سورة سبأ
[ من الآية (15) إلى الآية (19) ]
{لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)}
قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (لقد كان لسبإٍ في مساكنهم)
قرأ ابن كثير وأبو عمرو (لسبأ) غير مجرى، وقد مرت في سورة النمل القول في (سبأ) بما أغنى عن إعادته.
وقرأ حفص وحمزة (في مسكنهم) موحدًا، بفتح الكاف.
وقرأ الكسائي (في مسكنهم) موحدًا، بكسر الكاف.
وقرأ الباقون: (في مساكنهم) جماعةً.
قال أبو منصور: هما لغتان: مسكن، ومسكن.
وكسر الكاف فصيح جيد، للموضع الذي يسكن.
ومن قرأ (مساكنهم) فهو جمع مسكن، ويقال للمساكن الكثيرة: مسكن، ومسكن). [معاني القراءات وعللها: 2/291]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (8- وقوله تعالى: {لقد كان لسبإ} [15].
فقد ذكرته في سورة (النمل) وإنما أعدت ذكره، لأن بعض النحويين اختار الصرف؛ لأنه صح عندنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن (سبأ) رجل وله عشرة من البنين، وله حديث.
حدثني أبو عبد الله الحكيمي، حدثني حماد بن عباد قال: حدثنا
[إعراب القراءات السبع وعللها: 2/213]
يزيد بن هرون، قال: اخبرنا أبو جناب عن يحيى بن هشام عن فروة بن مسيكة قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله أرأيت سبأ، أواد هو أم جبل؟ قال: لا، بل هو رجل من العرب، ولد عشرة، فتيامن ستة وتشاءم أربعة، فتيامن الأزد، والأشعرون، وحمير، وكندة، ومذحج، وأنمار الذين يقال لهم: بجيلة، وخثعم. وتشاءم أربعة لخم، وجذام، وعاملة وغسان). [إعراب القراءات السبع وعللها: 2/214]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (9- وقوله تعالى: {في مسكنهم ءاية} [15].
قرأ الكسائي {في مسكنهم} بكسر الكاف جعله اسم الموضع الذي يسكنون فيه، كما قرأ: {حتى مطلع الفجر} أي: في موضع الطلوع، ومثله المسجد: موضع السجود.
وقرأ حمزة وحفص عن عاصم: {مسكنهم} بفتح الكاف جعلوه لغتين المسكن والمسكن، مثل المنسك، والمهلك والمهلك.
[إعراب القراءات السبع وعللها: 2/214]
وقال آخرون: الاختيار لمن فتح أن يجعله مصدرًا {لقد كان لسبأ في مسكنهم} أي: سكناهم و{في مسكنهم} بمعنى، ومهلكهم وهلاكهم بمعنى، وحتى مطلع الفجر، وحتى طلوع الفجر، وهذا باب قد أحكمناه في سورة (الكهف).
وقرأ الباقون: {في مساكنهم} بالجماع بألف مثل المساجد، والسكن: أهل الدار، والسكن: الدار، والسكينة: الوقار.
وحدثني أبو عمر عن ثعلب عن سلمة عن الفراء. قال من العرب من يقول: {فيه سكينة من ربكم} بالتشديد، يريد: سكينة). [إعراب القراءات السبع وعللها: 2/215]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله سبحانه: مساكنهم [سبأ/ 15].
فقرأ الكسائي وحده: مسكنهم بغير ألف مكسورة الكاف.
وقرأ عاصم في رواية حفص وحمزة: مسكنهم مفتوحة الكاف. وقرأ الباقون: مساكنهم بألف.
