعماد هذا الدّين الفقه وما عبد اللّه بأفضل من فقهٍ في الدّين
وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: « الدّنيا ملعونةٌ ملعونٌ ما فيها إلّا ذكر اللّه وما والاه وعالمًا ومتعلّمًا » رواه التّرمذيّ وقال حديثٌ حسنٌ
وعن أبي الدّرداء رضي اللّه عنه قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: « من سلك طريقًا يبتغي فيه علمًا سهّل اللّه له طريقًا إلى الجنّة وإنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاءً وإنّ العالم ليستغفر له من في السّموات ومن في الأرض حتّى الحيتان في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب وإنّ العلماء ورثة الانبياء ان الأنبياء لم يورّثوا دينارًا ولا درهمًا وإنّما ورّثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافرٍ » رواه أبو داود والتّرمذيّ وغيرهما.
وفي الباب أحاديث كثيرةٌ وفيما أشرنا إليه كفايةٌ.

وأمّا الآثار عن السّلف فأكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر لكن نذكر منها أحرفًا متبرّكين مشيرين إلى غيرها ومنبّهين
عن عليٍّ رضي اللّه عنه: « كفى بالعلم شرفًا أن يدّعيه من لا يحسنه ويفرح إذا نسب إليه وكفى بالجهل ذمًّا أن يتبرّأ منه من هو فيه »
وعن معاذٍ رضي اللّه عنه: « تعلّموا العلم فإنّ تعلّمه للّه خشيةٌ وطلبه عبادةٌ ومذاكرته تسبيحٌ والبحث عنه جهادٌ وتعليمه من لا يعلمه صدقةٌ وبذله لاهله قربة »
وقال أبو مسلمٍ الخولانيّ: « مثل العلماء في الأرض مثل النّجوم في السّماء إذا بدت للنّاس اهتدوا بها واذا خفيت عليهم تحيّروا »
عن وهب بن منبّهٍ قال: « يتشعّب من العلم الشّرف وإن كان صاحبه دنيئًا، والعزّ وإن كان مهينًا والقرب وإن كان قصيًّا، والغنى وإن كان فقيرًا والنّبل وإن كان حقيرًا، والمهابة وإن كان وضيعًا، والسّلامة وإن كان سفيهًا »
وعن الفضيل قال: « عالمٌ عاملٌ بعلمه يدعى كبيرًا في ملكوت السّموات »
وقال غيره: « اليس يستغفر لطالب العلم كل شيء أفكهذا منزلةٌ وقيل العالم كالعين العذبة نفعها دائمٌ »
وقيل: « العالم كالسّراج من مرّ به اقتبس »
وقيل: « العلم يحرسك وأنت تحرس المال وهو يدفع عنك وأنت تدفع عن المال »
وقيل: « العلم حياة القلوب من الجهل ومصباح البصائر في الظّلم به تبلغ منازل الأبرار ودرجات الأخيار والتّفكّر فيه ومدارسته ترجّح على الصّلاة وصاحبه مبجّلٌ مكرّمٌ »
وقيل: « مثل العالم مثل الحمّة تأتيها البعداء ويتركها الأقرباء فبينا هي كذلك إذ غار ماؤها وقد انتفع بها وبقي قومٌ يتفكّنون أي يتندّمون »
قال أهل اللّغة الحمّة بفتح الحاء:« عين ماءٍ حارٍّ يستشفى بالاغتسال فيها »
وقال الشّافعيّ رحمه اللّه: « طلب العلم أفضل من صلاة النّافلة »
وقال: « ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم »
وقال: « من أراد الدّنيا فعليه بالعلم ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم »
وقال: « من لا يحبّ العلم فلا خير فيه فلا يكن بينك وبينه معرفةٌ ولا صداقةٌ »
وقال: « العلم مروءة من لا مروءة له »
وقال: « ان لم تكن الفقهاء العاملون أولياء اللّه فليس للّه وليٌّ »
وقال: « ما أحدٌ أورع لخالقه من الفقهاء »
وقال: « من تعلّم القرآن عظمت قيمته ومن نظر في الفقه نبل قدره، ومن نظر في اللّغة رقّ طبعه، ومن نظر في الحساب جزل رأيه ومن كتب الحديث قويت حجّته ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه »
) وقال البخاريّ رحمه اللّه في أوّل كتاب الفرائض من صحيحه: قال عقبة بن عامرٍ رضي اللّه عنه تعلّموا قبل الظّانّين قال البخاريّ يعني الّذين يتكلّمون بالظّنّ.
ومعناه تعلّموا العلم من أهله المحقّقين الورعين قبل ذهابهم ومجئ قومٍ يتكلّمون في العلم بمثل نفوسهم وظنونهم التي ليس لها مستند شرعي
.

فصلٌ: في ترجيح الاشتغال بالعلم على الصّلاة والصّيام وغيرهما من العبادات القاصرة على فاعلها
قد تقدّمت الآيات الكريمات في هذا المعنى كقوله تعالى {هل يستوي الّذين يعلمون والّذين لا يعلمون} وقوله تعالى {إنّما يخشى اللّه من عباده العلماء} وغير ذلك

ومن الأحاديث ما سبق كحديث ابن مسعودٍ« لا حسد إلّا في اثنتين » وحديث « من يرد اللّه به خيرًا يفقّهه في الدّين » وحديث « إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلّا من ثلاثٍ »
وحديث « فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم »
وحديث « فقيهٌ واحدٌ أشدّ على الشّيطان من ألف عابدٍ »
وحديث « من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا »
وحديث « من دعا إلى هدًى »
وحديث « لا ن يهدي اللّه بك رجلًا واحدًا وغير ذلك ممّا تقدّم »
وعن عبد اللّه بن عمرو بن العاص رضي اللّه عنهما قال: خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فإذا في المسجد مجلسان مجلسٌ يتفقّهون ومجلسٌ يدعون اللّه ويسألونه فقال: « كلا المجلسين إلى خيرٍ أمّا هؤلاء فيدعون اللّه تعالى وأمّا هؤلاء فيتعلّمون ويفقّهون الجاهل ».
هؤلاء أفضل: بالتّعليم أرسلت ثمّ قعد معهم.
رواه أبو عبد اللّه بن ماجه
وروى الخطيب الحافظ أبو بكرٍ أحمد بن عليّ ابن ثابتٍ البغداديّ في كتابه كتاب الفقيه والمتفقّه أحاديث وآثارًا كثيرةً بأسانيدها المطرّقة منها عن ابن عمر رضي اللّه عنهما قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: « إذا مررتم برياض الجنّة فارتعوا، قالوا: يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال: خلق الذّكر فإنّ للّه سيّاراتٌ من الملائكة يطلبون حلق الذّكر فإذا أتوا عليهم حفّوا بهم »
وعن عطاء قال: « مجالس الذكر هي مجال الخلال والحرام كيف تشترى وتبيع وتصلى وتصوم تنكح وتطلّق وتحجّ وأشباه هذا »
وعن ابن عمر عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: « مجلس فقهٍ خيرٌ من عبادة ستّين سنةً »
وعن عبد الرّحمن بن عوفٍ رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: « يسير الفقه خيرٌ من كثير العبادة »
وعن أنسٍ رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: « فقيه أفضل عند اللّه من ألف عابدٍ »
وعن ابن عمر عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: « أفضل العبادة الفقه »
وعن أبي الدّرداء: « ما نحن لولا كلمات الفقهاء ».
وعن عليٍّ رضي اللّه عنه:
« العالم أعظم أجرًا من الصّائم القائم الغازي في سبيل اللّه »
وعن أبي ذرٍّ وأبي هريرة رضي اللّه عنهما قالا: « بابٌ من العلم نتعلّمه أحبّ إلينا من ألف ركعة تطوّعٍ، وبابٌ من العلم نعلمه عمل به أو لم يعمل أحبّ إلينا من مائة ركعةٍ تطوّعًا »
وقالا سمعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: « إذا جاء الموت طالب العلم وهو على هذه الحال مات وهو شهيدٌ »
وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه: « لأن أعلم بابًا من العلم في أمرٍ ونهيٍ أحبّ إليّ من سبعين غزوةٍ في سبيل اللّه »
وعن أبي الدّرداء: « مذاكرة العلم ساعةً خيرٌ من قيام ليلةٍ »
وعن الحسن البصري قال: « لأن أتعلّم بابًا من العلم فأعلّمه مسلمًا أحبّ إليّ من أن تكون لي الدّنيا كلّها في سبيل اللّه تعالى »
وعن يحيى بن أبي كثيرٍ:« دراسة العلم صلاةٌ »
وعن سفيان الثوري والشافعي: « ليس شيء بعد الفرائض أفضل من طلب العلم »
وعن احمد بن حنبل وقيل له أي شيء أحبّ إليك؟« أجلس باللّيل أنسخ أو أصلّي تطوّعًا ».
قال: « فنسخك تعلم بها أمر دينك فهو أحبّ »
وعن مكحولٍ: « ما عبد اللّه بأفضل من الفقه »
وعن الزّهريّ: « ما عبد اللّه بمثل الفقه »
وعن سعيد بن المسيّب قال: « ليست عبادة بالصّوم والصّلاة ولكن بالفقه في دينه يعني ليس أعظمها وأفضلها الصّوم بل الفقه »
وعن إسحاق بن عبد اللّه بن أبي فروة: « أقرب النّاس من درجة النّبوّة أهل العلم وأهل الجهاد فالعلماء دلّوا النّاس على ما جاءت به الرّسل وأهل الجهاد جاهدوا على ما جاءت به الرّسل »
وعن سفيان بن عيينة: « أرفع النّاس عند اللّه تعالى منزلةً من كان بين اللّه وعباده وهم الرّسل والعلماء »
وعن سهلٍ التّستريّ: « من أراد النّظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء فاعرفوا لهم ذلك فهذه أحرفٌ من أطراف ما جاء في ترجيح الاشتغال بالعلم على العبادة ».
وجاء عن جماعاتٍ من السّلف ممّن لم أذكره نحو ما ذكرته.

والحاصل أنّهم متّفقون على أنّ الاشتغال بالعلم أفضل من الاشتغال بنوافل الصّوم والصّلاة والتّسبيح ونحو ذلك من نوافل عبادات البدن.
ومن دلائله سوى ما سبق أنّ نفع العلم يعمّ صاحبه والمسلمين والنّوافل المذكورة مختصّةٌ به ولأنّ العلم مصحّحٌ فغيره من العبادات مفتقرٌ إليه ولا ينعكس.
ولأنّ العلماء ورثة الأنبياء ولا يوصف المتعبّدون بذلك.
ولأنّ العابد تابعٌ للعالم مقتدٍ به مقلد له في عبادته
وغيرها واجبٌ عليه طاعته ولا ينعكس.
ولأنّ العلم تبقى فائدته وأثره بعد صاحبه والنّوافل تنقطع بموت صاحبها.

ولأنّ العلم صفةٌ للّه تعالى.
ولأنّ العلم فرض كفايةٍ أعني العلم الذي كلا منا فيه فكان أفضل من النّافلة.
وقد قال إمام الحرمين رحمه اللّه في كتابه الغياثيّ فرض الكفاية أفضل من فرض العين من حيث إنّ فاعله يسدّ مسدّ الأمّة ويسقط الحرج عن الأمّة وفرض العين قاصرٌ عليه وباللّه التّوفيق
.

فصلٌ: فيما أنشدوه في فضل طلب العلم
هذا واسعٌ جدًّا ولكن من عيونه ما جاء عن أبي الأسود الدّؤليّ ظالم بن عمرٍو التّابعيّ رحمه اللّه العلم زينٌ وتشريفٌ لصاحبه
................................ فاطلب هديت فنون العلم والأدبا
لا خير فيمن له أصلٌ بلا أدبٍ ... حتّى يكون على ما زانه حدبا
كم من كريمٍ أخي عيٍّ وطمطمةٍ ... فدمٌ لدى القوم معروفٌ إذا انتسبا
في بيت مكرمةٍ آباؤه نجب ... كانوا الرؤوس فأمسى بعدهم ذنبا
وخاملٍ مقرف الآباء ذي أدبٍ ... نال المعاليَ بالآداب والرّتبا
أمسى عزيزًا عظيم الشّأن مشتهرا ... في خدّه صعرٌ قد ظلّ محتجبا
العلم كنز ذخر لا نفاد له له ... نعم القرين إذا ما صاحبٌ صحبا
قد يجمع المرء مالاً ثمّ يحرمه ... عمّا قليلٍ فيلقى الذّلّ والحربا
وجامع العلم مغبوطٌ به أبدا ... ولا يحاذر منه الفوت والسّلبا
يا جامع العلم نعم الذّخر تجمعه ... لا تعدلنّ به درًّا ولا ذهبا

غيره:
تعلّم فليس المرء يولد عالما ... وليس أخو علمٍ كمن هو جاهل
وإنّ كبير القوم لا علم عنده ... صغيرٌ إذا التفّت عليه المحافل

ولآخر:
علّم العلم من أتاك لعلمٍ ... واغتنم ما حييت منه الدّعاء
وليكن عندك الغنيّ إذا ما ... طلب العلم والفقير سواء
ولآخر:
ما الفخر إلّا لأهل العلم انهموا ... على الهدى لمن استهدى أدلّاء
وقدر كلّ امرئ ما كان يحسنه ... والجاهلون لا هل العلم أعداء
ولآخر:
صدر المجالس حيث حلّ لبيبها ... فكن اللّبيب وأنت صدر المجلس

ولآخر:
عاب التّفقّه قومٌ لا عقول لهم ... وما عليه إذا عابوه من ضرر
ما ضرّ شمس الضّحى والشّمس طالعةٌ ... أن لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر

فصلٌ
في ذمّ من أراد بفعله غير اللّه تعالى

اعلم أنّ ما ذكرناه من الفضل في طلب انما هو في من طلبه مريدًا به وجه اللّه تعالى لا لغرضٍ من الدّنيا ومن أراده لغرضٍ دنيويٍّ كمالٍ أو رياسةٍ أو منصبٍ أو وجاهةٍ أو شهرةٍ أو استمالة النّاس إليه أو قهر المناظرين أو نحو ذلك فهو مذمومٌ
قال اللّه تعالى {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب}
.
وقال تعالى {من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثمّ جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا} الآية: وقال تعالى {ان ربك لبالمرصاد} وقال تعالى {وما أمروا إلا ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين حنفاء}.
والآيات فيه كثيرةٌ
وروينا في صحيح مسلمٍ عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: « إنّ أوّل النّاس يقضى يوم القيامة عليه رجلٌ استشهد فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتّى استشهدت قال كذبت ولكنّك قاتلت ليقال جرئ فقد قيل ثمّ أمر به فسحب على وجهه حتّى ألقي في النّار ورجلٌ تعلّم العلم وعلّمه وقرأ القرآن فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها. قال تعلّمت العلم وعلّمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت ولكنّك تعلّمت ليقال عالمٌ، وقرأت القرآن ليقال قارئٌ فقد قيل ثمّ أمر به فسحب على وجهه حتّى ألقي في النّار »
وروينا عن أبي هريرة أيضًا قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: « من تعلّم علمًا ممّا يبتغى به وجه اللّه عزّ وجلّ لا يتعلّمه إلّا ليصيب به عرضًا من الدّنيا لم يجد عرف الجنّة يوم القيامة يعني ريحها » رواه أبو داود وغيره بإسنادٍ صحيحٍ
وروينا عن عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدّه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: « من تعلّم علمًا ينتفع به في الآخرة يريد به عرضًا من الدّنيا لم يرح رائحة الجنّة »
روي بفتح الياء مع فتح الرّاء وكسرها وروي بضمّ الياء مع كسر الرّاء وهي ثلاث لغاتٍ مشهورةٍ: ومعناه لم يجد ريحها

وعن أنسٍ وحذيفة قالا: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:« من طلب العلم ليماري به السّفهاء ويكاثر به العلماء أو يصرف به وجوه الناس إليه فليتبوء مقعده من النّار » ورواه التّرمذيّ من رواية كعب بن مالكٍ وقال فيه: أدخله اللّه النّار
وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ رسول الله صلى االله عليه وسلّم قال:« أشدّ النّاس عذابًا يوم القيامة عالمٌ لا ينتفع به »
وعنه صلّى اللّه عليه وسلّم: « شرار النّاس شرار العلماء »
وروينا في مسند الدّارميّ عن عليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه تعالى عنه قال: « يا حملة اعملوا به فإنّما العالم من عمل بما علم ووافق علمه عمله وسيكون أقوامٌ يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم يخالف عملهم علمهم ويخالف سريرتهم علانيتهم يجلسون حلقًا يباهي بعضهم بعضًا حتّى إنّ الرّجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى اللّه تعالى »
وعن سفيان: « ما ازداد عبدٌ علمًا فازداد في الدّنيا رغبةً إلّا ازداد من اللّه بعدًا »
وعن حمّاد بن سلمة: « من طلب الحديث لغير اللّه مكر به والآثار به كثيرةٌ ».

فصلٌ في النّهي الأكيد والوعيد الشّديد لمن يؤذي أو ينتقص الفقهاء والمتفقّهين والحثّ على إكرامهم وتعظيم حرماتهم قال اللّه تعالى {ومن يعظّم شعائر اللّه فانها من تقوى القلوب} وقال تعالى {ومن يعظّم حرمات اللّه فهو خير له عند ربه} وقال تعالى {واخفض جناحك للمؤمنين} وقال تعالى {والّذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإنما مبينا}
وثبت في صحيح البخاريّ عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
« أنّ اللّه عزّ وجلّ قال من آذى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب »
وروى الخطيب البغداديّ عن الشّافعيّ وأبي حنيفة رضي اللّه عنهما قالا: « إن لم تكن الفقهاء أولياء اللّه فليس للّه وليٌّ »
وفي كلام الشّافعيّ الفقهاء العاملون
وعن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما: « من آذى فقيهًا فقد آذى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ومن آذى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقد آذى اللّه تعالى عزّ وجلّ »
وفي الصّحيح عنه صلّى اللّه عليه وسلّم: « من صلّى الصّبح فهو في ذمّة الله فلا يطلبنكم الله بشيء من ذمته »
وفي رواية فلا تخفروا الله في ذمّته
وقال الإمام الحافظ أبو القاسم بن عساكرٍ رحمه اللّه:
« اعلم يا أخي وفّقني اللّه وإيّاك لمرضاته وجعلنا ممّن يخشاه ويتّقيه حقّ تقاته أنّ لحوم العلماء مسمومةٌ، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومةٌ، وأنّ من أطلق لسانه في العلماء بالثّلب، بلاه اللّه قبل موته بموت القلب (فليحذر الّذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ») ). [المجموع شرح المهذب: 1/18-24]


رد مع اقتباس
  #6  
قديم 20 شعبان 1435هـ/18-06-2014م, 11:01 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي باب أقسام العلم الشّرعيّ

أقسام العلم الشرعي

قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ):
(باب أقسام العلم الشّرعيّ

هي ثلاثةٌ:
الأوّل فرض العين وهو تعلم المكلف مالا يتأدّى الواجب الّذي تعيّن عليه فعله إلّا به ككيفية الوضؤ والصّلاة ونحوهما وعليه حمل جماعاتٌ الحديث المرويّ في مسند أبي يعلى الموصليّ عن أنسٍ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم طلب العلم فريضةٌ على كلّ مسلمٍ وهذا الحديث وإن لم يكن ثابتًا فمعناه صحيحٌ.
وحمله آخرون على فرض الكفاية.
وأمّا أصل واجب الإسلام وما يتعلّق بالعقائد فيكفي فيه التّصديق بكلّ ما جاء به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم واعتقاده اعتقادًا جازمًا سليمًا من كلّ شكٍّ ولا يتعيّن على من حصل له هذا تعلّم أدلّة المتكلّمين هذا هو الصّحيح الّذي أطبق عليه السّلف والفقهاء والمحقّقون من المتكلّمين من أصحابنا وغيرهم فإنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لم يطالب
أحدا بشيء سوى ما ذكرناه.
وكذلك الخلفاء الرّاشدون ومن سواهم من الصّحابة فمن بعدهم من الصّدر الأوّل بل الصّواب للعوامّ وجماهير المتفقّهين والفقهاء الكفّ عن الخوض في دقائق الكلام مخافةً من اختلالٍ يتطرّق إلى عقائدهم يصعب عليهم إخراجه بل الصّواب لهم الاقتصار على ما ذكرناه من الاكتفاء بالتّصديق الجازم.
وقد نصّ على هذه الجملة جماعاتٌ من حذّاق أصحابنا وغيرهم.
وقد بالغ إمامنا الشّافعيّ رحمه اللّه تعالى في تحريم الاشتغال بعلم الكلام أشدّ مبالغةٍ وأطنب في تحريمه وتغليظ العقوبة لمتعاطيه وتقبيح فعله وتعظيم الإثم فيه فقال لأن يلقى اللّه العبد بكلّ ذنبٍ ما خلا الشرك خير من أن يلقاه بشيء من الكلام.
وألفاظه بهذا المعنى كثيرةٌ مشهورةٌ.
وقد صنّف الغزاليّ رحمه اللّه في آخر أمره كتابه المشهور الّذي سمّاه إلجام العوامّ عن علم الكلام وذكر أنّ النّاس كلّهم عوامّ في هذا الفنّ من الفقهاء وغيرهم إلّا الشّاذّ النّادر الّذي لا تكاد الأعصار تسمح بواحدٍ منهم واللّه أعلم

ولو تشكّك والعياذ بالله في شيء من أصول العقائد ممّا لا بدّ من اعتقاده ولم يزل شكّه إلّا بتعليم دليلٍ من أدلة المتكلمين وجب تعلم ذلك لا زالة الشك وتحصيل ذلك الأصل
(فرعٌ).
اختلفوا في آيات الصّفات وأخبارها هل يخاض فيها بالتّأويل أم لا فقال قائلون تتأوّل على ما يليق بها وهذا أشهر المذهبين للمتكلّمين.
وقال آخرون لا تتأوّل بل يمسك عن الكلام في معناها ويوكل علمها إلى اللّه تعالى ويعتقد مع ذلك تنزيه اللّه تعالى وانتفاء صفات الحادث عنه.
فيقال مثلًا نؤمن بأنّ الرّحمن على العرش استوى ولا نعلم حقيقة معنى ذلك والمراد به مع أنّا نعتقد أنّ اللّه تعالى (ليس كمثله شيء) وأنّه منزّهٌ عن الحلول وسمات الحدوث وهذه طريقة السّلف أو جماهيرهم وهي أسلم إذ لا يطالب الإنسان بالخوض في ذلك فإذا اعتقد التّنزيه فلا حاجة إلى الخوض في ذلك والمخاطرة فيما لا ضرورة بل لا حاجة إليه فإن دعت الحاجة إلى التّأويل لردّ مبتدعٍ ونحوه تأوّلوا حينئذٍ.
وعلى هذا يحمل ما جاء عن العلماء في هذا والله أعلم

(فرع)
لا يلزم الإنسان تعلّم كيفيّة الوضوء والصّلاة وشبههما إلا بعد وجوب ذلك الشيء فإن كان بحيث لو صبر إلى دخول الوقت لم يتمكّن من تمام تعلّمها مع الفعل في الوقت فهل يلزمه التّعلّم قبل الوقت تردّد فيه الغزاليّ والصّحيح ما جزم به غيره أنّه يلزمه تقديم التّعلّم كما يلزم السّعي إلى الجمعة لمن بعد منزله قبل الوقت ثمّ إذا كان الواجب على الفور كان تعلّم الكيفيّة على الفور وإن كان على التّراخي كالحجّ فعلى التّراخي.
ثمّ الّذي يجب من ذلك كلّه ما يتوقّف أداء الواجب عليه غالبًا دون ما يطرأ نادرًا فإن وقع وجب التّعلّم حينئذٍ.
وفي تعلّم أدلّة القبلة أوجهٌ أحدها فرض عينٍ والثّاني كفايةٌ وأصحّهما فرض كفايةٍ إلّا أن يريد سفرًا فيتعيّن لعموم حاجة المسافر إلى ذلك

(فرعٌ)
أمّا البيع والنّكاح وشبههما ممّا لا يجب أصله فقال إمام الحرمين والغزاليّ وغيرهما يتعيّن على من أراده تعلّم كيفيّته وشرطه وقيل لا يقال يتعيّن بل يقال يحرم الإقدام عليه إلّا بعد معرفة شرطه وهذه العبارة أصحّ.
وعبارتهما محمولةٌ عليها.
وكذا يقال في صلاة النّافلة يحرم التّلبّس بها على من لم يعرف كيفيّتها ولا يقال يجب تعلم كيفيتها

(فرعٌ)
يلزمه معرفة ما يحلّ وما يحرم من المأكول والمشروب والملبوس ونحوها ممّا لا غنًى له عنه غالبًا.
وكذلك أحكام عشرة النّساء إن كان له زوجةٌ وحقوق المماليك إن كان له مملوكٌ ونحو ذلك

(فرعٌ)
قال الشّافعيّ والأصحاب رحمهم اللّه على الآباء والأمّهات تعليم أولادهم الصّغار ما سيتعيّن عليهم بعد البلوغ فيعلّمه الوليّ الطّهارة والصّلاة والصّوم ونحوها ويعرّفه تحريم الزّنا واللّواط والسّرقة وشرب المسكر والكذب والغيبة وشبهها.
ويعرّفه أنّ بالبلوغ يدخل في التّكليف ويعرّفه ما يبلغ به.
وقيل هذا التّعليم مستحبٌّ والصّحيح وجوبه وهو ظاهر نصّه وكما يجب عليه النّظر في ماله وهذا أولى وإنّما المستحبّ ما زاد على هذا من تعليم القرآن وفقهٍ وأدبٍ.
ويعرّفه ما يصلح به معاشه ودليل وجوب تعليم الولد الصّغير والمملوك قول الله عزوجل {يا أيّها الّذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا} قال عليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه ومجاهدٌ وقتادة معناه علّموهم ما ينجون به من النّار وهذا ظاهرٌ.
وثبت في الصّحيحين عن ابن عمر رضي اللّه عنهما عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال كلّكم راعٍ ومسئولٌ عن رعيّته ثمّ أجرة التّعليم في النّوع الأوّل في مال الصّبيّ فإن لم يكن له مالٌ فعلى من تلزمه نفقته

وأمّا الثّاني فذكر الإمام أبو محمّدٍ الحسين بن مسعودٍ البغويّ صاحب التّهذيب فيه وجهين وحكاهما غيره أصحّهما في مال الصّبيّ لكونه مصلحةً له: والثّاني في مال الوليّ لعدم الضّرورة إليه
واعلم أنّ الشّافعيّ والأصحاب إنّما جعلوا للأمّ مدخلًا في وجوب التّعليم لكونه من التّربية وهي واجبةٌ عليها كالنفقة والله أعلم
(فرعٌ)

أمّا علم القلب وهو معرفة أمراض القلب كالحسد والعجب وشبههما فقال الغزاليّ معرفة حدودها وأسبابها وطبّها وعلاجها فرض عينٍ: وقال غيره إن رزق المكلّف قلبًا سليمًا من هذه الأمراض المحرّمة كفاه ذلك ولا يلزمه تعلّم دوائها وإن لم يسلم نظر إن تمكّن من تطهير قلبه من ذلك بلا نعلم لزمه التّطهير كما يلزمه ترك الزّنا ونحوه من غير تعلّم أدلّة التّرك وإن لم يتمكّن من التّرك إلّا بتعلّم العلم المذكور تعيّن حينئذٍ واللّه أعلم (القسم الثّاني) فرض الكفاية وهو تحصيل ما لا بدّ للنّاس منه في إقامة دينهم من العلوم الشّرعيّة كحفظ القرآن والأحاديث وعلومهما والأصول والفقه والنّحو واللّغة والتّصريف.
ومعرفة رواة الحديث والإجماع والخلاف.
وأمّا ما ليس علمًا شرعيًّا ويحتاج إليه في قوام أمر الدّنيا كالطّبّ والحساب ففرض كفايةٍ أيضًا نصّ عليه الغزاليّ.
واختلفوا في تعلّم الصّنائع الّتي هي سبب قيام مصالح الدّنيا كالخياطة والفلاحة ونحوهما واختلفوا أيضًا في أصل فعلها فقال إمام الحرمين والغزاليّ ليست فرض كفايةٍ.
وقال الإمام أبو الحسن عليّ بن محمّد بن عليٍّ الطّبريّ المعروف بالكيا الهرّاسيّ صاحب إمام الحرمين هي فرض كفايةٍ وهذا أظهر.
قال أصحابنا وفرض الكفاية المراد به تحصيل ذلك الشيء من المكلّفين به أو بعضهم ويعمّ وجوبه جميع المخاطبين به فإذا فعله من تحصل به الكفاية سقط الحرج عن الباقين وإذا قام به جمعٌ تحصل الكفاية ببعضهم فكلّهم سواءٌ في حكم القيام بالفرض في الثّواب

وغيره فإذا صلّى على جنازة جمعٌ ثمّ جمعٌ ثمّ جمعٌ فالكلّ يقع فرض كفايةٍ ولو أطبقوا كلّهم على تركه أثم كلّ من لا عذر له ممّن علم ذلك وأمكنه القيام به أو لم يعلم وهو قريبٌ أمكنه العلم بحيث ينسب إلى تقصيرٍ ولا يأثم من لم يتمكّن لكونه غير أهلٍ أو لعذرٍ.
ولو اشتغل بالفقه ونحوه وظهرت نجابته فيه ورجي فلاحه وتبريزه فوجهان أحدهما يتعيّن عليه الاستمرار لقلّة من يحصّل هذه المرتبة فينبغي ألّا يضيّع ما حصّله وما هو بصدد تحصيله.

