تفسير قوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) )
قال أبو بكرٍ عبدُ الله بنُ محمدٍ ابنُ أبي شيبةَ العبسيُّ (ت: 235هـ): (حدّثنا خلف بن خليفة، عن عون بن شدّادٍ، أنّ هرم بن حيّان العبديّ لمّا نزل به الموت، قالوا له: يا هرم، أوصني، قال: أوصيكم أن تقضوا عنّي ديني، قالوا: بم توصي، قال: فتلا آخر سورة النّحل {ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة} حتّى بلغ {إنّ اللّه مع الّذين اتّقوا والّذين هم محسنون}). [مصنف ابن أبي شيبة: 19/ 429]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالّتي هي أحسن، إنّ ربّك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين}.
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: {ادع} يا محمّد من أرسلك إليه ربّك بالدّعاء إلى طاعته {إلى سبيل ربّك} يقول: إلى شريعة ربّك الّتي شرعها لخلقه، وهو الإسلام {بالحكمة} يقول بوحي اللّه الّذي يوحيه إليك وكتابه الّذي ينزله عليك {والموعظة الحسنة} يقول: وبالعبر الجميلة الّتي جعلها اللّه حجّةً عليهم في كتابه، وذكّرهم بها في تنزيله، كالّتي عدّد عليهم في هذه السّورة من حججه، وذكّرهم فيها ما ذكّرهم من آلائه {وجادلهم بالّتي هي أحسن} يقول: وخاصمهم بالخصومة الّتي هي أحسن من غيرها، أن تصفح عمّا نالوا به عرضك من الأذى، ولا تعصه في القيام بالواجب عليك من تبليغهم رسالة ربّك.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل
ذكر من قال ذلك
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، وحدّثني الحارث، قال: حدّثنا الحسن، قال: حدّثنا ورقاء، جميعًا، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قول اللّه: {وجادلهم بالّتي هي أحسن} " أعرض عن أذاهم إيّاك ".
- حدّثنا القاسم قال: حدّثنا الحسين قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، مثله
وقوله: {إنّ ربّك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله} يقول تعالى ذكره لنبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: إنّ ربّك يا محمّد هو أعلم بمن جار عن قصد السّبيل من المختلفين في السّبت وغيره من خلقه، وحادّ اللّه، وهو أعلم بمن كان منهم سالكًا قصد السّبيل ومحجّة الحقّ، وهو مجازٍ جميعهم جزاءهم عند ورودهم عليه). [جامع البيان: 14/400-401]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيم نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وجادلهم بالتي هي أحسن يقول أعرض عن أذاهم إياك). [تفسير مجاهد: 355]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآية 125.
أخرج ابن مردويه عن أبي ليلى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تمسكوا بطاعة أئمتكم ولا تخالفوهم فإن طاعتهم طاعة الله معصيتهم معصية الله فإن الله إنما بعثني أدعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة فمن خالفني في ذلك فهو من الهالكين وقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله ومن ولي من أمركم شيئا فعمل بغير ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين). [الدر المنثور: 9/133]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {وجادلهم بالتي هي أحسن} قال: أعرض عن أذاهم إياك). [الدر المنثور: 9/133-134]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج سعيد بن منصور، وابن سعد، وابن أبي شيبة وهناد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن هرم بن حيان أنه لما أنزل به الموت قالوا له: أوص، قال: أوصيكم بآخر سورة النحل {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة} إلى آخر السورة). [الدر المنثور: 9/137]
تفسير قوله تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن معمر عن قتادة في قوله تعالى وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به قال مثل المسلمين يوم أحد فقال وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين ثم قال بعد ذلك واصبر وما صبرك إلا بالله). [تفسير عبد الرزاق: 1/361]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن الثوري عن خالد عن ابن سيرين قال وإن عاقبتم فعاقبوا يقول إن أخذ الرجل منك شيئا فخذ منه مثله.
عن الثوري عن منصور عن إبراهيم قال إن أخذ منك شيئا فخذ منه مثله). [تفسير عبد الرزاق: 1/361]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (قال سفيان الثوري ويقول إن أخذ منك دينارا فلا تأخذ منه إلا دينارا وإن أخذ منك شيئا فلا تأخذ إلا مثل ذلك). [تفسير عبد الرزاق: 1/361]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن ابن التيمي عن داود عن الشعبي قال لا تخن من خانك أكثرا مما خانك فإن أخذت منه مثل ما أخذ منك فليس عليك بأس). [تفسير عبد الرزاق: 1/361]
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (قال سمعت هشاما يحدث عن الحسن أن النبي قال لا تخن من خانك وأد الأمانة إلى من ائتمنك). [تفسير عبد الرزاق: 1/361-362]
قال محمدُ بنُ عيسى بنِ سَوْرة التِّرْمِذيُّ (ت: 279هـ) : (حدّثنا أبو عمّارٍ، قال: حدّثنا الفضل بن موسى، عن عيسى بن عبيدٍ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، قال: حدّثني أبيّ بن كعبٍ، قال: لمّا كان يوم أحدٍ أصيب من الأنصار أربعةٌ وستّون رجلاً، ومن المهاجرين ستّةٌ منهم حمزة، فمثّلوا بهم، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يومًا مثل هذا لنربينّ عليهم قال: فلمّا كان يوم فتح مكّة، فأنزل اللّه تعالى {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصّابرين} فقال رجلٌ: لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم: كفّوا عن القوم إلاّ أربعةً. هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ من حديث أبيّ بن كعبٍ). [سنن الترمذي: 5/150]
قالَ أَحْمَدُ بْنُ شُعَيْبٍ النَّسَائِيُّ (ت: 303هـ): (قوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به}
- أخبرنا الحسين بن حريثٍ، أخبرنا الفضل بن موسى، عن عيسى بن عبيدٍ، عن ربيعٍ، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعبٍ، قال: لمّا كان يوم أحدٍ أصيب من الأنصار أربعةٌ وستّون رجلًا، ومن المهاجرين ستّةٌ، منهم حمزة، فمثّلوا به، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يومًا مثل هذا لنربينّ عليهم، فلمّا أن كان يوم فتح مكّة، فأنزل الله تعالى {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصّابرين} [النحل: 126]، فقال رجلٌ: لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كفّوا عن القوم غير أربعةٍ»). [السنن الكبرى للنسائي: 10/145]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصّابرين}.
يقول تعالى ذكره للمؤمنين: وإن عاقبتم أيّها المؤمنون من ظلمكم واعتدى عليكم، فعاقبوه بمثل الّذي نالكم به ظالمكم من العقوبة، ولئن صبرتم عن عقوبته واحتسبتم عند اللّه ما نالكم به من الظّلم ووكّلتم أمره إليه حتّى يكون هو المتولّي عقوبته، {لهو خيرٌ للصّابرين} يقول: للصّبر عن عقوبته لذلك خيرٌ لأهل الصّبر احتسابًا وابتغاء ثواب اللّه، لأنّ اللّه يعوّضه من الّذي أراد أن يناله بانتقامه من ظالمه على ظلمه إيّاه من لذّة الانتصار.
وهو من قوله: {لهو} كنايةٌ عن الصّبر وحسن ذلك، وإن لم يكن ذكر قبل ذلك الصّبر لدلالة قوله: {ولئن صبرتم} عليه.
وقد اختلف أهل التّأويل في السّبب الّذي من أجله نزلت هذه الآية، وقيل: هي منسوخةٌ أو محكمةٌ؟ فقال بعضهم: نزلت من أجل أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه أقسموا حين فعل المشركون يوم أحدٍ ما فعلوا بقتلى المسلمين من التّمثيل بهم أن يجاوزوا فعلهم في المثلة بهم إن رزقوا الظّفر عليهم يومًا، فنهاهم اللّه عن ذلك بهذه الآية، وأمرهم أن يقتصروا في التّمثيل بهم إن هم ظفروا على مثل الّذي كان منهم، ثمّ أمرهم بعد ذلك بترك التّمثيل وإيثار الصّبر عنه بقوله: {واصبر وما صبرك إلاّ باللّه} فنسخ بذلك عندهم ما كان أذن لهم فيه من المثلة
ذكر من قال ذلك
- حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا المعتمر، قال: سمعت داود، عن عامرٍ: أنّ المسلمين قالوا لمّا مثل المشركون بقتلاهم يوم أحدٍ: " لئن ظهرنا عليهم لنفعلنّ ولنفعلنّ "، فأنزل اللّه تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصّابرين} قالوا: بل نصبر "
- حدّثنا محمّد بن المثنّى قال: حدّثنا عبد الوهّاب قال: حدّثنا داود، عن عامرٍ قال: لمّا رأى المسلمون ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أحدٍ، من تبقير البطون وقطع المذاكير والمثلة السّيّئة، قالوا: " لئن أظفرنا اللّه بهم، لنفعلنّ ولنفعلنّ "، فأنزل اللّه فيهم: {ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصّابرين. واصبر وما صبرك إلاّ باللّه} "
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق، عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يسارٍ، قال: " نزلت سورة النّحل كلّها بمكّة، وهي مكّيّةٌ، إلاّ ثلاث آياتٍ في آخرها نزلت بالمدينة بعد أحدٍ، حيث قتل حمزة ومثّل به، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: " لئن ظهرنا عليهم لنمثّلنّ بثلاثين رجلاً منهم "، فلمّا سمع المسلمون بذلك، قالوا: واللّه لئن ظهرنا عليهم لنمثّلنّ بهم مثلةً لم يمثّلها أحدٌ من العرب بأحدٍ قطّ، فأنزل اللّه: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصّابرين} إلى آخر السّورة "
- حدّثنا محمّد بن عبد الأعلى، قال: حدّثنا محمّد بن ثورٍ، عن معمرٍ، عن قتادة: " {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} قال مثل بالمسلمون يوم أحدٍ، فقال: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} إلى قوله: {لهو خيرٌ للصّابرين} ثمّ قال بعد: {واصبر وما صبرك إلاّ باللّه} "
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: لمّا أصيب في أهل أحدٍ المثل، فقال المسلمون: " لئن أصبناهم لنمثّلنّ بهم "، فقال اللّه: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصّابرين} فلم تعاقبوا {لهو خيرٌ للصّابرين} ثمّ عزم وأخبر فلا يمثّل، فنهي عن المثل، قال: مثّل الكفّار بقتلى أحدٍ، إلاّ حنظلة بن الرّاهب، كان الرّاهب أبو عامرٍ مع أبي سفيان، فتركوا حنظلة لذلك ".
وقال آخرون: نسخ ذلك بقوله في براءة: {اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} قالوا: وإنّما قال: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} حين أمر المؤمنين أن لا يبدءوهم بقتالٍ حتّى يبدءوهم به، فقال: {وقاتلوا في سبيل اللّه الّذين يقاتلونكم ولا تعتدوا، إنّ اللّه لا يحبّ المعتدين}
ذكر من قال ذلك
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي قال: حدّثني عمّي قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} قال: " هذا حين أمر اللّه نبيّه أن يقاتل من قاتله، قال: ثمّ نزلت براءة وانسلاخ الأشهر الحرم، قال: فهذا من المنسوخ ".
وقال آخرون: بل عنى اللّه تعالى بقوله: {واصبر وما صبرك إلاّ باللّه} نبيّ اللّه خاصّةً دون سائر أصحابه، فكان الأمر بالصّبر له عزيمةً من اللّه دونهم
ذكر من قال ذلك
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} قال: " أمرهم اللّه أن يعفوا عن المشركين، فأسلم رجالٌ لهم منعةٌ، فقالوا: يا رسول اللّه، لو أذن اللّه لنا لانتصرنا من هؤلاء الكلاب فنزل القرآن: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصّابرين} واصبر أنت يا محمّد، ولا تكن ممّن ينتصر، وما صبرك إلاّ باللّه، ثمّ نسخ هذا وأمره بجهادهم، فهذا كلّه منسوخٌ ".
وقال آخرون: لم يعن بهاتين الآيتين شيءٌ ممّا ذكر هؤلاء، وإنّما عني بهما أنّ من ظلم بظلامةٍ فلا يحلّ له أن ينال ممّن ظلمه أكثر ممّا نال الظّالم منه، وقالوا: الآية محكمةٌ غير منسوخةٍ
ذكر من قال ذلك
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا الثّوريّ، عن خالدٍ، عن ابن سيرين: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} يقول: " إن أخذ منك رجلٌ شيئًا، فخذ منه مثله "
- حدّثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا الثّوريّ، عن منصورٍ، عن إبراهيم، قال: " إن أخذ منك شيئًا فخذ منه مثله ".
- قال الحسن: قال عبد الرّزّاق: قال سفيان: ويقولون: إن أخذ منك دينارًا فلا تأخذ منه إلاّ دينارًا، وإن أخذ منك شيئًا فلا تأخذ منه إلاّ مثل ذلك الشّيء
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، وحدّثني الحارث، قال: حدّثنا الحسن، قال: حدّثنا ورقاء، جميعًا عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} " لا تعتدوا ".
- حدّثنا القاسم قال: حدّثنا الحسين قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ، مثله.
والصّواب من القول في ذلك أن يقال: إنّ اللّه تعالى ذكره أمر من عوقب من المؤمنين بعقوبةٍ أن يعاقب من عاقبه بمثل الّذي عوقب به، إن اختار عقوبته، وأعلمه أنّ الصّبر على ترك عقوبته على ما كان منه إليه خيرٌ، وعزم على نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يصبر، وذلك أنّ ذلك هو ظاهر التّنزيل، والتّأويلات الّتي ذكرناها عمّن ذكروها عنه محتملتها الآية كلّها فإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن في الآية دلالةٌ على أي ذلك عنى بها من خبّر ولا عقل كان الواجب علينا الحكم بها إلى باطن لا دلالةٌ عليه، وأن يقال: هي آيةٌ محكمةٌ أمر اللّه تعالى ذكره عباده أن لا يتجاوزوا فيما وجب لهم قبل غيرهم من حقٍّ من مالٍ أو نفسٍ الحقّ الّذي جعله اللّه لهم إلى غيره، وأنّها غير منسوخةٍ، إذ كان لا دلالة على نسخها، وأنّ للقول بأنّها محكمةٌ وجهًا صحيحًا مفهومًا). [جامع البيان: 14/401-407]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (نا إبراهيمنا آدم نا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به يقول لا تعتدوا يعني محمدا وأصحابه). [تفسير مجاهد: 355]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (أخبرنا أبو زكريّا العنبريّ، ثنا محمّد بن عبد السّلام، ثنا إسحاق بن الفضل بن موسى، ثنا عيسى بن عبيدٍ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، قال: حدّثني أبيّ بن كعبٍ رضي اللّه عنه، قال: لمّا كان يوم أحدٍ أصيب من الأنصار أربعةٌ وستّون رجلًا، ومن المهاجرين ستّةٌ، فمثّلوا بهم، وفيهم حمزة فقالت الأنصار: لئن أصبناهم يومًا مثل هذا لنربينّ عليهم. فلمّا كان يوم فتح مكّة أنزل اللّه عزّ وجلّ {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصّابرين} [النحل: 126] فقال رجلٌ: لا قريش بعد اليوم. فقال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: «كفّوا عن القوم غير أربعةٍ» هذا حديثٌ صحيح الإسناد ولم يخرجاه "). [المستدرك: 2/391]
قال أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد ابن الأثير الجزري (ت: 606هـ) : ( (ت) أبي بن كعب رضي الله عنه قال: لما كان يوم أحدٍ: أصيب من الأنصار أربعةٌ وستّون رجلاً، ومن المهاجرين ستةٌ - منهم حمزة بن عبد المطّلب - فمثّلوا بهم، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوماً مثل هذا لنربينّ عليهم التمثيل، فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصابرين} [النحل: 126] فقال رجل: لا قريش بعد اليوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كفّوا عن القوم إلا أربعة ». أخرجه الترمذي.
[شرح الغريب]
(مثّلوا بهم) مثل به يمثل: إذا نكّل به، ومثل بالقتيل: إذا جدعه. وشوه خلقته، والاسم: المثلة.
(لنربين) أي: لنزيدن). [جامع الأصول: 2/208-210]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (الآية 126 - 128.
أخرج الترمذي وحسنه وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلا ومن المهاجرين ستة منهم حمزة فمثلوا بهم فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربين عليهم فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نصبر ولا نعاقب، كفوا عن القوم إلا أربعة). [الدر المنثور: 9/134]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن سعد والبزار، وابن المنذر، وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة: أن النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة حين استشهد فنظر إلى منظر لم ير شيئا قط كان أوجع لقلبه منه ونظر إليه قد مثل به فقال: رحمة الله عليك فإنك كنت ما علمت وصولا للرحم فعولا للخيرات ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من أرواح شتى أما والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك، فنزل جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بخواتيم النحل {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم} الآية، فكفر النّبيّ عن يمينه وأمسك عن الذي أراد وصبر). [الدر المنثور: 9/134-135]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن المنذر والطبراني، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قتل حمزة ومثل به: لئن ظفرت بقريش لأمثلن بسبعين رجلا منهم، فأنزل الله {وإن عاقبتم} الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل نصبر يا رب: فصبر ونهى عن المثلة). [الدر المنثور: 9/135]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وابن جرير عن الشعبي قال: لما كان يوم أحد وانصرف المشركون فرأى المسلمون بإخوانهم مثلة جعلوا يقطعون آذانهم وآنافهم ويشقون بطونهم، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن أنالنا الله منهم لنفعلن ولنفعلن، فأنزل الله {وإن عاقبتم} الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل نصبر). [الدر المنثور: 9/135-136]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير عن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة النحل كلها بمكة إلا ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة يوم أحد حيث قتل حمزة ومثل به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بثلاثين رجلا منهم فلما سمع المسلمون ذلك قالوا: والله لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط، فأنزل الله {وإن عاقبتم فعاقبوا} إلى آخر السورة). [الدر المنثور: 9/136]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} قال: هذا حين أمر الله نبيه أن يقاتل من قاتله ثم نزلت براءة وإنسلاخ الأشهر الحرم، قال: فهذا من المنسوخ). [الدر المنثور: 9/136]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: كانوا قد أمروا بالصفح عن المشركين فأسلم رجال ذو منعنة فقالوا: يا رسول الله صلى الله وسلم لو أذن الله لنا لانتصرنا من هؤلاء الكلاب، فنزلت هذه الآية ثم نسخ ذلك بالجهاد). [الدر المنثور: 9/136]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد في قوله: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) . قال: لا تعتدوا). [الدر المنثور: 9/137]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين في قوله: (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) . قال: إن أخذ منك رجل شيئا فخذ منه مثله). [الدر المنثور: 9/137]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد في قوله: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} قال: لا تعتدوا). [الدر المنثور: 9/137]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن محمد بن سيرين في قوله: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به} قال: إن أخذ منك رجل شيئا فخذ منه مثله). [الدر المنثور: 9/137]
تفسير قوله تعالى: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) )
قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : ({في ضيقٍ} [النحل: 127] : " يقال: أمرٌ ضيقٌ وضيّقٌ، مثل هينٍ وهيّنٍ، ولينٍ وليّنٍ، وميتٍ وميّتٍ "). [صحيح البخاري: 6/82]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ): (قوله في ضيقٍ يقال أمرٌ ضيقٌ وأمرٌ ضيّقٌ مثل هينٌ وهيّنٌ ولينٌ وليّنٌ وميتٌ وميّتٌ قال أبو عبيدة في قوله تعالى ولا تك في ضيق بفتح أوّله وتخفيف ضيقٍ كميتٍ وهينٍ ولينٍ فإذا خفّفتها قلت ميتٌ وهينٌ ولينٌ فإذا كسرت أوّله فهو مصدر ضيّق انتهى وقرأ بن كثيرٍ هنا وفي النّمل بالكسر والباقون بالفتح فقيل على لغتين وقيل المفتوح مخفّفٌ من ضيقٍ أي في أمر ضيّقٍ واعترضه الفارسيّ بأنّ الصّفة غير خاصّةٍ بالموصوف فلا يدّعى الحذف). [فتح الباري: 8/385]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : ({في ضيقٍ} يقال أمرٌ ضيقٌ وضيّقٌ مثل هيّنٍ وليّنٍ وليّنٍ وميتٍ وميّتٍ (النّحل: 127)
أشار بقوله في ضيق إلى قوله تعالى: {ولا تك في ضيق ممّا يمكرون} وأشار بقوله: بقال أمر ضيق إلّا أن فيه لغتين: التّشديد والتّخفيف كما ذكرها في الأمثلة المذكورة، وقرأ ابن كثير هنا، وفي النّمل بكسر الضّاد والباقون بفتحها، وقال الفراء الضّيق بالتّشديد ما يكون في الّذي يتّسع مثل الدّار والثّوب معنى الآية لا يضيق صدرك من مكرهم). [عمدة القاري: 19/15]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : (وقوله: {ولا تك} ({في ضيق}) (النحل: 27] (يقال أمر ضيق) بسكون التحتية (وضيق) بتشديدها (مثل هين وهين ولين ولين وميت وميت) لغتان وكسر الضاد ابن كثير وفتحها غيره فقيل هما بمعنى في هذا المصدر كالقول والقيل؛ وقيل المفتوح مخفف من ضيق كميت في ميت.
قال في اللباب؛ هذا من الكلام المقلوب لأن الضيق صفة والصفة تكون حاصلة في الموصوف ولا يكون الموصوف حاصلًا في الصفة فكأن المعنى ولا يكون الضيق فيك إلا أن الفائدة في قوله: {ولا تك في ضيق} [النحل: 27] هو أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط بالإنسان من كل الجوانب وصار كالقميص المحيط به فكانت الفائدة في ذكر هذا اللفظ هذا المعنى). [إرشاد الساري: 7/195]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {واصبر وما صبرك إلاّ باللّه، ولا تحزن عليهم، ولا تك في ضيقٍ ممّا يمكرون}.
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: واصبر يا محمّد على ما أصابك من أذًى في اللّه {وما صبرك إلاّ باللّه} يقول: وما صبرك إن صبرت إلاّ بمعونة اللّه وتوفيقه إيّاك لذلك {ولا تحزن عليهم} يقول: ولا تحزن على هؤلاء المشركين الّذين يكذّبونك وينكرون ما جئتهم به في أن ولّوا عنك وأعرضوا عمّا أتيتهم به من النّصيحة {ولا تك في ضيقٍ ممّا يمكرون} يقول: ولا يضق صدرك بما يقولون من الجهل ونسبتهم ما جئتهم به إلى أنّه سحرٌ أو شعرٌ أو كهانةٌ {ممّا يمكرون} ممّا يحتالون بالخدع في الصّدّ عن سبيل اللّه من أراد الإيمان بك والتّصديق بما أنزل اللّه إليك.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامّة قرّاء العراق: {ولا تك في ضيقٍ} بفتح الضّاد في الضّيق على المعنى الّذي وصفت من تأويله.