قال أبو عليّ: من قال مساكنهم أتى باللّفظ وفقا للمعنى، لأنّ لكلّ ساكن مسكنا فجمع، والمساكن: جمع مسكن، الذي هو اسم للموضع من سكن يسكن. ومن قال: مسكنهم فيشبه أن يكون جعل المسكن مصدرا، وحذف المضاف، والتقدير: في مواضع سكناهم،
[الحجة للقراء السبعة: 6/12]
فلمّا جعل المسكن كالسّكنى والسكون أفرد، كما تفرد المصادر، وهذا أشبه من أن تحمله على نحو:
كلوا في بعض بطنكم و:..... جلد الجواميس وعلى هذا قوله سبحانه: في مقعد صدق [القمر/ 55] أي:
مواضع قعود، ألا ترى أنّ لكلّ واحد من المتّقين موضع قعود، فهذا التأويل أشبه من أن تحمله على الوجه الآخر الذي لا يكاد يجيء إلّا في شعر. فأمّا قول الكسائي: في مسكنهم فالأشبه فيه الفتح، لأنّ اسم المكان من فعل يفعل على المفعل، فإن لم ترد المكان. ولكن المصدر، فالمصدر أيضا في هذا الحد على المفعل مثل المحشر ونحوه، وقد يشذّ عن القياس المطّرد نحو هذا، كما جاء المسجد وسيبويه يحمله على أنّه اسم البيت، وليس المكان من فعل يفعل، فإن
[الحجة للقراء السبعة: 6/13]
أراد ذاك فتح، وكذلك المطلع من طلع يطلع، والمطلع على القياس، إلّا أنّ أبا الحسن يقول: إنّ المسكن إذا كسرته لغة كثيرة، قال: وهي لغة النّاس اليوم. قال: وأمّا المسكن مفتوحة فهي لغة أهل الحجاز. قال وهي اليوم قليلة). [الحجة للقراء السبعة: 6/14]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({لقد كان لسبإ في مسكنهم آية} 15
قرأ أبو عمرو والبزي {لسبإ} بالفتح وقرأ الباقون لسبأ مجرور
فمن فتح وترك الصّرف فلأنّه جعل سبأ اسما للقبيلة ومن صرف وكسر جعل سبأ اسما لرجل أو لحي
قرأ الكسائي {لسبإ في مسكنهم} بكسر الكاف وقرأ حفص وحمزة {في مسكنهم} بفتح الكاف وقرأ الباقون {مساكنهم} على الجمع
[حجة القراءات: 585]
فمن قرأ مساكنهم أتى باللّفظ وفقا للمعنى لأن لكل ساكن مسكنا فجمع والمساكن جمع مسكن الّذي هو اسم للموضع من سكن يسكن وحجتهم أنّها مضافة إلى جماعة فمساكنهم بعددهم ويقوّي الجمع إجماع الجميع على قوله {فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم} ومن قرأ {مسكنهم} بالفتح يشبه أن يكون جعل المسكن مصدرا وحذف المضاف والتّقدير في مواضع سكناهم فلمّا جعل المسكن كالسكن أفرد كما تفرد المصادر وعلى هذا قوله {في مقعد صدق} أي في موضع قعود ألا ترى أن لكل واحد من المتّقين موضع قعود ومن قرأ مسكنهم جعله اسم الموضع الّذي يسكنون فيه وإنّما وحد لأنّه أراد بلدهم وقد يجوز أن يراد بذلك جمع المساكن ثمّ يؤدّي الواحد عن الجمع
قال الكسائي مسكن ومسكن لغتان قال نحويو البصرة والأشبه فيه الفتح لأن اسم المكان من فعل يفعل على المفعل بالفتح وإن لم يرد المكان ولكن أراد المصدر فالمصدر أيضا في هذا النّحو يجيء على المفعل مثل المحشر وقد يشذ عن القياس نحو المسكن والمسجد وذهب سيبويهٍ على أنه اسم البيت وليس المكان من فعل يفعل فعلى هذا لم يشذ عن الباب). [حجة القراءات: 586]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (9- قوله: {في مسكنهم} قرأ الكسائي بالتوحيد وكسر الكاف، وكذلك حفص وحمزة غير أنهما فتحا الكاف، وقرأ الباقون بالجمع.
وحجة من وحَّد أنه بمعنى السكنى، فهو مصدر يدل على القليل والكثير من جنسه، فاستغنى به عن الجمع مع خفة الواحد.
10- وحجة من جمع أنه لما كان لكل واحد منهم مسكن وجب الجمع، ليوافق اللفظ المعنى.
11- وحجة من فتح الكاف في الواحد أنه أتى به على المستعمل المعروف، لأن المصدر من «فعل يفعل» يأتي أبدًا بالفتح، نحو المقعد والمدخل والمخرج، فهو أصل الباب.
12- وحجة من كسر أنه جعله مما خرج على الأصل سماعًا، جاء بالكسر في المصدر، والفعل على «فعل يفعل» وقد جاء ذلك في أحرف محفوظة منها «المسجد والمطلع» وقد جعل سيبويه «المسجد» اسمًا للبيت، ولم يجعله مصدرًا حين رآه خرج عن الأصل، والأخفش يقول: «المسكن»
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/204]
بالكسر لغة مستعملة، وهي في المسجد كثيرة، قال: والفتح في المسجد لغة أهل الحجاز، وهي قليلة الاستعمال عنده، والاختيار للجمع، لأن عليه الأكثر، وعليه العمل). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/205]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (11- {لِسَبَإْ} [آية/ 15] ساكنة الهمزة:
رواها –ل- عن ابن كثير.
والوجه أنه ينبغي أن يكون بين بين على ما ذكرنا في تخفيف الهمز، لكن الراوي لم يؤده كما وجب، فقرأ بإسكان الهمزة، فإن تخفيف الهمزة في
[الموضح: 1047]
مثله هو أن تُجعل بين بين، ولا يكون بأن تُسكَّن.
وقرأ أبو عمرو والبزي عن ابن كثير {لِسَبَإَ} مفتوحة الهمزة غير منونة.
والوجه أنه على الأصل في تحقيق الهمزة، ثم إن ترك التنوين لكونه غير منصرف، فإنه اسم قبيلةٍ، فقد اجتمع فيه التعريف والتأنيث.
وقرأ الباقون {لِسَبَإٍ} مجرورةً منونةً.