وأصحّهما لا يتعيّن لأنّ الشّروع لا يغيّر المشروع فيه عندنا إلّا في الحجّ والعمرة.
ولو خلت البلدة من مفتٍ فقيل يحرم المقام بها والأصحّ لا يحرم إن أمكن الذّهاب إلى مفتٍ وإذا قام بالفتوى إنسانٌ في مكان سقط به فرض الكفاية إلى مسافة القصر من كلّ جانبٍ

واعلم أنّ للقائم بفرض الكفاية مزيّةً على القائم بفرض العين لأنّه أسقط الحرج عن الأمّة وقد قدّمنا كلام إمام الحرمين في هذا في
فصل ترجيح الاشتغال بالعلم على العبادة القاصرة (القسم الثّالث)
النّفل وهو كالتّبحّر في أصول الأدلّة والإمعان فيما وراء القدر الّذي يحصل به فرض الكفاية.
وكتعلّم العامّيّ نوافل العبادات لغرض العمل لا ما يقوم به العلماء من تمييز الفرض من النّفل فإنّ ذلك فرض كفايةٍ في حقّهم واللّه أعلم

فصلٌ قد ذكرنا أقسام العلم الشّرعيّ: ومن العلوم الخارجة عنه ما هو محرم أو مكروه ومباح.
فالمحرّم كتعلّم السّحر فإنّه حرامٌ على المذهب الصّحيح وبه قطع الجمهور وفيه خلافٌ نذكره في الجنايات حيث ذكره المصنّف إن شاء اللّه تعالى.
وكالفلسفة والشعبذة والتنجيم وعلوم الطبائعبين وكل ما كان سببا لا ثارة الشّكوك ويتفاوت في التّحريم.
والمكروه كأشعار المولّدين الّتي فيها الغزل والبطالة

والمباح كأشعار المولّدين التي ليس فيها سخف ولا شيء ممّا يكره ولا ما ينشّط إلى الشّرّ ولا ما يثبط عن الخير ولا ما يحثّ على خيرٍ أو يستعان به عليه
فصلٌ تعليم الطّالبين وإفتاء المستفتين فرض كفايةٍ فإن لم يكن هناك من يصلح إلّا واحدٌ تعيّن عليه وإن كان جماعةٌ يصلحون فطلب ذلك من أحدهم فامتنع فهل يأثم ذكروا وجهين في المفتي والظّاهر جريانهما في المعلّم وهما كالوجهين في امتناع أحد الشّهود والأصحّ لا يأثم.
ويستحبّ للمعلّم أن يرفق بالطّالب ويحسن إليه ما أمكنه فقد روى الترمذي باسناده عن أبي هرون العبديّ قال كنّا نأتي أبا سعيدٍ الخدريّ رضي اللّه عنه فيقول مرحبًا بوصيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال:
« إنّ النّاس لكم تبعٌ وإنّ رجالًا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقّهون في الدّين فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا »). [المجموع شرح المهذب: 1/24-26]


رد مع اقتباس
  #7  
قديم 20 شعبان 1435هـ/18-06-2014م, 11:02 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي باب آداب المعلم

آداب المعلم
قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ): (باب آداب المعلم
هذا الباب واسع جدل وقد جمعت فيه نفائس كثيرةً لا يحتمل هذا الكتاب عشرها فأذكر فيه إن شاء اللّه تعالى نبذًا منه.
فمن آدابه أدبه في نفسه وذلك في أمورٍ:
منها أن يقصد بتعليمه وجه اللّه تعالى ولا يقصد توصّلًا إلى غرضٍ دنيويٍّ كتحصيل مالٍ أو جاهٍ أو شهرةٍ أو سمعةٍ أو تميّزٍ عن الاشباه أو تكثر بالمشتغلين عليه المختلفين إليه أو نحو ذلك.
ولا يشين علمه وتعليمه بشيء من الطّمع في رفقٍ تحصّل

له من مشتغلٍ عليه من خدمةٍ أو مالٍ أو نحوهما وإن قلّ ولو كان على صورة الهديّة الّتي لولا اشتغاله عليه لما أهداها إليه.
ودليل هذا كله ما سبق في باب ذمّ من أراد بعلمه غير اللّه تعالى من الآيات والأحاديث.
وقد صحّ عن الشّافعيّ رحمه اللّه تعالى أنّه قال:
« وددت أنّ الخلق تعلّموا هذا العلم على أن لا ينسب إليّ حرفٌ منه ».
وقال رحمه اللّه تعالى:
« ما ناظرت أحدًا قطّ على الغلبة ووددت إذا ناظرت أحدًا أن يظهر الحقّ على يديه ».
وقال:
« ما كلّمت أحدًا قطّ إلّا وددت أن يوفّق ويسدّد ويعان ويكون عليه رعايةٌ من اللّه وحفظٌ »
وعن أبي يوسف رحمه اللّه تعالى قال: « يا قوم أريدوا بعلمكم اللّه فإنّي لم أجلس مجلسًا قطّ أنوي فيه أن أتواضع إلّا لم أقم حتّى أعلوهم ولم أجلس مجلسًا قطّ أنوي فيه أن أعلوهم إلّا لم أقم حتّى أفتضح »
ومنها أن يتخلّق بالمحاسن الّتي ورد الشّرع بها وحثّ عليها والخلال الحميدة والشّيم المرضية الّتي أرشد إليها من التّزهّد في الدّنيا والتّقلّل منها وعدم المبالاة بفواتها والسّخاء والجود ومكارم الأخلاق وطلاقة الوجه من غير خروجٍ إلى حدّ الخلاعة والحلم والصبر والتنزه عن دنئ الاكتساب وملازمة الورع والخشوع والسّكينة والوقار والتّواضع والخضوع واجتناب الضّحك والإكثار من المزح وملازمة الآداب الشّرعيّة الظّاهرة والخفيّة كالتّنظيف بإزالة الأوساخ وتنظيف الإبط وإزالة الرّوائح الكريهة واجتناب الرّوائح المكروهة وتسريح اللّحية.
ومنها الحذر من الحسد والرّياء والإعجاب واحتقار النّاس وإن كانوا دونه بدرجاتٍ وهذه أدواءٌ وأمراضٌ يبتلى بها كثيرون من أصحاب الأنفس الخسيسات

وطريقه في نفي الحسد أن يعلم أنّ حكمة اللّه تعالى اقتضت جعل هذا الفضل في هذا الإنسان فلا يعترض ولا يكره ما اقتضته الحكمة ولم يذم اللّه احترازًا من المعاصي
وطريقه في نفي الرّياء أن يعلم أنّ الخلق لا ينفعونه ولا يضرّونه حقيقةً فلا يتشاغل بمراعاتهم فيتعب نفسه ويضر دينه ويحبط عمله ويرتكب سخط الله تعالى ويفوّت رضاه
وطريقه في نفي الإعجاب أن يعلم أنّ العلم فضلٌ من اللّه تعالى ومعه عارية فان لله ما اخذو له ما أعطى وكل شيء عنده بأجلٍ مسمًّى فينبغي أن لا يعجب بشيء لم يخترعه وليس مالكًا له ولا على يقينٍ من دوامه
وطريقه في نفي الاحتقار التأدب بما ادبنا اللّه تعالى {فلا تزكّوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} وقال تعالى {إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم} فربّما كان هذا الّذي يراه دونه أتقى للّه تعالى وأطهر
قلبًا وأخلص نيّةً وأزكى عملًا ثمّ إنّه لا يعلم ماذا يختم له به ففي الصّحيح إنّ أحدكم يعمل بعمل أهل الجنّة الحديث نسأل اللّه العافية من كلّ داءٍ
ومنها استعماله أحاديث التّسبيح والتّهليل ونحوهما من الأذكار والدّعوات وسائر الآداب الشّرعيّات.
ومنها دوام مراقبته للّه تعالى في علانيته وسرّه محافظًا على قراءة القرآن ونوافل الصلوات والصوم وغيرهما معوّلًا على اللّه تعالى في كلّ أمره معتمدًا عليه مفوّضًا في كلّ الأحوال أمره إليه

ومنها وهو من أهمّها أن لا يذلّ العلم ولا يذهب به إلى مكان ينتسب إلى من يتعلّمه منه وإن كان المتعلّم كبير القدر بل يصون العلم عن ذلك كما صانه السّلف.
وأخبارهم في هذا كثيرةٌ مشهورةٌ مع الخلفاء وغيرهم.
فإن دعت إليه ضرورةٌ أو اقتضت مصلحةٌ راجحةٌ على مفسدة ابتذاله رجونا أنّه لا بأس به ما دامت الحالة هذه.
وعلى هذا يحمل ما جاء عن بعض السّلف في هذا

ومنها أنّه إذا فعل فعلًا صحيحًا جائزًا في نفس الأمر ولكنّ ظاهره أنّه حرامٌ أو مكروهٌ أو مخلٌّ بالمروءة ونحو ذلك فينبغي له أن يخبر أصحابه ومن يراه يفعل ذلك بحقيقة ذلك الفعل لينتفعوا ولئلّا يأثموا بظنّهم الباطل ولئلّا ينفروا عنه ويمتنع الانتفاع بعمله.
ومن هذا الحديث الصّحيح إنّها صفيّة
فصلّ ومن آدابه أدبه في درسه واشتغاله:
فينبغي أن لا يزال مجتهدا في الاشتغال بالعلم قراءة واقراءا ومطالعةً وتعليقًا ومباحثةً ومذاكرةً وتصنيفًا.
ولا يستنكف من التّعلّم ممّن هو دونه في سنٍّ أو نسبٍ أو شهرةٍ أو دينٍ أو في علمٍ آخر بل يحرص على الفائدة ممّن كانت عنده وإن كان دونه في جميع هذا.
ولا يستحيى من السّؤال عمّا لم يعلم فقد روينا عن عمر وابنه رضي اللّه عنهما قالا من رقّ وجهه رقّ علمه

وعن مجاهدٍ لا يتعلّم العلم مستحٍ ولا مستكبرٌ.
وفي الصّحيح عن عائشة رضي اللّه عنها قالت نعم النّساء نساء الأنصار لم يمنعهنّ الحياء أن يتفقّهن في الدّين

وقال سعيد بن جبيرٍ: لا يزال الرّجل عالمًا ما تعلّم فإذا ترك العلم وظنّ أنّه قد استغنى واكتفى بما عنده فهو أجهل ما يكون، وينبغي أن لا يمنعه ارتفاع منصبه وشهرته من استفادة ما لا يعرفه فقد كان كثيرون من السّلف يستفيدون من تلامذتهم ما ليس عندهم.
وقد ثبت في الصّحيح رواية جماعةٍ من الصّحابة عن التّابعين وروى جماعاتٌ من التّابعين عن تابعي التّابعين.
وهذا عمرو بن شعيبٍ ليس تابعيًّا وروى عنه أكثر من سبعين من التّابعين: وثبت في الصّحيحين أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قرأ لم يكن الذين كفروا على أبيّ بن كعبٍ رضي اللّه عنه وقال:
« أمرني اللّه أن أقرأ عليك » فاستنبط العلماء من هذا فوائد
منها بيان التّواضع وأنّ الفاضل لا يمتنع من القراءة على المفضول.
وينبغي أن تكون ملازمة الاشتغال بالعلم هي مطلوبه ورأس ما له فلا يشتغل بغيره فإن اضطرّ إلى غيره في وقتٍ فعل ذلك الغير بعد تحصيل وظيفته من العلم.
وينبغي أن يعتني بالتّصنيف إذا تأهل له فبه يطّلع على حقائق العلم ودقائقه ويثبت معه لأنّه يضطرّه إلى كثرة التّفتيش والمطالعة والتّحقيق والمراجعة والاطّلاع على مختلف كلام الأئمّة ومتّفقه وواضحه من مشكله: وصحيحه من ضعيفه.
وجزله من ركيكه وما لا اعتراض عليه من غيره وبه يتّصف المحقّق بصفة
المجتهد وليحذر كلّ الحذر أن يشرع في تصنيف ما لم يتأهّل له فإنّ ذلك يضرّه في دينه وعلمه وعرضه وليحذر أيضًا من إخراج تصنيفه من يده إلّا بعد تهذيبه وترداد نظره فيه وتكريره.
وليحرص على إيضاح العبارة وإيجازها فلا يوضّح إيضاحًا ينتهي إلى الرّكاكة ولا يوجز إيجازًا يفضي إلى المحق والاستغلاق.
وينبغي أن يكون اعتناؤه من التّصنيف بما لم يسبق إليه أكثر.

والمراد بهذا أن لا يكون هناك مصنّفٌ يغني عن مصنّفه في جميع أساليبه فإن أغنى عن بعضها فليصنّف من جنسه ما يزيد زياداتٍ يحتفل بها مع ضمّ ما فاته من إلا ساليب وليكن تصنيفه فيما يعمّ الانتفاع به ويكثر الاحتياج إليه.
وليعتن بعلم المذهب فإنّه من أعظم الأنواع نفعًا وبه يتسلّط المتمكّن على المعظم من باقي العلوم

ومن آدابه آداب تعليمه
اعلم أنّ التّعليم هو الأصل الّذي به قوام الدّين وبه يؤمن إمحاق العلم فهو من أهمّ أمور الدّين وأعظم العبادات وآكد فروض الكفايات.
قال اللّه تعالى {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا تكتمونه} وقال تعالى {إنّ الّذين يكتمون ما أنزلنا} الآية: وفي الصّحيح من طرقٍ أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال:
« ليبلّغ الشّاهد منكم الغائب »
والأحاديث بمعناه كثيرةٌ والإجماع منعقدٌ عليه.
ويجب على المعلّم أن يقصد بتعليمه وجه الله تعالى لما سبق والايجعله وسيلةً إلى غرضٍ دنيويٍّ فيستحضر المعلّم في ذهنه كون التعليم آكد العبادات ليكون ذلك حاثًّا له على تصحيح النّيّة ومحرّضًا له على صيانته من مكدّراته ومن مكروهاته مخافة فوات هذا الفضل العظيم والخير الجسيم.
قالوا وينبغي أن لا يمتنع من تعليم أحدٍ لكونه غير صحيح النّيّة فإنّه يرجى له حسن النّيّة وربّما عسر في كثيرٍ من المبتدئين بالاشتغال تصحيح النّيّة لضعف نفوسهم وقلّة أنسهم بموجبات تصحيح النّيّة فالامتناع من تعليمهم يؤدّي إلى تفويت كثيرٍ من العلم مع انه يرجي ببركة العلم تصحيحها إذا أنس بالعلم.
وقد قالوا طلبنا العلم لغير اللّه فأبى أن يكون إلّا للّه.
معناه كانت عاقبته أن صار للّه: وينبغي أن يؤدّب المتعلّم على التّدريج بالآداب السّنّيّة والشم المرضية ورياضة نفسه بالآداب والدّقائق الخفيّة وتعوّده الصّيانة في جميع أموره الكامنة والجليّة

فأوّل ذلك أن يحرّضه بأقواله وأحواله المتكرّرات على الإخلاص والصّدق وحسن النّيّات.
ومراقبة اللّه تعالى في جميع اللّحظات.
وأن يكون دائمًا على ذلك حتّى الممات.
ويعرّفه أنّ بذلك تنفتح عليه أبواب المعارف.
وينشرح صدره وتتفجر من قبله ينابيع الحكم واللّطائف.
ويبارك له في حاله وعلمه ويوفّق للإصابة في قوله وفعله وحكمه.
ويزهّده في الدّنيا ويصرفه عن التّعلّق بها والرّكون إليها والاغترار بها.
ويذكّره أنّها فانيةٌ والآخرة آتيةٌ باقيةٌ والتّأهّب للباقي والإعراض عن القاني هو طريق الحازمين.
ودأب عباد اللّه الصّالحين.
وينبغي أن يرغّبه في العلم ويذكّره بفضائله وفضائل العلماء وأنّهم ورثة الأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليهم.
ولا رتبة في الوجود أعلى من هذه. وينبغي أن يحنو عليه ويعتني بمصالحه كاعتنائه بمصالح نفسه وولده ويجريه مجرى ولده في الشّفقة عليه والاهتمام بمصالحه والصبر عل جفائه وسوء أدبه.
ويعذره في سوء أدبٍ وجفوةٍ تعرض منه في بعض الأحيان فإنّ الإنسان معرّضٌ للنّقائص.
وينبغي أن يحبّ له ما يحبّ لنفسه من الخير ويكره له ما يكرهه لنفسه من
الشّرّ.
ففي الصّحيحين
« لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه » وعن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما قال: « أكرم النّاس عليّ جليسي الّذي يتخطّى النّاس حتّى يجلس إليّ لو استطعت ألّا يقع الذّباب على وجهه لفعلت »
وفي روايةٍ إنّ الذّباب يقع عليه فيؤذيني.
وينبغي أن يكون سمحا ببذل ما حصّله من العلم سهلًا بإلقائه إلى مبتغيه متلطّفًا في إفادته طالبيه مع رفقٍ ونصيحةٍ وإرشادٍ إلى المهمّات.
وتحريضٍ على حفظ ما يبذله لهم من الفوائد النّفيسات.
ولا يدّخر عنهم من أنواع العلم شيئًا يحتاجون إليه إذا كان الطّالب أهلًا لذلك.
ولا يلق إليه شيئًا لم يتأهّل له لئلّا يفسد عليه حاله فلو سأله المتعلّم عن ذلك لم يجبه ويعرّفه أنّ ذلك يضرّه ولا ينفعه وأنّه لم يمنعه ذلك شحًّا بل شفقةً ولطفًا.
وينبغي أن لا يتعظّم على المتعلّمين بل يلين لهم ويتواضع فقد أمر بالتّواضع لآحاد النّاس.
قال اللّه تعالى {واخفض جناحك للمؤمنين}

وعن عياض بن حماد رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: « إنّ اللّه أوحى إليّ أن تواضعوا » رواه مسلمٌ
وعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: « ما نقصت صدقةٌ من مالٍ وما زاد اللّه عبدًا بعفوٍ إلّا عزًّا وما تواضع أحدٌ للّه إلّا رفعه اللّه »رواه مسلمٌ
فهذا في التّواضع لمطلق النّاس فكيف بهؤلاء الّذين هم كأولاده مع ما هم عليه من الملازمة لطلب العلم.
ومع ما لهم عليه من حقّ الصّحبة وتردّدهم إليه واعتمادهم عليه.
وفي الحديث عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم:
« لينوا لمن تعلّمون ولمن تتعلّمون منه »
وعن الفضيل بن عياضٍ رحمه اللّه إنّ اللّه عز وجل يحب العلم المتواضع ويبغض العلم الجبّار ومن تواضع للّه تعالى ورّثه الحكمة. وينبغي أن يكون حريصًا على تعليمهم مهتمًّا به مؤثرًا له على حوائج نفسه ومصالحه ما لم تكن ضرورةٌ ويرحّب بهم عند إقبالهم إليه لحديث أبي سعيدٍ السّابق.
ويظهر لهم البشر وطلاقة الوجه ويحسن إليهم بعلمه وما له وجاهه بحسب التّيسير.
ولا يخاطب الفاضل منهم باسمه بل بكنيته ونحوها.
ففي الحديث عن عائشة رضي اللّه عنها كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يكنّي أصحابه إكرامًا لهم وتسنيةً لأمورهم وينبغي أن يتفقّدهم ويسأل عمّن غاب منهم.
وينبغي أن يكون باذلًا وسعه في تفهيمهم وتقريب الفائدة إلى أذهانهم حريصًا على هدايتهم ويفهّم كلّ واحدٍ بحسب فهمه وحفظه فلا يعطيه ما لا يحتمله ولا يقصّر به عمّا يحتمله بلا مشقّةٍ ويخاطب كلّ واحدٍ على قدر درجته وبحسب فهمه وهمّته فيكتفي بالإشارة لمن يفهمها فهمًا محققا ويوضع العبارة لغيره ويكرّرها لمن لا يحفظها إلّا بتكرارٍ ويذكر الأحكام موضّحةً بالأمثلة من غير دليلٍ لمن لا ينحفظ له الدّليل فإن
جهل دليل بعضها ذكره له.
ويذكر الدّلائل لمحتملها ويذكر هذا ما بيّنّا على هذه المسألة وما يشبهها وحكمه حكمها وما يقاربها.
وهو مخالف لها ويذكر ما يرد عليها وجوابه إن أمكنه.
ويبيّن الدّليل الضّعيف لئلّا يغترّ به فيقول استدلّوا بكذا وهو ضعيفٌ لكذا.
ويبيّن الدّليل المعتمد ليعتمد.
ويبيّن له ما يتعلّق بها من الأصول والأمثال والأشعار واللّغات وينبّههم على غلط من غلط فيها من المصنّفين.
فيقول مثلا هذا هو الصواب ولما ما ذكره فلانٌ فغلطٌ أو فضعيفٌ قاصدًا النّصيحة لئلّا يغترّ به لا لتنقّصٍ للمصنّف.
ويبيّن له على التّدريج قواعد المذهب الّتي لا تنخرم غالبًا
كقولنا إذا اجتمع سببٌ ومباشرةٌ قدّمنا المباشرة.
وإذا اجتمع أصلٌ وظاهرٌ ففي المسألة غالبًا قولان.
وإذا اجتمع قولان قديمٌ وجديدٌ فالعمل غالبًا بالجديد إلّا في مسائل معدودةٍ سنذكرها قريبًا إن شاء اللّه تعالى.
وأنّ من قبض شيئًا لغرضه لا يقبل قوله في الرّدّ إلى المالك.
ومن قبضه لغرض المالك قبل قوله في الرّدّ إلى المالك لا إلى غيره.
وأنّ الحدود تسقط بالشّبهة.
وأنّ الأمين إذا فرّط ضمن.
وأنّ العدالة والكفاية شرطٌ في الولايات.
وأنّ فرض الكفاية إذا فعله من حصل به المطلوب سقط الحرج عن الباقين وإلّا أثموا كلّهم بالشّرط الّذي قدّمناه.
وأنّ من ملك إنشاء عقدٍ ملك الإقرار به.
وأنّ النّكاح والنّسب مبنيّان على الاحتياط.
وأنّ الرّخص لا تباح بالمعاصي.
وأنّ الاعتبار في الإيمان باللّه أو العتاق أو الطّلاق أو غيرها بنية الحالف إلا أن كان يكون المستحلف قاضيًا فاستحلفها للّه تعالى لدعوى اقتضته فإنّ الاعتبار بنيّة القاضي أو نائبه إن كان الحالف يوافقه في الاعتقاد فإن خالفه كحنفيٍّ استحلف شافعيًّا في شفعة الجوار ففيمن تعتبر بيته وجهان.
وأنّ اليمين الّتي يستحلف بها القاضي لا تكون إلّا باللّه تعالى وصفاته.
وأنّ الضّمان يجب في مال المتلف بغير حقٍّ سواءٌ كان مكلّفًا أو غيره بشرط كونه من أهل الضّمان في حقّ المتلف عليه.
فقولنا من أهل الضّمان احترازٌ من إتلاف المسلم مال حربيٍّ ونفسه وعكسه.
وقولنا في حقّه احترازٌ من إتلاف العبد مال سيّده إلّا أن يكون المتلف قاتلًا خطأً أو شبه عمدٍ فإنّ الدّية على عاقلته.
وأنّ السّيّد لا يثبت له مالٌ في ذمّة عبده ابتداءً، وفي ثبوته دوامًا وجهان.
وأنّ أصل الجمادات الطّهارة إلّا الخمر وكلّ نبيذٍ مسكرٍ. وأنّ الحيوان على الطّهارة إلّا الكلب والخنزير وفرع أحدهما

ويبيّن له جملًا ممّا يحتاج إليه وينضبط له من أصول الفقه وترتيب الأدلّة من الكتاب والسّنّة والإجماع والقياس واستصحاب الحال عند من يقول به
ويبيّن له أنواع الأقيسة ودرجاتها وكيفيّة استثمار الأدلّة.
ويبيّن حدّ الأمر والنّهي والعموم والخصوص والمجمل والمبيّن والنّاسخ والمنسوخ.
وأنّ صيغة الأمر على وجوهٍ.
وأنّه عند تجرّده يحمل على الوجوب عند جماهير الفقهاء.
وأنّ اللّفظ يحمل على عمومه وحقيقته حتى يرد دليل تخصيصٍ ومجاز.
وأنّ أقسام الحكم الشّرعيّ خمسةٌ الوجوب والنّدب والتّحريم والكراهة والإباحة.
وينقسم باعتبارٍ آخر إلى صحيحٍ وفاسدٍ.
فالواجب ما يذمّ تاركه شرعًا على بعض الوجوه احترازًا من الواجب الموسّع والمخيّر

وقيل ما يستحقّ العقاب تاركه فهذان أصحّ ما قيل فيه.
والمندوب ما رجّح فعله شرعًا وجاز تركه. والمحرّم ما يذمّ فاعله شرعًا.
والمكروه ما نهى عنه الشّرع نهيًا غير جازمٍ.
والمباح ما جاء الشّرع بأنّه لا فرق بين فعله وتركه في حقّ المكلّف.
والصّحيح من العقود ما ترتّب أثره عليه.
ومن العبادات ما أسقط القضاء.
والباطل والفاسد خلاف الصّحيح

ويبيّن له جملًا من أسماء المشهورين من الصّحابة رضي اللّه عن جميعهم فمن بعدهم من العلماء الأخيار وأنسابهم وكناهم وأعصارهم وطرف حكاياتهم.
ونوادرهم وضبط المشكل من أنسابهم وصفابهم وتمييز المشتبه من ذلك.
وجملًا من الألفاظ اللّغويّة والعرفيّة المتكرّرة في الفقه ضبطًا لمشكلها وخفيّ معانيها فيقول هي مفتوحةٌ أو مضمومةٌ أو مكسورة مخففة أو مشددة
مهموزةٌ أو لا عربيّةٌ أو عجميّةٌ أو معرّبةٌ وهي الّتي أصلها عجميٌّ وتكلّمت بها العرب.
مصروفةٌ أو غيرها.
مشتقّةٌ أم لا.
مشتركةٌ أم لا.
مترادفةٌ أم لا.
وأنّ المهموز والمشدّد يخفّفان أم لا.
وأنّ فيها لغةً أخرى أم لا.

ويبيّن ما ينضبط من قواعد التّصريف كقولنا ما كان على فعل بفتح الفاء وكسر العين فمضارعه يفعل بفتح العين إلّا أحرفًا جاء فيهنّ الفتح والكسر من الصّحيح والمعتلّ.
فالصّحيح دون عشرة أحرف كنعم وبئس وحسب والمعتل كوتر ووبق وورم ووري الزّند وغيرهنّ.
وأمّا ما كان من الأسماء والأفعال على فعل بكسر العين جاز فيه أيضًا إسكانها مع فتح الفاء وكسرها فإن

كان الثّاني أو الثّالث حرف حلقٍ جاز فيه وجهٌ رابعٌ فعلٌ بكسر الفاء والعين.
وإذا وقعت مسألةٌ غريبةٌ لطيفة أو مما يسئل عنها في المعايات نبّهه عليها وعرّفه حالها في كلّ ذلك.
ويكون تعليمه إيّاهم كلّ ذلك تدريجًا شيئًا فشيئًا لتجتمع لهم مع طول الزّمان جملٌ كثيراتٌ

وينبغي أن يحرّضهم على الاشتغال في كلّ وقتٍ ويطالبهم في أوقاتٍ بإعادة محفوظاتهم ويسألهم عمّا ذكره لهم من المهمات فمن وجده حافظه مراعيًا له أكرمه وأثنى عليه وأشاع ذلك ما لم يخف فساد حاله بإعجابٍ ونحوه.
ومن وجده مقصّرًا عنّفه إلّا أن يخاف تنفيره ويعيده حتّى يحفظه حفظًا راسخًا وينصفهم في البحث فيعترف بفائدةٍ يقولها بعضهم وإن كان صغيرًا ولا يحسد أحدًا منهم لكثرة تحصيله فالحسد حرام للاجانب وهنا أشد فانه بمنزلة الولد وفضيلته يعود إلى معلّمه منها نصيبٌ وافرٌ فإنّه مربّيه وله في تعليمه وتخريجه في الآخرة الثّواب الجزيل وفي الدّنيا الدّعاء المستمرّ والثّناء الجميل

وينبغي أن يقدّم في تعليمهم إذا ازدحموا إلا سبق فالاسبق ولا يقدّمه في أكثر من درسٍ إلّا برضا الباقين وإذا ذكر لهم درسًا تحرّى تفهيمهم بأيسر الطّرق ويذكره مترسّلًا مبيّنًا واضحًا.
ويكرّر ما يشكل من معانيه وألفاظه إلّا إذا وثق بأن جميع الحاضرين يفهمونه بدون ذلك وإذا لم يكمل البيان إلّا بالتّصريح بعبارةٍ يستحى في العادة من ذكرها فليذكرها بصريح اسمها ولا يمنعه الحياء ومراعاة الادب من ذلك فإنّ إيضاحها أهمّ من ذلك.
وإنّما تستحبّ الكناية في مثل هذا إذا علم بها المقصود علمًا جليًّا وعلى هذا التّفصيل يحمل ما ورد في الأحاديث من التّصريح في وقتٍ والكناية في وقتٍ.
ويؤخّر ما ينبغي تأخيره ويقدّم ما ينبغي تقديمه ويقف في موضع الوقف.
ويصل في موضع الوصل وإذا وصل موضع الدّرس صلّى ركعتين فان كان مسجدا تأكد الحدث على الصّلاة ويقعد مستقبلًا القبلة على طهارةٍ متربّعًا إن شاء وإن شاء محتبيًا وغير ذلك.
ويجلس بوقارٍ وثيابه نظيفةٌ بيضٌ.
ولا يعتني بفاخر الثّياب ولا يقتصر على خلقٍ ينسب صاحبه إلى قلّة المروءة.
ويحسّن خلقه مع جلسائه ويوقّر فاضلهم بعلمٍ أو سنٍّ أو شرفٍ أو صلاحٍ ونحو ذلك.
ويتلطّف بالباقين ويرفع مجلس الفضلاء ويكرمهم بالقيام لهم على سبيل الاحترام.
وقد ينكر القيام من لا تحقيق عنده.
وقد جمعت جزءًا فيه الترخيص فيه ودلائله والجواب عن ما يوهم كراهته

وينبغي أن يصون يديه عن العبث.
وعينيه عن تفريق النّظر بلا حاجةٍ.

