تفاسير القرن الثامن الهجري
تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذا لم تأتهم بآيةٍ قالوا لولا اجتبيتها قل إنّما أتّبع ما يوحى إليّ من ربّي هذا بصائر من ربّكم وهدًى ورحمةٌ لقومٍ يؤمنون (203)}
قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في قوله تعالى: {قالوا لولا اجتبيتها} يقول: لولا تلقّيتها. وقال مرّةً أخرى: لولا أحدثتها فأنشأتها.
وقال ابن جريرٍ عن عبد اللّه بن كثيرٍ، عن مجاهدٍ في قوله [تعالى]: {وإذا لم تأتهم بآيةٍ قالوا لولا اجتبيتها} قال: لولا اقتضيتها، قالوا: تخرجها عن نفسك. وكذا قال قتادة، والسّدّيّ، وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جريرٍ.
وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ [رضي اللّه عنه] {لولا اجتبيتها} يقول: تلقّيتها من اللّه، عزّ وجلّ
وقال الضّحّاك: {لولا اجتبيتها} يقول: لولا أخذتها أنت فجئت بها من السّماء.
ومعنى قوله تعالى: {وإذا لم تأتهم بآيةٍ} أي: معجزةٍ، وخارقٍ، كما قال تعالى: {إن نشأ ننزل عليهم من السّماء آيةً فظلّت أعناقهم لها خاضعين} [الشّعراء: 4] يقولون للرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم: ألا تجهد نفسك في طلب الآيات من اللّه حتّى نراها ونؤمن بها، قال اللّه تعالى له: {قل إنّما أتّبع ما يوحى إليّ من ربّي} أي: أنا لا أتقدّم إليه تعالى في شيءٍ، وإنّما أتّبع ما أمرني به فأمتثل ما يوحيه إليّ، فإن بعث آيةً قبلتها، وإنّ منعها لم أسأله ابتداء إيّاها؛ إلّا أن يأذن لي في ذلك، فإنّه حكيمٌ عليمٌ.
ثمّ أرشدهم إلى أنّ هذا القرآن هو أعظم المعجزات، وأبين الدّلالات، وأصدق الحجج والبيّنات، فقال: {هذا بصائر من ربّكم وهدًى ورحمةٌ لقومٍ يؤمنون}). [تفسير القرآن العظيم: 3/ 535]
تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلّكم ترحمون (204)}
لمّا ذكر تعالى أنّ القرآن بصائر للنّاس وهدًى ورحمةٌ، أمر تعالى بالإنصات عند تلاوته إعظامًا له واحترامًا، لا كما كان يعتمده كفّار قريشٍ المشركون في قولهم: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلّكم تغلبون} [فصّلت: 26] ولكن يتأكّد ذلك في الصّلاة المكتوبة إذا جهر الإمام بالقراءة كما ورد الحديث الذي رواه مسلمٌ في صحيحه، من حديث أبي موسى الأشعريّ، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّما جعل الإمام ليؤتمّ به، فإذا كبّر فكبّروا، وإذا قرأ فأنصتوا» وكذلك رواه أهل السّنن من حديث أبي هريرة وصحّحه مسلم بن الحجّاج أيضًا، ولم يخرجه في كتابه وقال إبراهيم بن مسلمٍ الهجريّ، عن أبي عياضٍ، عن أبي هريرة قال: كانوا يتكلّمون في الصّلاة، فلمّا نزلت هذه الآية: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} والآية الأخرى، أمروا بالإنصات
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا أبو كريبٍ، حدّثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصمٍ، عن المسيّب بن رافعٍ، قال ابن مسعودٍ: كنّا يسلّم بعضنا على بعضٍ في الصّلاة: سلامٌ على فلانٍ، وسلامٌ على فلانٍ، فجاء القرآن {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلّكم ترحمون}
وقال أيضًا: حدّثنا أبو كريبٍ، حدّثنا المحاربيّ، عن داود بن أبي هندٍ، عن بشير بن جابرٍ قال: صلّى ابن مسعودٍ، فسمع ناسًا يقرءون مع الإمام، فلمّا انصرف قال: أما آن لكم أن تفهموا؟ أما آن لكم أن تعقلوا؟ {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} كما أمركم اللّه
قال: وحدّثني أبو السّائب، حدّثنا حفصٌ، عن أشعث، عن الزّهريّ قال: نزلت هذه الآية في فتًى من الأنصار، كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كلّما قرأ شيئًا قرأه، فنزلت: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}
وقد روى الإمام أحمد وأهل السنن، من حديث الزهري، عن أبي أكيمضة اللّيثيّ، عن أبي هريرة؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم انصرف من صلاةٍ جهر فيها بالقراءة، فقال: «هل قرأ أحدٌ منكم معي آنفًا؟ » قال رجلٌ: نعم يا رسول اللّه. قال:«إنّي أقول: ما لي أنازع القرآن؟» قال: فانتهى النّاس عن القراءة مع رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- فيما جهر فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالقراءة من الصّلوات حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال التّرمذيّ: "هذا حديثٌ حسنٌ". وصحّحه أبو حاتمٍ الرّازيّ.