والوجه أن همزة الكلمة على الأصل في التحقيق، ثم إنهم صرفوا الاسم؛ لأنهم جعلوه اسم حي أو أب، فهو مذكر، فليس فيه إلا سبب واحدٌ، وهو التعريف، فلا يمتنع عن الصرف، وقد سبق ذلك). [الموضح: 1048]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (12- {فِي مَسْكَنِهِمْ} [آية/ 15] بغير ألفٍ، وبفتح الكاف:
قرأها حمزة و-ص- عن عاصم.
والوجه أنه يجوز أن يكون المسكن ههنا مصدرًا، فهو بمعنى السكنى، والمصدر لا يُجمع، فأفرد لذلك، وهو على حذف المضاف، والتقدير في مواضع سكناهم.
ويجوز أن يكون اسمًا للمكان، إلا أنه وُحد، والمراد به الجمع، اكتفاءً بإضافته إلى الجمع، كما قال الشاعر:
132- كلوا في بعض بطنكم تعيشوا = فإن زمانكم زمن خميص
[الموضح: 1048]
أراد في بطونكم، وقال الآخر:
133- في حلقكم عظمٌ وقد شجينا
وقرأ الكسائي {فِي مَسْكِنِهِمْ} بغير ألفٍ، وبكسر الكاف.
والوجه أنه جاء مجيء ما شذ عن القياس نحو المسجد والمطلع والمجزر والمشرق والمغرب، فإن القياس يقتضي أن يجيء المصدر واسم المكان والزمان جميعًا على مفعلٍ بفتح العين إذا كان المضارع على يفعُل بالضم أو يفعَل بالفتح، فالقياس يقتضي ههنا المسكن بفتح الكاف، إلا أنه محمولٌ على ما شذ من الباب مما ذكرنا، وهو من الشواذ التي كادت من كثرتها تزيد على المنقاس.
وقرأ الباقون {مَسَاكِنِهِمْ} بالألف على الجمع.
والوجه أنه جمع مسكنٍ، فاللفظ في هذا موافق للمعنى؛ لأن لكل ساكنٍ مسكنًا فالمعنى على الجمع، وإذا قُرئ بالإفراد أيضًا كان معناه الجمع). [الموضح: 1049]
قوله تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (ذواتي أكلٍ خمطٍ)
قرأ ابن كثير ونافع (أكلٍ خمطٍ) خفيفًا منونًا.
وقرأ الباقون (أكلٍ خمطٍ) مثقلاً منونا.
وروى عباس عن أبي عمرو (أكل خمطٍ) مخففًا مضافًا.
قال أبو منصور: من قرأ (ذواتي أكلٍ) أراد: (ذواتي) ثمر يؤكل، ثم قال: خمطٍ. وجعله بدلاً من (أكل)، المعنى: ذواتي خمطٍ.
والخمط: شجر الأراك و(أكلٍ): ثمره.
ويجوز في (الأكلٍ) التخفيف والتثقيل، والمعنى واحد.
ومن قرأ (أكل خمطٍ) أضاف (أكل) إلى (الخمطٍ).
وقال بعضهم: كل نبت أخذ طعمًا من مرارة حتى لا يمكن أكله فهو خمط). [معاني القراءات وعللها: 2/292]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (10- وقوله تعالى: {ذواتي أكل خمط} [16].
قرأ أبو عمرو وحده مضافًا: {أكل خمط}.
وقرأ الباقون: {أكل خمط} منونًا. قال النحويون: وهو الاختيار؛ لأن الخمط نعت للأكل والشيء لا يضاف إلى نعته. ومن أضاف قال: الخمط: جنس من المأكولات، والأكل أشياء مختلفة فأضفته إلى الخمط، كما يضاف الأنواع إلى الأجناس، والخميط: ثمر الأراك، وهو البرير أيضًا، واحدها بريرة. وبريرة: جارية عائشة، والبرير: شجر السواك، والأثل: شجر،
[إعراب القراءات السبع وعللها: 2/215]
واحدها أثلة وتجمع أثلاث في العدد القليل، قال الشاعر:
أيا أثلاث القاع من بطن توضح = حنيني إلى أوطانكن طويل
ويروى: أطلالكن.
[إعراب القراءات السبع وعللها: 2/216]
وابن كثير ونافع يخففان: {أكل خمط}.
والباقون يثقلون: {أكل خمط} بضم الكاف عن الأصل، كما قال تعالى: {أكلها دائم} ومن أسكن الكاف مال إلى التخفيف، وقد ذكرته فيما تقدم). [إعراب القراءات السبع وعللها: 2/217]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في إضافة أكل خمط [سبأ/ 16] والتنوين.
فقرأ أبو عمرو وحده: ذواتي أكل خمط مضافا. وثقّل الأكل ونون الباقون. عباس عن أبي عمرو ذواتي أكل خمط مضافا خفيفا، وخفّف الكاف ابن كثير ونافع.
وثقّل الباقون إلا ما روى عباس عن أبي عمرو.