ويلتفت إلى الحاضرين التفاتًا قصدًا بحسب الحاجة للخطاب.
ويجلس في موضعٍ يبرز فيه وجهه لكلّهم.
ويقدّم على الدّرس تلاوة ما تيسّر من القرآن ثمّ يبسمل ويحمد اللّه تعالى ويصلّي ويسلّم على
النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وعلى آله ثم يدعو للعلماء الماضيين من مشايخه ووالديه والحاضرين وسائر المسلمين.
ويقول:
« حسبنا اللّه ونعم الوكيل ولا حول ولا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم اللّهمّ إنّي أعوذ بك من أن أضلّ أو أضلّ أو أزلّ أو أزلّ أو أظلم أو أظلم وأجهل أو يجهل عليّ ».
فإن ذكر دروسًا قدّم أهمها فيقدم التفسير ثم الحديث ثم الاصولين ثمّ المذهب ثمّ الخلاف ثمّ الجدل ولا يذكر الدّرس وبه ما يزعجه كمرضٍ أو جوعٍ أو مدافعة الحدث أو شدّة فرحٍ وغم ولا يطوّل مجلسه تطويلًا يملّهم أو يمنعهم فهم بعض الدّروس أو ضبطه لأنّ المقصود إفادتهم وضبطهم فإذا صاروا إلى هذه الحالة فاته المقصود.
وليكن مجلسه واسعًا ولا يرفع صوته زيادةً على الحاجة ولا يخفضه خفضًا يمنع بعضهم كمال فهمه.
ويصون مجلسه من اللّغط والحاضرين عن سوء الأدب في المباحثة وإذا ظهر من أحدهم شيء من مبادئ ذلك تلطّف في دفعه قبل انتشاره ويذكّرهم أنّ اجتماعنا ينبغي أن يكون للّه تعالى فلا يليق بنا المنافسة والمشاحنة بل شأننا الرّفق والصّفاء واستفادة بعضنا من بعضٍ واجتماع قلوبنا على ظهور الحقّ، وحصول الفائدة.

وإذا سأل سائلٌ عن أعجوبةٍ فلا يسخرون منه وإذا سئل عن شيء لا يعرفه أو عرض في الدّرس ما لا يعرفه فليقل لا أعرفه أو لا أتحقّقه ولا يستنكف عن ذلك.
فمن علم العالم أن يقول فيما لا يعلم لا أعلم أو اللّه أعلم.
فقد قال ابن مسعودٍ رضي اللّه عنه يا أيّها النّاس من علم شيئًا فليقل به ومن لم يعلم فليقل اللّه أعلم فإنّ من العلم أن يقول لما لا يعلم اللّه أعلم.
قال اللّه تعالى لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم: (قل ما أسألكم عليه من أجرٍ وما انا من المتكلفين) رواه البخاريّ

وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: « نهينا عن التكليف » رواه البخاريّ
وقالوا ينبغي للعالم أن يورّث أصحابه لا أدري، معناه يكثر منها، وليعلم أنّ معتقد المحقّقين أنّ قول العالم لا أدري لا يضع منزلته بل هو دليلٌ على عظم محلّه وتقواه وكمال معرفته لأنّ المتمكّن لا يضرّه عدم معرفته مسائل معدودةً بل يستدلّ بقوله لا أدري على تقواه وأنّه لا يجازف في فتواه.
وإنّما يمتنع من لا أدري من قلّ علمه وقصرت معرفته وضعفت تقواه لأنّه يخاف لقصوره أن يسقط من أعين الحاضرين وهو جهالةٌ منه فإنّه بإقدامه على الجواب فيما لا يعلمه يبوء بالإثم العظيم ولا يرفعه ذلك عمّا عرف له من المقصور بل يستدل به على قصوره لا نا إذا رأينا المحقّقين يقولون في كثيرٍ من الأوقات لا أدري وهذا القاصر لا يقولها أبدًا علمنا أنّهم يتورّعون لعلمهم وتقواهم وأنّه يجازف لجهله وقلة دينه فوقع فيما فرعنه واتّصف بما احترز منه لفساد نيّته وسوء طويّته.
وفي الصّحيح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
« المتشبّع بما لم يعط كلابس ثوبي زور »
فصلٌ وينبغي للمعلّم أن يطرح على أصحابه ما يراه من مستفاد المسائلويختبر بذلك أفهامهم ويظهر فضل الفاضل ويثني عليه بذلك ترغيبًا له وللباقين في الاشتغال والفكر في العلم وليتدرّبوا بذلك ويعتادوه ولا يعنّف من غلط منهم في كلّ ذلك إلّا أن يرى تعنيفه مصلحةً له.
وإذا فرغ من تعليمهم أو إلقاء درسٍ عليهم أمرهم بإعادته ليرسّخ حفظهم له فإن أشكل عليهم منه شيء ما عاودوا الشيخ في ايضاحه

فصلٌ ومن أهمّ ما يؤمر به ألّا يتأذّى ممّن يقرأ عليه إذا قرأ على غيره وهذه مصيبةٌ يبتلى بها جهلة المعلّمين لغباوتهم وفساد نيّتهم.
وهو من الدّلائل الصّريحة على عدم إرادتهم بالتّعليم وجه اللّه تعالى الكريم.
وقد قدّمنا عن عليٍّ رضي اللّه عنه الاغلاظ في ذلك والتّأكيد في التّحذير منه.
وهذا إذا كان المعلّم الآخر أهلًا فإن كان فاسقًا أو مبتدعًا أو كثير الغلط ونحو ذلك فليحذّر من الاغترار به وباللّه التّوفيق). [المجموع شرح المهذب: 1/28-35]


رد مع اقتباس
  #8  
قديم 20 شعبان 1435هـ/18-06-2014م, 11:02 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي باب آداب المتعلّم

آداب المتعلّم

قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ):
(باب آداب المتعلّم

أمّا آدابه في نفسه ودرسه فكآداب المعلم، وقد أرضحناها وينبغي أن يطهّر قلبه من الأدناس ليصلح لقبول العلم وحفظه واستثماره.
ففي الصّحيحين عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:
« إنّ في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كلّه وإذا فسدت فسد الجسد كلّه ألا وهي القلب ».
وقالوا
: « تطييب القلب للعلم كتطيب الأرض للزّراعة »
وينبغي أن يقطع العلائق الشّاغلة عن كمال الاجتهاد في التّحصيل ويرضى باليسير من القوت ويصبر على ضيق العيش.
قال الشّافعيّ رحمه اللّه تعالى:
« لا يطلب أحدٌ هذا العلم بالملك وعزّ النّفس فيفلح ولكن من طلبه بذلّ النّفس وضيق العيش وخدمة العلماء أفلح ».
وقال أيضًا:
« لا يدرك العلم إلّا بالصّبر على الذّلّ ».
وقال أيضًا:
« لا يصلح طلب العلم إلّا لمفلسٍ فقيل: ولا الغنيّ المكفّى فقال: ولا الغنيّ المكفّى ».
وقال مالك بن أنسٍ رحمه اللّه:
« لا يبلغ أحدٌ من هذا العلم ما يريد حتّى يضربه الفقر ويؤثره على كل شيء ».
وقال أبو حنيفة رحمه اللّه:
« يستعان على الفقه بجمع الهم ويستعان على حذف العلائق بأخذ اليسير عند الحاجة ولا يزد ».
وقال إبراهيم الآجرّيّ:
« من طلب العلم بالفاقة ورث الفهم ».
وقال الخطيب البغداديّ في كتابه الجامع لآداب الرّاوي والسّامع:
يستحبّ للطّالب أن يكون عزبًا ما أمكنه لئلّا يقطعه الاشتغال بحقوق الزّوجة والاهتمام بالمعيشة عن إكمال طلب العلم واحتجّ بحديث، خيركم بعد المائتين خفيف الحاذ وهو الّذي لا أهل له ولا ولد.
وعن إبراهيم بن أدهم رحمه اللّه:
« من تعوّد أفخاذ النّساء لم يفلح يعني اشتغل بهنّ ».
وهذا في غالب النّاس لا الخواصّ.
وعن سفيان الثّوريّ:
« إذا تزوّج الفقيه فقد ركب البحر فإن ولد له فقد كسر به ».
وقال سفيان لرجلٍ:
« تزوّجت؟ فقال: لا، قال: ما تدري ما أنت فيه من العافية ».
وعن بشرٍ الحافي رحمه اللّه:
« من لم يحتج إلى النّساء فليتّق اللّه ولا يألف أفخاذهنّ »
(قلت) هذا كلّه موافقٌ لمذهبنا فإنّ مذهبنا أنّ من لم يحتج إلى النّكاح استحبّ له تركه وكذا إن احتاج وعجز عن مؤنته.
وفي الصّحيحين عن أسامة بن زيدٍ رضي اللّه عنهما عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال:
« ما تركت بعدي فتنةً هي أضرّ على الرّجال من النّساء » وفي صحيح مسلمٍ عن أبي سعيد الخدريّ رضي اللّه عنه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: « إنّ الدّنيا حلوةٌ خضرةٌ وإنّ اللّه مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتّقوا الدّنيا واتّقوا النّساء فإنّ أوّل فتنة بني إسرائيل كانت في النّساء ».
وينبغي له أن يتواضع للعلم والمعلّم فبتواضعه يناله.
وقد
أمرنا بالتّواضع مطلقًا فهنا أولى.
وقد قالوا:
« العلم حربٌ للمتعالي كالسّيل حربٌ للمكان العالي ».
وينقاد لمعلّمه ويشاوره في أموره ويأتمر بأمره كما ينقاد المريض لطبيبٍ حاذقٍ ناصحٍ وهذا أولى لتفاوت
مرتبتهما.
قالوا:
« ولا يأخذ العلم إلّا ممّن كملت أهليّته وظهرت ديانته وتحقّقت معرفته واشتهرت صيانته وسيادته ».
فقد قال ابن سيرين ومالكٌ وخلائق من السّلف:
« هذا العلم دينٌ فانظروا عمّن تأخذون دينكم ».
ولا يكفي في أهليته التّعليم أن يكون كثير العلم بل ينبغي مع كثيرة علمه بذلك الفنّ كونه له معرفةً في الجملة بغيره من الفنون الشّرعيّة فإنّها مرتبطةٌ ويكون له دربةٌ ودينٌ وخلقٌ جميلٌ وذهنٌ صحيح واطلاع تام.
قالوا:
« ولا تأخذ العلم ممّن كان أخذه له من بطون الكتب من غير قراءةٍ على شيوخٍ أو شيخٍ حاذقٍ فمن لم يأخذه إلّا من الكتب يقع في التّصحيف ويكثر منه الغلط والتّحريف »
وينبغي أن ينظر معلّمه بعين الاحترام ويعتقد كمال أهليّته ورجحانه على اكثر طبقته فهو أقرب إلى انتفائه به ورسوخ ما سمعه منه في ذهنه.
وقد كان بعض المتقدّمين إذا ذهب إلى معلمه تصدق بشيء وقال اللّهمّ استر عيب معلّمي عنّي ولا تذهب بركة علمه منّي.
وقال الشّافعيّ رحمه اللّه:
« كنت أصفح الورقة بين يدي مالكٍ رحمه اللّه صفحًا رفيقًا هيبةً له لئلّا يسمع وقعها »
وقال الرّبيع: « واللّه ما اجترأت أن أشرب الماء والشّافعيّ ينظر إليّ هيبةً له ».
وقال حمدان بن الاصفهانى:
كنت عند شريكٍ رحمه اللّه فأتاه بعض أولاد المهديّ فاستند إلى الحائط وسأله عن حديثٍ فلم يلتفت إليه وأقبل علينا ثمّ عاد فعاد لمثل ذلك فقال: أتستخفّ بأولاد الخلفاء فقال شريكٌ لا ولكنّ العلم أجلّ عند الله تعالى من أن أضعه فبحثا على ركبتيه فقال شريكٌ: « هكذا يطلب العلم ».
وعن عليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه تعالى عنه قال: من حقّ العالم عليك أن تسلّم على القوم عامّةً وتخصّه بالتّحيّة وأن تجلس أمامه ولا تشيرنّ عنده بيدك ولا تعمدنّ بعينك غيره ولا تقولنّ قال فلانٌ خلاف قوله ولا تغتابنّ عنده أحدًا ولا تسارّ في مجلسه ولا تأخذ بثوبه ولا تلحّ عليه إذا كسل ولا تشبع من طول صحبته فإنّما هو كالنّخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شيء

ومن آداب المتعلم ان يتحرى رضى المعلّم وإن خالف رأي نفسه ولا يغتاب عنده ولا يفشي له سرًّا.
وأن يردّ غيبته إذا سمعها فإن عجز فارق ذلك المجلس.
وألّا يدخل عليه بغير إذنٍ وإذا دخل جماعةٌ قدّموا أفضلهم وأسنّهم.
وأن يدخل كامل الهيبة فارغ القلب من الشّواغل متطهّرًا متنظّفًا بسواكٍ وقصّ شاربٍ وظفرٍ وإزالة كريه رائحةٍ.
ويسلّم على الحاضرين كلّهم بصوتٍ يسمعهم
إسماعًا محقّقًا.
ويخصّ الشّيخ بزيادة إكرامٍ وكذلك يسلّم إذا انصرف.
ففي الحديث الأمر بذلك ولا التفات إلى من أنكره.
وقد أوضحت هذه المسألة في كتاب الأذكار.
ولا يتخطّى رقاب النّاس ويجلس حيث انتهى به المجلس إلّا أن يصرّح له الشّيخ أو الحاضرون بالتّقدّم والتّخطّي أو يعلم من حالهم إيثار ذلك.
ولا يقيم أحدًا من مجلسه فإن آثره غيره بمجلسه لم يأخذه إلّا أن يكون في ذلك مصلحةٌ للحاضرين بأن يقرب من الشّيخ ويذاكره مذاكرةً ينتفع الحاضرون بها.
ولا يجلس وسط الحلقة إلّا لضرورةٍ.
ولا بين صاحبين إلّا برضاهما.
وإذا فسح له قعد وضمّ نفسه.
ويحرص على
القرب من الشّيخ ليفهم كلامه فهمًا كاملًا بلا مشقّةٍ وهذا بشرط أن لا يرتفع في المجلس على أفضل منه.
ويتأدّب مع رفقته وحاضري المجلس فإنّ تأدّبه معهم تأدّبٌ مع الشّيخ واحترامٌ لمجلسه.
ويقعد قعدة المتعلّمين لا قعدة المعلّمين.
ولا يرفع صوته رفعًا بليغًا من غير حاجةٍ ولا يضحك ولا يكثر الكلام بلا حاجةٍ.
ولا يعبث بيده ولا غيرها.
ولا يلتفت بلا حاجةٍ بل يقبل على الشّيخ مصغيًا إليه ولا يسبقه إلى شرح مسألةٍ أو جواب سؤال إلّا أن يعلم من حال الشّيخ إيثار ذلك ليستدلّ به على فضيلة المتعلّم ولا يقرأ عليه شغل قلب الشيخ وملله وغمه ونعاسه واستيفازه ونحو ذلك ممّا يشقّ عليه أو يمنعه استيفاء الشرح ولا يسئله عن شيء في غير موضعه إلّا أن يعلم من حاله أنّه لا يكرهه ولا يلحّ في السّؤال إلحاحًا مضجرًا.

ويغتنم سؤاله عند طيب نفسه وفراغه.
ويتلطّف في سؤاله.
ويحسن خطابه ولا يستحي من السّؤال عمّا أشكل عليه بل يستوضحه أكمل استيضاحٍ فمن رقّ وجهه رقّ علمه ومن رقّ وجهه عند السّؤال ظهر نقصه عند اجتماع الرّجال.
وإذا قال له الشيح أفهمت فلا يقل نعم حتّى يتّضح له المقصود إيضاحًا جليًّا لئلّا يكذب ويفوته الفهم.
ولا يستحي من قوله لم أفهم لأنّ استثباته يحصّل له مصالح عاجلةً وآجلةً.
فمن العاجلة حفظه المسألة وسلامته من كذبٍ ونفاقٍ بإظهاره فهم ما لم يكن فهمه

ومنها اعتقاد الشّيخ اعتناءه ورغبته وكمال عقله وورعه وملكه لنفسه وعدم نفاقه.
ومن الآجلة ثبوت الصّواب في قلبه دائمًا واعتياده هذه الطّريقة المرضية والأخلاق الرّضيّة.

وعن الخليل بن أحمد رحمه اللّه منزلة الجهل بين الحياء والأنفة.
وينبغي إذا سمع الشّيخ يقول مسألةً أو يحكي حكايةً وهو يحفظها أن يصغي لها إصغاء

من لم يحفظها إلّا إذا علم من حال الشّيخ إيثاره علمه بأنّ المتعلّم حافظها.
وينبغي أن يكون حريصا على التعليم مواظبًا عليه في جميع أوقاته ليلًا ونهارًا حضرا وسفرا ولا يذهب من أوقاته شيئًا في غير العلم إلّا بقدر الضّرورة لأكلٍ ونومٍ قدرًا لا بد منه ونحوهما كاستراحة يسيرة لا زالة الملل وشبه ذلك من الضّروريّات وليس بعاقلٍ من أمكنه درجة ورثة الأنبياء ثمّ فوّتها.

وقد قال الشّافعيّ رحمه اللّه في رسالته: « حقٌّ على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه والصّبر على كلّ عارضٍ دون طلبه وإخلاص النّيّة للّه تعالى في إدراك علمه نصًّا واستنباطًا والرّغبة إلى اللّه تعالى في العون عليه ».
وفي صحيح مسلمٍ عن يحيى بن أبي كثيرٍ قال: « لا يستطاع العلم براحة الجسم ذكره في أوائل مواقيت الصّلاة ».
قال الخطيب البغداديّ: « أجود أوقات الحفظ الأسحار ثمّ نصف النّهار ثمّ الغداة وحفظ اللّيل أنفع من حفظ النّهار ووقت الجوع أنفع من وقت الشّبع ».
قال:
« وأجود أماكن الحفظ الغرف وكلّ موضعٍ بعد عن الملهيات »
قال:
« وليس بمحمودٍ الحفظ بحضرة النّبات والخضرة والأنهار، وقوارع الطّرق لأنّها تمنع غالبًا خلوّ القلب ».
وينبغي أن يصبر على جفوة شيخه وسوء خلقه ولا يصدّه ذلك عن ملازمته واعتقاد كماله ويتأول لا فعاله الّتي ظاهرها الفساد تأويلاتٍ صحيحةً فما يعجز عن ذلك إلّا قليل التّوفيق.
وإذا جفاه الشّيخ ابتدأ هو بالاعتذار وأظهر أنّ الذّنب له والعتب عليه فذلك أنفع له دينًا ودنيا وأبقى لقلب شيخه.
وقد قالوا: من لم يصبر على ذلّ التّعلّم بقي عمره في
عماية الجهالة، ومن صبر عليه آل أمره إلى عزالآخرة والدّنيا ومنه الأثر المشهور عن ابن عبّاسٍ رضى الله عنهما: « ذلك طالبًا فعزّزت مطلوبًا »
ومن آدابه الحلم والأناة وأن يكون همّته عاليةً فلا يرضى باليسير مع امكان كثير وأن لا يسوّف في اشتغاله ولا يؤخّر تحصيل فائدةٍ وإن قلّت إذا تمكّن منها وإن أمن حصولها بعد ساعةٍ لأنّ للتّأخير آفات ولا نه في الزّمن الثّاني يحصّل غيرها.
وعن الرّبيع قال:
« لم أر الشّافعيّ آكلًا بنهارٍ ولا نائما بليل لا هتمامه بالتّصنيف، ولا يحمّل نفسه ما لا تطيق مخافة الملل وهذا يختلف باختلاف النّاس، وإذا جاء مجلس الشّيخ فلم يجده انتظره ولا يفوّت درسه إلّا أن يخاف كراهة الشّيخ لذلك بأن يعلم من حاله الإقراء في وقتٍ بعينه فلا يشقّ عليه بطلب القراءة في غيره ».
قال الخطيب:
« وإذا وجده نائمًا لا يستأذن عليه بل يصبر حتّى يستيقظ أو ينصرف والاختيار الصّبر كما كان ابن عبّاسٍ والسّلف يفعلون ».
وينبغي أن يغتنم التّحصيل في وقت الفراغ والنّشاط وحال الشّباب وقوّة البدن ونباهة الخاطى وقلّة الشّواغل قبل عوارض البطالة وارتفاع المنزلة.
فقد روينا عن عمر رضي اللّه عنه تفقّهوا قبل أن تسودوا.
وقال الشّافعيّ:
« تفقّه قبل أن ترأس فإذا رأست فلا سبيل إلى التّفقّه ».
ويعتني بتصحيح درسه الّذي يتحفّظه تصحيحًا متقنًا على الشّيخ ثمّ يحفظه حفظًا محكما ثم بعد حفظه يكرّره مرّاتٍ ليرسخ رسوخًا متأكّدًا ثمّ يراعيه بحيت لا يزال محفوظا جيدا ويبتدأ درسه بالحمد للّه والصّلاة على رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم والدّعاء للعلماء ومشايخه ووالديه وسائر المسلمين ويبكّر بدرسه لحديث اللّهمّ بارك لا متى في بكورها ويداوم على تكرار محفوظاته ولا يحفظ ابتداءً من الكتب استقلالًا بل يصحّح على الشّيخ كما ذكرنا فالاستقلال بذلك من أضرّ المفاسد.
وإلى هذا أشار الشّافعيّ رحمه اللّه بقوله:
« من تفقّه من الكتب ضيّع الأحكام، وليذاكر بمحفوظاته وليدم الفكر فيها ويعتني بما يحصّل فيها من الفوائد وليرافق بعض حاضري حلقة الشّيخ في المذاكرة ».
قال الخطيب:
« وأفضل المذاكرة مذاكرة اللّيل وكان جماعةٌ من السلف يفعلون ذلك وكان جماعة منهم يبدؤن من لعشاء فربّما لم يقوموا حتّى يسمعوا أذان الصّبح ».
وينبغي أن يبدأ من دروسه على المشايخ.
وفي الحفظ والتّكرار والمطالعة بالأهمّ فالأهمّ.
وأوّل ما يبتدئ به حفظ القرآن العزيز فهو أهمّ العلوم وكان السّلف لا يعلّمون الحديث والفقه إلا لمن حفظ القرآن وإذا حفظه فليحذر من الاشتغال عنه بالحديث والفقه وغيرهما اشتغالًا يؤدّي إلى نسيان شيء منه أو تعريضه للنّسيان.
وبعد حفظ القرآن يحفظ من كلّ فنٍّ مختصرًا ويبدأ بالأهمّ ومن أهمّها الفقه والنّحو ثمّ الحديث والأصول ثمّ الباقي على ما تيسّر ثمّ يشتغل باستشراح محفوظاته ويعتمد من الشّيوخ في كلّ فن أكملهما في الصّفات السّابقة فإن أمكنه شرح دروسٍ في كلّ يومٍ فعل وإلّا اقتصر على الممكن من درسين أو ثلاثةٍ وغيرها فإذا اعتمد شيخًا في فنٍّ وكان لا يتأذّى بقراءة ذلك الفنّ على غيره فليقرأ أيضًا على ثانٍ وثالثٍ وأكثر ما لم يتأذّوا فان تأذ المعتمد اقتصر عليه وراعى قلبه فهو أقرب إلى انتفاعه.
وقد قدّمنا أنّه ينبغي
أن لا يتأذّى من هذا.
وإذا بحث المختصرات انتقل إلى بحثٍ أكبر منها مع المطالعة المتقنة والعناية الدّائمة المحكمة وتعليق ما يراه من النّفائس.
والغرائب وحلّ المشكلات ممّا يراه في المطالعة أو يسمعه
من الشّيخ ولا يحتقرنّ فائدةً يراها أو يسمعها في أيّ فنٍّ كانت بل يبادر إلى كتابتها ثمّ يواظب على مطالعة ما كتبه وليلازم حلقة الشّيخ وليعتن بكلّ الدّروس ويعلّق عليها ما أمكن فإن عجز اعتنى بالأهمّ ولا يؤثر بنوبته فإنّ الإيثار بالقرب مكروهٌ فإن رأى الشّيخ المصلحة في ذلك في وقت فأشاربه امتثل أمره: وينبغي أن يرشد رفقته وغيرهم من الطّلبة إلى مواطن الاشتغال والفائدة ويذكر لهم ما استفاده على جهة النّصيحة والمذاكرة وبارشادهم يبارك له في علمه ويستنير قلبه وتتأكّد المسائل معه مع جزيل ثواب اللّه عزّ وجل ومن بخل بذلك كان بضدّه فلا يثبت معه وإن ثبت لم يثمر.
ولا يحسد أحدًا ولا يحتقره ولا يعجب بفهمه وقد قدّمنا هذا في آداب المعلّم

فإذا فعل ما ذكرناه وتكاملت أهليّته واشتهرت فضيلته اشتغل بالتّصنيف وجدّ في الجمع والتّأليف محقّقًا كلّ ما يذكره متثبّتًا في نقله واستنباطه متحرّيًا إيضاح العبارات وبيان المشكلات مجتنبا العبارات الرّكيكات.
والأدلّة الواهيات.
مستوعبًا معظم أحكام ذلك الفن غير مخل بشيء من أصوله منبّهًا على القواعد فبذلك تظهر له الحقائق وتنكشف المشكلات ويطّلع على الغوامض وحلّ المعضلات ويعرف مذاهب العلماء والرّاجح من المرجوح ويرتفع عن الجمود على محض التّقليد ويلتحق بالأئمّة المجتهدين أو يقاربهم إن وفّق لذلك وباللّه التّوفيق
فصلٌ في آدابٍ يشترك فيها العالم والمتعلّم

ينبغي لكلّ واحدٍ منهما أن لا يخلّ بوظيفته لعروض مرضٍ خفيفٍ ونحوه ممّا يمكن معه الاشتغال ويستشفي بالعلم ولا يسئل أحدًا تعنّتًا وتعجيزًا: فالسّائل تعنّتًا وتعجيزًا لا يستحق جوابا وفي الحديث النّهي عن غلوطات المسائل وأن يعتني بتحصيل الكتب شراءً واستعارةً ولا يشتغل بنسخها إن حصلت بالشّراء لأنّ الاشتغال أهمّ إلّا أن يتعذّر الشّراء لعدم الثّمن أو لعدم الكتاب مع نفاسته فيستنسخه وإلّا فلينسخه
ولا يهتم بتحسين الخط بل بتصحيحه.
ولا يرتضى مع إمكان تحصيله ملكًا فإن استعاره لم يبطئ به لئلّا يفوّت الانتفاع به على صاحبه ولئلّا يكسل عن تحصيل الفائدة منه ولئلا يمتنع من إعارته غيره وقد جاء في ذمّ الإبطاء بردّ الكتب المستعارة عن السّلف أشياء كثيرةٌ نثرًا ونظمًا.
ورويناها في كتاب الخطيب الجامع لا خلاق الرّاوي والسّامع.
منها عن الزّهريّ إيّاك وغلول الكتب وهو حبسها عن أصحابها.
وعن الفضيل ليس من أفعال أهل الورع ولا من أفعال الحكماء أن يأخذ سماع رجلٍ وكتابه فيحبسه عنه ومن فعل ذلك فقد ظلم نفسه.

