تفاسير القرن الثامن الهجري
تفسير قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وأقسموا باللّه جهد أيمانهم لئن جاءهم نذيرٌ ليكوننّ أهدى من إحدى الأمم فلمّا جاءهم نذيرٌ ما زادهم إلا نفورًا (42) استكبارًا في الأرض ومكر السّيّئ ولا يحيق المكر السّيّئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنّة الأوّلين فلن تجد لسنّة اللّه تبديلا ولن تجد لسنّة اللّه تحويلا (43)}.
يخبر تعالى عن قريشٍ والعرب أنّهم أقسموا باللّه جهد أيمانهم، قبل إرسال الرّسول إليهم: {لئن جاءهم نذيرٌ ليكوننّ أهدى من إحدى الأمم} أي: من جميع الأمم الّذين أرسل إليهم الرّسل. قاله الضّحّاك وغيره، كقوله تعالى: {أن تقولوا إنّما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنّا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنّا أنزل علينا الكتاب لكنّا أهدى منهم فقد جاءكم بيّنةٌ من ربّكم وهدًى ورحمةٌ فمن أظلم ممّن كذّب بآيات اللّه وصدف عنها} [الأنعام: 156، 157]، وكقوله تعالى: {وإن كانوا ليقولون لو أنّ عندنا ذكرًا من الأوّلين لكنّا عباد اللّه المخلصين فكفروا به فسوف يعلمون} [الصّافّات: 167-170].
قال اللّه تعالى: {فلمّا جاءهم نذيرٌ} -وهو: محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم-بما أنزل معه من الكتاب العظيم، وهو القرآن المبين، {ما زادهم إلا نفورًا}، أي: ما ازدادوا إلّا كفرًا إلى كفرهم، ثمّ بيّن ذلك بقوله: {استكبارًا في الأرض} أي: استكبروا عن اتّباع آيات اللّه، {ومكر السّيّئ} أي: ومكروا بالنّاس في صدّهم إيّاهم عن سبيل اللّه، {ولا يحيق المكر السّيّئ إلا بأهله} [أي: وما يعود وبال ذلك إلّا عليهم أنفسهم دون غيرهم.
قال ابن أبي حاتمٍ: ذكر عليّ بن الحسين، حدّثنا ابن أبي عمر، حدّثنا سفيان، عن أبي زكريّا الكوفيّ عن رجلٍ حدّثه، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "إيّاك ومكر السّيّئ، فإنّه لا يحيق المكر السّيّئ إلّا بأهله]، ولهم من اللّه طالبٌ"،، وقد قال محمّد بن كعبٍ القرظي: ثلاثٌ من فعلهنّ لم ينج حتّى ينزل به من مكرٍ أو بغيٍ أو نكثٍ، وتصديقها في كتاب اللّه: {ولا يحيق المكر السّيّئ إلا بأهله}. {إنّما بغيكم على أنفسكم} [يونس: 23]، {فمن نكث فإنّما ينكث على نفسه} [الفتح: 10].
وقوله: {فهل ينظرون إلا سنّة الأوّلين} يعني: عقوبة اللّه لهم على تكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره، {فلن تجد لسنّة اللّه تبديلا} أي لا تغيّر ولا تبدّل، بل هي جارية كذلك في كل مكذّبٍ، {ولن تجد لسنّة اللّه تحويلا} أي: {وإذا أراد اللّه بقومٍ سوءًا فلا مردّ له} [الرّعد: 11]، ولا يكشف ذلك عنهم، ويحوّله عنهم أحدٌ). [تفسير ابن كثير: 6/ 559-560]
تفسير قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الّذين من قبلهم وكانوا أشدّ منهم قوّةً وما كان اللّه ليعجزه من شيءٍ في السّموات ولا في الأرض إنّه كان عليمًا قديرًا (44) ولو يؤاخذ اللّه النّاس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابّةٍ ولكن يؤخّرهم إلى أجلٍ مسمًّى فإذا جاء أجلهم فإنّ اللّه كان بعباده بصيرًا (45)}.
يقول تعالى: قل يا محمّد لهؤلاء المكذّبين بما جئتهم به من الرّسالة: سيروا في الأرض، فانظروا كيف كان عاقبة الّذين كذّبوا الرّسل؟ كيف دمّر اللّه عليهم وللكافرين أمثالها، فخليت منهم منازلهم، وسلبوا ما كانوا فيه من النّعم بعد كمال القوّة، وكثرة العدد والعدد، وكثرة الأموال والأولاد، فما أغنى ذلك شيئًا، ولا دفع عنهم من عذاب اللّه من شيءٍ، لمّا جاء أمر ربّك لأنّه تعالى لا يعجزه شيء، إذا أراد كونه في السموات والأرض؟ {إنّه كان عليمًا قديرًا} أي: عليمٌ بجميع الكائنات، قديرٌ على مجموعها). [تفسير ابن كثير: 6/ 560]
تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) :(ثمّ قال تعالى: {ولو يؤاخذ اللّه النّاس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابّةٍ} أي: لو آخذهم بجميع ذنوبهم، لأهلك جميع أهل الأرض، وما يملكونه من دوابّ وأرزاقٍ.
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أحمد بن سنان، حدّثنا عبد الرّحمن، حدّثنا سفيان الثّوريّ، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد اللّه قال: كاد الجعل أن يعذّب في جحره بذنب ابن آدم، ثمّ قرأ: {ولو يؤاخذ اللّه النّاس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابّةٍ}.
وقال سعيد بن جبير، والسّدّيّ في قوله: {ما ترك على ظهرها من دابّةٍ} أي: لما سقاهم المطر، فماتت جميع الدّوابّ.
{ولكن يؤخّرهم إلى أجلٍ مسمًّى} أي: ولكن ينظرهم إلى يوم القيامة، فيحاسبهم يومئذٍ، ويوفّي كلّ عاملٍ بعمله، فيجازي بالثّواب أهل الطّاعة، وبالعقاب أهل المعصية؛ ولهذا قال تعالى: {فإذا جاء أجلهم فإنّ اللّه كان بعباده بصيرًا}). [تفسير ابن كثير: 6/ 560]