أبو عبيدة: الخمط: كل شجرة مرّة ذات شوك، والأكل: الجنا، كل ما اجتني قال أبو علي: ما ذهب إليه أبو عمرو في قراءته بالإضافة على تفسير أبي عبيدة حسن، وذاك أن الأكل: إذا كان الجنا فإنّ جنا كل شجرة منه، والدليل على أنّ الأكل: الجنا، كما قال أبو عبيدة، قوله سبحانه: تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها [إبراهيم/ 25] وقد جاء الجنا مضافا إلى الشجرة في قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 6/14]
موشحة بالطرّتين دنا لها جنا أيكة يضفو عليها قصارها فكما أضاف الجنا إلى الشجرة التي هي الأيكة كذلك أضاف أبو عمرو الأكل الذي هو الجنا إلى الخمط، وغير الإضافة على هذا ليس في حسن الإضافة، وذلك لأنّ الخمط إنما هو اسم شجرة، وليس بوصف، وإذا لم يكن وصفا. لم يجر على ما قبله، كما يجري الوصف على الموصوف. والبدل ليس بالسّهل أيضا، لأنّه ليس هو هو، ولا بعضه لأن الجنا من الشجرة، وليس الشجرة من الجنا، فيكون إجراؤه عليه على وجه عطف البيان، كأنّه بين أنّ الجنا لهذا الشجر، ومنه، وكأنّ الذي حسّن ذلك أنّهم قد استعملوا هذه الكلمة استعمال الصفة. قال الشاعر:
عقار كماء النّيء ليست بخمطة ولا خلّة يكوي الشّروب شهابها قال أبو الحسن: الأحسن في كلام العرب أن يضيفوا ما كان من نحو هذا مثل: دار آجرّ، وثوب خز. قال: وأكل خمط قراءة كثيرة وليست بالجيدة في العربية). [الحجة للقراء السبعة: 6/15]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل * ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلّا الكفور} 16 و17
[حجة القراءات: 586]
قرأ أبو عمرو {أكل خمط} مضافا أجراه مجرى قول القائل تمر دقل فأضاف الاسم إلى جنسه لاختلاف اللّفظين
وقرأ الباقون {أكل} منونا وحجتهم أن الأكل هو الخمط فالتنوين فيه على أنه بدل من الأكل وقد جاء في التّفسير أن الخمط الأراك وأكله ثمره
قال المبرد التّنوين في {أكل} أحسن من الإضافة على البدل ويجوز أن يكون على النّعت لأنّه وإن كان فكأنّه شيء مكروه الطّعم فجرى مجرى النّعت لأن بعض العرب يسمّي ما كان مكروه الطّعم من حموضة أو مرارة خمطا قال وأحسب أبا عمرو ذهب في الإضافة إلى هذا كأنّه أراد أكل حموضة أو مرارة وما أشبه ذلك). [حجة القراءات: 587]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (13- قوله: {أكلٍ خمط} قرأه أبو عمرو بإضافة {أكل} إلى {خمط} وقرأ الباقون بتنوين {أكل} من غير إضافة.
وحجة من أضاف أنه كما تقول: ثمر خط، وثمر نبق، أي ثمر شجرتين، وثمر شجر خمط، فهو من باب الإضافة بمعنى «من خمط» كـ «ثوب خز» أي من خز، فكذلك هذا معناه: أكل من خمط، فالأكل الجني وهو الثمر، والخمط في قول أبي عبيد: كل شجرة مرة الثمرة ذات الشوك، ولما لم يحسن أن يكون الخمط بدلًا، لأنه ليس الأول ولا هو بعضه، ولم يحسن أن يكون نعتًا؛ لأن الخمط اسم شجر، فهو لا ينعت به، وكان الجني من الشجر، أضيف على تقدير «من» كثوب خز، وباب ساجٍ.
14- وحجة من نونه أنه جعله «خمطًا» عطف بيان، فبين أن الأكل وهو الثمر من هذا الشجر، وهو الخمط، إذ لم يجز أن يكون الخمط بدلًا ولا نعتًا للأكل، على ما ذكرنا أولًا فلما عدل به عن الإضافة لم يكن فيه غير عطف البيان؛ لأنه بيان لما قبله، وبيَّن الأكل من أي الشجر هو، وقد تقدم ذكر التخفيف والتثقيل في البقرة). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/205]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (13- {أُكُلِ خَمْطٍ} [آية/ 16] بالإضافة:
قرأها أبو عمرو ويعقوب.
والوجه أن الأُكل الثمر، وخمطٌ شجرةٌ، والمعنى ثمر خمطٍ، أو جنا خمطٍ، والأُكُل والجنا واحدٌ، وإضافة كل واحدٍ منهما إلى الشجرة حسنةٌ، كما تقول: ثمر الشجرة، والدليل على أن الأُكُل الثمر قوله تعالى {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ}.
وقرأ الباقون {أُكُلٍ خَمْطٍ} بالتنوين في {أُكُلٍ}.
والوجه أن قوله {خَمْطٍ} على هذا بدل عن {أُكُلٍ} أو عطف بيانٍ، وأبو علي يختار عطف البيان، ويقول إنه بيَّن أن الجنا لهذه الشجرة.