قال الخطيب وبسبب حبسها امتنع غير واحدٍ من اعارتها.
ثم روى في ذلك
جملًا عن السّلف وأنشد فيه أشياء كثيرةً.
والمختار استحباب الإعارة لمن لا ضرر عليه في ذلك لأنّه إعانةٌ على العلم مع ما مطلق العاريّة من الفضل.
وروينا عن وكيعٍ أوّل بركة الحديث إعارة الكتب.
وعن سفيان الثّوريّ من بخل بالعلم ابتلي بإحدى ثلاثٍ أن ينساه أو يموت ولا ينتفع به أو تذهب كتبه.
وقال رجلٌ لأبي العتاهية أعرني كتابك قال إنّي أكره ذلك فقال أما علمت ان المكارم موصولة بالمكارم فأعاره.
ويستحب شكر المعير لا حسانه.
فهذه نبذ من آداب المعلم والمتعلم وهى وان كانت طويلةً بالنّسبة إلى هذا الكتاب فهي مختصرةٌ بالنّسبة إلى ما جاء فيها وإنّما قصدت بايرادها أن يكون الكتاب جامعًا لكلّ ما يحتاج إليه طالب العلم وباللّه التّوفيق). [المجموع شرح المهذب: 1/35-40]


رد مع اقتباس
  #9  
قديم 20 شعبان 1435هـ/18-06-2014م, 11:02 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي باب (آداب الفتوى والمفتي والمستفتي)

آداب الفتوى والمفتي والمستفتي

قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ):
(باب (آداب الفتوى والمفتي والمستفتي)

اعلم أنّ هذا الباب مهمٌّ جدًّا فأحببت تقديمه لعموم الحاجة إليه وقد صنّف في هذا جماعةٌ من أصحابنا منهم أبو القاسم الصّيمريّ شيخ صاحب الحاوي ثمّ الخطيب أبو بكرٍ الحافظ البغداديّ ثمّ الشّيخ أبو عمرو بن الصلاح وكل منهم ذكر نفايس لم يذكرها الآخران.
وقد طالعت كتب الثّلاثة ولخّصت منها جملةً مختصرةً مستوعبةً لكلّ ما ذكروه من المهمّ وضممت إليها نفائس من متفرّقات كلام الأصحاب وباللّه التّوفيق

اعلم أنّ الإفتاء عظيم الخطر كبير الموقع كثير الفضل لأنّ المفتي وارث الأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليهم وقائم بفرض الكفاية لكنه معرّضٌ للخطأ ولهذا قالوا المفتي موقعٌ عن اللّه تعالى.
وروينا عن ابن المنكدر قال:
« العالم بين الله تعالى وخلقه فينظر كيف يدخل بينهم ».
وروينا عن السّلف وفضلاء الخلف من التّوقّف عن الفتيا أشياء كثيرةً، معروفةً نذكر منها أحرفًا تبرّكًا.
وروينا عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال:
« أدركت عشرين ومائةً من الأنصار من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يسئل أحدهم عن المسألة فيردّها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتّى ترجع إلى الأوّل ».
وفي رواية ما منهم من يحديث بحديث إلا ودان اخاه كفاه اياه ولا يستفتى عن شيء إلا ودان أخاه كفاه الفتيا.
وعن ابن مسعودٍ وابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهم: « من أفتى عن كل ما يسئل فهو مجنونٌ ».
وعن الشّعبيّ والحسن وأبي حصينٍ بفتح الحاء التابعين قالوا: « إنّ أحدكم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه لجمع لها أن أهل بدرٍ ».
وعن عطاء بن السّائب التّابعيّ:
« أدركت أقواما يسئل احدهم عن الشيء فيتكلّم وهو يرعد ».
وعن ابن عبّاسٍ ومحمّد بن عجلان:
« إذا أغفل العالم لا أدري أصيبت مقاتله ».
وعن سفيان بن عيينة وسحنونٍ: « أجسر النّاس على الفتيا أقلّهم علمًا ».
وعن الشّافعيّ وقد سئل عن مسألةٍ فلم يجب فقيل له فقال حتّى أدري أنّ الفضل في السّكوت أو في الجواب.
وعن الأثرم سمعت أحمد بن حنبلٍ يكثر أن يقول: لا أدري وذلك فيما عرف الأقاويل فيه.
وعن الهيثم بن جميلٍ شهدت مالكًا سئل عن ثمانٍ وأربعين مسألةً فقال في ثنتين وثلاثين منها لا أدري.
وعن مالكٍ أيضًا انه ربما كان يسئل عن خمسين مسألةً فلا يجيب في واحدةٍ منها وكان يقول من أجاب في مسألةٍ فينبغي قبل الجواب أن يعرض نفسه على الجنّة والنّار وكيف خلاصه ثمّ يجيب.
وسئل عن مسألةٍ فقال: لا أدري فقيل هي مسألةٌ خفيفةٌ سهلةٌ فغضب وقال ليس في العلم شيء خفيفٌ.

وقال الشّافعيّ ما رأيت أحدًا جمع اللّه تعالى فيه من آلة الفتيا ما جمع في ابن عيينة أسكت منه عن الفتيا.
وقال أبو حنيفة: لولا الفرق من اللّه تعالى أن يضيع العلم ما أفتيت يكون لهم المهنأ وعليّ الوزر وأقوالهم في هذا كثيرةٌ معروفةٌ.
قال الصّيمريّ والخطيب قلّ من حرص على الفتيا وسابق إليها وثابر عليها الاقل توفيقه واضطرب في أموره وإن كان كارهًا لذلك غير موثر له ما وجد عنه مندوحةً وأحال الأمر فيه على غيره كانت المعونة له من اللّه أكثر والصّلاح في جوابه أغلب واستدلّا بقوله صلّى اللّه عليه وسلّم في الحديث الصّحيح:
« لا تسأل الإمارة فإنّك إن أعطيتها عن مسألةٍ وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة اعنت عليها ».
فصلٌقال الخطيب ينبغي للإمام أن يتصفّح أحوال المفتين فمن صلح للفتيا أقرّه ومن لا يصلح منعه ونهاه ان يعود وتواعده بالعقوبة إن عاد وطريق الإمام إلى معرفة من يصلح للفتوى أن يسأل علماء وقته ويعتمد أخبار الموثوق بهم.

ثمّ روى بإسناده عن مالكٍ رحمه اللّه قال أفتيت حتّى شهد لي سبعون أنّي أهلٌ لذلك.
وفي روايةٍ ما أفتيت حتّى سألت من هو أعلم منّي هل يراني موضعًا لذلك قال مالكٌ ولا ينبغي لرجلٍ أن يرى نفسه اهلا لشيء حتّى يسأل من هو أعلم منه فصلّ قالوا وينبغي أن يكون المفتي ظاهر الورع مشورا بالدّيانة الظّاهرة والصّيانة الباهرة وكان مالكٌ رحمه اللّه يعمل بما لا يلزمه النّاس ويقول لا يكون عالمًا حتّى يعمل في خاصّة نفسه بما لا يلزمه النا س مما لو تركه لم يأتم وكان يحكي نحوه عن شيخه ربيعة فصلٌ شرط المفتى كونه مكلفا مسلما ثقة مأمونا متنزها عن أسباب الفسق وخوارم المرؤة فقيه النّفس سليم الذّهن رصين الفكر صحيح التّصرّف والاستنباط متيقّظًا سواءٌ فيه الحرّ والعبد والمرأة والأعمى والأخرس إذا كتب أو فهمت اشارته: قال الشيخ أبو عمر وبن الصّلاح وينبغي أن يكون كالرّاوي في أنّه لا يؤثّر فيه قرابةٌ وعداوةٌ وجرّ نفعٍ ودفع ضرٍّ لأنّ المفتي في حكم مخبرٍ عن الشّرع بما لا اختصاص له بشخصٍ فكان كالرّاوي لا كالشّاهد وفتواه لا يرتبط بها إلزامٌ بخلاف حكم القاضي.
قال وذكر
صاحب الحاوي أنّ المفتي إذا نابذ في فتواه شخصًا معيّنًا صار خصمًا حكمًا معاندًا فتردّ فتواه على من عاداه كما تردّ شهادته عليه.
واتّفقوا على أنّ الفاسق لا تصحّ فتواه ونقل الخطيب فيه إجماع المسلمين.
ويجب عليه إذا وقعت له واقعةٌ أن يعمل باجتهاد نفسه.
وأمّا المستور وهو الّذي ظاهره العدالة ولم تختبر عدالته باطنًا ففيه وجهان أصحّهما جواز فتواه لأنّ العدالة الباطنة يعمر معرفتها على غير القضاة.
والثّاني لا يجوز كالشّهادة والخلاف كالخلاف في صحّة النّكاح بحضور المستورين.
قال الصّيمريّ وتصحّ فتاوى أهل الأهواء والخوارج ومن لا نكفّره ببدعته ولا نفسّقه ونقل الخطيب هذا ثم قال وأما الشراة والرّافضة الّذين يسبّون السّلف الصّالح ففتاويهم مردودةٌ وأقوالهم ساقطةٌ.
والقاضي كغيره في جواز الفتيا بلا كراهةٍ.

هذا هو الصّحيح المشهور من مذهبنا.
قال الشّيخ ورأيت في بعض تعاليق الشّيخ أبي حامدٍ أنّ له الفتوى في العبادات وما لا يتعلّق بالقضاء.
وفي القضاء وجهان لأصحابنا أحدهما الجواز لأنّه أهلٌ والثّاني لا لأنّه موضع تهمةٍ.
وقال ابن المنذر تكره الفتوى في مسائل الأحكام الشّرعيّة.
وقال شريح أنا أقضي ولا أفتي
فصل قال أبو عمر والمفتون قسمان
مستقلٌّ وغيره فالمستقلّ شرطه مع ما ذكرنا أن يكون قيّمًا بمعرفة أدلّة الأحكام الشّرعيّة من الكتاب والسّنّة والإجماع والقياس وما التحق بها على التفصيل وقد فصّلت في كتب الفقه فتيسّرت وللّه الحمد: وأن يكون عالمًا بما يشترط في الأدلّة ووجوه دلالتها وبكيفيّة اقتباس الأحكام منها وهذا يستفاد من أصول الفقه.
عارفًا من علوم القرآن والحديث والنّاسخ والمنسوخ والنّحو واللّغة والتّصريف واختلاف العلماء واتّفاقهم بالقدر الّذي يتمكّن معه من الوفاء بشروط الأدلّة والاقتباس منها، ذا دربةٍ وارتياضٍ في استعمال ذلك.
عالمًا بالفقه ضابطًا لأمّهات مسائله وتفاريعه فمن جمع هذه الأوصاف فهو المفتي المطلق المستقلّ الّذي يتأدّى به فرض الكفاية

وهو المجتهد المطلق المستقلّ لأنّه يستقلّ بالأدلّة بغير تقليدٍ وتقيّدٍ بمذهب أحدٍ.
قال أبو عمرٍو وما شرطناه من حفظه لمسائل الفقه لم يشترط في كثيرٍ من الكتب المشهورة لكونه ليس شرطًا لمنصب الاجتهاد لأنّ الفقه ثمرته فيتأخّر عنه وشرط الشيء لا يتأخر عنه.
وشرطه الاستاذ أبو إسحق الاسفراينى وصاحبه أبو منصورٍ البغداديّ وغيرهما.
واشتراطه في المفتي الّذي يتأدّى به فرض الكفاية هو الصّحيح وإن لم يكن كذلك في المجتهد المستقلّ.
ثمّ لا يشترط أن يكون جميع الأحكام على ذهنه بل يكفيه كونه حافظًا المعظم متمكّنًا من إدراك الباقي على قربٍ.
وهل يشترط أن يعرف من الحساب ما يصحّح به المسائل الحسابيّة الفقهيّة حكى أبو اسحق وأبو منصورٍ فيه خلافًا لأصحابنا والأصحّ اشتراطه.
ثم
إنّما نشترط اجتماع العلوم المذكورة في مفتٍ مطلقٍ في جميع أبواب الشّرع، فأمّا مفتٍ في باب خاص كالمناسك والفرائض يكفيه معرفة ذلك الباب كذا قطع به الغزاليّ وصاحبه ابن برهانٍ بفتح الباء وغيرهما.
ومنهم من منعه مطلقًا وأجازه ابن الصّبّاغ في الفرائض خاصّةً والأصحّ جوازه مطلقًا
(القسم الثّاني) المفتي الّذي ليس بمستقلٍّ ومن دهرٍ طويلٍ عدم المفتي المستقلّ وصارت الفتوى إلى المنتسبين إلى أئمّة المذاهب المتبوعة.
وللمفتي المنتسب أربعة أحوال
أحدها أن لا يكون مقلّدًا لإمامه لا في المذهب ولا في دليله لا تصافه بصفة المستقلّ، وإنّما ينسب إليه لسلوكه طريقه في الاجتهاد.
وادعى الاستاذ أبو إسحق هذه الصّفة لأصحابنا فحكى عن أصحاب مالكٍ رحمه الله واحمد وداود واكثر الخفية انهم صارو إلى مذاهب أئمّتهم تقليدًا لهم، ثمّ قال والصّحيح الّذي ذهب إليه المحقّقون ما ذهب إليه أصحابنا وهو أنّهم صاروا إلى مذهب الشّافعيّ لا تقليدًا له بل لمّا وجدوا طرقه في الاجتهاد والقياس أسدّ الطّرق ولم يكن لهم بدٌّ من الاجتهاد سلكوا طريقه فطلبوا معرفة الأحكام بطريق الشّافعيّ.
وذكر أبو عليٍّ السّنجيّ بكسر السّين المهملة نحو هذا فقال اتّبعنا الشّافعيّ دون غيره لأنّا
وجدنا قوله أرجح الأقوال وأعدلها لا أنّا قلّدناه (قلت) هذا الّذي ذكراه موافقٌ لما أمرهم به الشّافعيّ، ثمّ المزنيّ في أوّل مختصره وغيره بقوله مع إعلاميه نهيه عن تقليده وتقليد غيره.
قال أبو عمرٍو دعوى انتفاء التّقليد عنهم مطلقًا لا يستقيم ولا يلائم المعلوم من حالهم أو حال أكثرهم.
وحكى بعض أصحاب الأصول منّا أنّه لم يوجد بعد عصر الشّافعيّ مجتهدٌ مستقلٌّ ثمّ فتوى المفتي في هذه الحالة كفتوى المستقلّ في العمل بها والاعتداد بها في الإجماع والخلاف.
(الحالة الثّانية) أن يكون مجتهدًا مقيّدًا في مذهب إمامه مستقلًّا بتقرير أصوله بالدّليل غير أنّه لا يتجاوز في أدلّته أصول إمامه وقواعده.
وشرطه كونه عالمًا بالفقه وأصوله وأدلّة الأحكام تفصيلًا بصيرًا بمسالك الأقيسة والمعاني تامّ الارتياض في التخريخ والاستنباط قيّمًا بإلحاق ما ليس منصوصًا عليه لإمامه بأصوله.
ولا يعرّى عن شوب تقليدٍ له لا خلافه ببعض أدوات المستقلّ بأن يخلّ بالحديث أو العربيّة وكثيرًا ما أخلّ بهما المقيّد ثمّ يتّخذ نصوص إمامه أصولًا يستنبط منها كفعل المستقلّ بنصوص الشّرع.
وربّما اكتفى في الحكم بدليل إمامه ولا يبحث عن معارضٍ كفعل المستقلّ في النّصوص.
وهذه صفة أصحابنا أصحاب الوجوه وعليها كان أئمّة أصحابنا أو أكثرهم.
والعامل بفتوى هذا مقلّدٌ لإمامه لا له ثمّ ظاهر كلام الأصحاب أنّ من هذا حاله لا يتأدّى به فرض الكفاية.
قال أبو عمرٍو ويظهر تأدّي الفرض به في الفتوى وان لم يتأدّ في إحياء العلوم الّتي منها استمداد الفتوى لأنّه قام مقام إمامه المستقلّ تفريعًا على الصّحيح وهو جواز تقليد الميّت ثمّ قد يستقلّ المقيّد في مسألةٍ أو بابٍ خاصٍّ كما تقدّم.
وله أن يفتي فيما لا نصّ فيه لإمامه بما يخرّجه على أصوله هذا هو الصّحيح الّذي عليه العمل وإليه مفزع المفتين من مددٍ طويلةٍ ثمّ إذا أفتى بتخريجه فالمستفتي مقلّدٌ لإمامه لا له هكذا قطع به إمام الحرمين في كتابه الغياثيّ وما أكثر فوائده.

قال الشّيخ أبو عمرٍو وينبغي أن يخرّج هذا على خلافٍ حكاه الشّيخ أبو إسحاق الشّيرازيّ وغيره أنّ ما يخرّجه أصحابنا هل يجوز نسبته إلى الشّافعيّ والأصحّ أنّه لا ينسب إليه.
ثمّ تارةً يخرّج من نصٍّ معيّنٍ لامامه
وتارةً لا يجده فيخرّج على أصوله بأن يجد دليلًا على شرط ما يحتجّ به إمامه فيفتي بموجبه فإن نصّ إمامه على شيء ونصّ في مسألةٍ تشبهها على خلافه فخرّج من أحدهما إلى الآخر سمّي قولًا مخرّجًا وشرط هذا التّخريج أن لا يجد بين نصيه فرقًا فإن وجده وجب تقريرهما على ظاهرهما.
ويختلفون كثيرًا في القول بالتّخريج في مثل ذلك لاختلافهم في إمكان الفرق (قلت) وأكثر ذلك يمكن فيه الفرق وقد ذكروه
(الحالة الثّالثة) أن لا يبلغ رتبة أصحاب الوجوه لكنّه فقيه النّفس حافظٌ مذهب إمامه عارفٌ بأدلّته قائمٌ بتقريرها يصوّر ويحرّر ويقرّر ويمهّد ويزيّف ويرجّح لكنّه قصر عن أولئك لقصوره عنهم في حفظ المذهب، أو الارتياض في الاستنباط أو معرفة الأصول ونحوها من أدوانهم.
وهذه صفة كثيرٍ من المتأخّرين إلى أواخر المائة الرّابعة المصنّفين الّذين رتّبوا المذهب وحرّروه وصنّفوا فيه تصانيف فيها معظم اشتغال النّاس اليوم، ولم يلحقوا الّذين قبلهم في التّخريج، وأمّا فتاويهم فكانوا يتبسّطون فيها تبسّط أولئك أو قريبًا منه ويقيسون غير المنقول عليه غير مقتصرين على القياس الجليّ، ومنهم من جمعت فتاويه ولا تبلغ في التحاقها بالمذهب مبلغ فتاوى أصحاب الوجوه.
(الحالة الرّابعة) أن يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه في الواضحات والمشكلات ولكن عنده ضعفٌ في تقرير أدلّته وتحرير أقيسته فهذا يعتمد نقله وفتواه به فيما يحكيه من مسطورات مذهبه من نصوص إمامه وتفريع المجتهدين في مذهبه، وما لا يجده منقولًا إن وجد في المنقول معناه بحيث يدرك بغير كبير فكرٍ أنّه لا فرق بينهما جاز إلحاقه به والفتوى به.
وكذا ما يعلم اندراجه تحت ضابطٍ ممهّدٍ في المذهب وما ليس كذلك يجب إمساكه عن الفتوى فيه، ومثل هذا يقع نادرًا في حقّ المذكور إذ يبعد كما قال إمام الحرمين أن تقع مسألةٌ لم ينصّ عليها في المذهب، ولا هي في معنى المنصوص ولا مندرجةٌ تحت ضابطٍ.
وشرطه كونه فقيه النّفس ذا حظٍّ وافرٍ من الفقه.
قال أبو عمرٍو وأن يكتفي في حفظ المذهب في هذه الحالة والّتي قبلها بكون المعظم على ذهنه ويتمكّن لدربته من الوقوف على الباقي على قرب فصلٌ هذه أصناف المفتين وهي خمسةٌ وكلّ صنفٍ منها يشترط فيه حفظ المذهب وفقه النّفس فمن تصدّى للفتيا وليس بهذه الصّفة فقد باء بأمرٍ عظيمٍ.
ولقد قطع إمام الحرمين وغيره بأنّ الأصوليّ
الماهر المتصرّف في الفقه لا يحلّ له الفتوى بمجرّد ذلك.
ولو وقعت له واقعة لزمه ان يسئل عنها ويلتحق به المتصرّف النّظّار البحّاث من أئمّة الخلاف وفحول المناظرين لأنّه ليس أهلًا لإدراك حكم الواقعة استقلالًا لقصور آلته ولا من مذهب إمامٍ لعدم حفظه له على الوجه المعتبر.
فإن قيل من حفظ كتابًا أو أكثر في المذهب وهو قاصر يتّصف بصفة أحدٍ ممّن سبق ولم يجد العامّيّ في بلده
غيره هل له الرّجوع إلى قوله.
فالجواب ان كان في غيره بلده مفتٍ يجد السّبيل إليه وجب التّوصّل إليه بحسب امكانه فان تعذر ذكر مسألة للقاصر فإن وجدها بعينها في كتابٍ موثوقٍ بصحّته وهو ممّن يقبل خبره نقل له حكمها بنصّه وكان العامّيّ فيها مقلّدًا صاحب المذهب.
قال أبو عمرٍو وهذا وجدته في ضمن كلام بعضهم والدّليل يعضّده.
وإن لم يجدها مسطورةً بعينها لم يقسها على مسطورٍ عنده وإن اعتقده من قياسٍ لا فارقٍ فإنّه قد يتوهّم ذلك في غير موضعه.
فإن قيل هل لمقلّدٍ أن يفتي بما هو مقلّدٌ فيه قلنا قطع أبو عبد اللّه الحليميّ وأبو محمّدٍ الجوينيّ وأبو المحاسن الرّويانيّ وغيرهم بتحريمه.
وقال القفّال المروزيّ يجوز.
قال أبو عمر وقول من منعه معناه لا يذكره على صورة من يقوله من عند نفسه بل يضيفه إلى إمامه الّذي قلّده فعلى هذا من عدّدناه من المفتين المقلّدين ليسوا مفتين حقيقةً لكن لمّا قاموا مقامهم وأدّوا عنهم عدّوا معهم.
وسبيلهم أن يقولوا مثلًا مذهب الشّافعيّ كذا أو نحو هذا ومن ترك منهم الإضافة فهو اكتفاءٌ بالمعلوم من الحال عن التّصريح به ولا بأس بذلك.
وذكر صاحب الحاوي في العامّيّ إذا عرف حكم حادثةٍ بناءً على دليلها ثلاثة أوجهٍ
أحدها يجوز أن يفتي به ويجوز تقليده لأنّه وصل إلى علمه كوصول العالم.
والثّاني يجوز إن كان دليلها كتابًا أو سنّةً ولا يجوز إن كان غيرهما.
والثّالث لا يجوز مطلقًا وهو الأصحّ واللّه أعلم

فصلٌ في أحكام المفتين
فيه مسائل إحداها الإفتاء فرض كفايةٍ فإذا استفتي وليس في النّاحية غيره تعيّن عليه الجواب فإن كان فيها غيره وحضرا فالجواب في حقّهما فرض كفايةٍ وإن لم يحضر غيره فوجهان أصحّهما لا يتعيّن لما سبق عن ابن أبي ليلى والثّاني يتعيّن وهما كالوجهين في مثله في الشّهادة ولو سأل عامّيٌّ عمّا لم يقع لم يجب جوابه.
(الثانية) إذا أفتى بشيء ثمّ رجع عنه فإن علم المستفتي برجوعه ولم يكن عمل بالأوّل لم يجز العمل به.
وكذا إن نكح بفتواه واستمرّ على نكاحٍ بفتواه ثمّ رجع لزمه مفارقتها كما لو تغيّر اجتهاد من قلّده في القبلة في أثناء صلاته.
وإن كان عمل قبل رجوعه فإن خالف دليلًا قاطعًا لزم المستفتي نقض عمله ذلك.
وإن كان في محلّ اجتهادٍ لم يلزمه نقضه لأنّ الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، وهذا التّفصيل ذكره الصّيمريّ والخطيب وأبو عمرٍو واتّفقوا عليه ولا أعلم خلافه.
وما ذكره الغزاليّ والرّازيّ ليس فيه تصريحٌ بخلافه.
قال أبو عمرٍو وإذا كان يفتي على مذهب إمامٍ فرجع لكونه بان له قطعًا مخالفة نصّ مذهب إمامه وجب نقضه وإن كان في محلّ الاجتهاد لأنّ نصّ مذهب إمامه في حقّه كنصّ الشّارع في حقّ المجتهد المستقلّ.
أمّا إذا لم يعلم المستفتي برجوع المفتي فحال المستفتي في علمه كما قبل الرّجوع ويلزم المفتي إعلامه قبل العمل وكذا بعده حيث يجب النقض.
إذا عمل بفتواه في إتلافٍ فبان خطؤه وأنّه خالف القاطع فعن الأستاذ أبي إسحاق أنّه يضمن إن كان أهلًا للفتوى ولا يضمن إن لم يكن أهلًا لأنّ المستفتي قصّر كذا حكاه الشيخ
ابو عمر ووسكت عليه وهو مشكلٌ وينبغي أن يخرّج الضّمان على قولي الغرور والمعروفين في بابي الغصب والنّكاح وغيرهما أو يقطع بعدم الضّمان إذ ليس في الفتوى إلزامٌ ولا إلجاء.
(الثّالثة) يحرم التّساهل في الفتوى ومن عرف به حرم استفتاؤه.
فمن التّساهل أن لا يتثبّت ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقّها من النّظر والفكر فإن تقدّمت معرفته بالمسئول عنه فلا بأس بالمبادرة وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من مبادرةٍ.
ومن التّساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة على تتبّع الحيل المحرّمة أو المكروهة والتّمسّك بالشّبه طلبًا للتّرخيص لمن يروم نفعه أو التّغليظ على من يريد ضرّه وأمّا من صحّ قصده فاحتسب في طلب حيلةٍ لا شبهة فيها لتخليصٍ من ورطة يمينٍ ونحوها فذلك حسنٌ جميلٌ.
وعليه يحمل ما جاء عن بعض السّلف من نحو هذا كقول سفيان إنّما العلم عندنا الرّخصة من ثقةٍ فأمّا التّشديد فيحسنه كل احد.
ومن الحبل الّتي فيها شبهةٌ ويذمّ فاعلها الحيلة السّريجيّة في سد باب الطلاق.