وقراءة بعض قرّاء أهل المدينة: ( ولا تك في ضيقٍ ) بكسر الضّاد.
وأولى القراءتين بالصّواب في ذلك عندنا قراءة من قرأه: {في ضيقٍ} بفتح الضّاد، لأنّ اللّه تعالى إنّما نهى نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يضيق صدره ممّا يلقى من أذى المشركين على تبليغه إيّاهم وحي اللّه وتنزيله، فقال له: {فلا يكن في صدرك حرجٌ منه لتنذر به}، وقال: {فلعلّك تاركٌ بعض ما يوحى إليك وضائقٌ به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنزٌ أو جاء معه ملكٌ، إنّما أنت نذيرٌ}، وإذ كان ذلك هو الّذي نهاه تعالى ذكره، ففتح الضّاد هو الكلام المعروف من كلام العرب في ذلك المعنى، تقول العرب: في صدري من هذا الأمر ضيقٌ، وإنّما تكسر الضّاد في الشّيء المعاش وضيق المسكن ونحو ذلك فإن وقع الضّيق بفتح الضّاد في موقع الضّيق بالكسر، كان على الّذي يتّسع أحيانًا ويضيق من قلّةٍ أحد وجهين، إمّا على جميع الضّيقة، كما قال أعشى بني ثعلبة:
فلئن ربّك من رحمته = كشف الضّيقة عنّا وفسح
والآخر على تخفيف الشّيء الضّيّق، كما يخفّف الهيّن اللّيّن، فيقال: هو هيّنٌ ليّنٌ). [جامع البيان: 14/407-408]
تفسير قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) )
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (عن الثوري عن رجل عن الحسن إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون قال اتقوا الله فيما حرم عليهم وأحسنوا فيما افترض عليهم). [تفسير عبد الرزاق: 1/364]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {إنّ اللّه مع الّذين اتّقوا والّذين هم محسنون}.
يقول تعالى ذكره: {إنّ اللّه} يا محمّد {مع الّذين اتّقوا} اللّه في محارمه فاجتنبوها، وخافوا عقابه عليها، فأحجموا عن التّقدّم عليها {والّذين هم محسنون} يقول: وهو مع الّذين يحسنون رعاية فرائضه والقيام بحقوقه ولزوم طاعته فيما أمرهم به ونهاهم عنه.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل
ذكر من قال ذلك
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا حكّامٌ، عن سفيان، عن رجلٍ، عن الحسن: {إنّ اللّه مع الّذين اتّقوا والّذين هم محسنون} قال: " اتّقوا اللّه فيما حرّم عليهم، وأحسنوا فيما افترض عليهم ".
- حدّثنا الحسن قال: أخبرنا عبد الرّزّاق قال: أخبرنا معمرٌ، عن رجلٍ، عن الحسن، مثله
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قال: ذكر لنا، أنّ هرم بن حيّان العبديّ لمّا حضره الموت، قيل له: أوص، قال: " ما أدري ما أوصي، ولكن بيعوا درعي فاقضوا عنّي ديني، فإن لم يف فبيعوا فرسي، فإن لم تف فبيعوا غلامي، وأوصيكم بخواتيم سورة النّحل: {ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالّتي هي أحسن، إنّ ربّك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين. وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خيرٌ للصّابرين}. ذكر لنا أنّ نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم " لمّا نزلت هذه الآية، قال: " بل نصبر "). [جامع البيان: 14/409-410]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: (إن الله مع الذين اتقوا) الآية
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} قال: اتقوا فيما حرم الله عليهم وأحسنوا فيما افترض عليهم). [الدر المنثور: 9/137]