وقال عبد اللّه بن المبارك، عن يونس عن الزّهريّ قال: لا يقرأ من وراء الإمام فيما يجهر به الإمام، تكفيهم قراءة الإمام وإن لم يسمعهم صوته، ولكنّهم يقرءون فيما لا يجهر به سرًّا في أنفسهم، ولا يصلح لأحدٍ خلفه أن يقرأ معه فيما يجهر به سرًّا ولا علانيةً، فإنّ اللّه تعالى قال: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلّكم ترحمون}
قلت: هذا مذهب طائفةٍ من العلماء: أنّ المأموم لا يجب عليه في الصّلاة الجهريّة قراءةٌ فيما جهر فيه الإمام لا الفاتحة ولا غيرها، وهو أحد قولي الشّافعيّ، وهو القديم كمذهب مالكٍ، وروايةٌ عن أحمد بن حنبلٍ، لما ذكرناه من الأدلّة المتقدّمة. وقال في الجديد: يقرأ الفاتحة فقط في سكتات الإمام، وهو قول طائفةٍ من الصّحابة والتّابعين فمن بعدهم. وقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبلٍ: لا يجب على المأموم قراءةٌ أصلًا في السّرّيّة ولا الجهريّة، لما ورد في الحديث: "من كان له إمامٌ فقراءته له قراءةٌ". وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده عن جابرٍ مرفوعًا، وهو في موطّأ مالكٌ عن وهب بن كيسان، عن جابرٍ موقوفًا، وهذا أصحّ. وهذه المسألة مبسوطةٌ في غير هذا الموضع وقد أفرد لها الإمام أبو عبد اللّه البخاريّ مصنّفًا على حدةٍ واختار وجوب القراءة خلف الإمام في السّريّة والجهريّة أيضًا، واللّه أعلم.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ قوله: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} يعني: في الصّلاة المفروضة. وكذا روي عن عبد اللّه بن المغفّل.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا حميد بن مسعدة، حدّثنا بشر بن المفضّل، حدّثنا الجريريّ، عن طلحة بن عبيد اللّه بن كريز قال: رأيت عبيد بن عميرٍ وعطاء بن أبي رباحٍ يتحدّثان، والقاصّ يقصّ، فقلت: ألا تستمعان إلى الذّكر وتستوجبان الموعود؟ قال: فنظرا إليّ، ثمّ أقبلا على حديثهما. قال: فأعدت فنظرا إليّ، وأقبلا على حديثهما. قال: فأعدت الثّالثة، قال: فنظرا إليّ فقالا إنّما ذلك في الصّلاة: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}
وقال سفيان الثّوريّ، عن أبي هاشمٍ إسماعيل بن كثيرٍ، عن مجاهدٍ في قوله: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} قال: في الصّلاة. وكذا رواه غير واحدٍ عن مجاهدٍ.
وقال عبد الرّزّاق، عن الثّوريّ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ قال: لا بأس إذا قرأ الرجل في غير الصلاة أن يتكلم.
وكذا قال سعيد بن جبيرٍ، والضّحّاك، وإبراهيم النخعي، وقتادة، والشعبي، والسدي، وعبد الرحمن ابن زيد بن أسلم: أنّ المراد بذلك في الصّلاة.
وقال شعبة، عن منصورٍ، سمعت إبراهيم بن أبي حرّة يحدّث أنّه سمع مجاهدًا يقول في هذه الآية: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} قال: في الصّلاة والخطبة يوم الجمعة.
وكذا روى ابن جريجٍ عن عطاءٍ، مثله.
وقال هشيم، عن الرّبيع بن صبيحٍ، عن الحسن قال: في الصّلاة وعند الذّكر.
وقال ابن المبارك، عن بقيّة: سمعت ثابت بن عجلان يقول: سمعت سعيد بن جبيرٍ يقول في قوله: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}؛ قال: الإنصات يوم الأضحى، ويوم الفطر، ويوم الجمعة، وفيما يجهر به الإمام من الصّلاة.
وهذا اختيار ابن جريرٍ أنّ المراد بذلك الإنصات في الصّلاة وفي الخطبة؛ لما جاء في الأحاديث من الأمر بالإنصات خلف الإمام وحال الخطبة.