(الرّابعة) ينبغي أن لا يفتي في حال تغير خلقه وتشعل قلبه ويمنعه التّأمّل كغضبٍ وجوعٍ وعطشٍ وحزنٍ وفرحٍ غالبٍ ونعاسٍ أو مللٍ أو حرٍّ مزعجٍ: أو مرضٍ مؤلمٍ أو مدافعة حدثٍ وكلّ حالٍ يشتغل فيه قلبه ويخرج عن حدّ الاعتدال فإن أفتى في بعض هذه الأحوال وهو يرى أنّه لم يخرج عن الصواب جاز وان كان مخاطرا بها.
(الخامسة) المختار للمتصدّي للفتوى أن يتبرّع بذلك ويجوز أن يأخذ عليه رزقًا من بيت المال إلّا أن يتعيّن عليه وله كفايةٌ فيحرم على الصّحيح.
ثمّ إن كان له رزقٌ لم يجز أخذ أجرةٍ أصلًا وإن لم يكن له زرق فليس له أخذ أجرةٍ من أعيان من يفتيه على الأصحّ كالحاكم.
واحتال الشّيخ أبو حاتمٍ القزوينيّ من أصحابنا فقال له أن يقول يلزمني أن أفتيك قولًا وأمّا كتابة الخطّ فلا فإذا استأجره على كتابة الخطّ جاز.
قال الصّيمريّ والخطيب لو اتّفق أهل البلد فجعلوا له رزقًا من أموالهم على أن يتفرّغ لفتاويهم جاز.
أمّا الهديّة فقال أبو مظفّرٍ السّمعانيّ له قبولها بخلاف الحاكم فانه يلزم حكمه.
قال أبو عمر وينبغي أن يحرم قبولها إن كانت رشوةً على أن يفتيه بما يريد كما في الحاكم وسائر ما لا يقابل بعوضٍ.
قال الخطيب وعلى الإمام أن يفرض لمن نصّب نفسه لتدريس الفقه والفتوى في الأحكام ما يغنيه عن الاحتراف ويكون ذلك من البيت المال ثمّ روى بإسناده أنّ عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه أعطى كلّ رجلٍ ممّن هذه صفته مائة دينارٍ في السّنة.
(السّادسة) لا يجوز أن يفتي في الأيمان والإقرار ونحوهما ممّا يتعلّق بالألفاظ إلّا أن يكون من أهل بلد اللّافظ أو متنزّلًا منزلتهم في الخبرة بمرادهم من ألفاظهم وعرفهم فيها.
(السّابعة) لا يجوز لمن كانت فتواه نقلًا لمذهب إمامٍ إذا اعتمد الكتب أن يعتمد إلّا على كتابٍ موثوقٍ بصحّته وبأنّه مذهب ذلك الإمام فإن وثق بأنّ أصل التّصنيف بهذه الصّفة لكن لم تكن هذه النّسخة معتمدةً فليستظهر بنسخٍ منه متّفقةٍ وقد تحصل له الثّقة من نسخةٍ غير موثوقٍ بها
في بعض المسائل إذا رأى الكلام منتظمًا وهو خبيرٌ فطنٌ لا يخفى عليه لدربته موضع الإسقاط والتّغيير فإن لم يجده إلّا في نسخةٍ غير موثوقٍ بها فقال أبو عمرٍو ينظر فإن وجده موافقًا لأصول المذهب وهو أهلٌ لتخريج مثله في المذهب لو لم يجده منقولًا فله أن يفتي به فإن أراد حكايته عن قائله فلا يقل قال الشّافعيّ مثلًا كذا وليقل وجدت عن الشّافعيّ كذا أو بلغني عنه ونحو هذا.
وإن لم يكن أهلًا لتخريج مثله لم يجز له ذلك فإنّ سبيله النّقل المحض ولم يحصل ما يجوّز له ذلك وله أن يذكره لا على سبيل الفتوى مفصحًا بحاله فيقول وجدته في نسخةٍ من الكتاب الفلانيّ ونحوه (قلت) لا يجوز لمفتٍ على مذهب الشّافعيّ إذا اعتمد النّقل أن يكتفي بمصنّفٍ ومصنّفين.
ونحوهما من كتب المتقدّمين وأكثر المتأخّرين لكثرة الاختلاف بينهم في الجزم والتّرجيح لأنّ هذا المفتي المذكور إنّما ينقل مذهب الشّافعيّ ولا يحصل له وثوقٌ بأنّ ما في المصنّفين المذكورين ونحوهما هو مذهب الشّافعيّ أو الراجح منه لما فيها من الاختلاف.
وهذا ممّا لا يتشكّك فيه من له أدنى أنسٍ بالمذهب بل قد يجزم نحو عشرة من المصنفين بشيء وهو شاذٌّ بالنّسبة إلى الرّاجح في المذهب ومخالفٌ لما عليه الجمهور وربّما خالف نصّ الشّافعيّ أو نصوصًا له وسترى في هذا الشّرح إن شاء اللّه تعالى أمثلة ذلك وأرجو إن تمّ هذا الكتاب أنّه يستغنى به عن كلّ مصنّفٍ ويعلم به مذهب الشّافعيّ علمًا قطعيًّا إن شاء اللّه تعالى.
(الثّامنة) إذا أفتى في حادثةٍ ثمّ حدثت مثلها فإن ذكر الفتوى الأولى ودليلها بالنّسبة إلى أصل الشّرع إن كان مستقلًّا أو إلى مذهبه إن كان منتسبًا أفتى بذلك بلا نظرٍ وإن ذكرها ولم يذكر دليلها ولا طرأ ما يوجب رجوعه فقيل له أن يفتي بذلك والأصحّ وجوب تجديد النّظر ومثله القاضي إذا حكم بالاجتهاد ثمّ وقعت المسألة وكذا تجديد الطّلب في التّيمّم والاجتهاد في القبلة وفيهما الوجهان: قال القاضي أبو الطّيّب في تعليقه في آخر باب استقبال القبلة وكذا العامّيّ إذا وقعت له مسألةٌ فسأل عنها ثمّ وقعت له فليلزمه السّؤال ثانيًا يعني على الأصحّ قال إلّا أن تكون مسألةً يكثر وقوعها ويشقّ عليه إعادة السّؤال عنها فلا يلزمه ذلك ويكفيه السّؤال الأول للمشقة
.
(التّاسعة) ينبغي أن لا يقتصر في فتواه على قوله في المسألة خلافٌ أو قولان أو وجهان أو روايتان أو يرجع إلى رأي القاضي ونحو ذلك فهذا ليس بجوابٍ ومقصود المستفتي بيان ما يعمل به فينبغي أن يجزم له بما هو الرّاجح فإن لم يعرفه توقّف حتّى يظهر أو يترك الإفتاء كما كان جماعةٌ من كبار أصحابنا يمتنعون من الإفتاء في حنث النّاسي.
فصلٌ في آداب الفتوى
فيه مسائل إحداها يلزم المفتي أن يبيّن الجواب بيانًا يزيل الإشكال ثمّ له الاقتصار على الجواب شفاهًا فإن لم يعرف لسان المستفتي كفاه ترجمة ثقةٍ واحدٍ لأنّه خبرٌ وله الجواب كتابةً وإن كانت الكتابة على خطرٍ وكان القاضي أبو حامدٍ كثير الهرب من الفتوى في الرّقاع.
قال الصّيمريّ وليس من الأدب كون السّؤال
بخطّ المفتي فأمّا بإملائه وتهذيبه فواسعٌ وكان الشّيخ أبو إسحاق الشّيرازيّ قد يكتب السّؤال على ورقٍ له ثمّ يكتب الجواب وإذا كان في الرقعة مسائل فالا حسن ترتيب الجواب على ترتيب السّؤال ولو ترك التّرتيب فلا بأس.
ويشبه معنى قول اللّه تعالى {يوم تبيضّ وجوهٌ وتسودّ وجوهٌ فأمّا الذين اسودت} وإذا كان في المسألة تفصيلٌ لم يطلق الجواب فإنّه خطأٌ ثمّ له أن يستفصل السّائل إن حضر ويقيّد السّؤال في رقعةٍ أخرى ثمّ يجيب وهذا أولى وأسلم.
وله أن يقتصر على جواب أحد الأقسام إذا علم أنّه الواقع للسّائل ويقول هذا إذا كان الأمر كذا وله أن يفصّل الأقسام في جوابه ويذكر حكم كلّ قسمٍ لكنّ هذا كرهه أبو الحسن القابسيّ من أئمّة المالكية وغيره وقالوا هذا تعليم للناس الفجور.
وإذا لم يجد المفتي من يسأله فصل الاقسام واجتهد في بيانها واستيفائها.
(الثّانية) ليس له أن يكتب الجواب على ما علمه من صورة الواقعة إذا لم يكن في الرّقعة تعرّضٌ له بل يكتب جواب ما في الرّقعة فإن أراد جواب ما ليس فيها فليقل وإن كان الأمر كذا وكذا فجوابه كذا.
واستحبّ العلماء أن يزيد على ما في الرّقعة ما له تعلّقٌ بها ممّا يحتاج إليه السّائل لحديث هو الطهور ماؤه الحل ميتته.
(الثّالثة) إذا كان المستفتي بعيد الفهم فليرفق به ويصبر على تفهّم سؤاله وتفهيم جوابه فان ثوابه جزيل.
(الرّابعة) ليتأمّل الرّقعة تأمّلًا شافيًا وآخرها آكد فإنّ السّؤال في آخرها وقد يتقيّد الجميع بكلمةٍ
في آخرها ويغفل عنها.
قال الصّيمريّ قال بعض العلماء ينبغي أن يكون توقّفه في المسألة السّهلة كالصّعبة ليعتاده وكان محمّد بن الحسن يفعله.
وإذا وجد مشتبهةً سأل المستفتي عنها ونقّطها وشكّلها.
وكذا إن وجد لحنًا فاحشًا أو خطأً يحيل المعنى أصلحه.
وإن رأى بياضًا في أثناء سطرٍ أو آخره خطّ عليه أو شغله لأنّه ربّما قصد المفتى بالإيذاء فكتب في البياض بعد فتواه ما يفسدها كما بلي به القاضى أبو حامد المروروذى.
(الخامسة) يستحبّ أن يقرأها على حاضريه ممّن هو أهلٌ لذلك ويشاورهم ويباحثهم برفقٍ وإنصافٍ وإن كانوا دونه وتلامذته للاقتداء بالسّلف ورجاء ظهور ما قد يخفى عليه إلّا أن يكون فيها ما يقبح إبداؤه أو يؤثر السائل كتمانه أو في اشاعته مفسدة.
(السّادسة) ليكتب الجواب بخطٍّ واضحٍ وسطٍ لا دقيقٍ خافٍ ولا غليظٍ جافٍ ويتوسّط في سطورها بين توسيعها وتضييقها وتكون عبارةً واضحةً صحيحةً تفهمها العامّة ولا يزدريها الخاصّة.
واستحبّ بعضهم أن لا تختلف أقلامه وخطّه خوفًا من التزويز ولئلا يشتبه خطه: قال الصيمري وقلما وجده التّزوير على المفتي لأنّ اللّه تعالى حرس أمر الدين.
وإذا كتب الجواب أعاد نطره فيه خوفًا من اختلالٍ وقع فيه أو اخلال ببعض المسؤل عنه.
(السّابعة) إذا كان هو المبتدي فالعادة قديمًا وحديثًا أن يكتب في النّاحية اليسرى من الورقة.
قال الصيمري وغيره وأين كتب من وسط الرّقعة أو حاشيتها فلا عتب عليه.
ولا يكتب
فوق البسملة بحالٍ.
وينبغي أن يدعو إذا أراد الإفتاء.
وجاء عن مكحولٍ ومالكٍ رحمهما الله انهما كانا لا يفتيان حتي يقولا لاحول ولا قوّة إلّا باللّه.
ويستحبّ الاستعاذة من الشّيطان ويسمّي اللّه تعالى ويحمده ويصلّي على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وليقل {ربّ اشرح لى صدري} الآية ونحو ذلك.
قال الصّيمريّ وعادة كثيرين أن يبدؤا فتاويهم الجواب وباللّه التّوفيق وحذف آخرون ذلك.
قال ولو عمل ذلك فيما طال من المسائل واشتمل على فصولٍ وحذف في غيره كان وجهًا (قلت) المختار قول ذلك مطلقًا وأحسنه الابتداء بقول الحمد للّه لحديث
« كلّ أمرٍ ذي بالٍ لا يبدأ بالحمد للّه »
فهو أجذم وينبغي أن يقوله بلسانه ويكتبه.
قال الصّيمريّ ولا يدع ختم جوابه بقوله وباللّه التّوفيق أو واللّه أعلم أو واللّه الموفّق.

قال ولا يقبح قوله الجواب عندنا أو الّذي عندنا أو الّذي نقول به أو نذهب إليه أو نراه كذا لأنّه من أهل ذلك.
قال وإذا أغفل السّائل الدّعاء للمفتي أو الصّلاة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في آخر الفتوى ألحق المفتي ذلك بخطّه فإنّ العادة جاريةٌ به (قلت) وإذا ختم الجواب بقوله واللّه أعلم.
ونحوه ممّا سبق فليكتب بعده كتبه فلانٌ أو فلان بن فلانٍ الفلانيّ فينتسب إلى ما يعرف به من قبيلةٍ أو بلدةٍ أو صفةٍ ثمّ يقول الشّافعيّ أو الحنفيّ مثلًا فإن كان مشهورًا بالاسم أو غيره فلا بأس بالاقتصار عليه.
قال الصيمر ى ورأى بعضهم أن يكتب المفتي بالمداد دون الحبر خوفًا من الحكّ قال والمستحبّ الحبر لا غير (قلت) لا يختصّ واحدٌ منهما هنا بالاستحباب بخلاف كتب العلم فالمستحبّ فيها الحبر لأنّها تراد للبقاء والحبر أبقى.
قال الصّيمريّ وينبغي إذا تعلّقت الفتوى بالسّلطان أن يدعو له فيقول وعلى وليّ الأمر أو السّلطان أصلحه اللّه أو سدّده اللّه أو قوّى اللّه عزمه أو أصلح اللّه به أو شدّ اللّه أزره ولا يقل أطال اللّه بقاءه فليست من ألفاظ السّلف (قلت)
نقل أبو جعفرٍ النّحّاس وغيره اتّفاق العلماء على كراهة قول أطال الله بقاك وقال بعضهم هي تحيّة الزّنادقة.
وفي صحيح مسلمٍ في حديث أمّ حبيبة رضي اللّه عنها إشارةٌ إلى أنّ الأولى ترك نحو هذا من الدعاء بطول البقاء وأشباهه.
(الثّامنة) ليختصر جوابه ويكون بحيث تفهمه العامّة قال صاحب الحاوي يقول يجوز أو لا يجوز أو حقٌّ أو باطلٌ وحكى شيخه الصيمري عن شيخه القاضي أبي حامدٍ أنّه كان يختصر غاية ما يمكنه واستفتي في مسألةٍ آخرها يجوز أم لا فكتب لا وباللّه التّوفيق.
(التّاسعة) قال الصّيمريّ والخطيب إذا سئل عمّن قال أنا أصدق من محمّد بن عبد اللّه أو الصّلاة لعبٌ وشبه ذلك فلا يبادر بقوله هذا حلال الدّم أو عليه القتل بل يقول إن صحّ هذا بإقراره أو بالبيّنة استتابه السّلطان فإن تاب قبلت توبته وإن لم يتب فعل به كذا وكذا وبالغ في ذلك وأشبعه.
قال وإن سئل عمن تكلم بشيء يحتمل وجوهًا يكفّر ببعضها دون بعضٍ قال يسئل هذا القائل فإن قال أردت كذا فالجواب كذا.
وإن سئل عمّن قتل أو قلع عينًا أو غيرها احتاط فذكر الشّروط الّتي يجب بجميعها القصاص.
وإن سئل عمّن فعل ما يوجب التّعزير ذكر
ما يعزّر به فيقول يضر به السّلطان كذا وكذا ولا يزاد على كذا هذا كلام الصّيمريّ والخطيب وغيرهما.
قال أبو عمرٍو ولو كتب عليه القصاص أو التّعزير بشرطه فليس ذلك بإطلاقٍ بل تقييده
بشرطه يحمل الوالي على السّؤال عن شرطه والبيان أولى.
(العاشرة) ينبغي إذا ضاق موضع الجواب أن لا يكتبه في رقعةٍ أخرى خوفًا من الحيلة ولهذا قالوا يصل جوابه بآخر سطرٍ ولا يدع فرجةً لئلّا يزيد السّائل شيئًا يفسدها.
وإذا كان موضع الجواب ورقةً ملصقةً كتب على الإلصاق ولو ضاق باطن الرّقعة وكتب الجواب في ظهرها كتبه في أعلاها إلّا أن يبتدئ من أسفلها متّصلًا بالاستفتاء فيضيق الموضع فيتمّه في أسفل ظهرها ليتّصل جوابه.
واختار بعضهم أن يكتب على ظهرها لاعلى حاشيتها والمختار عند الصّيمريّ وغيره أنّ حاشيتها أولى من ظهرها: قال الصّيمريّ وغيره والأمر في ذلك قريب.
(الحادية عشرة) إذا ظهر للمفتي أنّ الجواب خلاف غرض المستفتى وانه لا يرضى بكتابته في ورقته فليقتصر على مشافهته بالجواب وليحذر أن يميل في فتواه مع المستفتي أو خصمه ووجوه الميل كثيرةٌ لا تخفى.
ومنها أن يكتب في جوابه ما هو له ويترك ما عليه وليس له أن يبدأ في مسائل الدّعوى والبيّنات بوجوه المخالص منها وإذا سأله أحدهم وقال بأي شيء تندفع دعوى كذا وكذا أو بيّنة كذا وكذا لم يجبه كيلا يتوصّل بذلك إلى إبطال حقٍّ وله أن يسأله عن حاله فيما ادّعى عليه فإذا شرحه له عرّفه بما فيه من دافعٍ وغير دافعٍ.
قال الصّيمريّ وينبغي للمفتي إذا رأى للسّائل طريقا يرشده إليه أن ينبّهه عليه يعني ما لم يضرّ غيره ضررا بغير حق قال كمن حلف لا ينفق على زوجته شهرًا يقول يعطيها من صداقها أو قرضا أو بيعا ثم يبريها وكما حكي أنّ رجلًا قال لأبي حنيفة رحمه اللّه حلفت أنّي أطأ امرأتي في نهار رمضان ولا أكفّر ولا أعصي فقال سافر بها.
(الثّانية عشرة) قال الصّيمريّ إذا رأى المفتي المصلحة أن يفتى العامي بما فيه تغليظٌ وهو ممّا لا يعتقد ظاهره وله فيه تأويلٌ جاز ذلك زجرًا له كما روي عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما أنه سئل عن توبة القاتل فقال لا توبة له وسأله آخر فقال له توبةٌ ثمّ قال:
أمّا الأوّل فرأيت في عينه إرادة القتل فمنعته وأمّا الثّاني فجاء مستكينا قد قتل فلم أفطه.
قال الصيمري وكذ إن سأله رجلٌ فقال إن قتلت عبدي هل عليّ
قصاصٌ فواسعٌ أن يقول إن قتلت عبدك قتلناك فقد روي عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم من قتل عبده قتلناه ولان القتل له معان قال ولو سئل عن سبّ الصّحابيّ هل يوجب القتل فواسع أن يقول روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: من سبّ أصحابي فاقتلوه فيفعل كلّ هذا زجرًا للعامّة ومن قلّ دينه ومرؤته.
(الثّالثة عشرة) يجب على المفتي عند اجتماع الرّقاع بحضرته أن يقدّم الأسبق فالأسبق كما يفعله القاضي في الخصوم وهذا فيما يجب فيه الإفتاء فإن تساووا أو جهل السّابق قدّم بالقرعة والصّحيح أنّه يجوز تقديم المرأة والمسافر الّذي شدّ رحله وفي تأخيره ضررٌ بتخلّفه عن رفقته ونحو ذلك على من سبقهما إلّا إذا كثر المسافرون والنّساء بحيث يلحق غيرهم بتقديمهم ضررٌ كثيرٌ فيعود بالتّقديم بالسبق
أو القرعة ثمّ لا يقدّم أحدًا إلّا في فتيا واحدة.
(الرّابعة عشرة) قال الصّيمريّ وأبو عمرٍو إذا سئل عن ميراثٍ فليست العادة أن يشترط في الورثة عدم الرّقّ والكفر والقتل وغيرها من مواضع الميراث بل المطلق محمولٌ على ذلك بخلاف ما إذا اطلق الاخوة والاخوات والاعمام وبينهم فلابدّ أن يقول في الجواب من أبٍ وأمٍّ، أو من أبٍ، أو من أمٍّ.
وإذا سئل عن مسألة عولٍ كالمنبريّة وهي زوجةٌ وأبوان وبنتان فلا يقل للزّوجة الثّمن ولا التّسع لأنّه لم يطلقه أحدٌ من السلف بل يقل لها الثّمن عائلًا، وهي ثلاثة أسهمٍ من سبعةٍ وعشرين أو لها ثلاثة أسهمٍ من سبعةٍ وعشرين أو يقول ما قاله أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه صار ثمنها تسعًا.
وإذا
كان في المذكورين في رقعة الاستفتاء من لا يرث أفصح بسقوطه فقال وسقط فلانٌ.
وإن كان سقوطه في حالٍ دون حالٍ قال وسقط فلانٌ في هذه الصّورة أو نحو ذلك لئلّا يتوهّم أنّه لا يرث بحالٍ.
وإذا سئل عن إخوةٍ وأخواتٍ أو بنين وبناتٍ فلا ينبغي أن يقول للذّكر مثل حظّ الأنثيين فإنّ ذلك قد يشكل على العامّيّ بل يقول يقتسمون التّركة على كذا وكذا سهمًا لكلّ ذكرٍ كذا وكذا سهمًا ولكلّ أنثى كذا وكذا سهمًا قال الصّيمريّ.
قال الشّيخ ونحن نجد في تعمّد العدول عنه حزازةً في النّفس لكونه لفظ القرآن العزيز وانه قل ما يخفى معناه على أحدٍ وينبغي أن يكون في جواب مسائل المناسخات شديد التّحرّز والتّحفّظ وليقل فيها لفلان كذا كذا ميراثه من ثمّ من أخيه.
قال الصّيمريّ وكان بعضهم يختار أن يقول لفلانٍ كذا وكذا سهمًا ميراثه عن أبيه كذا وعن أمّه كذا وعن أخيه كذا قال وكلّ هذا قريبٌ.
قال الصّيمريّ وغيره وحسنٌ أن يقول تقسم التّركة بعد إخراج ما يجب تقديمه من دينٍ أو وصية ان كانا.
(الخامسة عشرة) إذا رأى المفتي رقعة الاستفتاء وفيها خطّ غيره ممن هو أهل للفتوى وخطّه فيها موافقٌ لما عنده قال الخطيب وغيره كتب تحت خطّه هذا جوابٌ صحيحٌ وبه أقول أو كتب جوابي مثل هذا وإن شاء ذكر الحكم بعبارةٍ ألخص من عبارة الّذي كتب.
وأمّا إذا رأى فيها خطّ من ليس أهلًا للفتوى فقال الصّيمريّ لا يفتى معه لان في ذلك تقريرا منه لمنكربل يضرب على ذلك بأمر صاحب الرّقعة ولو لم يستأذنه في هذا القدر جاز لكن ليس له احتباس الرّقعة إلّا بإذن صاحبها قال وله انتهار السّائل وزجره وتعريفه قبح ما أتاه وأنّه كان واجبًا عليه البحث عن أهلٍ للفتوى وطلب من هو أهلٌ لذلك.
وإن رأى فيها اسم من لا يعرفه سأل عنه فإن لم يعرفه فواسعٌ أن يمتنع من الفتوى معه خوفًا ممّا قلناه.

قال وكان بعضهم في مثل هذا يكتب على ظهرها قال والأولى في هذا الموضع أن يشار على صاحبها بإبدالها فإن أبي ذلك أجابه شفاهًا: قال أبو عمرٍو وإذا خاف فتنةً من الضّرب على فتيا العادم للاهلية ولم تكن خطأً عدل إلى الامتناع من الفتيا معه فان غلبت فتاويه لتغلبه على منصبها بجاهٍ أو تلبيسٍ أو غير ذلك بحيث صار امتناع الاهل من الفتيا معه ضارًّا بالمستفتين فليفت معه فإنّ ذلك أهون الضّررين وليتلطّف مع ذلك في إظهار قصوره لمن يجهله أمّا إذا وجد فتيا من هو اهل وهى خطأ مطلقا بمخالفتها القاطع أو خطأٌ على مذهب من يفتى ذلك المخطئ على مذهبه قطعًا فلا يجوز له الامتناع من الافتاء تاركا للتنبيه على خطئها إذا لم يكفه ذلك غيره بل عليه الضرب عليها عند تيسره أو إلا بذال وتقطيع الرّقعة بإذن صاحبها أو نحو ذلك وإذا تعذر ذلك وما يقوم مقامه كتب صواب جوابه عند ذلك الخطأ ثمّ إن كان الخطئ اهلا للفتوى فحسن ان تعاد إليه بإذن صاحبها أمّا إذا وجد فيها فتيا أهلٍ للفتوى وهي على خلاف ما يراه هو غير أنّه لا يقطع بخطئها فليقتصر على كتب جواب نفسة ولا يتعرّض لفتيا غيره بتخطئةٍ ولا اعتراضٍ.
قال صاحب الحاوى لا يسوغ لمفت إذا استفتى ان يتعرض لجواب غيره ترد ولا تخطئة ويجيب بما عنده من موافقة أو مخالفة.
(السّادسة عشرة) إذا لم يفهم المفتي السّؤال أصلًا ولم يحضر صاحب الواقعة فقال الصّيمريّ يكتب يزاد في الشّرح ليجيب عنه أو لم أفهم ما فيها فأجيب قال وقال بعضهم لا يكتب شيئا أصلا قال ورأيت بعضهم كتب في هذا يحضر السّائل لنخاطبه شفاهًا وقال الخطيب ينبغي له إذا لم يفهم الجواب أن يرشد المستفتي إلى مفتٍ آخر ان كان وإلّا فليمسك حتّى يعلم الجواب.
قال الصيمري وإذا كان في رقعة الاستفتاء مسائل فهم بعضها دون بعضٍ أو فهمها كلّها ولم يرد الجواب في بعضها أو احتاج في بعضها إلى تأمّلٍ أو مطالعةٍ أجاب عمّا أراد وسكت عن الباقي وقال لنا في الباقي نظرٌ أو تأمّلٌ أو زيادة نظر.
(السّابعة عشرة) ليس بمنكرٍ أن يذكر المفتي في فتواه الحجّة إذا كانت نصًّا واضحًا مختصرًا قال الصّيمريّ لا يذكر الحجّة إن أفتى عامّيًّا ويذكرها إن أفتى فقيهًا كمن يسأل عن النّكاح بلا وليٍّ فحسنٌ أن يقول قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لا نكاح إلّا بوليٍّ.
أو عن رجعة المطلّقة بعد الدّخول فيقول له رجعتها قال الله تعالى {وبعولتهن أحق بردهن}.
قال ولم تجز العادة أن يذكر في فتواه طريق الاجتهاد ووجهة القياس والاستدلال إلّا أن تتعلّق الفتوى بقضاء قرض فيومئ فيها إلى طريق
الاجتهاد ويلوح بالنّكتة وكذا إذا أفتى غيره فيها بغلطٍ فيفعل ذلك لينبّه على ما ذهب إليه ولو كان فيما يفتي به غموضٌ فحسنٌ أن يلوح بحجّته.
وقال صاحب الحاوي لا يذكر حجّةً ليفرّق بين الفتيا والتّصنيف قال ولو ساغ التّجاوز إلى قليلٍ لساغ إلى كثيرٍ ولصار المفتي مدرّسًا والتّفصيل الّذي ذكرناه أولى من إطلاق صاحب الحاوي المنع.
وقد يحتاج المفتي في بعض الوقائع إلى أن يشدّد ويبالغ فيقول وهذا إجماع المسلمين أو لا أعلم في هذا خلافًا أو فمن خالف هذا فقد خالف الواجب وعدل عن الصّواب أو فقد أثم وفسق أو وعلى وليّ الأمر أن يأخذ بهذا ولا يهمل الأمر وما أشبه هذه إلا لفاظ على حسب ما تقتضيه المصلحة وتوجبه الحال.
(الثّامنة عشرة) قال الشّيخ أبو عمرٍو رحمه الله ليس له إذا استفتى في شيء من المسائل الكلاميّة أن يفتي بالتّفصيل بل يمنع مستفتيه وسائر العامّة من الخوض في ذلك أو في شيء منه وان قل ويأمرهم
بأن يقتصروا فيها على الإيمان جملةً من غير تفصيلٍ ويقولوا فيها وفي كلّ ما ورد من آيات الصّفات وأخبارها المتشابهة إنّ الثّابت فيها في نفس الأمر ما هو اللّائق فيها بجلال اللّه تبارك وتعالى وكماله وتقديسه المطلق فيقول ذلك معتقدنا فيها.
وليس علينا تفصيله وتعيينه وليس البحث عنه من شأننا بل نكل علم تفصيله إلى اللّه تبارك وتعالى ونصرف عن الخوض فيه قلوبنا وألسنتنا فهذا ونحوه هو الصّواب من أئمّة الفتوى في ذلك وهو سبيل سلف الأمّة وأئمّة المذاهب المعتبرة وأكابر العلماء والصّالحين وهو أصون وأسلم للعامّة وأشباههم.
ومن كان منهم اعتقد اعتقاد باطلًا تفصيلًا ففي هذا صرفٌ له عن ذلك الاعتقاد الباطل بما هو أهون وأيسر وأسلم.
وإذا عزّر وليّ الأمر من حاد منهم عن هذه الطّريقة فقد تأسّى بعمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه في تعزير صبيع بفتح الصّاد المهملة الّذي كان يسأل عن المتشابهات على ذلك.
قال والمتكلّمون من أصحابنا معترفون بصحّة هذه الطّريقة وبأنّها أسلم لمن سلمت له وكان الغزاليّ منهم في آخر أمره شديد المبالغة في الدّعاء إليها والبرهنة عليها وذكر
شيخه إمام الحرمين في كتابه الغيائى أنّ الإمام يحرص ما أمكنه على جمع عامة الخلق على سلوك سبيل السّلف في ذلك.
واستفتي الغزاليّ في كلام اللّه تبارك وتعالى فكان من جوابه وأمّا الخوض في أنّ كلامه تعالى حرفٌ وصوتٌ أو ليس كذلك فهو بدعةٌ وكلّ من يدعو العوامّ إلى الخوض في هذا فليس من أئمّة الدّين وإنّما هو من المضلّين ومثاله من يدعو الصّبيان الّذين لا يحسنون السّباحة إلى خوض البحر، ومن يدعو الزّمن المقعد إلى السّفر في البراري من غير مركوب.
وقال في رسالةٍ له الصّواب للخلق كلّهم إلّا الشّاذّ النّادر الّذي لا تسمح الأعصار إلّا بواحدٍ منهم أو اثنين سلوك مسلك السّلف في الايمان المرسل والتصديق المجمل بكل ما أزله اللّه تعالى وأخبر به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من غير بحثٍ وتفتيشٍ والاشتغال بالتّقوى ففيه شغلٌ شاغلٌ.
وقال الصّيمريّ في كتابه أدب المفتي والمستفتي إنّ ممّا أجمع عليه أهل التقوى أنّ من كان موسومًا بالفتوى في الفقه لم ينبغ وفي نسخةٍ لم يجز له أن يضع خطّه بفتوى في مسألةٍ من علم الكلام قال وكان بعضهم لا يستتمّ قراءة مثل هذه الرّقعة قال وكره بعضهم أن يكتب ليس هذا من علمنا أو ما جلسنا لهذا أو السؤال عن غير هذا أولى بل لا يتعرّض لشيء من ذلك.