وقال أبو الحسن: الأحسن في نحو هذا الإضافة نحو ثوب خزٍ وجبّة صوفٍ، ودار آجرٍ. وقد استعملوه استعمال الصفة.
وأسكن الكاف ابن كثير ونافعٌ، وحرَّكها الباقون.
والوجه أن كل ما كان على فُعُل بضم الفاء والعين، نحو عُنُقٍ وطُنُبٍ فإنه يطَّرد إسكان العين منه كطنب وعنقٍ). [الموضح: 1050]
قوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (وهل يجازى إلّا الكفور (17)
قرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم (يجازى) بالياء، و(الكفور) رفعًا.
وقرأ الباقون" (وهل نجازي) بالنون، (إلا الكفور) نصبًا.
[معاني القراءات وعللها: 2/292]
قال أبو منصور: من قرأ (وهل نجازي) بالنون، (إلا الكفور) فالله يقول:
هل نجازي، أي: ما نجازي. إلا الكفور منصوب بالفعل.
ومن قرأ (هل يجازى) فهو على ما لم يسم فاعله، أي لا يجازى إلا الكفور لنعمة ربّه.
ويسأل السائل فيقول: لم خصّ الكفور بالمجازاة دون غيره؟
والجواب فيه أن المؤمن تكفر حسناته سيئاته، فأما الكافر فإنه يحبط عمله كله، ويجازى بكل سوء عمله، كما قال اللّه: (الّذين كفروا وصدّوا عن سبيل اللّه أضلّ أعمالهم)، أي: أبطلها وأحبطها فلم تنفعهم.
وأما المؤمن فإنّ الله أعلمنا أن حسناته تكفر سيئاته، فلا يجازى بسيئاته؛ لأن إيمانه يعفّى عليها، فالمجازاة بالسيئات للكافر دون المؤمن، وهذا معنى قوله: (وهل يجازى إلّا الكفور) والمؤمن يجزى ولا يجازى؛ لأنه يزاد في الثواب، ولا يناقش في الحساب، ويطهّر من الذنوب). [معاني القراءات وعللها: 2/293]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (12- وقوله تعالى: {وهل نجازي إلا الكفور} [17].
قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم {نجازي} بالنون، الله تعالى يخبر عن نفسه {إلا الكفور} قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم نصب مفعول به.
وقرأ الباقون: {يجازي} بالياء، وفتح الزاي على مالم يسم فاعله، و{الكفور} رفع، و«هل» في هذا الموضع بمعنى الجحد، كقولك: ما يجازي إلا الكفور، قال الشاعر:
فهل أنتم إلا أخونا فتحزبوا = علينا إذا نابت علينا النوائب
ذلك أن «هل» تكون استفهامًا وحجدًا وأمرًا. كقوله: {فهل أنتم منتهون} أي: انتهوا. وتكون بمعنى «قد» كقوله: {هل أتى على الإنسان} قد أتي على الإنسان، و«إلا» تحقيق بعد جحد، أعني في قوله: {وهل نجازي إلا الكفور} ). [إعراب القراءات السبع وعللها: 2/218]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله تعالى: وهل نجازي إلا الكفور [سبأ/ 17] في الياء والنون، فقرأ حمزة والكسائي: وهل نجازي بالنون الكفور بالنصب. حفص عن عاصم مثل قراءة حمزة وأدغم الكسائي اللّام من هل في النون وحده وقرأ الباقون وعاصم في رواية أبي بكر: يجازي بالياء الكفور رفع.
قال أبو علي: حجّة نجازي قوله سبحانه: جزيناهم وهي قراءة الأعمش فيما زعموا، ومن قال: يجازى، فالمجازي: الله عزّ وجلّ وإن بني الفعل للمفعول به وهذا مثل قوله: حتى إذا فزع عن قلوبهم وفزّع عن قلوبهم. وأما قوله:
وهل يجازى إلا الكفور، والكفور وغيره [يجري على هذا فعله]
[الحجة للقراء السبعة: 6/17]
وإنّما خصّ الكفور بهذا، لأنّ المؤمن قد يكفّر عنه ذنوبه بطاعاته، فلا يجازى على ذنوبه التي تكفّر، والكافر عمله يحبط فلا يكفّر عن سيئاته، كما يكفّر عن سيئات المؤمن.
قال تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيآتكم [النساء/ 31] وقال: وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيآتهم وأصلح بالهم [محمد/ 2] وقال: إن الحسنات يذهبن السيآت [هود/ 114] وقال: ونتجاوز عن سيآتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون [الأحقاف/ 16] وقال في الكفّار: أضل أعمالهم [محمد/ 1] وقال: أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف [إبراهيم/ 18] والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة [النور/ 39] فالكافر يجازى بكلّ سوء يعمله، وليس كالمؤمن الذي يكفّر عن بعض سيئاته بأعماله الصالحة. وأمّا إدغام الكسائي اللّام في النون، فجائز. حكاه سيبويه وذلك: هنّرى من هل نرى فيدغم اللّام في النون، قال سيبويه: والبيان أحسن، قال: لأنّه قد امتنع أن يدغم في النّون ما أدغمت فيه سوى اللّام. قال: فكأنّهم يستوحشون من الإدغام). [الحجة للقراء السبعة: 6/18]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة ابن جندب: [وَهَلْ يُجْزَى إِلَّا الْكَفُور].
