تفاسير القرن الثامن الهجري
تفسير قوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ولا تمدّنّ عينيك إلى ما متّعنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدّنيا لنفتنهم فيه ورزق ربّك خيرٌ وأبقى (131) وأمر أهلك بالصّلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقًا نحن نرزقك والعاقبة للتّقوى (132)}
يقول تعالى لنبيّه محمّدٍ صلوات اللّه وسلامه عليه: لا تنظر إلى هؤلاء المترفين وأشباههم ونظرائهم، وما فيه من النّعم فإنّما هو زهرةٌ زائلةٌ، ونعمةٌ حائلةٌ، لنختبرهم بذلك، وقليلٌ من عبادي الشّكور.
وقال مجاهدٌ: {أزواجًا منهم} يعني: الأغنياء فقد آتاك [اللّه] خيرًا ممّا آتاهم، كما قال في الآية الأخرى: {ولقد آتيناك سبعًا من المثاني والقرآن العظيم * لا تمدّنّ عينيك إلى ما متّعنا به أزواجًا منهم} [الحجر: 87، 88]، وكذلك ما ادّخره اللّه تعالى لرسوله في الدّار الآخرة أمرٌ عظيمٌ لا يحدّ ولا يوصف، كما قال تعالى: {ولسوف يعطيك ربّك فترضى} [الضّحى: 5] ولهذا قال: {ورزق ربّك خيرٌ وأبقى}.
وفي الصّحيح: أنّ عمر بن الخطّاب لمّا دخل عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في تلك المشربة الّتي كان قد اعتزل فيها نساءه، حين آلى منهم فرآه متوسّدًا مضطجعًا على رمال حصيرٍ وليس في البيت إلّا صبرة من قرظ، وأهب معلّقةٌ، فابتدرت عينا عمر بالبكاء، فقال رسول اللّه: " ما يبكيك ؟ ".
فقال: يا رسول اللّه، إنّ كسرى وقيصر فيما هما فيه، وأنت صفوة اللّه من خلقه؟ فقال: "أوفي شكٍّ أنت يا ابن الخطّاب؟ أولئك قومٌ عجّلت لهم طيّباتهم في حياتهم الدّنيا ".
فكان صلوات اللّه وسلامه عليه أزهد النّاس في الدّنيا مع القدرة عليها، إذا حصلت له ينفقها هكذا وهكذا، في عباد اللّه، ولم يدّخر لنفسه شيئًا لغدٍ.
قال ابن أبي حاتمٍ: أنبأنا يونس، أخبرني ابن وهبٍ، أخبرني مالكٌ، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيدٍ؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: " إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح اللّه من زهرة الدّنيا ". قالوا: وما زهرة الدّنيا يا رسول اللّه؟ قال: " بركات الأرض ".
وقال قتادة والسّدّيّ: زهرة الحياة الدّنيا، يعني: زينة الحياة الدّنيا.
وقال قتادة {لنفتنهم فيه} لنبتليهم). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 326-327]
تفسير قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {وأمر أهلك بالصّلاة واصطبر عليها} أي: استنقذهم من عذاب اللّه بإقام الصّلاة، واصطبر أنت على فعلها كما قال تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا} [التّحريم: 6].
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا أحمد بن صالحٍ، حدّثنا ابن وهبٍ أخبرني هشام بن سعدٍ، عن زيد بن أسلم، عن أبيه: أن عمر بن الخطّاب كان يبيت عنده أنا ويرفأ، وكان له ساعةٌ من اللّيل يصلّي فيها، فربّما لم يقم فنقول: لا يقوم اللّيلة كما كان يقوم، وكان إذا [استيقظ أقام] -يعني أهله -وقال: {وأمر أهلك بالصّلاة واصطبر عليها}.
وقوله: {لا نسألك رزقًا نحن نرزقك} يعني إذا أقمت الصّلاة أتاك الرّزق من حيث لا تحتسب، كما قال تعالى: {ومن يتّق اللّه يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب} [الطّلاق: 2، 3]، وقال تعالى: {وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزقٍ وما أريد أن يطعمون * إنّ اللّه هو الرّزّاق ذو القوّة المتين} [الذّاريات: 56-58] ولهذا قال: {لا نسألك رزقًا نحن نرزقك} وقال الثّوريّ: {لا نسألك رزقًا} أي: لا نكلّفك الطّلب. وقال ابن أبي حاتمٍ [أيضًا] حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، حدّثنا حفص بن غياثٍ، عن هشامٍ، عن أبيه؛ أنّه كان إذا دخل على أهل الدّنيا، فرأى من دنياهم طرفًا فإذا رجع إلى أهله، فدخل الدار قرأ: {ولا تمدّنّ عينيك} إلى قوله: {نحن نرزقك} ثمّ يقول: الصّلاة الصّلاة، رحمكم اللّه.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عبد اللّه بن أبي زيادٍ القطواني، حدّثنا سيّار، حدّثنا جعفرٌ، عن ثابتٍ قال: كان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم إذا أصابه خصاصةٌ نادى أهله: " يا أهلاه، صلّوا، صلّوا ". قال ثابتٌ: وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمرٌ فزعوا إلى الصّلاة.
وقد روى التّرمذيّ وابن ماجه، من حديث عمران بن زائدة، عن أبيه، عن أبي خالدٍ الوالبيّ، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: " يقول اللّه تعالى: يا ابن آدم تفرّغ لعبادتي أملأ صدرك غنًى، وأسدّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلًا ولم أسدّ فقرك ".