وحكى الإمام الحافظ الفقيه أبو عمر بن عبد البرّ الامتناع من الكلام في كلّ ذلك عن الفقهاء والعلماء قديمًا وحديثًا من أهل الحديث والفتوى قال وإنّما خالف ذلك أهل البدع.
قال الشّيخ فإن كانت المسألة ممّا يؤمن في تفصيل جوابها من ضرر الخوض المذكور جاز الجواب تفصيلًا وذلك بأن يكون جوابها مختصرًا مفهومًا ليس لها أطراف يتجاذبها المتنازعون والسؤال عنه صدر عن مسترشدٍ خاصٍّ منقادٍ أو من عامّةٍ قليلة التّنازع والمماراة والمفتي ممّن ينقادون لفتواه ونحو هذا وعلى هذا ونحوه يحمل ما جاء عن بعض السّلف من بغض الفتوى في بعض المسائل الكلاميّة وذلك منهم قليلٌ نادر والله أعلم
.
(التّاسعة عشرة) قال الصّيمريّ والخطيب رحمهما اللّه وإذا سئل فقيهٌ عن مسألةٍ من تفسير القرآن العزيز فان كانت تتعلّق بالأحكام أجاب عنها وكتب خطّه بذلك كمن سأل عن الصّلاة الوسطى والقرء ومن بيده عقدة النّكاح وإن كانت ليست من مسائل الأحكام كالسّؤال عن الرقيم والنقير والغسلين ردّه إلى أهله ووكله إلى من نصّب نفسه له من أهل التّفسير ولو أجابه شفاهًا لم يستقبح هذا كلام الصّيمريّ والخطيب ولو قيل إنّه يحسن كتابته للفقيه العارف به لكان حسنًا وأيّ فرقٍ بينه وبين مسائل الأحكام واللّه أعلم
فصلٌ في آداب المستفتي وصفته وأحكامه:
فيه مسائل: إحداها في صفة المستفتي كلّ من لم يبلغ درجة المفتى فهو فيما يسئل عنه من الأحكام الشّرعيّة مستفتٍ مقلّدٌ من يفتيه والمختار في التّقليد أنّه قبول قول من يجوز عليه الإصرار على الخطأ بغير حجّةٍ على عين ما قبل قوله فيه.
ويجب عليه الاستفتاء إذا نزلت به حادثةٌ يجب عليه علم حكمها.
فإن لم يجد ببلده من يستفتيه وجب عليه الرّحيل إلى من يفتيه وان بعدت دراه وقد رحل خلائق من السّلف في المسألة الواحدة الليالى والايام
.
(الثّانية) يجب عليه قطعًا البحث الّذي يعرف به أهليّة من يستفتيه للإفتاء إذا لم يكن عارفًا بأهليّته فلا يجوز له استفتاء من انتسب إلى العلم وانتصب للتّدريس والإقراء وغير ذلك من مناصب العلماء بمجرّد انتسابه وانتصابه لذلك ويجوز استفتاء من استفاض كونه أهلًا للفتوى.
وقال بعض أصحابنا المتأخّرين إنّما يعتمد قوله أنا أهلٌ للفتوى لا شهرته بذلك ولا يكتفى بالاستفاضة ولا بالتّواتر لأنّ الاستفاضة والشّهرة بين العامّة لا يوثق بها وقد يكون أصلها التّلبيس.
وأمّا التّواتر فلا يفيد العلم إذا لم يستند إلى معلومٍ محسوسٍ.
والصّحيح هو الأوّل لأنّ إقدامه عليها أخبار منه بأهليّته فإنّ الصّورة مفروضةٌ فيمن وثق بديانته.
ويجوز استفتاء من أخبر المشهور المذكور بأهليته.
قال الشيخ أبو إسحاق المنصف رحمه اللّه وغيره يقبل في أهليّته خبر العدل الواحد.
قال أبو عمرٍو وينبغي أن نشترط في المخبر أن يكون عنده من العلم والبصر ما يميّز به الملتبس من غيره ولا يعتمد في ذلك على خبر آحاد العامّة لكثرة ما يتطرّق إليهم من التّلبيس في ذلك.
وإذا اجتمع اثنان فأكثر ممّن يجوز استفتاؤهم فهل يجب عليه الاجتهاد في أعلمهم والبحث عن الاعلم والاورع الاوثق ليقلّده دون غيره فيه وجهان أحدهما لا يجب بل له استفتاء من شاء منهم لأنّ الجميع أهلٌ وقد أسقطنا الاجتهاد عن العامّيّ وهذا الوجه هو الصّحيح عند أصحابنا العراقيّين قالوا وهو قول أكثر أصحابنا
.
والثّاني يجب ذلك لأنّه يمكّنه هذا القدر من الاجتهاد بالبحث والسّؤال وشواهد الأحوال وهذا
الوجه قول أبي العبّاس بن سريجٍ واختيار القفّال المروزيّ وهو الصّحيح عند القاضي حسينٍ والأوّل أظهر وهو الظّاهر من حال الأوّلين.
قال أبو عمرٍو رحمه اللّه لكن متى اطّلع على الأوثق فالأظهر أنّه يلزمه تقليده كما يجب تقديم أرجح الدّليلين وأوثق الرّوايتين فعلى هذا يلزمه تقليد الاورع من
العالمين والأعلم من الورعين فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قلّد الأعلم على الأصحّ.
وفي جواز تقليد الميّت وجهان الصّحيح جوازه لأنّ المذاهب لا تموت بموت أصحابها ولهذا يعتدّ بها بعدهم في الإجماع والخلاف ولأنّ موت الشّاهد قبل الحكم لا يمنع الحكم بشهادته بخلاف فسقه والثّاني لا يجوز لفوات أهليّته كالفاسق وهذا ضعيفٌ لا سيّما في هذه الاعصار
.
(الثّالثة) هل يجوز للعامّيّ أن يتخيّر ويقلّد أيّ مذهبٍ شاء قال الشّيخ ينظر إن كان منتسبًا إلى مذهبٍ بنيناه على وجهين حكاهما القاضي حسينٌ في أنّ العامّيّ هل له مذهبٌ أم لا.
أحدهما لا مذهب له لأنّ المذهب لعارف الأدلّة فعلى هذا له أن يستفتي من شاء من حنفيٍّ وشافعي غيرهما.
والثّاني وهو الأصحّ عند القفّال له مذهبٌ فلا يجوز له مخالفته وقد ذكرنا في المفتي المنتسب ما يجوز له أن يخالف إمامه فيه وإن لم يكن منتسبًا بني على وجهين حكاهما ابن برهانٍ في أنّ العامي هل يلزمه ان يتذهب بمذهب معين يأخذ بزخصه وعزائمه أحدهما لا يلزمه كما لم يلزمه في العصر الأوّل أن يخصّ بتقليده عالمًا بعينه.
فعلى هذا هل له أن يستفتي من شاء أم يجب عليه البحث عن أشدّ المذاهب وأصحّها أصلًا ليقلّد أهله فيه وجهان مذكور ان كالوجهين السّابقين في البحث عن الأعلم والأوثق من المفتيين والثّاني يلزمه وبه قطع أبو الحسن إلكيا وهو جارٍ في كلّ من لم يبلغ رتبة الاجتهاد من الفقهاء وأصحاب سائر العلوم.
ووجهه أنّه لو جاز اتّباع أيّ مذهبٍ شاء لا فضى إلى أن يلتقط رخص المذاهب متّبعًا هواه ويتخيّر بين التّحليل والتّحريم والوجوب والجواز وذلك يؤدّي إلى انحلال
ربقة التّكليف بخلاف العصر الأوّل فإنّه لم تكن المذاهب الوافية بأحكام الحوادث مهذّبةً وعرفت.
فعلى هذا يلزمه أن يجتهد في اختيار مذهبٍ يقلّده على التّعيين ونحن نمهّد له طريقًا يسلكه في اجتهاده سهلًا فنقول أوّلًا ليس له أن يتّبع في ذلك مجرّد التّشهّي والميل إلى ما وجد عليه أباءه وليس له التذهب بمذهب أحدٍ من أئمّة الصّحابة رضي اللّه عنهم وغيرهم من الأوّلين وإن كانوا أعلم وأعلا درجةٍ ممّن بعدهم لأنّهم لم يتفرّغوا لتدوين العلم وضبط أصوله وفروعه.
فليس لأحدٍ منهم مذهبٌ مهذّبٌ محرّرٌ مقرّرٌ وإنّما قام بذلك من جاء بعدهم من الأئمّة النّاحلين لمذاهب الصّحابة والتّابعين القائمين بتمهيد أحكام الوقائع قبل وقوعها النّاهضين بإيضاح أصولها وفروعها كمالكٍ وأبي حنيفة وغيرهما.
ولمّا كان الشّافعيّ قد تأخّر عن هؤلاء الأئمّة في العصر ونظر في مذاهبهم نحو نظرهم في مذاهب من قبلهم فسبرها وخبرها وانتقدها واختار أرجحها ووجد من قبله قد كفاه مؤنة التّصوير والتّأصيل فتفرّغ للاختيار والترجيح والتكميل والتنقيح مع كمال معرفته وبراعته في العلوم وترجّحه في ذلك على من سبقه ثمّ لم يوجد بعده من بلغ محلّه في ذلك كان مذهبه أولى المذاهب بالاتّباع والتّقليد وهذا مع ما فيه من الإنصاف والسّلامة من القدح في أحد من الأئمّة جليٌّ واضحٌ إذا تأمّله العامّيّ قاده إلى اختيار مذهب الشافعي والتذهب به
.
(الرّابعة) إذا اختلف عليه فتوى مفتيين ففيه خمسة أوجه للاصحاب: أحدها يأخذ أغلظهما.
والثاني وأخفهما.
والثّالث يجتهد في الأولى فيأخذ بفتوى الأعلم الأورع كما سبق إيضاحه واختاره السّمعانيّ الكبير ونصّ الشّافعيّ رضي اللّه عنه على مثله في القبلة.
والرّابع يسأل مفتيًا آخر فيأخذ بفتوى من وافقه.
والخامس يتخيّر فيأخذ بقول أيّهما شاء وهذا هو الأصحّ عند الشّيخ أبي إسحاق الشّيرازيّ المصنّف وعند الخطيب البغداديّ ونقله المحامليّ في أوّل المجموع عن أكثر أصحابنا واختاره صاحب الشّامل فيما إذا تساوى المفتيان في نفسه وقال الشّيخ أبو عمرٍو المختار إنّ عليه أن يبحث عن الأرجح فيعمل به فإنّه حكم التّعارض فيبحث عن الاوثق من المفتيين فيعمل بفتواه وإن لم يترجّح عنده أحدهما استفتى آخر وعمل بفتوى من وافقه.
فإن تعذّر ذلك وكان اختلافهما في التّحريم والإباحة وقبل العمل اختار التّحريم فإنّه أحوط وإن تساويا من كلّ وجهٍ خيّرناه بينهما وإن أبينا التّخيير في غيره لأنّه ضرورةٌ وفي صورةٍ نادرةٍ. قال الشّيخ ثمّ إنّما نخاطب بما ذكرناه المفتيين.
وأما العامي الذي وقع له ذلك فحكمه أن يسأل عن ذلك ذينك المفتيين أؤ مفتيًا آخر وقد أرشدنا المفتي إلى ما يجيبه به وهذا الّذي اختاره الشّيخ ليس بقويٍّ بل الأظهر أحد الأوجه الثّلاثة وهي الثّالث والرّابع والخامس.
والظّاهر أنّ الخامس أظهرها لأنّه ليس من أهل الاجتهاد وإنّما فرضه أن يقلّد عالمًا أهلًا لذلك وقد فعل ذلك بأخذه بقول من شاء منهما والفرق بينه وبين ما نصّ عليه في القبلة أنّ أمارتها حسّيّةٌ فإدراك صوابها أقرب فيظهر التّفاوت بين المجتهدين فيها والفتاوى أمارتها معنويّةٌ فلا يظهر كبير تفاوتٍ بين المجتهدين واللّه أعلم
.
(الخامسة) قال الخطيب البغداديّ إذا لم يكن في الموضع الّذي هو فيه إلّا مفتٍ واحدٌ فأفتاه لزمه فتواه.
وقال أبو المظفّر السّمعانيّ رحمه اللّه إذا سمع المستفتي جواب المفتي لم يلزمه العمل به إلّا بالتزامه قال ويجوز أن يقال إنّه يلزمه إذا أخذ في العمل به وقيل يلزمه إذا وقع في نفسه صحّته قال السّمعانيّ وهذا أولى الأوجه.
قال الشّيخ أبو عمرٍو لم أجد هذا لغيره وقد حكى هو بعد ذلك عن بعض إلا صوليين أنّه إذا أفتاه بما هو مختلفٌ فيه خيّره بين أن يقبل منه أو من غيره ثمّ اختار هو أنّه يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين ويلزمه الأخذ بفتيا من اختاره باجتهاده.
قال الشيخ والذي تقضيه القواعد أن نفصّل فنقول إذا أفتاه المفتي نظر فإن لم يوجد مفتٍ آخر لزمه الأخذ بفتياه ولا يتوقّف ذلك على التزامه لا بالأخذ في العمل به ولا بغيره ولا يتوقّف أيضًا على سكون نفسه إلى صحّته.
وإن وجد مفتٍ آخر فإن استبان ان الذي أفتاه هو إلا علم إلا وثق لزمه ما أفتاه به بنإ على إلا صح في تعيّنه كما سبق وإن لم يستبن ذلك لم يلزمه ما أفتاه بمجرّد إفتائه إذ يجوز له استفتاء غيره وتقليده ولا يعلم اتّفاقهما في الفتوى فإن وجد الاتّفاق أو حكم به عليه حاكمٌ لزمه حينئذٍ
.
(السّادسة) إذا استفتي فأفتى ثمّ حدثت تلك الواقعة له مرّةً أخرى فهل يلزمه تجديد السّؤال؟ فيه وجهان:
أحدهما يلزمه لاحتمال تغيّر رأى المفتى والثاني يلزمه وهو الأصحّ لأنّه قد عرف الحكم الأوّل والأصل استمرار المفتى عليه.
وخصّص صاحب الشّامل الخلاف بما إذا قلّد حيًّا وقطع فيما إذا كان ذلك خبرًا عن ميّتٍ بأنّه لا يلزمه والصّحيح أنّه لا يختصّ فإنّ المفتي على مذهب الميّت قد يتغيّر جوابه على مذهبه.

(السّابعة) أن يستفتي بنفسه وله أن يبعث ثقةً يعتمد خبره ليستفتي له وله الاعتماد على خطّ المفتي إذا أخبره من يثق بقوله أنّه خطّه أو كان يعرف خطّه ولم يتشكّك في كون ذلك الجواب بخطّه.
(الثّامنة) ينبغي للمستفتي أن يتأدّب مع المفتي ويبجّله في خطابه وجوابه ونحو ذلك ولا يومئ بيده في وجهه ولا يقل له ما تحفظ في كذا أو ما مذهب إمامك أو الشّافعيّ في كذا ولا يقل إذا أجابه هكذا قلت أنا أو كذا وقع لي ولا يقل أفتاني فلانٌ أو غيرك بكذا ولا يقل إن كان جوابك موافقًا لمن كتب فاكتب وإلّا فلا تكتب ولا يسأله وهو قائمٌ أو مستوفزٌ أو على حالة ضجرٍ أو همٍّ أو غير ذلك ممّا يشغل القلب.
وينبغي أن يبدأ بالأسنّ الأعلم من المفتين وبالأولى فالأولى إن أراد جمع الاجوبة في رقعة قان أراد إفراد الأجوبة في رقاعٍ بدأ بمن شاء وتكون رقعة الاستفتاء واسعةً ليتمكّن المفتي من استيفاء الجواب واضحًا لا مختصرًا مضرًّا بالمستفتي، ولا يدع الدّعاء في رقعةٍ لمن يستفتيه.
قال الصّيمريّ فإن اقتصر على فتوى واحدٍ قال ما تقول رحمك اللّه أو رضي اللّه عنك أو وفّقك اللّه وسدّدك ورضي عن والديك.
ولا يحسن أن يقول رحمنا اللّه وإيّاك وإن أراد جواب جماعةٍ قال ما تقولون رضي اللّه عنكم أو ما تقول الفقهاء سدّدهم اللّه تعالى ويدفع الرّقعة إلى المفتي منشورةً ويأخذها منشورةً
فلا يحوجه إلى نشرها ولا إلى طيها.
(التّاسعة) ينبغي أن يكون كاتب الرّقعة ممّن يحسن السؤالى ويضعه على الغرض مع إبانة الخطّ واللّفظ وصيانتهما عمّا يتعرّض للتّصحيف.
قال الصّيمريّ يحرص أن يكون كاتبها من أهل العلم وكان بعض الفقهاء ممّن له رياسةٌ لا يفتي إلّا في رقعةٍ كتبها رجلٌ بعينه من أهل العلم ببلده
.
وينبغي للعامّيّ أن لا يطالب المفتي بالدّليل ولا يقل لم قلت فان أحب ان تسكن نفسه بسماع الحجّة طلبها في مجلسٍ آخر أو في ذلك المجلس بعد قبول الفتوى مجرّدةً.
وقال السّمعانيّ لا يمنع من طلب الدّليل وأنّه
يلزمه المفتي أن يذكر له الدّليل إن كان مقطوعًا به ولا يلزمه إن لم يكن مقطوعا به لا فتقاره إلى اجتهادٍ يقصر فهم العامّيّ عنه والصّواب الاول.
(العاشرة) إذا لم يجد صاحب الواقعة مفتيًا ولا أحدًا ينقل له حكم واقعته لا في بلده ولا في غيره قال الشّيخ هذه مسألة فترة الشّريعة الأصوليّة وحكمها حكم ما قبل ورود الشّرع والصّحيح في كلّ ذلك القول بانتفاء التّكليف عن العبد وأنّه لا يثبت في حقّه حكمٌ لا إيجابٌ ولا تحريمٌ ولا غير ذلك فلا يؤآخذ إذا صاحب الواقعة بأي شيء صنعه فيها واللّه أعلم). [المجموع شرح المهذب: 1/40-58]


رد مع اقتباس
  #10  
قديم 20 شعبان 1435هـ/18-06-2014م, 11:03 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي بابٌ في فصولٍ مهمّةٍ تتعلّق بالمهذّب ويدخل كثيرٌ منها وأكثرها في غيره أيضًا

فصولٍ مهمّةٍ تتعلّق بالمهذّب

قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ):
(بابٌ في فصولٍ مهمّةٍ تتعلّق بالمهذّب ويدخل كثيرٌ منها وأكثرها في غيره أيضًا

فصلٌ إذا قال الصّحابيّ قولًا ولم يخالفه غيره ولم ينتشر فليس هو إجماعًا وهل هو حجّةٌ
فيه قولان للشّافعيّ؛ الصّحيح الجديد أنّه ليس بحجّةٍ، والقديم أنّه حجّةٌ،
فإن قلنا هو حجّةٌ قدّم على القياس ولزم التّابعيّ العمل به ولا يجوز مخالفته وهل يخصّ به العموم فيه وجهان وإذا قلنا ليس بحجّةٍ فالقياس مقدّمٌ عليه ويسوغ للتّابعيّ مخالفته.
فأمّا إذا اختلفت الصّحابة رضي اللّه عنهم على قولين فينبني على ما تقدّم فإن قلنا بالجديد لم يجز تقليد واحدٍ من الفريقين بل يطلب الدّليل.
وإن قلنا بالقديم فهما دليلان تعارضا فيرجّح أحدهما على الآخر بكثيرة العدد فإن استوى العدد قدّم بالأئمّة فيقدّم ما عليه إمامٌ منهم على ما لا إمام عليه فإن كان على أحدهما أكثر عددًا وعلى الآخر أقلّ إلّا أنّ مع القليل إمامًا فهما سواءٌ فإن استويا في العدد والأئمّة.
إلّا أنّ في أحدهما أحد الشّيخين أبي بكرٍ وعمر رضي اللّه عنهما وفي الآخر غيرهما ففيه وجهان لا صحابنا أحدهما أنّهما سواءٌ والثّاني يقدّم ما فيه أحد الشّيخين وهذا كلّه مشهورٌ في كتب أصحابنا العراقيّين في الأصول وأوائل كتب الفروع.
والشّيخ أبو إسحاق المصنّف ممّن ذكره في كتابه اللّمع هذا كلّه إذا لم ينتشر قول الصّحابيّ فأمّا إذا انتشر فإن خولف فحكمه ما ذكرناه وإن لم يخالف ففيه خمسة أوجهٍ الأربعة .
الأول ذكرها أصحابنا العراقيّون أحدها أنّه حجّةٌ وإجماعٌ قال المصنّف الشّيخ أبو إسحاق وغيره من أصحابنا العراقيّين هذا الوجه هو المذهب الصّحيح.
والوجه الثّاني أنّه حجّةٌ وليس بإجماعٍ قال المصنّف وغيره هذا قول أبي بكرٍ الصّيرفيّ.
والثّالث إن كان فتيا فقيهٍ فسكتوا عنه فهو حجّةٌ وإن كان حكم إمامٍ أو حاكمٍ فليس بحجّةٍ.
قال المصنّف وغيره هذا قول أبي عليّ بن أبي هريرة.
والرّابع ضدّ هذا أنّه إن كان القائل حاكمًا أو إمامًا كان إجماعًا وإن كان فتيا لم يكن إجماعًا حكاه صاحب الحاوي في خطبة الحاوي والشّيخ أبو محمّدٍ الجوينيّ في أوّل كتابه الفروق
وغيرهما قال صاحب الحاوي هو قول أبي إسحاق المروزيّ.
ودليله أنّ الحكم لا يكون غالبًا إلّا بعد مشورةٍ ومباحثةٍ ومناظرةٍ وينتشر انتشارًا ظاهرًا والفتيا تخالف هذا.
والخامس مشهورٌ عند الخراسانيّين من أصحابنا في كتب الأصول وهو المختار عند الغزاليّ في المستصفى أنّه ليس بإجماعٍ ولا حجّةٍ ثمّ ظاهر كلام جمهور أصحابنا ان القائل المنتشر من غير مخالفةٍ لو كان تابعيًّا أو غيره ممّن بعده فحكمه حكم الصّحابيّ على ما ذكرناه من الأوجه الخمسة وحكي فيه وجهان لأصحابنا منهم من قال حكمه حكمه،
ومنهم من قال لا يكون حجّةً وجهًا واحدًا.
قال صاحب الشّامل الصّحيح أنّه يكون إجماعًا وهذا الّذي صحّحه هو الصّحيح فإنّ التّابعيّ كالصّحابيّ في هذا من حيث إنّه انتشر وبلغ الباقين ولم يخالفوا فكانوا مجمعين وإجماع التّابعين كإجماع الصّحابة.
وأمّا إذا لم ينتشر قول التّابعيّ فلا خلاف أنّه ليس بحجة كذا قاله صاحب الشامل وغيره قالوا ولا يجئ فيه القول القديم الّذي في الصّحابيّ لأنّ الصحابة ورد فيهم الحديث
.
فصلٌ
قال العلماء الحديث ثلاثة أقسامٍ صحيحٌ وحسنٌ وضعيفٌ.
قالوا وإنّما يجوز الاحتجاج من الحديث في الأحكام بالحديث الصّحيح أو الحسن:
فأمّا الضّعيف فلا يجوز الاحتجاج به في الأحكام والعقائد وتجوز روايته والعمل به في غير الأحكام كالقصص وفضائل الأعمال والتّرغيب والتّرهيب
.
فالصّحيح ما اتّصل سنده بنقل العدل الضّابط عن مثله من غير شذوذٍ ولا علّةٍ وفي الشّاذّ خلافٌ.
مذهب الشّافعيّ والمحقّقين أنّه رواية الثّقة ما يخالف الثّقات.
ومذهب جماعاتٍ من أهل الحديث وقيل إنّه مذهب أكثرهم إنّه رواية الثّقة ما لم يروه الثّقات وهذا ضعيفٌ.
وأمّا العلّة فمعنًى خفيٌّ في (الحديث قادحٌ فيه ظاهره السّلامة منه إنّما يعرفه الحذّاق المتقنون الغوّاصون على الدّقائق.
وأمّا الحديث الحسن فقسمان أحدهما ما لا يخلو إسناده من مستورٍ لم يتحقّق أهليّته وليس مقفلا كثير الخطأ ولا ظهر منه سببٌ مفسّقٌ ويكون متن الحديث معروفًا برواية مثله أو نحو من وجهٍ آخر.
والقسم الثّاني أن يكون رواية مشهورًا بالصّدق والأمانة إلّا أنّه يقصّر في الحفظ والإتقان عن رجال الصّحيح بعض القصور.
وأما الضعيف فما ليس صفة الصّحيح ولا صفة الحسن
.
فصلٌ
إذا قال الصّحابيّ أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا أو من السّنّة كذا أو مضت السنة بكذا أو السنة بكذا ونحو ذلك فكلّه مرفوعٌ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على مذهبنا الصّحيح المشهور ومذهب الجماهير ولا فرق بين أن يقول ذلك في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أو بعده صرّح به الغزاليّ وآخرون.
وقال الإمام أبو بكرٍ الإسماعيليّ من أصحابنا له حكم الموقوف على الصّحابيّ.
وأمّا إذا قال
التّابعيّ من السّنّة كذا ففيه وجهان حكاهما القاضي أبو الطّيّب الطّبريّ الصّحيح منهما والمشهور أنّه موقوفٌ على بعض الصّحابة. والثّاني أنّه مرفوعٌ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ولكنّه مرفوعٌ مرسلٌ.
وإذا قال التّابعيّ أمرنا بكذا قال الغزاليّ يحتمل أن يريد أمر النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أو أمر كلّ الأمّة فيكون حجّةً ويحتمل أمر بعض الصّحابة لكن لا يليق بالعالم أن يطلق ذلك إلّا وهو يريد من تجب طاعته فهذا كلام الغزاليّ.
وفيه إشارةٌ إلى خلافٍ في أنّه موقوفٌ أو مرفوعٌ مرسلٌ.
أما إذا قال الصحابي كنا نفعل كذا أو نقول كذا أو كانوا يقولون كذا ويفعلون كذا أو لا يرون بأسًا بكذا أو كان يقال أو يفعل كذا فاختلفوا فيه هل يكون مرفوعًا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أم لا.
فقال المصنّف في اللّمع إن كان ذلك ممّا لا يخفى في العادة كان كما لو رآه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ولم ينكره فيكون مرفوعًا.
وإن جاز خفاء عليه صلى الله عليه وسلم يكن مرفوعًا كقول بعض الأنصار كنّا نجامع فنكسل ولا نغتسل فهذا لا يدلّ على عدم وجوب الغسل من الإكسال لأنّه يفعل سرًّا فيخفى.
وقال غير الشّيخ إن أضاف ذلك إلى حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان مرفوعًا حجّةً كقوله كنّا نفعله في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أو في زمنه أو وهو فينا أو وهو بين أظهرنا.
وإن لم يضفه فليس بمرفوعٍ وبهذا قطع الغزاليّ في المستصفى وكثيرون.
وقال أبو بكرٍ الإسماعيليّ وغيره لا يكون مرفوعا اضافه أو لم يضفه
وظاهر استعمال كثيرين من المحدّثين وأصحابنا في كتب الفقه أنّه مرفوعٌ مطلقًا سواء أضافه أو لم يضفه وهذا قويٌّ فإنّ الظّاهر من قوله كنّا نفعل أو كانوا يفعلون الاحتجاج به وأنّه فعل على وجهٍ يحتجّ به ولا يكون ذلك إلّا في زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ويبلغه.
قال الغزاليّ وأمّا قول التّابعيّ كانوا يفعلون فلا يدلّ على فعل جميع الأمّة بل على البعض فلا حجّة فيه إلّا أن يصرّح بنقله عن أهل الاجماع.
وفي ثبوت الإجماع بخبر الواحد كلامٌ (قلت) اختلفوا في ثبوت الإجماع بخبر الواحد فاختيار الغزاليّ أنّه لا يثبت وهو قول أكثر النّاس، وذهب طائفةٌ إلى ثبوته وهو اختيار الرّازيّ
.
فصلّ الحديث المرسل لا يحتجّ به عندنا وعند جمهور المحدّثين وجماعةٍ من الفقهاء وجماهير أصحاب الأصول والنّظر وحكاه الحاكم أبو عبد اللّه بن البيّع عن سعيد بن المسيّب ومالكٍ وجماعة اهل الحديث والفقهاء الحجاز.
وقال أبو حنيفة ومالكٌ في المشهور عنه وأحمد وكثيرون من الفقهاء أو أكثرهم يحتج به ونقله الغزالي عن الجماهير.
وقال أبو عمر بن عبد البرّ وغيره ولا خلاف أنّه لا يجوز العمل به إذا كان مرسله غير متحرّزٍ يرسل عن غير الثّقات.