قال أبو الفتح: حدثنا أبو بكر محمد بن علي المراغي، ورُوِّيناه أيضا عن شيخنا أبي عليٍّ، قال: كان أبو إسحاق يقول: جزيت الرجل في الخير، وجازيته في الشر. واستدل على ذلك بقراءة العامة: {وَهَلْ يُجَازَى إِلَّا الْكَفُور}، وقرأت على أبي عليّ عن أبي زيد:
لَعَمْرِي لَقَد برَّ الضبابَ بَنُوه ... وَبَعضُ البَنِينَ حُمَّةٌ وسُعَالُ
جَزَوْنِي بما رَبَّيْتُهُمْ وَحَمَلْتُهُمْ ... كذلِكَ ما إنَّ الخُطُوبَ دَوَالُ
وينبغي أن يكون أبو إسحاق يريد أنك إذا أرسلتهما ولم تعدهما إلى المفعول الثاني كانا كذلك، فإذا ذكرته اشتركا. ألا ترى إلى قوله:
[المحتسب: 2/188]
جَزَانِي الزُّهدَمَانِ جَزَاء سَوء ... وكنتُ المرءَ أُجْزَى بالكَرَامَهْ
فأما قراءة ابن جندب: [وَهَلْ يُجْزَى إِلَّا الْكَفُور] فوجهه أنه إذا كان عن الحسنة عشرا فذلك تفضل، وليس جزاء، وإنما الجزاء في تعادل العمل والثواب عنه. ولله در جرير وعذوبته قال:
يا أُمَّ عمرٍو جَزاكِ اللهُ صالِحَةً ... رُدِّي عَلَيَّ فُؤادِي كالذِي كَانَا
وقال أبو حاتم [وَهَلْ يجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ]، بالنصب قراءة قتادة وابن وثاب والنخعي، في جماعة ذَكَرَهم). [المحتسب: 2/189]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : (قرأ حمزة والكسائيّ وحفص {وهل نجازي} بالنّون {الكفور} نصب الله أخبر عن نفسه وحجتهم في ذلك أنه أتى عقيب لفظ الجمع في قوله {ذلك جزيناهم بما كفروا} فكان الأولى بما أتى في سياقه أن يكون بلفظه وبعده {وجعلنا بينهم} فهذا يؤيّد معنى الجمع ليأتلف الكلام على نظام واحد
وقرأ الباقون (وهل يجازى) بضم الياء وفتح الزّاي الكفور رفع على ما لم يسم فاعله وحجتهم في ذلك أن ما أتى في القرآن من المجازاة أكثره على ما لم يسم فاعله من ذلك {اليوم تجزى كل نفس}
[حجة القراءات: 587]
{فلا يجزى إلّا مثلها} {ثمّ يجزاه الجزاء الأوفى} فرد ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه أولى). [حجة القراءات: 588]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (17- قوله: {وهل نجازي إلا الكفور} قرأه حفص وحمزة والكسائي بالنون، وكسر الزاي، ونصب {الكفور} على الإخبار عن الله جل ذكره عن نفسه، حملًا على ما أتى بعده من الأخبار عن الله جل ذكره عن نفسه في قوله: {وجعلنا بينهم وبين} «18» وقوله: {باركنا}، وعلى ما قبله أيضًا في قوله: {فأرسلنا عليهم} «16» و{بدلناهم} و{جزيناهم} فحسن حمل الكلام على ما قبله وما بعده، فالكفور منصوب بوقوع الفعل عليه، وهو «نجازي».
وحجة من قرأ بالياء والرفع وهو الاختيار؛ لأن الأكثر عليه أنه بنى الفعل للمفعول، فرفع {الكفور} لأنه مفعول لم يُسم فاعله، والناس كلهم يجازون بأعمالهم، لكن المؤمن يكفر الله عنه سيئاته الصغائر باجتنابه الكبائر، والكافر لا تكفير لسيئاته الصغائر؛ لأنه لم يجتنب الكبائر، إذ هو على الكفر، والكفر أعظم الكبائر، فلذلك خص الكافر بذكر المجازاة في هذه الآية،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/206]
إذ لابد من مجازاته على كل سيئاته؛ إذ لا عمل صالحًا له يكفر به عن سيئاته، والمؤمن يُكفر الله له عن بعض سيئاته أو عن كلها بأعماله الصالحة). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/207]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (14- {وَهَلْ نُجَازِي} بالنون، مكسورة الزاي، {إِلَّا الْكَفُورَ} نصبٌ [آية/17]:
قرأها حمزة والكسائي و-ص- عن عاصم ويعقوب.
والوجه أن المجازي هو الله تعالى فأخبر سبحانه عن نفسه بالنون ليوافق ما قبله وهو قوله تعالى {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ}، ونصب {الْكَفُورَ} بأنه مفعولٌ به.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم –ياش- {يُجَازى} بالياء وفتح الزاي، {الْكَفُورُ} رفع.