وروى ابن ماجه من حديث الضّحّاك، عن الأسود، عن ابن مسعودٍ: سمعت نبيّكم صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: " من جعل الهموم همًّا واحدًا همّ المعاد كفاه اللّه همّ دنياه. ومن تشعّبت به الهموم في أحوال الدّنيا لم يبال اللّه في أيّ أوديته هلك ".
وروي أيضًا من حديث شعبة، عن عمر بن سليمان عن عبد الرّحمن بن أبانٍ، عن أبيه، عن زيد بن ثابتٍ: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: " من كانت الدّنيا همّه فرّق اللّه عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدّنيا إلّا ما كتب له. ومن كانت الآخرة نيّته، جمع له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدّنيا وهي راغمةٌ ".
{والعاقبة للتّقوى} أي: وحسن العاقبة في الدّنيا والآخرة، وهي الجنّة، لمن اتّقى اللّه.
وفي الصّحيح: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم قال: " رأيت اللّيلة كأنّا في دار عقبة بن رافعٍ وأنّا أتينا برطبٍ [من رطب] ابن طاب، فأوّلت ذلك أنّ العاقبة لنا في الدنيا والرفعة وأن ديننا قد طاب "). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 327-328]
تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وقالوا لولا يأتينا بآيةٍ من ربّه أولم تأتهم بيّنة ما في الصّحف الأولى (133) ولو أنّا أهلكناهم بعذابٍ من قبله لقالوا ربّنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتّبع آياتك من قبل أن نذلّ ونخزى (134) قل كلٌّ متربّصٌ فتربّصوا فستعلمون من أصحاب الصّراط السّويّ ومن اهتدى (135)}.
يقول تعالى مخبرًا عن الكفّار في قولهم: {لولا} أي: هلّا {يأتينا} محمّدٌ {بآيةٍ من ربّه} أي: بعلامةٍ دالّةٍ على صدقه في أنّه رسول اللّه؟ قال اللّه تعالى: {أولم تأتهم بيّنة ما في الصّحف الأولى} يعني: القرآن العظيم الّذي أنزله عليه اللّه وهو أمّيٌّ، لا يحسن الكتابة، ولم يدارس أهل الكتاب، وقد جاء فيه أخبار الأوّلين، بما كان منهم في سالف الدّهور، بما يوافقه عليه الكتب المتقدّمة الصّحيحة منها؛ فإنّ القرآن مهيمنٌ عليها، يصدّق الصّحيح، ويبيّن خطأ المكذوب فيها وعليها. وهذه الآية كقوله تعالى في سورة "العنكبوت": {وقالوا لولا أنزل عليه آياتٌ من ربّه قل إنّما الآيات عند اللّه وإنّما أنا نذيرٌ مبينٌ * أولم يكفهم أنّا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إنّ في ذلك لرحمةً وذكرى لقومٍ يؤمنون} [العنكبوت: 50، 51] وفي الصّحيح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: " ما من نبيٍّ إلّا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنّما كان الّذي أوتيته وحيًا أوحاه اللّه إليّ، وإنّي لأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة ".
وإنّما ذكر هاهنا أعظم الآيات الّتي أعطيها، عليه السّلام، وهو القرآن، وله من المعجزات ما لا يحدّ ولا يحصر، كما هو مودعٌ في كتبه، ومقرّرٌ في مواضعه).[تفسير القرآن العظيم: 5/ 329]
تفسير قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آَيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال تعالى: {ولو أنّا أهلكناهم بعذابٍ من قبله لقالوا ربّنا لولا أرسلت إلينا رسولا} أي: لو أنّا أهلكنا هؤلاء المكذّبين قبل أن نرسل إليهم هذا الرّسول الكريم، وننزّل عليهم هذا الكتاب العظيم لكانوا قالوا: {ربّنا لولا أرسلت إلينا رسولا} قبل أن تهلكنا، حتّى نؤمن به ونتّبعه؟ كما قال: {فنتّبع آياتك من قبل أن نذلّ ونخزى}، يبيّن تعالى أنّ هؤلاء المكذّبين متعنّتون معاندون لا يؤمنون {ولو جاءتهم كلّ آيةٍ حتّى يروا العذاب الأليم} [يونس: 97]، كما قال تعالى: {وهذا كتابٌ أنزلناه مباركٌ فاتّبعوه واتّقوا لعلّكم ترحمون * أن تقولوا إنّما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنّا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنّا أنزل علينا الكتاب لكنّا أهدى منهم فقد جاءكم بيّنةٌ من ربّكم وهدًى ورحمةٌ فمن أظلم ممّن كذّب بآيات اللّه وصدف عنها سنجزي الّذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون} [الأنعام: 155-157] وقال: {وأقسموا باللّه جهد أيمانهم لئن جاءهم نذيرٌ ليكوننّ أهدى من إحدى الأمم فلمّا جاءهم نذيرٌ ما زادهم إلا نفورًا} [فاطرٍ: 42] وقال: {وأقسموا باللّه جهد أيمانهم لئن جاءتهم آيةٌ ليؤمننّ بها قل إنّما الآيات عند اللّه وما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرّةٍ ونذرهم في طغيانهم يعمهون} [الأنعام: 109، 110]).[تفسير القرآن العظيم: 5/ 329]
تفسير قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال تعالى {قل} أي: يا محمّد لمن كذّبك وخالفك واستمرّ على كفره وعناده {كلٌّ متربّصٌ} أي: منّا ومنكم {فتربّصوا} أي: فانتظروا، {فستعلمون من أصحاب الصّراط السّويّ} أي: الطّريق المستقيم، {ومن اهتدى} إلى الحقّ وسبيل الرّشاد، وهذا كقوله تعالى {وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضلّ سبيلا} [الفرقان: 42]، {سيعلمون غدًا من الكذّاب الأشر} [القمر: 26]). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 330]