ودليلنا في ردّ المرسل مطلقًا أنّه إذا كانت رواية المجهول المسمّى لا تقبل لجهالة حاله فرواية المرسل أولى لأنّ المرويّ عنه محذوفٌ مجهول العين والحال.
ثمّ إنّ مرادنا بالمرسل هنا ما انقطع اسناده
فسقط من رواته واحدٌ فأكثر وخالفنا في حدّه أكثر المحدّثين فقالوا هو رواية التّابعيّ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم.
قال الشّافعيّ رحمه اللّه وأحتجّ بمرسل كبار التّابعين إذا أسند من جهةٍ أخرى أو أرسله من أخذ عن غير رجال الأوّل ممّن يقبل عنه العلم أو وافق قول بعض الصحابة أو أفتى أكثر العلماء بمقتضاه قال ولا أقبل مرسل غير كبار التّابعين ولا مرسلهم إلّا بالشّرط الّذي وصفته هذا نصّ الشّافعيّ في الرّسالة وغيرها وكذا نقله عنه الأئمّة المحقّقون من أصحابنا الفقهاء والمحدّثين كالبيهقيّ والخطيب البغداديّ وآخرين.
ولا فرق في هذا عنده بين مرسل سعيد بن المسيّب وغيره هذا هو الصّحيح الّذي ذهب إليه المحقّقون.
وقد قال الشّافعيّ في مختصر المزنيّ في آخر باب الرّبا أخبرنا مالكٌ عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيّب أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم نهى عن بيع اللّحم بالحيوان وعن ابن عبّاسٍ أنّ جزورا نحرت على عهد ابن بكرٍ الصّدّيق رضي اللّه عنه فجاء رجلٌ بعناقٍ فقال أعطوني بهذه العناق فقال أبو بكرٍ رضي اللّه عنه لا يصلح هذا.
قال الشّافعيّ وكان القاسم بن محمّدٍ وسعيد بن المسيّب وعروة بن الزّبير وأبو بكر بن عبد الرّحمن يحرّمون بيع اللّحم بالحيوان قال الشّافعيّ وبهذا نأخذ.
قال ولا نعلم أحدًا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خالف أبا بكرٍ الصّدّيق رضي اللّه عنه.
قال الشّافعيّ وإرسال ابن المسيّب عندنا حسنٌ هذا نصّ الشّافعيّ في المختصر نقلته بحروفه لما يترتّب عليه من الفوائد.
فإذا عرف هذا فقد اختلف أصحابنا المتقدّمون في معنى قول الشّافعيّ إرسال ابن المسيّب عندنا حسنٌ على وجهين حكاهما المصنّف الشّيخ أبو إسحاق في كتابه اللّمع وحكاهما أيضًا الخطيب البغداديّ في كتابيه كتاب الفقيه والمتفقّه والكفاية وحكاهما جماعاتٌ آخرون.
أحدهما معناه أنّها الحجة عنده بخلاف غيرها من المراسيل.
قالوا لا نها فتّشت فوجدت مسندةً.
والوجه الثّاني أنّها ليست بحجّةٍ عنده بل هي كغيرها على ما ذكرناه.
وقالوا وإنّما رجّح الشّافعيّ بمرسله والتّرجيح بالمرسل جائزه
، قال الخطيب البغداديّ في كتاب الفقيه والمتفقّه والصّواب الوجه الثاني، وأما الأول فليس بشيء وكذا قال في الكفاية الوجه الثّاني هو الصّحيح عندنا من الوجهين لأنّ في مراسيل سعيدٍ ما لم يوجد مسندًا بحالٍ من وجهٍ يصحّ.
قال وقد جعل الشّافعيّ لمراسيل كبار التّابعين مزيّةً على غيرهم كما استحسن مرسل سعيدٍ هذا كلام الخطيب.
وذكر الإمام الحافظ أبو بكرٍ البيهقيّ نصّ الشّافعيّ كما قدّمته، ثمّ قال فالشّافعيّ يقبل مراسيل كبار التابعين إذا انضم إليها ما يؤكد ها فإن لم ينضمّ لم يقبلها سواءٌ كان مرسل ابن المسيّب أو غيره.
قال وقد ذكرنا مراسيل لا بن المسيّب لم يقبلها الشّافعيّ حين لم ينضمّ إليها ما يؤكدها.
ومراسيل لغيره
قال بها حيث انضمّ إليها ما يؤكّدها.
قال وزيادة ابن المسيّب في هذا على غيره أنّه أصحّ التّابعين إرسالًا فيما زعم الحفّاظ.
فهذا كلام البيهقيّ والخطيب وهما إمامان حافظان فقيهان شافعيّان مضطلعان من الحديث والفقه والأصول والخبرة التّامّة بنصوص الشّافعيّ ومعاني كلامه ومحلهما من التحقيق والاتقان والنهاية في الفرقان بالغاية القصوى والدّرجة العليا.
وأمّا قول الإمام أبي بكرٍ القفّال المروزيّ في أوّل كتابه شرح التّلخيص قال الشّافعيّ في الرّهن الصّغير مرسل ابن المسيّب عندنا حجّةٌ فهو محمولٌ على التّفصيل الّذي قدّمناه عن البيهقيّ والخطيب والمحقّقين واللّه أعلم (قلت) ولا يصحّ تعلّق من قال إنّ مرسل سعيدٍ حجّةٌ بقوله إرساله حسنٌ لأنّ الشّافعيّ رحمه اللّه لم يعتمد عليه وحده بل اعتمده لمّا انضمّ إليه قول أبي بكرٍ الصّدّيق ومن حضره وانتهى إليه قوله من الصّحابة رضي اللّه عنهم مع ما انضمّ إليه من قول أئمّة التّابعين الأربعة الّذين ذكرهم وهم أربعةٌ من فقهاء المدينة السّبعة وقد نقل صاحب الشّامل وغيره هذا الحكم عن تمام السّبعة وهو مذهب مالكٍ وغيره فهذا عاضدٌ ثانٍ للمرسل فلا يلزمه من هذا الاحتجاج بمرسل ابن المسيّب إذا لم يعتضد.
فإن قيل ذكرتم أنّ المرسل إذا أسند من جهةٍ أخرى احتجّ به وهذا القول فيه تساهلٌ لأنّه إذا أسند عملنا بالمسند فلا فائدة حينئذٍ في المرسل ولا عمل به فالجواب أنّ بالمسند يتبيّن صحّة المرسل وأنّه ممّا يحتجّ به فيكون في المسألة حديثان صحيحان حتّى لو عارضهما حديثٌ صحيحٌ من طريقٍ واحدٍ وتعذّر الجمع قدّمناهما عليه واللّه أعلم.
هذا كلّه في غير مرسل الصّحابيّ أمّا مرسل الصحابي كاخباره عن شيء فعله النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أو نحوه ممّا نعلم أنّه لم يحضره لصغر سنّه أو لتأخّر إسلامه أو غير ذلك فالمذهب الصّحيح المشهور الّذي قطع به جمهور أصحابنا وجماهير أهل العلم أنّه حجّةٌ وأطبق المحدّثون المشترطون للصّحيح القائلون بأنّ المرسل
ليس بحجّةٍ على الاحتجاج به وإدخاله في الصّحيح.
وفي صحيح البخاريّ ومسلمٍ من هذا ما لا يحصى.
وقال الاستاذ أبو إسحاق الاسفراينى من أصحابنا لا يحتجّ به بل حكمه حكم مرسل غيره إلّا أن يبيّن أنّه لا يرسل إلّا ما سمعه من النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أو صحابيٍّ.
قال لا نهم قد يروون عن غير صحابيٍّ.
وحكى الخطيب البغداديّ وآخرون هذا المذهب عن بعض العلماء ولم ينسبوه.
وعزاه الشّيخ أبو إسحاق المصنّف في التّبصرة إلى الأستاذ أبي إسحاق.
والصّواب الأوّل وأنّه يحتجّ به مطلقًا لأنّ روايتهم عن غير الصّحابيّ نادرةٌ وإذا رووها بيّنوها فإذا أطلقوا ذلك فالظّاهر أنّه عن الصّحابة والصّحابة كلّهم عدولٌ واللّه أعلم.
فهذه ألفاظٌ وجيزةٌ في المرسل وهي وإن كانت مختصرةً بالنّسبة إلى غيرها فهي مبسوطةٌ بالنّسبة إلى هذا الموضع فإنّ بسط هذا الفنّ ليس هذا موضعه ولكن حملني على هذا النّوع اليسير من البسط أنّ معرفة المرسل ممّا يعظم الانتفاع بها ويكثر الاحتياج إليها ولا سيّما في مذهبنا خصوصًا هذا الكتاب الّذي شرعت فيه أسأل اللّه الكريم إتمامه على
أحسن الوجوه وأكملها وأتمّها وأعجلها وأنفعها في الآخرة والدّنيا وأكثرها انتفاعًا به وأعمّها فائدةً لجميع المسلمين مع أنه قد شاع في ألسنة كثيرين من المشتغلين بمذهبا بل أكثر أهل زماننا أنّ الشّافعيّ رحمه اللّه لا يحتجّ بالمرسل مطلقًا إلّا مرسل ابن المسيب فانه يحتج به مطلقا وهذان غلطان فإنّه لا يردّه مطلقًا ولا يحتجّ بمرسل ابن المسيّب مطلقًا بل الصّواب ما قدّمناه واللّه أعلم وله الحمد والنّعمة والفضل والمنة.
(فرعٌ)
قد استعمل المصنّف في المهذّب أحاديث كثيرةً مرسلةً واحتجّ بها مع أنّه لا يجوز الاحتجاج بالمرسل وجوابه أنّ بعضها اعتضد بأحد الأمور المذكورة فصار حجّةً وبعضها ذكره للاستئناس ويكون اعتماده على غيره من قياسٍ وغيره.
واعلم أنّه قد ذكر في المهذّب أحاديث كثيرةً.

جعلها هو مرسلةً وليست مرسلةً بل هي مسندةٌ صحيحةٌ مشهورةٌ في الصّحيحين وكتب السّنن وسنبيّنها في مواضعها إن شاء اللّه تعالى كحديث ناقة البراء وحديث الإغارة على بني المصطلق وحديث إجابة الوليمة في اليوم الثالث ونظائرها والله أعلم.
فصلٌ قال العلماء المحقّقون من أهل الحديث وغيرهم إذا كان الحديث ضعيفًا لا يقال فيه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أو فعل أو أمر أو نهى أو حكم وما أشبه ذلك من صيغ الجزم.
وكذا لا يقال فيه روى أبو هريرة أو قال أو ذكر أو أخبر أو حدّث أو نقل أو أفتى وما أشبهه.
وكذا لا يقال ذلك في التّابعين ومن بعدهم فيما كان ضعيفًا فلا يقال في شيء من ذلك بصيغة الجزم.
وإنّما يقال في هذا كلّه روي عنه أو نقل عنه أو حكي عنه أو جاء عنه أو بلغنا عنه أو يقال أو يذكر أو يحكى أو يروى أو يرفع أو يعزى وما أشبه ذلك من صيغ التّمريض وليست من صيغ الجزم.
قالوا فصيغ الجزم موضوعةٌ للصّحيح أو الحسن وصيغ التّمريض لما سواهما.

وذلك أنّ صيغة الجزم تقتضي صحّته عن المضاف إليه فلا ينبغي أن يطلق إلّا فيما صحّ وإلّا فيكون الإنسان في معنى الكاذب عليه وهذا الأدب أخلّ به المصنّف وجماهير الفقهاء من أصحابنا وغيرهم بل جماهير أصحاب العلوم مطلقًا ما عدا حذّاق المحدّثين وذلك تساهلٌ قبيحٌ فإنّهم يقولون كثيرًا في الصّحيح روي عنه وفي الضّعيف قال وروى فلان وهذا حيد عن الصواب.
فصلٌ صحّ عن الشّافعيّ رحمه اللّه أنّه قال: « إذا وجدتم في كتابي خلاف سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقولوا بسنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ودعوا قولي ».
وروي عنه إذا صحّ الحديث خلاف قولي فاعملوا بالحديث واتركوا قولي أو قال فهو مذهبي وروي هذا المعنى بألفاظٍ مختلفةٍ.
وقد عمل بهذا أصحابنا في مسألة التّثويب واشتراط التّحلّل من الإحرام بعذر المرض وغيرهما ممّا هو معروفٌ في كتب المذهب وقد حكى المصنّف ذلك عن الأصحاب فيهما
.
وممّن حكى عنه أنّه أفتى بالحديث من أصحابنا أبو يعقوب البويطيّ وأبو القاسم الدراكي وممّن نصّ عليه أبو الحسن إلكيا الطّبريّ في كتابه في أصول الفقه وممّن استعمله من أصحابنا المحدّثين الإمام أبو بكرٍ البيهقيّ وآخرون.
وكان جماعةٌ من متقدّمي أصحابنا إذا رأوا مسألةً فيها حديثٌ ومذهب الشّافعيّ خلافه عملوا بالحديث وأفتوا به قائلين مذهب الشّافعيّ ما وافق الحديث ولم يتّفق ذلك إلّا نادرًا ومنه ما نقل عن الشّافعيّ فيه قولٌ على وفق الحديث.

وهذا الّذي قاله الشافعي ليس معناه ان كل أحد رأى حديثًا صحيحًا قال هذا مذهب الشّافعيّ وعمل بظاهره.
وإنّما هذا فيمن له رتبة الاجتهاد في المذهب على ما تقدّم من صفته أو قريبٍ منه.
وشرطه أن يغلب على ظنّه أنّ الشّافعيّ رحمه اللّه لم يقف على هذا الحديث أو لم يعلم صحّته.
وهذا إنّما يكون بعد مطالعة كتب الشّافعيّ كلّها ونحوها من كتب أصحابه الآخذين عنه وما أشبهها وهذا شرطٌ صعبٌ قلّ من ينصف به.
وإنّما اشترطوا ما ذكرنا لأنّ الشّافعيّ رحمه اللّه ترك العمل بظاهر أحاديث كثيرةٍ رآها وعلمها لكن قام الدّليل عنده على طعنٍ فيها أو نسخها أو تخصيصها أو تأويلها أو نحو ذلك.
قال الشّيخ أبو عمرٍو رحمه اللّه ليس العمل بظاهر ما قاله الشّافعيّ بالهيّن فليس كلّ فقيهٍ يسوغ له أن يستقلّ بالعمل بما يراه حجّةً من الحديث وفيمن سلك هذا المسلك من الشّافعيّين من عمل بحديثٍ تركه الشّافعيّ رحمه اللّه عمدًا مع علمه بصحّته لمانعٍ اطّلع عليه وخفي على غيره كأبي الوليد موسى بن أبي الجارود ممّن صحب الشّافعيّ قال صحّ حديث أفطر الحاجم والمحجوم فأقول قال الشافعي افطر الحاجم والمحجوم فردوا ذلك على أبي الوليد لأنّ الشّافعيّ تركه مع علمه بصحّته لكونه منسوخًا عنده وبيّن الشّافعيّ نسخه واستدلّ عليه وستراه في كتاب الصّيام إن شاء اللّه تعالى.
وقد قدّمنا عن ابن خزيمة أنّه قال:
« لا أعلم سنّةً لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في الحلال والحرام لم يودعها الشّافعيّ كتبه وجلالة ابن خزيمة وإمامته في الحديث والفقه ومعرفته بنصوص الشّافعيّ بالمحلّ المعروف ».
قال الشّيخ أبو عمرٍو:
« فمن وجد من الشّافعيّة حديثًا يخالف مذهبه نظران كملت آلات الاجتهاد فيه مطلقًا، أو في ذلك الباب أو المسألة كان له الاستقلال بالعمل به وان لم يكن وشقّ عليه مخالفة الحديث بعد أن بحث فلم يجد لمخالفته عنه جوابًا شافيًا فله العمل به إن كان عمل به إمامٌ مستقلٌّ غير الشّافعيّ ويكون هذا عذرًا له في ترك مذهب إمامه هنا وهذا الّذي قاله حسن متعين والله أعلم ».
فصلٌ اختلف المحدّثون وأصحاب الأصول في جواز اختصار الحديث في الرّواية على مذاهب أصحّها يجوز رواية بعضه إذا كان غير مرتبطٍ بما حذفه بحيث لا تختلف الدّلالة ولا يتغيّر الحكم بذلك ولم نر أحدًا منهم منع من ذلك في الاحتجاج في التّصانيف.
وقد أكثر من ذلك المصنّف في المهذّب وهكذا أطبق عليه الفقهاء من كلّ الطّوائف وأكثر منه أبو عبد اللّه البخاريّ في صحيحه وهو القدوة
.
فصلٌ قد أكثر المصنّف من الاحتجاج برواية عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدّه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ونصّ هو في كتابه اللّمع وغيره من أصحابنا على أنّه لا يجوز الاحتجاج به هكذا.
وسببه أنّه عمرو بن شعيب بن محمّد بن عبد اللّه بن عمرو بن العاص فجدّه الأدنى محمّدٌ تابعيٌّ والأعلى عبد اللّه صحابيٌّ فإن أراد بجدّه الأدنى وهو محمّدٌ فهو مرسلٌ لا يحتجّ به وإن أراد عبد اللّه كان متّصلًا واحتجّ به فإذا أطلق ولم يبيّن احتمل الأمرين فلا يحتجّ به وعمرٌو وشعيبٌ ومحمّدٌ ثقاتٌ وثبت سماع شعيبٍ من محمّدٍ ومن عبد اللّه هذا هو الصّواب الّذي قاله المحقّقون والجماهير.
وذكر أبو حاتم بن حبّان بكسر الحاء أنّ شعيبا لم يلق عبد الله وأبطل الدارقطني وغيره ذلك وأثبتوا سماع شعيبٍ من عبد اللّه وبيّنوه

فإذا عرف هذا فقد اختلف العلماء في الاحتجاج بروايته هكذا فمنعه طائفةٌ من المحدّثين كما منعه المصنّف وغيره من أصحابنا.
وذهب أكثر المحدّثين إلى صحّة الاحتجاج به وهو الصّحيح المختار روى الحافظ عبد الغنيّ بن سعيد المصريّ بإسناده عن البخاريّ أنّه سئل أيحتجّ به فقال رأيت أحمد بن حنبلٍ وعليّ بن المدينيّ والحميديّ وإسحاق بن راهويه يحتجّون بعمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدّه ما تركه أحدٌ من المسلمين وذكر غير عبد الغنيّ هذه الحكاية
ثم قال: قال البخاري من الناس بعد هم، وحكى الحسن بن سفيان عن إسحاق بن راهويه قال عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدّه كأيّوب عن نافعٍ عن ابن عمر وهذا التّشبيه نهاية الجلالة من مثل إسحاق رحمه اللّه.
فاختار المصنّف في اللّمع طريقة أصحابنا في منع الاحتجاج به وترجّح عنده في حال تصنيف المهذّب جواز الاحتجاج به كما قاله المحقّقون من أهل الحديث والأكثرون وهم أهل هذا الفنّ وعنهم يؤخذ ويكفي فيه ما ذكرناه عن إمام المحدّثين البخاريّ ودليله أنّ ظاهره الجدّ الأشهر المعروف بالرّواية وهو عبد الله
.
فصلٌ في بيان القولين والوجهين والطّريقين
فالأقوال للشّافعيّ والأوجه لأصحابه المنتسبين إلى مذهبه يخرّجونها على أصوله ويستنيطونها من قواعده ويجتهدون في بعضها وإن لم يأخذوه من أصله وقد سبق بيان اختلافهم في ان المخرج هل ينسب إلى الشّافعيّ والأصحّ أنّه لا ينسب ثم قد يكون القولان قديمين وقد يكونان جديدين أو قديمًا وجديدًا وقد يقولهما في وقتٍ وقد يقولهما في وقتين قد يرجّح أحدهما وقد لا يرجّح.
وقد يكون الوجهان لشخصين ولشخصٍ والّذي لشخصٍ ينقسم كانقسام القولين.
وأمّا الطّرق فهي اختلاف الأصحاب في حكاية المذهب فيقول بعضهم مثلًا في المسألة قولان أو وجهان ويقول الآخر لا يجوز قولًا واحدًا أو وجهًا واحدًا أو يقول أحدهما في المسألة تفصيلٌ ويقول الآخر فيها خلافٌ مطلقٌ.
وقد يستعملون الوجهين في موضع الطّريقين وعكسه، وقد استعمل المصنّف في المهذّب النّوعين.
فمن الأوّل قوله في مسألة ولوغ الكلب وفي موضع لقولين وجهان.
ومنه قوله في باب كفّارة الظّهار إذا أفطرت المرضع ففيه وجهان: أحدهما: على قولين، والثّاني: ينقطع التّتابع قولًا واحدًا،
ومنه قوله في آخر
القسمة وإن استحقّ بعد القسمة جزءٌ مشاعٌ بطلت فيه وفي الباقي وجهان أحدهما على قولين والثّاني يبطل.
ومنه قوله في زكاة الدّين المؤجّل وجهان أحدهما على قولين والثّاني يجب.
ومنه ثلاثة مواضع متواليةٍ في أوّل باب عدد الشّهود أوّلها قوله وان كان المقرأ عجميا ففي التّرجمة وجهان أحدهما يثبت باثنين والثّاني على قولين كالإقرار.
ومن النّوع الثّاني قوله في قسم الصّدقات وإن وجد في البلد بعض الاناف فطريقان أحدهما يغلّب حكم المكان والثّاني الأصناف.
ومنه قوله في السلم في الجارية الحامل طريقان أحدهما لا يجوز والثّاني يجوز وإنّما استعملوا هذا لأنّ الطّرق والوجوه تشترك في كونها من كلام الأصحاب وستأتي في مواضعها زيادةٌ في شرحها إن شاء الله تعالى
.
فصل كلّ مسألةٍ فيها قولان للشّافعيّ رحمه اللّه قديمٌ وجديدٌ فالجديد هو الصّحيح وعليه العمل لأنّ القديم مرجوعٌ عنه واستثنى جماعةٌ من أصحابنا نحو عشرين مسألةً أو أكثر وقالوا يفتى فيها بالقديم وقد يختلفون في كثيرٍ منها.
قال إمام الحرمين في النّهاية في باب المياه وفي باب الأذان قال الأئمّة كلّ قولين قديمٌ وجديدٌ فالجديد أصحّ إلّا في ثلاث مسائل التّثويب في أذان الصّبح القديم استحبابه.
ومسألة التّباعد عن النّجاسة في الماء الكثير القديم أنّه لا يشترط ولم يذكر الثّالثة هنا.
وذكر في مختصر النّهاية أنّ الثّالثة تأتي في زكاة التّجارة.
وذكر في النّهاية عند ذكره قراءة السّورة في الرّكعتين الأخيرتين أنّ القديم أنّه لا يستحبّ قال وعليه العمل.
وذكر بعض المتأخّرين من أصحابنا أنّ المسائل الّتي يفتى بها على القديم أربع عشرة فذكر الثّلاث المذكورات.
ومسألة الاستنجاء بالحجر فيما جاوز المخرج والقديم جوازه.
ومسألة لمس المحارم والقديم لا ينقض.
ومسألة الماء الجاري القديم لا ينجس إلّا بالتّغيّر.
ومسألة تعجيل العشاء القديم أنّه أفضل.
ومسألة وقت المغرب والقديم امتداده إلى غروب الشّفق.
ومسألة المنفرد إذا نوى الاقتداء في أثناء الصّلاة القديم جوازه.
ومسألة أكل جلد الميتة المدبوغ القديم تحريمه.
ومسألة وطئ المحرم يملك اليمين القديم أنّه يوجب الحدّ.
ومسألة تقليم أظفار الميّت القديم
كراهته.
ومسألة شرط التّحلّل من الإحرام بمرضٍ ونحوه القديم جوازه.
ومسألة اعتبار النّصاب في
الزّكاة القديم لا يعتبر.
وهذه المسائل الّتي ذكرها هذا القائل ليست متّفقًا عليها بل خالف جماعاتٌ من الأصحاب في بعضها أو أكثرها ورجّحوا الجديد.
ونقل جماعاتٌ في كثيرٍ منها قولًا آخر في الجديد يوافق القديم فيكون العمل على هذا الجديد لا القديم.
وأمّا حصره المسائل الّتي يفتى فيها على القديم في هذه فضعيفٌ أيضًا فإنّ لنا مسائل أخر صحّح الأصحاب أو أكثرهم أو كثيرٌ منهم فيها القديم.
منها الجهر بالتّأمين للمأموم في صلاةٍ جهريّةٍ القديم استحبابه وهو الصّحيح عند الأصحاب وإن كان القاضي حسينٌ قد خالف الجمهور فقال في تعليقه القديم أنّه لا يجهر.
ومنها من مات وعليه صومٌ القديم يصوم عنه وليّه وهو الصّحيح عند المحقّقين للأحاديث الصّحيحة فيه.
ومنها استحباب الخطّ بين يدي المصلّي إذا لم يكن معه عصًا ونحوها القديم استحبابه وهو الصّحيح عند المصنّف وجماعاتٍ.
ومنها إذا امتنع أحد الشّريكين من عمارة الجدار أجبر على القديم وهو الصّحيح عند ابن الصّبّاغ وصاحبه الشّاشيّ وأفتى به الشّاشيّ. ومنها الصّداق في يد الزّوج مضمونٌ ضمان اليد على القديم وهو الأصحّ عند الشّيخ أبي حامدٍ وابن الصّبّاغ واللّه أعلم
.
ثمّ إنّ أصحابنا أفتوا بهذه المسائل من القديم مع أنّ الشّافعيّ رجع عنه فلم يبق مذهبًا له هذا هو الصّواب الّذي قاله المحقّقون وجزم به المتقنون من أصحابنا وغيرهم.
وقال بعض أصحابنا إذا نصّ المجتهد على خلاف قوله لا يكون رجوعًا عن الأوّل بل يكون له قولان.
قال الجمهور هذا غلطٌ لأنّهما كنصّين للشّارع تعارضا وتعذّر الجمع بينهما يعمل بالثّاني ويترك الأوّل.
قال إمام الحرمين في باب الآنية من النّهاية معتقدي أنّ الأقوال القديمة ليست من مذهب الشّافعيّ حيث كانت لأنّه جزم في الجديد بخلافها والمرجوع عنه ليس مذهبًا للرّاجع.
فإذا علمت حال القديم ووجدنا أصحابنا أفتوا بهذه المسائل على القديم حملنا ذلك على أنّه أدّاهم اجتهادهم إلى القديم لظهور دليله وهم مجتهدون فأفتوا به ولا يلزم من ذلك نسبته إلى الشّافعيّ ولم يقل أحدٌ من المتقدّمين في هذه المسائل أنّها مذهب الشّافعيّ أو أنّه استثناها.
قال أبو عمر وفيكون اختيار أحدهم للقديم فيها من قبيل اختياره مذهب غير الشّافعيّ إذا أدّاه اجتهاده إليه فانه إن كان إذا اجتهادٍ اتّبع اجتهاده وإن كان اجتهاده مقيّدًا مشوبًا بتقليدٍ نقل ذلك الشّوب من التّقليد عن ذلك الإمام وإذا أفتى بيّن ذلك في فتواه فيقول مذهب الشّافعيّ كذا ولكنّي أقول بمذهب
أبي حنيفة وهو كذا.
قال أبو عمرٍو ويلتحق بذلك ما إذا اختار أحدهم القول المخرّج على القول المنصوص أو اختار من قولين رجّح الشّافعيّ أحدهما غير ما رجّحه بل هذا أولى من القديم.
قال ثمّ حكم من لم يكن أهلًا للترجيح ان لا يتبعوا شيئا من اختيار انهم المذكورة لأنه مقلد للشافعي فدون غيره.
قال
وإذا لم يكن اختياره لغير مذهب إمامه بنى على اجتهادٍ فإن ترك مذهبه إلى اسهل منها فالصّحيح تحريمه وإن تركه إلى أحوط فالظّاهر جوازه عليه بيان ذلك في فتواه هذا كلام أبي عمرٍو
فالحاصل أنّ من ليس أهلًا للتّخريج يتعيّن عليه العمل والإفتاء بالجديد من غير استثناءٍ ومن هو أهلٌ للتّخريج والاجتهاد في المذهب يلزمه اتّباع ما اقتضاه الدّليل في العمل والفتيا مبيّنًا في فتواه أنّ هذا رأيه وأنّ مذهب الشّافعيّ كذا وهو ما نصّ عليه في الجديد هذا كلّه في قديمٍ لم يعضده حديثٌ صحيحٌ: أمّا قديمٌ عضده نصّ حديثٍ صحيحٍ لا معارض له فهو مذهب الشّافعيّ رحمه اللّه ومنسوبٌ إليه إذا وجد الشّرط الّذي قدّمناه فيما إذا صحّ الحديث على خلاف نصّه واللّه أعلم
واعلم أنّ قولهم القديم ليس مذهبًا للشّافعيّ أو مرجوعا عنه أو لا فتوى عليه المراد به قديمٌ نصّ في الجديد على خلافه أمّا قديمٌ لم يخالفه في الجديد أو لم يتعرّض لتلك المسألة في الجديد فهو مذهب الشّافعيّ واعتقاده ويعمل به ويفتى عليه فإنّه قاله ولم يرجع عنه وهذا النّوع وقع منه مسائل كثيرةٌ ستأتي في مواضعها إن شاء اللّه وإنّما أطلقوا أنّ القديم مرجوعٌ عنه ولا عمل عليه لكون غالبه كذلك
(فرعٌ)
ليس للمفتي ولا للعامل المنتسب إلى مذهب الشّافعيّ رحمه اللّه في مسألة القولين أو الوجهين أن يعمل بما شاء منهما بغير نظرٍ بل عليه في القولين العمل بآخرهما إن علمه وإلّا فبالّذي رجّحه الشّافعيّ فإن قالهما في حالةٍ ولم يرجّح واحدًا منهما وسنذكر إن شاء اللّه تعالى أنّه لم يوجد هذا إلّا في ستّ عشرة أو سبع عشرة مسألةً أو نقل عنه قولان ولم يعلم أقالهما في وقتٍ أم في وقتين وجهلنا السّابق وجب البحث عن أرجحهما فيعمل به فإن كان أهلًا للتّخريج أو الترجيح استقلّ
به متعرّفًا ذلك من نصوص الشّافعيّ ومأخذه وقواعده فإن لم يكن أهلًا فلينقله عن أصحابنا الموصوفين بهذه الصّفة فإنّ كتبهم موضّحةٌ لذلك فإن لم يحصل له ترجيحٌ بطريقٍ توقّف حتّى يحصل
وأمّا الوجهان فيعرف الرّاجح منهما بما سبق إلّا أنّه لا اعتبار فيهما بالتّقدّم والتّأخّر إلّا إذا وقعا من شخصٍ واحدٍ وإذا كان أحدهما منصوصًا والآخر مخرّجًا، فالمنصوص هو الصّحيح الّذي عليه العمل غالبًا كما إذا رجّح الشّافعيّ أحدهما بل هذا أولى إلّا إذا كان المخرّج من مسألةٍ يتعذّر فيها الفرق فقيل لا يترجّح عليه المنصوص وفيه احتمالٌ وقلّ أن يتعذّر الفرق أمّا إذا وجد من ليس أهلًا للتّرجيح خلافًا بين الأصحاب في الرّاجح من قولين أو وجهين، فليعتمد ما صحّحه الأكثر والأعلم والأورع، فإن تعارض الأعلم والأورع قدّم الأعلم، فإن لم يجد ترجيحًا عن أحدٍ اعتبر صفات النّاقلين للقولين والقائلين للوجهين فما رواه البويطيّ والرّبيع المراديّ والمزنيّ عن الشّافعيّ مقدّمٌ عند أصحابنا على ما رواه الربيع الجيزى وحرملة كذا نقله أبو سليمان الخطّابيّ عن أصحابنا في أوّل معالم السّنن إلّا أنّه لم يذكر البويطيّ فألحقته أنا لكونه أجلّ من الرّبيع المراديّ والمزنيّ وكتابه مشهورٌ فيحتاج إلى ذكره.
قال الشّيخ أبو عمرٍو ويترجّح أيضًا ما وافق أكثر أئمّة المذاهب وهذا الّذي قاله فيه ظهورٌ واحتمالٌ وحكى القاضي حسينٌ فيما إذا كان للشّافعيّ قولان أحدهما يوافق أبا حنيفة وجهين لأصحابنا.
أحدهما

أنّ القول المخالف أولى وهذا قول الشّيخ أبي حامد الاسفراينى فان الشافعي انما خالفه لا طلاعه على موجب المخالفة
والثّاني القول الموافق أولى وهو قول القفّال وهو الأصحّ والمسألة المفروضة فيما إذا لم يجد مرجّحًا ممّا سبق وأمّا إذا رأينا المصنّفين المتأخّرين مختلفين فجزم أحدهما بخلاف ما جزم به الآخر فهما كالوجهين المتقدّمين على ما ذكرناه من الرّجوع إلى البحث على ما سبق ويرجّح أيضًا بالكثرة كما في الوجهين ويحتاج حينئذٍ إلى بيان مراتب الأصحاب ومعرفة طبقاتهم وأحوالهم وجلالتهم.
وقد بيّنت ذلك في تهذيب الأسماء واللّغات بيانًا حسنًا وهو كتابٌ جليلٌ لا يستغني طالب علمٍ من العلوم كلّها عن مثله.
وذكرت في كتاب طبقات الفقهاء من ذكرته منهم أكمل من ذلك وأوضح وأشبعت القول فيهم وأنا ساعٍ في إتمامه أسأل اللّه الكريم توفيقي له ولسائر وجوه الخير