وقال عبد الرّزّاق، عن الثّوريّ، عن ليثٍ، عن مجاهدٍ أنّه كره إذا مرّ الإمام بآية خوفٍ أو بآية رحمةٍ أن يقول أحدٌ من خلفه شيئًا، قال: السّكوت.
وقال مبارك بن فضالة، عن الحسن: إذا جلست إلى القرآن، فأنصت له.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا أبو سعيدٍ مولى بني هاشمٍ، حدّثنا عبّاد بن ميسرة، عن الحسن، عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «من استمع إلى آيةٍ من كتاب اللّه، كتبت له حسنةٌ مضاعفةٌ، ومن تلاها كانت له نورًا يوم القيامة». تفرّد به أحمد رحمه اللّه). [تفسير القرآن العظيم: 3/ 536-538]
تفسير قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({واذكر ربّك في نفسك تضرّعًا وخيفةً ودون الجهر من القول بالغدوّ والآصال ولا تكن من الغافلين (205) إنّ الّذين عند ربّك لا يستكبرون عن عبادته ويسبّحونه وله يسجدون (206)}
يأمر تعالى بذكره أوّل النّهار وآخره، كما أمر بعبادته في هذين الوقتين في قوله: {وسبّح بحمد ربّك قبل طلوع الشّمس وقبل الغروب} [ق: 39] وقد كان هذا قبل أن تفرض الصّلوات الخمس ليلة الإسراء، وهذه الآية مكّيّةٌ.
وقال هاهنا بالغدوّ -وهو أوائل النّهار: {والآصال} جمع أصيلٍ، كما أنّ الأيمان جمع يمينٍ.
وأمّا قوله: {تضرّعًا وخيفةً} أي: اذكر ربّك في نفسك رهبة ورغبة، وبالقول لا جهرًا؛ ولهذا قال: {ودون الجهر من القول} وهكذا يستحبّ أن يكون الذّكر لا يكون نداءً و [لا] جهرًا بليغًا؛ ولهذا لمّا سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقالوا: أقريبٌ ربّنا فنناجيه أم بعيدٌ فنناديه؟ فأنزل اللّه: {وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريبٌ أجيب دعوة الدّاع إذا دعان} [البقرة: 186]
وفي الصّحيحين عن أبي موسى الأشعريّ قال: رفع النّاس أصواتهم بالدّعاء في بعض الأسفار، فقال لهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «أيّها النّاس، اربعوا على أنفسكم، فإنّكم لا تدعون أصمّ ولا غائبًا؛ إنّ الّذي تدعونه سميعٌ قريبٌ»
وقد يكون المراد من هذه الآية كما في قوله تعالى: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا}[الإسراء: 110] فإنّ المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن سبّوه، وسبّوا من أنزله، و [سبّوا] من جاء به؛ فأمره اللّه تعالى ألّا يجهر به، لئلّا ينال منه المشركون، ولا يخافت به عن أصحابه فلا يسمعهم، وليتّخذ سبيلًا بين الجهر والإسرار. وكذا قال في هذه الآية الكريمة: {ودون الجهر من القول بالغدوّ والآصال ولا تكن من الغافلين}
وقد زعم ابن جريرٍ وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم قبله: أنّ المراد بهذه الآية: أمر السّامع للقرآن في حال استماعه بالذّكر على هذه الصّفة. وهذا بعيدٌ منافٍ للإنصات المأمور به، ثمّ المراد بذلك في الصّلاة، كما تقدّم، أو الصّلاة والخطبة، ومعلومٌ أنّ الإنصات إذ ذاك أفضل من الذّكر باللّسان، سواءً كان سرًّا أو جهرًا، فهذا الّذي قالاه لم يتابعا عليه، بل المراد الحضّ على كثرة الذّكر من العباد بالغدوّ والآصال، لئلّا يكونوا من الغافلين؛ ولهذا مدح الملائكة الّذين يسبّحون اللّيل والنّهار لا يفترون، فقال: {إنّ الّذين عند ربّك لا يستكبرون عن عبادته ويسبّحونه وله يسجدون} وإنّما ذكّرهم بهذا ليتشبّه بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم؛ ولهذا شرع لنا السّجود هاهنا لمّا ذكر سجودهم للّه، عزّ وجلّ، كما جاء في الحديث:«ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربّها، يتمّون الصّفوف الأول، ويتراصّون في الصّفّ»
وهذه أوّل سجدةٍ في القرآن، ممّا يشرع لتاليها ومستمعها السّجود بالإجماع. وقد ورد في حديثٍ رواه ابن ماجه، عن أبي الدّرداء، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه عدّها في سجدات القرآن). [تفسير القرآن العظيم: 3/ 538-539]