والوجه أنه مبنيٌ لما لم يسم فاعله، و{الْكَفُورُ} رفعٌ بإسناد الفعل إليه). [الموضح: 1051]
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18)}
قوله تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (ربّنا باعد بين أسفارنا)
قرأ ابن كثير وأبو عمرو (بعّد) بغير ألف، وكذلك روى هشام بن عمار لابن عامر، وروى غيره عنه (باعد).
وقرأ يعقوب الحضرمي (ربّنا باعد) بالنصب.
وقرأ الباقون (ربّنا باعد) بألفٍ.
[معاني القراءات وعللها: 2/293]
قال أبو منصور: من قرأ (باعد) و(بعّد) فالمعنى واحد، والتقدير يا ربّنا باعد، على الدعاء. وهو مثل: ناعم، ونعّم، وجارية منعّمة، ومناعمة.
ومن قرأ (ربّنا باعد) فهو فعل ماض، وليس بدعاء، وقد يكون (فاعل) من واحد، كما يقال: عاقبه الله، وعافاه). [معاني القراءات وعللها: 2/294]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (13- وقوله تعالى: {ربنا باعد بين أسفارنا} [19].
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر: {ربنا} على الدعاء، أي: يا ربنا بالنصب و{بعد} بغير ألف مشدد العين مثل قرب.
وقرأ الباقون: {ربنا} بالنصب أيضًا {بعد} بألف أيضًا و{بعد} دعاء على لفظ الأمر، وكذلك {بعد}، وعلامة الأمر سكون الدال. والمصدر باعد يباعد مباعدة فهو مباعد ومن بعد يبعد بعدًا فهو مبعد.
[إعراب القراءات السبع وعللها: 2/218]
وفيها قراءة ثالثة: روي عماد بن محمد عن الكلبي عن أبي صالح {ربنا} بالرفع على الابتداء {بعد بين أسفارنا} على الخبر فـ{باعد} فعل ماض على هذه القراءة.
حدثني بذلك أحمد عن على عن أبي عبيد قال: فإن قيل لك: باعد خبر، وباعد دعاء، فلم جاز في آية من كتاب الله عز وجل أن يقرأ بالشيء وضده؟
فالجواب في ذلك: أنهم سألوا ربهم أن يباعد بين أسفارهم فلما فعل الله ذلك بهم أخبروا فقالوا :ربنا باعد بين أسفارنا فأنزل الله ذلك في العرضتين فاعرف ذلك. وله في القرآن نظائر). [إعراب القراءات السبع وعللها: 2/219]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله سبحانه: ربنا بعد [سبأ/ 19] فقرأ ابن
[الحجة للقراء السبعة: 6/18]
كثير وأبو عمرو: بعد* مشددة العين، وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي: باعد، [واختلف عن ابن عامر] حدّثني أحمد بن محمد بن بكر قال: حدّثنا هشام بن عمّار قال: حدّثنا أيوب بن تميم وسويد بن عبد العزيز بإسناده عن ابن عامر بعد*. ابن ذكوان عنه باعد.
[قال أبو علي]: ذكر سيبويه: فاعل وفعّل قد يجيئان لمعنى كقولهم: ضاعف وضعّف، فيجوز أن يكون باعد وبعّد من ذلك.
وكذلك خلافه قارب وقرّب، واللفظان جميعا على معنى الطّلب والدّعاء. والمعنى في الوجهين على أنّهم كرهوا ما كانوا فيه من السعة والخصب وكفاية الكدح في المعيشة، وهؤلاء ممّن دخل في جملة قوله سبحانه: وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها [القصص/ 58] والبطر فيما قال بعض الناس: كراهة الشيء من غير أن يستحق أن يكره. وسؤالهم ما سألوا قريب من سؤال قوم موسى: ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض [البقرة/ 61] ). [الحجة للقراء السبعة: 6/19]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة ابن عباس ومحمد بن علي ابن الحنفية وابن يعمر بخلاف والكلبي وعمرو ابن فائد: [رَبُّنَا] -رفع- [بَعَّدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا]، رفع الباء على الخبر، وفتح الباء من "بعد" والعين، ونصب النون من "بين".
وقرأ: [رَبَّنَا بَعُدَ]، بفتح الباء والدال، وضم العين [بَيْنُ أَسْفَارِنَا]- ابن يعمر وسعيد ابن أبي الحسن ومحمد بن السميفع وسفيان بن حسين -بخلاف- والكلبي، بخلاف.
وقرأ: [رَبَّنَا بَاعَدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا] - ابن عباس وابن يعمر ومحمد بن علي وأبو رجاء والحسن -بخلاف- وأبو صالح وسلام ويعقوب وابن أبي ليلى والكلبي.