واعلم أنّ نقل أصحابنا العراقيّين لنصوص الشّافعيّ وقواعد مذهبه ووجوه متقدّمي أصحابنا أتقن وأثبت من نقل الخراسانيّين غالبًا والخراسانيّون أحسن تصرّفًا وبحثًا وتفريعا وترتيبا غالبا.
ومما يتبغى أن يرجّح به أحد القولين، وقد أشار الأصحاب إلى التّرجيح به، أن يكون الشّافعيّ ذكره في بابه ومظنّته وذكر الآخر في غير بابه بأن جرى بحثٌ وكلامٌ جرّ إلى ذكره فالّذي ذكره في بابه أقوى لأنّه أتى به مقصودًا وقرّره في موضعه بعد فكرٍ طويلٍ بخلاف ما ذكره في غير بابه استطرادا فلا يعتنى به اعتناؤه بالأوّل، وقد صرّح أصحابنا بمثل هذا التّرجيح في مواضع لا تنحصر ستراها في هذا الكتاب في مواطناها إن شاء اللّه تعالى وباللّه التّوفيق
.
فصلٌحيث أطلق في المهذّب أبا العبّاس فهو ابن سريجٍ أحمد بن عمر بن سريجٍ وإذا أراد أبا العبّاس ابن القاصّ قيّده.
وحيث أطلق أبا إسحاق فهو المروزيّ.
وحيث أطلق أبا سعيدٍ من الفقهاء فهو الإصطخريّ ولم يذكر أبا سعيدٍ من الفقهاء غيره ولم يذكر في المهذّب أبا إسحاق الاسفراينى الأستاذ المشهور بالكلام والأصول وإن كان له وجوهٌ كثيرةٌ في كتب الأصحاب.
وأمّا أبو حامد ففى المهذب اثنان من أصحابنا أحدهما القاضي أبو حامدٍ المروروذيّ.
والثّاني الشّيخ أبو حامد الاسفرايني لكنّهما يأتيان مقيّدين بالقاضي والشّيخ فلا يلتبسان وليس فيه أبو حامد غيرهما لامن أصحابنا ولا من غيرهم.
وفيه أبو عليّ ابن خبران وابن أبي هريرة والطّبريّ ويأتون موصوفين.
ولا ذكر لابي عليٍّ السّنجيّ في المهذّب وإنّما يتكرّر في الوسيط والنّهاية وكتب متأخّري الخراسانيّين.
وفيه أبو القاسم جماعة أو لهم الأنماطيّ ثمّ الدّاركيّ ثمّ ابن كجٍّ والصّيمريّ وليس فيه أبو القاسم غير هؤلاء الأربعة.
وفيه أبو الطّيّب اثنان فقط من أصحابنا أوّلهما ابن سلمة والثّاني القاضي أبو الطّيّب شيخ المصنّف ويأتيان موصوفين.
وحيث أطلق في المهذّب عبد اللّه في الصّحابة فهو ابن مسعودٍ وحيث أطلق الرّبيع من أصحابنا فهو الرّبيع بن سليمان المراديّ صاحب الشّافعيّ وليس في المهذّب الرّبيع غيره لا من الفقهاء ولا من غير هم إلّا الرّبيع بن سليمان الجيزيّ في مسألة دباغ الجلد هل يطهّر الشّعر.
وفيه عبد اللّه بن زيدٍ من الصّحابة اثنان أحدهما الّذي
رأى الأذان وهو عبد اللّه بن زيد بن عبد ربّه الأوسيّ والآخر عبد اللّه بن زيد بن عاصمٍ المازنيّ وقد يلتبسان على من لا أنس له بالحديث وأسماء الرّجال فيتوهّمان واحدًا لكونهما يأتيان على صورةٍ واحدةٍ وذلك خطأٌ.
فأمّا ابن عبد ربّه فلا ذكر له في المهذّب إلّا في باب الأذان.
وأمّا ابن عاصمٍ فمتكرّرٌ ذكره في المهذّب في مواضع من صفة الوضؤء ثمّ في مواضع من صلاة الاستسقاء ثمّ في أوّل باب الشّكّ في الطّلاق وقد أو ضحتهما أكمل إيضاحٍ في تهذيب الأسماء واللّغات.
وحيث ذكر عطاءٌ في المهذّب فهو عطاء بن أبي رباحٍ ذكره في الحيض ثمّ في اول صلاة المسافر ثم في مسألة النقاء الصّفّين من كتاب السّير.
وفي التّابعين أيضًا جماعاتٌ يسمون عطاءً لكن لا ذكر لأحدٍ منهم في المهذّب غير ابن أبي رباحٍ.
وفيه من الصّحابة معاوية اثنان أحدهما معاوية بن الحكم ذكره في باب ما يفسد الصّلاة لا ذكر له في المهذّب في غيره.
والآخر معاوية بن أبي سفيان الخليفة أحد كتّاب الوحي تكرّر ويأتي مطلقًا غير منسوبٍ.
وفيه من الصّحابة معقلٌ اثنان أحدهما معقل بن يسارٍ بياءٍ قبل السّين مذكورٌ في أوّل الجنائز.
والآخر معقل بن سنانٍ بسينٍ ثمّ نونٍ في كتاب الصّداق في حديث بروع.
وفيه أبويحيي البلخيّ من أصحابنا ذكره في مواضع من المهذّب.
منها مواقيت
الصلاة وكتاب الحج وليس فيه أبويحيى غيره.
وفيه أبوتحيي بتاءٍ مثنّاةٍ فوق مكسورةٍ يروي عن عليّ بن أبي طالبٍ رضي اللّه عنه في آخر قتال أهل البغي ولا ذكر له في غير هذا الموضع من المهذّب.
وفيه القفّال ذكره في موضعٍ واحدٍ وهو في أوّل النّكاح في مسألة تزويج بنت ابنه بابن ابنه وهو القفّال الكبير الشّاشيّ ولا ذكر للقفّال في المهذّب إلّا في هذا الموضع وليس للقفّال المروزيّ الصّغير في المهذّب ذكرٌ وهذا المروزيّ هو المتكرّر في كتب متأخّري الخراسانيّين كالإبانة وتعليق القاضي حسينٍ وكتاب المسعوديّ وكتب الشّيخ أبي محمّدٍ الجوينيّ وكتب الصّيدلانيّ وكتب أبي عليٍّ السّنجيّ وهؤلاء تلامذته.
والنّهاية وكتب الغزاليّ والتّتمّة والتّهذيب والعدّة وأشباهها وقد أوضحت حال القفّالين في تهذيب الأسماء واللّغات.
وفي كتاب الطّبقات وسأوضح إن شاء اللّه تعالى حالهما هنا إن وصلت موضع ذكر القفّال وكذلك أوضح باقي المذكورين في مواضعهم كما شرطته في الخطبة

إن شاء اللّه تعالى وحيث أطلقت أنا في هذا الشّرح ذكر القفّال فمرادي به المروزيّ لأنّه أشهر في نقل المذهب بل مدار طريقة خراسان عليه: وأمّا الشّاشيّ فذكره قليلٌ بالنّسبة إلى المروزيّ في المذهب فإذا أردت الشّاشيّ قيّدته فوصفته بالشّاشيّ وقصدت ببيان هذه الأحرف تعجيل فائدةٍ لمطالع هذا الكتاب فربّما أدركتني الوفاة أو غيرها من القاطعات قبل وصولها ورأيتها مهمّةً لا يستغني مشتغلٌ بالمهذّب عن معرفتها وأسأل اللّه خاتمة الخير واللّطف وباللّه التوفيق.
فصلٌ المزنيّ وأبو ثورٍ وأبو بكر بن المنذر أئمّةٌ مجتهدون وهم منسوبون إلى الشّافعيّ:
فأمّا المزنيّ وأبو ثورٍ فصاحبان للشّافعيّ حقيقةً وابن المنذر متأخّرٌ عنهما.
وقد صرّح في المهذّب في مواضع كثيرةٍ بأنّ الثّلاثة من أصحابنا أصحاب الوجوه وجعل أقوالهم وجوهًا في المذهب وتارةً يشير إلى أنّها ليست وجوهًا ولكنّ الأوّل ظاهرٌ إيراده إيّاها فإنّ عادته في المهذّب أن لا يذكر أحدًا من الائمة أصحاب المذاهب غير أصحابنا إلا في نحو قوله يستحبّ كذا للخروج من خلاف مجاهدٍ أو عمر بن عبد العزيز أو الزّهريّ أو مالكٍ وأبي حنيفة وأحمد وشبه ذلك.
ويذكر قول أبي ثورٍ والمزنيّ وابن المنذر ذكر الوجوه ويستدلّ له ويجيب عنه.
وقد قال إمام الحرمين في باب ما ينقض الوضوء من النّهاية إذا انفرد المزنيّ برأيٍ فهو صاحب مذهبٍ وإذا خرّج للشّافعيّ قولًا فتخريجه أولى من تخريج غيره وهو ملتحقٌ بالمذهب لا محالة وهذا الّذي قاله الإمام حسنٌ لا شكّ أنّه متعيّنٌ

فرعٌ ان استغرب من لا انس له بالمهذب الموضع الّذي صرّح صاحب المهذّب فيه بأنّ أبا ثورٍ وابن المنذر من أصحابنا دلّلناه وقلنا ذكر في أوّل الغصب في مسألة من ردّ المغصوب ناقص القيمة دون العين أنّ أبا ثورٍ من أصحابنا وذكر نحوه في ابن المنذر في صفة الصّلاة في آخر فصلٍ ثمّ يسجد سجدةً أخرى
فرعٌ اعلم أنّ صاحب المهذّب أكثر من ذكر أبي ثورٍ لكنّه لا ينصفه فيقول قال أبو ثورٍ كذا وهو خطأٌ
والتزم هذه العبارة في أقواله وربّما كان قول أبي ثورٍ أقوى دليلًا من المذهب في كثيرٍ من المسائل.
وأفرط المصنّف في استعمال هذه العبارة حتّى في عبد اللّه بن مسعودٍ الصّحابيّ رضي الله عنه الذي محله من الفقه وأنواع العلم معروفٌ قلّ من يساويه فيه من الصّحابة فضلًا عن غيرهم لا سيّما الفرائض فحكى عنه في باب الجدّ والإخوة مذهبه في المسألة المعروفة بمربّعة ابن مسعودٍ ثمّ قال وهذا خطأٌ.
ولا يستعمل المصنّف هذه العبارة غالبًا في آحاد أصحابنا أصحاب الوجوه الّذين لا يقاربون أبا ثورٍ وربما كانت أوجههم ضعيفةً بل واهيةً وقد أجمع نقلة العلم على جلالة أبي ثورٍ وإمامته وبراعته في الحديث والفقه وحسن مصنّفاته فيهما مع الجلالة والإتقان.
وأحواله مبسوطةٌ في تهذيب الأسماء وفي الطّبقات رحمه اللّه

فهذا آخر ما تيسّر من المقدمات ولولا خوف إملال مطالعه لذكرت فيه مجلّداتٍ
من النفايس المهمّة والفوائد المستجادّات
لكنّها تأتي إن شاء اللّه تعالى مفرّقةً في مواطنها من الأبواب.
وأرجو اللّه النّفع بكلّ ما ذكرته وما سأذكره إن شاء الله لي ولوالدي ومشايخي وسائر أحبائي والمسلمين أجمعين إنّه الواسع الوهّاب وهذا حين أشرع في شرح أصل المصنّف رحمه اللّه). [المجموع شرح المهذب: 1/58-72]


رد مع اقتباس
  #11  
قديم 20 شعبان 1435هـ/18-06-2014م, 11:01 AM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي بابٌ في نسب أبي إسحاق الشيرازي رحمه اللّه: وطرفٌ من أموره وأحواله

نسب أبي إسحاق الشيرازي رحمه اللّه وطرفٌ من أموره وأحواله

قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ):
(
فصلٌ في أحوال الشّيخ أبي إسحاق مصنّف الكتاب
اعلم أنّ أحواله رحمه اللّه كثيرةٌ لا يمكن أن تستقصى لخروجها عن أن تحصى لكن أشير إلى كلماتٍ يسيرةٍ من ذلك ليعلم بها ما سواها ممّا هنا لك وأبالغ في اختصارها لعظمها وكثرة انتشارها
هو الإمام المحقّق المتقن المدقّق ذو الفنون من العلوم المتكاثرات والتّصانيف النّافعة المستجادات
الزّاهد العابد الورع المعرض عن الدّنيا المقبل بقلبه على الآخرة الباذل نفسه في نصرة دين اللّه تعالى المجانب للهوى أحد العلماء الصّالحين وعباد اللّه العارفين الجامعين بين العلم والعبادة والورع والزّهادة المواظبين على وظائف الدّين واتّباع هدي سيّد المرسلين صلّى اللّه عليه وسلّم ورضي عنهم أجمعين
أبو إسحاق إبراهيم بن عليّ بن يوسف بن عبد الله الشيرازي الفيروزبادى رحمه الله ورضى الله عنه منسوب إلى فيروزباد بليدة من بلاد شيراز ولد سنة ثلاثٍ وتسعين وثلثمائة وتفقه بفارس على أبي الفرج ابن البيضاوى وبالبصرة على الخرزى.
ثم دخل بغداد سنة خمس عشرة وأربع مائة وتفقّه على شيخه الإمام الجليل الفاضل أبي الطّيّب طاهر بن عبد اللّه الطّبريّ وجماعاتٍ من مشايخه المعروفين.
وسمع الحديث على الإمام الفقيه الحافظ أبي بكرٍ البرقانيّ وأبي عليّ بن شاذان وغيرهما من الأئمّة المشهورين.
ورأى رسول الله صلى الله عليه في المنام فقال له يا شيخٌ فكان يفرح ويقول سمّاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم شيخًا.
قال رحمه اللّه كنت أعيد كلّ درسٍ مائة مرّةٍ وإذا كان في المسألة بيت شعرٍ يستشهد به حفظت القصيدة كلّها من أجله.
وكان عاملًا بعلمه صابرًا على خشونة العيش معظّمًا للعلم مراعيا للعمل بدفائق الفقه والاحتياط.
كان يومًا يمشي ومعه بعض أصحابه فعرض في الطّريق كلبٌ فزجره صاحبه فنهاه الشّيخ وقال أما علمت أنّ الطّريق بيني وبينه مشتركٌ.
ودخل يومًا مسجدًا ليأكل طعامًا على عادته فنسي فيه دينارًا فذكره في الطّريق فرجع فوجده ففكّر ساعةً وقال: ربّما وقع هذا الدّينار من غيري فتركه ولم يمسّه
.
قال الإمام الحافظ أبو سعدٍ السّمعانيّ كان الشّيخ أبو إسحاق إمام الشّافعيّة والمدرّس ببغداد في النّظاميّة شيخ الدّهر وإمام العصر رحل إليه النّاس من الأمصار وقصدوه من كلّ الجوانب والأقطار وكان يجري مجرى أبي العبّاس بن سريجٍ.
قال وكان زاهدًا ورعًا متواضعًا متخلّقًا ظريفًا كريمًا سخيًّا جوّادًا طلق الوجه دائم البشر.
حسن المجالسة مليح المحاورة وكان يحكي الحكايات والأشعار المستبدعة المليحة وكان يحفظ منها كثيرًا وكان يضرب به المثل في الفصاحة.
وقال السمعاني أيضا تفرد الإمام أبو اسحق بالعلم الوافر كالبحر الزّاخر مع السّيرة الجميلة والطريقة المرضية جاءته الدنيا فأباها واطّرحها وقلاها.
قال وكان عامّة المدرّسين بالعراق والجبال تلاميذه وأصحابه صنّف في الأصول والفروع والخلاف والجدل والمذهب كتبًا أضحت للدّين أنجمًا وشهبًا.
وكان يكثر مباسطة أصحابه بما سنح له من الرّجز وكان يكرمهم ويطعمهم.
حكى السّمعانيّ أنّه كان يشتري طعامًا كثيرًا ويدخل بعض المساجد ويأكل مع أصحابه وما فضل قال لهم اتركوه لمن يرغب فيه.
وكان رحمه اللّه طارحًا للتّكلّف قال القاضي أبو بكرٍ محمّد بن عبد الباقي الأنصاريّ حملت فتوى إلى الشيخ أبي اسحق فرأيته في الطّريق فمضى إلى دكّان خبّازٍ أو بقّالٍ وأخذ قلمه ودواته وكتب جوابه ومسح القلم في ثوبه.
وكان رحمه اللّه ذا نصيبٍ وافرٍ من مراقبة اللّه تعالى والإخلاص له وإرادة إظهار الحقّ ونصح الخلق.
قال أبو الوفاء ابن عقيلٍ: شاهدت شيخنا أبا إسحاق لا يخرج شيئًا إلى فقيرٍ إلّا أحضر النّيّة ولا يتكلم في مسألة الاقدم الاستعانة باللّه عزّ وجلّ وأخلص القصد في نصرة الحقّ.
ولا صنّف مسألةً إلّا بعد أن صلّى ركعاتٍ فلا جرم شاع اسمه وانتشرت تصانيفه شرقًا وغربًا لبركة إخلاصه
.
قلت وقد ذكر الشّيخ أبو إسحاق في أوّل كتابه الملخّص في الجدل جملًا من الآداب للمناظرة وإخلاص النّيّة وتقديم ذلك بين يدي شروعه فيها وكان فيما نعتقده متّصفًا بكلّ ذلك.
أنشد السّمعانيّ وغيره للرّئيس أبي الخطّاب علي بن عبد الرحمن بن هرون بن الجرّاح

سقيًا لمن صنّف التّنبيه مختصرًا
ألفاظه الغرّ واستقصى معانيه
إنّ الإمام أبا اسحاق صنفه
لله والدين لا للكبر والنيه
رأى علومًا عن الأفهام شاردةً
فحازها ابن عليٍّ كلّها
فيه بقيت للشّرع إبراهيم منتصرًا
تذود عنه اعاديه وتحميه
قوله مختصرا بكسر الصّاد وألفاظه منصوبٌ به
ولأبي الخطّاب أيضًا:
أضحت بفضل أبي إسحاق ناطقةً
صحائف شهدت بالعلم والورع
بها المعاني كسلك العقد كامنة
واللفط كالدّرّ سهلٌ جدّ ممتنع
رأى العلوم وكانت قبل شاردةً
فحازها الألمعيّ النّدب في اللّمع
لا زال علمك ممدودًا سرادقه
على الشّريعة منصورًا على البدع
ولأبي الحسن القيروانيّ:
إن شئت شرع رسول اللّه مجتهدًا
تفتي وتعلم حقًّا كلّ ما شرعا
فاقصد هديت أبا إسحاق مغتنمًا
وادرس تصانيفه ثمّ احفظ اللّمعا
ونقل عنه رحمه اللّه قال بدأت في تصنيف المهذّب سنة خمس وخمسين وأربع مائة وفرغت يوم الأحد آخر رجب سنة تسع وستين وأربع مائة توفّي رحمه اللّه ببغداد يوم الأحد.
وقيل ليلة الأحد الحادي والعشرين من جمادى الآخرة وقيل الأولى سنة ست وسبعين واربع مائة ودفن من الغد واجتمع في الصّلاة عليه خلق عظيم.
قيل وأول من صلّى عليه أمير المؤمنين المقتدي بأمر الله.
ورؤي في النّوم وعليه ثيابٌ بيضٌ فقيل له ما هذا فقال عزّ العلم فهذه أحرفٌ يسيرةٌ من بعض صفاته أشرت بها إلى ما سواها من جميل حالاته وقد بسطتها في تهذيب الأسماء واللّغات وفي كتاب طبقات الفقهاء فرحمه اللّه ورضي عنه وأرضاه وجمع بيني وبينه وسائر أصحابنا في دار كرامته

وقد رأيت أن أقدّم في أوّل الكتاب فصولًا.
تكون لمحصّله وغيره من طالبي جميع العلوم وغيرها من وجوه الخير ذخرًا وأصولًا.
وأحرص مع الإيضاح على اختصارها وحذف الأدلّة والشّواهد في معظمها خوفًا من انتشارها مستعينًا باللّه متوكّلًا عليه مفوّضًا أمري إليه
فصلٌ (في الإخلاص والصّدق وإحضار النّيّة في جميع الأعمال البارزة والخفيّة)
قال اللّه تعالى {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين} وقال تعالى {فاعبد الله مخلصا} وقال تعالى {ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى اللّه ورسوله ثمّ يدركه الموت فقد وقع أجره على الله} وروينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضي اللّه عنه " قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول:
« إنّما الأعمال بالنّيّات وإنّما لكلّ امرئٍ ما نوى فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله فهجرته إلى اللّه ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه » حديثٌ صحيحٌ متّفق على صحّته مجمعٌ على عظم موقعه وجلالته وهو إحدى قواعد الإيمان وأوّل دعائمه وآكد الأركان
قال الشّافعيّ رحمه اللّه يدخل هذا الحديث في سبعين بابًا من الفقه.
وقال أيضًا هو ثلث العلم.
وكذا قاله أيضًا غيره وهو أحد الأحاديث الّتي عليها مدار الإسلام.

وقد اختلف في عدّها فقيل ثلاثةٌ وقيل أربعةٌ وقيل اثنان وقيل حديثٌ.
وقد جمعتها كلّها في جزء الأربعين فبلغت أربعين حديثًا لا يستغني متديّنٌ عن معرفتها لأنّها كلّها صحيحةٌ جامعةٌ قواعد الإسلام في الأصول والفروع والزّهد والآداب ومكارم الأخلاق وغير ذلك وإنّما بدأت بهذا الحديث تأسّيًا بأئمّتنا ومتقدّمي أسلافنا من العلماء رضي اللّه عنهم وقد ابتدأ به إمام أهل الحديث بلا مدافعةٍ أبو عبد اللّه البخاري صحيحه ونقل جماعةٌ أنّ السّلف كانوا يستحبّون افتتاح الكتب بهذا الحديث تنبيهًا للطّالب على تصحيح النّيّة وإرادته وجه اللّه تعالى بجميع أعماله البارزة والخفيّة.
وروينا عن الإمام أبي سعيدٍ عبد الرّحمن بن مهديٍّ رحمه اللّه قال لو صنّفت كتابًا بدأت في أوّل كلّ بابٍ منه بهذا الحديث.
وروينا عنه أيضا قال من راد أن يصنّف كتابًا فليبدأ بهذا الحديث.
وقال الإمام أبو سليمان احمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطّاب الخطّابيّ الشّافعيّ الإمام في كتابه المعالم رحمه اللّه تعالى كان المتقدّمون من شيوخنا يستحبّون تقديم حديث
« الأعمال بالنّيّات » أمام كلّ شيء ينشأ ويبتدأ من أمور الدّين لعموم الحاجة إليه في جميع أنواعها
وهذه أحرفٌ من كلام العارفين في الإخلاص والصّدق
قال أبو العبّاس عبد اللّه بن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما:
« إنّما يعطى الرّجل على قدر نيّته».
وقال أبو محمّدٍ سهل بن عبد اللّه التّستريّ رحمه اللّه:
« نظر الأكياس في تفسير الإخلاص فلم يجدوا غير هذا أن تكون حركاته وسكونه في سرّه وعلانيته لله تعالى وحده لا يمازجه شيء لا نفسٌ ولا هوًى ولا دنيا ».
وقال السّريّ رحمه اللّه: لا تعمل للنّاس شيئًا ولا تترك لهم شيئًا ولا تعط لهم ولا تكشف لهم شيئًا.
وروينا عن حبيب بن أبي ثابتٍ التّابعيّ رحمه اللّه: أنّه قيل له حدثنا فقال
« حتى تجئ النّيّة »:
وعن أبي عبد اللّه سفيان بن سعيدٍ الثّوريّ رحمه اللّه قال ما عالجت شيئًا أشدّ عليّ من نيّتي إنّها تتقلّب عليّ.
وروينا عن الأستاذ أبي القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيريّ رحمه اللّه في رسالته المشهورة قال الإخلاص إفراد الحقّ في الطّاعة بالقصد وهو أن يريد بطاعته التّقرّب إلى الله تعالى دون شيء آخر من تصنّعٍ لمخلوقٍ أو اكتساب محمدةٍ عند النّاس أو محبّة مدحٍ من الخلق أو شيء سوى التّقرّب إلى اللّه تعالى قال ويصحّ أن يقال الإخلاص تصفية العقل عن ملاحظة المخلوقين قال وسمعت أبا علي الدقاق رحمه الله يقول الإخلاص التوقى عن ملاحظة الخلق والصّدق التّنقّي عن مطالعة النّفس فالمخلص لا رياء له والصّادق لا إعجاب له.
وعن أبي يعقوب السّوسيّ رحمه اللّه قال: متى شهدوا في إخلاصهم الإخلاص احتاج إخلاصهم إلى إخلاصٍ.
وعن ذي النّون رحمه اللّه قال: ثلاثةٌ من علامات الإخلاص استواء المدح والذّمّ من العامّة ونسيان رؤية الأعمال في الأعمال واقتضاء ثواب العمل في الآخرة.
وعن أبي عثمان رحمه اللّه قال: الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النّظر إلى الخالق.

وعن حذيفة المرعشيّ رحمه اللّه قال: الإخلاص أن تستوي أفعال العبد في الظّاهر والباطن.
وعن أبي على الفضيل ابن عياضٍ رحمه اللّه قال: ترك العمل لأجل النّاس رياءٌ والعمل لأجل النّاس شركٌ والإخلاص أن يعافيك اللّه منهما.
وعن رويمٍ رحمه اللّه قال: الإخلاص أن لا يريد على عمله عوضًا من الدّارين ولا حظًّا من الملكين.
وعن يوسف بن الحسين رحمه اللّه قال: أعز شيء في الدّنيا الإخلاص.
وعن أبي عثمان قال: إخلاص العوامّ ما لا يكون للنّفس فيه حظ وإخلاص الخواص ما يجرى عليهم لابهم فتبدو منهم الطّاعات وهم عنها بمعزلٍ ولا يقع لهم عليها رؤيةٌ ولا بها اعتدادٌ.
وأمّا الصّدق فقال اللّه تعالى {يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه وكونوا مع الصّادقين} قال القشيريّ الصّدق عماد الأمر وبه تمامه وفيه نظامه وأقلّه استواء السّرّ والعلانية.
وروينا عن سهل بن عبد اللّه التّستريّ قال: لا يشمّ رائحة الصّدق عبدٌ داهن نفسه أو غيره.
وعن ذي النّون رحمه اللّه قال: الصّدق سيف اللّه ما وضع على شيء إلّا قطعه.
وعن الحارث بن أسدٍ المحاسبيّ بضمّ الميم رحمه اللّه قال: الصّادق هو الّذي لا يبالي لو خرج كلّ قدرٍ له في قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه ولا يحبّ اطّلاع النّاس على مثاقيل الذّرّ من حسن عمله ولا يكره اطّلاعهم على السيئ من عمله لأنّ كراهته ذلك دليلٌ على أنّه يحبّ الزّيادة عندهم وليس هذا من أخلاق الصّدّيقين.
وعن أبي القاسم الجنيد بن محمد رحمه الله

قال: الصّادق يتقلّب في اليوم أربعين مرّةً والمراءى يثبت على حالةٍ واحدةً أربعين سنةً.
(قلت) معناه أنّ الصّادق يدور مع الحقّ حيث دار فإذا كان الفضل الشّرعيّ في الصّلاة مثلًا صلّى وإذا كان في مجالسة العلماء والصّالحين والضّيفان والعيال وقضاء حاجة مسلمٍ وجبر قلبٍ مكسورٍ ونحو ذلك فعل ذلك الأفضل وترك عادته.
وكذلك الصّوم والقراءة والذّكر والأكل والشرب والجد والمزح والاختلاط والاعتزال والتنعم والا بتذال ونحوها فحيث رأى الفضيلة الشرعية في شيء من هذا فعله ولا يرتبط بعادةٍ ولا بعبادةٍ مخصوصةٍ كما يفعله المرائي وقد كانت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أحوالٌ في صلاته وصيامه وأوراده وأكله وشربه ولبسه وركوبه ومعاشرة أهله وجده ومزحه وسروره وغضبه وإغلاظه في إنكار المنكر ورفقه فيه وعقوبته مستحقي التعزيز وصفحه عنهم وغير ذلك بحسب الإمكان والأفضل في ذلك الوقت والحال.
ولا شكّ في اختلاف أحوال الشيء في إلا فضيلة فإنّ الصّوم حرامٌ يوم العيد واجبٌ قبله مسنونٌ بعده والصّلاة محبوبةٌ في معظم الأوقات وتكره في أوقات وأحوال كمدافعة إلا خبثين.
وقراءة القرآن محبوبةٌ وتكره في الرّكوع والسّجود وغير ذلك.
وكذلك تحسين اللّباس يوم الجمعة والعيد وخلافه يوم الاستسقاء وكذلك ما أشبه هذه الأمثلة.

وهذه نبذةٌ يسيرةٌ ترشد الموفّق إلى السّداد وتحمله على الاستقامة وسلوك طريق الرّشاد). [المجموع شرح المهذب: 1/7-18]


رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 5 ( الأعضاء 0 والزوار 5)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:44 PM


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة