تفاسير القرن الثامن الهجري
تفسير قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({قل إن كان للرّحمن ولدٌ فأنا أوّل العابدين (81) سبحان ربّ السّموات والأرض ربّ العرش عمّا يصفون (82) فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتّى يلاقوا يومهم الّذي يوعدون (83) وهو الّذي في السّماء إلهٌ وفي الأرض إلهٌ وهو الحكيم العليم (84) وتبارك الّذي له ملك السّموات والأرض وما بينهما وعنده علم السّاعة وإليه ترجعون (85) ولا يملك الّذين يدعون من دونه الشّفاعة إلا من شهد بالحقّ وهم يعلمون (86) ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ اللّه فأنّى يؤفكون (87) وقيله يا ربّ إنّ هؤلاء قومٌ لا يؤمنون (88) فاصفح عنهم وقل سلامٌ فسوف يعلمون (89)}
يقول تعالى: {قل} يا محمّد: {إن كان للرّحمن ولدٌ فأنا أوّل العابدين} أي: لو فرض هذا لعبدته على ذلك لأنّي عبدٌ من عبيده، مطيعٌ لجميع ما يأمرني به، ليس عندي استكبارٌ ولا إباءٌ عن عبادته، فلو فرض كان هذا، ولكن هذا ممتنعٌ في حقّه تعالى، والشّرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز أيضًا، كما قال تعالى: {لو أراد اللّه أن يتّخذ ولدًا لاصطفى ممّا يخلق ما يشاء سبحانه هو اللّه الواحد القهّار} [الزّمر: 4].
[و] قال بعض المفسّرين في قوله: {فأنا أوّل العابدين} أي: الآنفين. ومنهم سفيان الثّوريّ، والبخاريّ حكاه فقال: ويقال: {أوّل العابدين} الجاحدين، من عبد يعبد.
وذكر ابن جريرٍ لهذا القول من الشّواهد ما رواه عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهبٍ، حدّثني ابن أبي ذئبٍ، عن أبي قسيط، عن بعجة بن زيدٍ الجهنيّ؛ أنّ امرأةً منهم دخلت على زوجها -وهو رجلٌ منهم أيضًا- فولدت له في ستّة أشهرٍ، فذكر ذلك زوجها لعثمان بن عفّان، رضي اللّه عنه، فأمر بها أن ترجم، فدخل عليه عليّ بن أبي طالبٍ، رضي اللّه عنه، فقال: إنّ اللّه يقول في كتابه: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا} [الأحقاف: 15]، وقال {وفصاله في عامين} [لقمان: 14]، قال: فواللّه ما عبد عثمان، رضي اللّه عنه، أن بعث إليها: تردّ -قال يونس: قال ابن وهبٍ: عبد: استنكف.
[و] قال الشّاعر:
متى ما يشأ ذو الودّ يصرم خليله = ويعبد عليه لا محالة ظالمًا
وهذا القول فيه نظرٌ؛ لأنّه كيف يلتئم مع الشّرط فيكون تقديره: إن كان هذا فأنا ممتنعٌ منه؟ هذا فيه نظرٌ، فليتأمّل. اللّهمّ إلّا أن يقال: "إن" ليست شرطًا، وإنّما هي نافيةٌ كما قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {قل إن كان للرّحمن ولدٌ}، يقول: لم يكن للرّحمن ولدٌ فأنا أوّل الشّاهدين.
وقال قتادة: هي كلمةٌ من كلام العرب: {قل إن كان للرّحمن ولدٌ فأنا أوّل العابدين} أي: إن ذلك لم يكن فلا ينبغي.
وقال أبو صخرٍ: {قل إن كان للرّحمن ولدٌ فأنا أوّل العابدين} أي: فأنا أوّل من عبده بأن لا ولد له، وأوّل من وحّده. وكذا قال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم.
وقال مجاهدٌ: {فأنا أوّل العابدين} أي: أوّل من عبده ووحّده وكذّبكم.
وقال البخاريّ: {فأنا أوّل العابدين} الآنفين. وهما لغتان، رجلٌ عابدٌ وعبدٌ.
والأوّل أقرب على أنّه شرطٌ وجزاءٌ، ولكن هو ممتنعٌ.
وقال السّدّيّ [في قوله] {قل إن كان للرّحمن ولدٌ فأنا أوّل العابدين} يقول: لو كان له ولدٌ كنت أوّل من عبده، بأنّ له ولدًا، لكن لا ولد له. وهو اختيار ابن جريرٍ، وردّ قول من زعم أنّ "إن" نافيةٌ.