قال أبو الفتح: أما [بَعَّدَ] و[بَاعَدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا] فإن "بين" فيه منصوب نصب المفعول به، كقولك: بَعَّدَ وبَاعَدَ مسافة أسفارنا، وليس نصبه على الظرف. يدلك على ذلك قراءة من قرأ: [بَعُدَ بَيْنُ أَسْفَارِنَا]، كقولك: بَعُدَ مَدَى أسفارِنا، فرفعُه دليل كونه اسمًا، وعليه قوله:
[المحتسب: 2/189]
كأنَّ رِماحَهُم أشْطانُ بِئْرٍ ... بَعِيد بينَ جَالَيها جَرُور
أي: بعيد مدى جاليها، أو مسافة جاليها. ويؤكد كون [بينَ] هنا اسمًا لا ظرفًا أن بَعَّدَ وبَاعَدَ فعلان متعديان، فمفعولهما معهما، وليس "بين" ههنا مثلها في قولك: جلست بين القوم؛ لأن معناه جلست في ذلك الموضع وليس يريد هنا بَعِّد أو بَاعِد فيما بين أسفارنا شيئا.
قال أبو حاتم: وزعموا أن العمارة اتصلت ببلادهم، فأرادوا أن يسيروا على رواحلهم في الفيافي، فدعوا على أنفسهم، فهو قوله سبحانه: {وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُم}.
وكان شيخنا أبو علي يذهب إلى أن أصل "بين" أنها مصدر بان يبين وبينا، ثم استعملت ظرفا اتساعا وتجوزا، كمقدم الحاج، وخلافة فلان. قال. ثم استعملت واصلة بين الشيئين، وإن كانت في الأصل فاصلة. وذلك لأن جهتيها وَصَلَتَا ما يجاورهما بها، فصارت واصلة بين الشيئين. هذا معنى قوله، وجماع مراده فيه. وعليه قراءة من قرأ: [لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنُكُم]، بالرفع. أي: وصلُكم. وأجاز أبو الحسن في قوله تعالى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُم}، بالفتح أن يكون في موضع رفع، إلا أن فتحة الظرف لزمته، والمراد الرفع. ويمكن عندي أن يكون قوله:
وإني وقفْتُ اليومَ والأمسِ قبلَه ... بِبابِكَ حتَّى كادَتِ الشمْسُ تغرُبُ
المراد فيه "وأمسِ"، إلا أنه أدخل اللام عليه، فعرفه بها، وتركه على ما كان عليه من كسره المعتاد فيه، وإن كان قد أعربه في المعنى بإبراز لام التعريف إلى لفظه الذي كان إنما يبنى لتضمنها. وإن حملته على زيادة لام التعريف مثلها في الآن فمذهب آخر. ونظر بعض المولدين إلى حديث "بين" فقال:
انتصَرَ البينُ من البينِ ... واشتَفَتِ العينُ مِنَ العَينِ
[المحتسب: 2/190]
فالبين الأول الوصل، والثاني القطيعة والهجر، والعين الأولى هذا الناظر، والثانية الرقيب أي: رأت فيه ما أحبت). [المحتسب: 2/191]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا} {ولقد صدق عليهم إبليس ظنّه فاتّبعوه} 19 و20
قرأ ابن كثير وأبو عمرو (فقالوا ربنا بعد) بالتّشديد وقرأ الباقون {باعد} بالألف
قال سيبويهٍ إن فاعل وفعل يجيئان بمعنى كقولهم ضاعف وضعف وقارب وقرب واللفظان جميعًا على معنى الطّلب والدّعاء ولفظهما الأمر). [حجة القراءات: 588]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (18- قوله: {باعد بين أسفارنا} قرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالتشديد من غير ألف، وقرأ الباقون بألف مخففًا، على وزن «فاعل»، والقراءتان بمعنى، حكى سيبويه «ضاعف وضعف» بمعنى فهو بمعنى التباعد). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 2/207]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (15- {رَبُّنَا} بالرفع، {بَاعَدَ} بالألف، وبفتح العين والدال [آية/ 19]:
قرأها يعقوب وحده.
والوجه أن باعد وبعَّد واحدٌ كضاعف وضعَّف، والكلام إخبارٌ، والمعنى أن ربنا بعَّد بين أسفارنا، ونحن نريد أن لا يبعد، وهذا شكوى منهم لتباعد ما بين القرى التي كانت لهم وكانوا يريدون التردد إليها.
وقرأ الباقون {رَبَّنَا} بالنصب على الدعاء.
و{بَعِّدْ} على فعل بكسر العين وإسكان الدال على ابن كثير وأبي عمرو.
وقرأ الباقون {بَاعِدْ} على فاعل بالألف، وبكسر العين وإسكان الدال.
[الموضح: 1051]
والوجه أنه دعاءٌ، و{رَبَّنَا} منادى مضافٌ، فانتصب لذلك، و{بَاعِدْ} و{بَعِّدْ} بمعنىً واحدٍ، لفظهما لفظ الأمر، ومعناهما الدعاء، والمراد أنهم بطروا النعمة وجهلوا العافية وغمطوها فسألوا الله تعالى تغيير ما بهم والمباعدة بين أسفارهم تبرمًا بالرخاء والرفاهية). [الموضح: 1052]