أنواع نسخ الأحكام
قَالَ مَكِّيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ) : (باب أقسام الناسخ
الناسخ من القرآن على ثلاثة أقسام:
• الأول: أن يكون الناسخ فرضًا نسخ ما كان فرضًا، ولا يجوز فعل المنسوخ، نحو قوله تعالى: {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم} -الآية-.
فرض الله فيها حبس الزانية حتى تموت أو يجعل الله لها سبيلاً. ثم جعل لها السبيل بالحدود في سورة النور بقوله: {فاجلدوا كل واحدٍ منهما مائة جلدة}.
فكان الأول فرضًا فنسخه فرضٌ آخر، ولا يجوز فعل الأوّل المنسوخ. وكلاهما (متلوٌّ مدني).
• الثاني: أن يكون الناسخ فرضًا نسخ فرضًا، ونحن مخيّرين في
فعل الأول وتركه –وكلاهما متلوٌّ-:
وذلك نحو قوله تعالى: {إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفًا}.
ففرض الله على الواحد المؤمن ألاّ ينهزم لعشرةٍ من المشركين، ثم نسخ ذلك بقوله: {فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألفٌ يغلبوا ألفين}.
ففرض على الواحد المؤمن ألاّ ينهزم لاثنين من المشركين، فنسخ (فرض) فرضًا –وكلاهما متلو-.
ولو وقف الواحد لعشرةٍ من المشركين فأكثر لجاز.
فنحن مخيرون في فعل المنسوخ وتركه.
ومن هذا النوع أيضًا فرض صوم شهر رمضان نسخ ما كان قد فرض علينا في قوله: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من
قبلكم}. قال عطاء وغيره: كان –جلّ ذكره- قد كتب على من كان قبلنا صيام ثلاثة أيامٍ من كل شهر، وكتبه (علينا) بقوله: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} ثم نسخه بفرض صوم شهر رمضان.
ونحن مخيرون في صيام ثلاثة أيام من كل شهر أو تركه. وفي هذا اختلاف سنذكره.
وقد قيل: إنّ الله –جل ذكره- فرض علينا صوم يوم عاشوراء، كما فرضه على من كان قبلنا , ثم نسخه بفرض صوم شهر رمضان.
ونحن مخيّرون في صوم يوم عاشوراء أو تركه، وصومه أفضل.
وروي أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم- كان قد أمر الناس بصوم يوم عاشوراء فرضًا وحتمًا، ثم نسخه فرض صوم رمضان.
وإنما فرضه النبي على أمته لأن شريعة موسى كانت كذلك. وكان على النبي صلى الله عليه وسلم اتّباع شريعة من كان قبله من الأنبياء حتى يحدث الله من الشريعة ما شاء، وفي هذا اختلاف.
• الثالث: أن يكون الناسخ أمرًا بترك العمل بالمنسوخ الذي كان فرضًا من غير بدل، ونحن مخيّرون في فعل المنسوخ وتركه، وفعله أفضل.
وذلك كنسخ الله –جلّ ذكره- قيام الليل، وقد كان فرضًا، فنسخه بالأمر بالترك تخفيفًا ورفقًا بعباده. ونحن مخيرون في قيام الليل وتركه، وفعله أفضل وأشرف وأعظم أجرًا.
وقد قيل إنه بقي فرضًا على النبي صلى الله عليه وسلم وحده.
وقوله: {نافلة لك} يردّ هذا، مع الإجماع على أن لا فرض إلا خمس صلوات.
وعن ابن عباس: نافلة لك: فرضًا عليك –قال: فرض الله ذلك على النبي خاصةً-.
وقد قيل: إنّ هذا فرضٌ نسخه ندبٌ، وهو قوله: {فاقرؤوا ما تيسّر من القرآن}. فهذا ندب نسخ فرضًا.
ومنه قوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} إلى قوله: {وكلوا واشربوا}.
فهذا نسخ ما كان فرضًا على من كان قبلنا من ترك الجماع والأكل والشرب ليالي الصيام بعد النوم.
وقد كان فرضه الله –تعالى ذكره- علينا بقوله: {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم}، فخفّف الله ذلك عن المسلمين ونسخه وأباح الوطء والأكل والشّرب بعد النّوم إلى طلوع الفجر. ونحن مخيّرون في فعل ذلك بعد النوم أو تركه.
وقد زاد قومٌ في أقسام الناسخ قسمًا رابعًا، وهو أن يكون الناسخ فرضًا نسخ ما كان ندبًا غير فرضٍ، كالقتال كان ندبًا ثم صار فرضًا، وسنذكر كل هذا في مواضعه بأشبع من هذا وأبين –إن شاء الله تعالى-. ).[الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه: 72- 76]
قَالَ أبو الفَرَجِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَلِيٍّ ابْنُ الجَوْزِيِّ (ت:597هـ): (وقال شيخنا عليّ بن عبيد اللّه: الخطاب في التّكليف على ضربين: أمرٌ، ونهيٌ، فالأمر استدعاء الفعل، والنّهي استدعاء التّرك، واستدعاء الفعل يقع على ثلاثة أضرب:
أحدهما: ما يكون على سبيل الإلزام والانحتام إمّا بكونه فرضًا أو واجبًا ونسخ ذلك يقع على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يخرج من الوجوب إلى المنع، مثل ما كان التّوجّه إلى بيت المقدس واجبًا ثمّ نسخ [بالمنع منه.
والثّاني: أن ينسخ من الوجوب إلى الاستحباب مثل نسخ] وجوب الوضوء (لكلّ صلاةٍ إلى أن) جعل مستحبًّا.
والثّالث: أن ينسخ [من] الوجوب إلى الإباحة مثل نسخ وجوب الوضوء ممّا غيّرت النّار إلى الجواز فصار الوضوء منه جائزًا.
والضّرب الثّاني: استدعاءٌ على سبيل الاستحباب، فهذا ينتقل إلى ثلاثة أوجه أيضاً:
أحدها: أن ينتقل من الاستحباب إلى الوجوب، وذلك مثل الصّوم في رمضان كان مستحبًّا فإن تركه (وافتدى) جاز ثمّ نسخ ذلك بانحتامه في حقّ الصّحيح المقيم.
والثّاني: أن ينسخ من الاستحباب إلى التّحريم، مثل نسخ (اللّطف) بالمشركين وقول الحسنى لهم فإنّه نسخ بالأمر بقتالهم.
والثّالث: أن ينسخ من الاستحباب إلى الإباحة، مثل نسخ استحباب الوصيّة للوالدين بالإباحة.
والضّرب الثّالث: المباح وقد اختلف العلماء هل هو [مأمورٌ به والصّحيح أنّه مأذونٌ فيه] غير مأمورٍ به، ويجوز أن يدخله النّسخ عن وجهٍ واحدٍ وهو النّسخ إلى التّحريم. مثاله: أنّ الخمر مباحةٌ ثمّ حرّمت. وأمّا نسخ الإباحة إلى الكراهة، فلا يوجد، لأنّه لا تناقض، فأمّا انتقال المباح إلى كونه واجبًا فليس بنسخٍ، لأنّ (إيجاب) المباح إبقاء تكليفٍ لا نسخٌ.
وأمّا القسم الثّاني من الخطاب: وهو النّهي فهو يقع على ضربين:
أحدهما: على سبيل التّحريم، فهذا قد ينسخ بالإباحة، مثل تحريم الأكل على الصّائم في اللّيل بعد النّوم والجماع.
والثّاني: على سبيل الكراهة، لم يذكر له مثالٌ). [نواسخ القرآن:91- 92]