ولهذا قال: {سبحان ربّ السّموات والأرض ربّ العرش عمّا يصفون} أي: تعالى وتقدّس وتنزّه خالق الأشياء عن أن يكون له ولدٌ، فإنّه فردٌ أحدٌ صمدٌ، لا نظير له ولا كفء له، فلا ولد له). [تفسير ابن كثير: 7/ 241-243]
تفسير قوله تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) :(وقوله: {فذرهم يخوضوا} أي: في جهلهم وضلالهم {ويلعبوا} في دنياهم {حتّى يلاقوا يومهم الّذي يوعدون} وهو يوم القيامة، أي: فسوف يعلمون كيف يكون مصيرهم، ومآلهم، وحالهم في ذلك اليوم). [تفسير ابن كثير: 7/ 243]
تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {وهو الّذي في السّماء إلهٌ وفي الأرض إلهٌ} أي: هو إله من في السّماء، وإله من في الأرض، يعبده أهلهما، وكلّهم خاضعون له، أذلّاء بين يديه، {وهو الحكيم العليم}
وهذه الآية كقوله تعالى: {وهو اللّه في السّموات وفي الأرض يعلم سرّكم وجهركم ويعلم ما تكسبون} [الأنعام: 3] أي: هو المدعوّ اللّه في السّموات والأرض). [تفسير ابن كثير: 7/ 243]
تفسير قوله تعالى: {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وتبارك الّذي له ملك السّموات والأرض وما بينهما} أي: هو خالقهما ومالكهما والمتصرّف فيهما، بلا مدافعةٍ ولا ممانعةٍ، فسبحانه وتعالى عن الولد، وتبارك: أي استقرّ له السّلامة من العيوب والنّقائص؛ لأنّه الرّبّ العليّ العظيم، المالك للأشياء، الّذي بيده أزمّة الأمور نقضًا وإبرامًا، {وعنده علم السّاعة} أي: لا يجلّيها لوقتها إلّا هو، {وإليه ترجعون} أي: فيجازي كلًّا بعمله، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ). [تفسير ابن كثير: 7/ 243]
تفسير قوله تعالى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) :(ثمّ قال تعالى: {ولا يملك الّذين يدعون من دونه} أي: من الأصنام والأوثان {الشّفاعة} أي: لا يقدرون على الشّفاعة لهم، {إلا من شهد بالحقّ وهم يعلمون} هذا استثناءٌ منقطعٌ، أي: لكن من شهد بالحقّ على بصيرةٍ وعلمٍ، فإنّه تنفع شفاعته عنده بإذنه له). [تفسير ابن كثير: 7/ 243]
تفسير قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ اللّه فأنّى يؤفكون} أي: ولئن سألت هؤلاء المشركين باللّه العابدين معه غيره {من خلقهم ليقولنّ اللّه} أي: هم يعترفون أنّه الخالق للأشياء جميعها، وحده لا شريك له في ذلك، ومع هذا يعبدون معه غيره، ممّن لا يملك شيئًا ولا يقدر على شيء، فهم في ذلك في غاية الجهل والسّفاهة وسخافة العقل؛ ولهذا قال: {فأنّى يؤفكون}).[تفسير ابن كثير: 7/ 243-244]
تفسير قوله تعالى: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {وقيله يا ربّ إنّ هؤلاء قومٌ لا يؤمنون} أي: وقال: محمّدٌ: قيله، أي: شكا إلى ربّه شكواه من قومه الّذين كذّبوه، فقال: يا ربّ، إنّ هؤلاء قومٌ لا يؤمنون، كما أخبر تعالى في الآية الأخرى: {وقال الرّسول يا ربّ إنّ قومي اتّخذوا هذا القرآن مهجورًا} [الفرقان: 30] وهذا الّذي قلناه هو [معنى] قول ابن مسعودٍ، ومجاهدٍ، وقتادة، وعليه فسّر ابن جريرٍ.
قال البخاريّ: وقرأ عبد اللّه -يعني ابن مسعودٍ-: "وقال الرّسول يا ربّ".
وقال مجاهدٌ في قوله: {وقيله يا ربّ إنّ هؤلاء قومٌ لا يؤمنون}، قال: فأبرّ اللّه قول محمّدٍ.
وقال قتادة: هو قول نبيّكم صلّى اللّه عليه وسلّم يشكو قومه إلى ربّه عزّ وجلّ.
ثمّ حكى ابن جرير في قوله: {وقيله يا ربّ} قراءتين، إحداهما النّصب، ولها توجيهان: أحدهما أنّه معطوفٌ على قوله: {نسمع سرّهم ونجواهم} [الزّخرف: 80] والثّاني: أن يقدّر فعلٌ، وقال: قيله. والثّانية: الخفض، وقيله، عطفًا على قوله: {وعنده علم السّاعة} تقديره: وعلم قيله). [تفسير ابن كثير: 7/ 244]
تفسير قوله تعالى: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) :(وقوله: {فاصفح عنهم} أي: المشركين، {وقل سلامٌ} أي: لا تجاوبهم بمثل ما يخاطبونك به من الكلام السّيّئ، ولكن تألّفهم واصفح عنهم فعلًا وقولًا {فسوف يعلمون}، هذا تهديدٌ منه تعالى لهم، ولهذا أحلّ بهم بأسه الّذي لا يردّ، وأعلى دينه وكلمته، وشرع بعد ذلك الجهاد والجلاد، حتّى دخل النّاس في دين اللّه أفواجًا، وانتشر الإسلام في المشارق والمغارب). [تفسير ابن كثير: 7/ 244]