تفاسير القرن الثامن الهجري
تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إنّما المؤمنون الّذين آمنوا باللّه ورسوله وإذا كانوا معه على أمرٍ جامعٍ لم يذهبوا حتّى يستأذنوه إنّ الّذين يستأذنونك أولئك الّذين يؤمنون باللّه ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم اللّه إنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ (62)}.
وهذا أيضًا أدبٌ أرشد اللّه عباده المؤمنين إليه، فكما أمرهم بالاستئذان عند الدّخول، كذلك أمرهم بالاستئذان عند الانصراف -لا سيّما إذا كانوا في أمرٍ جامعٍ مع الرّسول، صلوات اللّه وسلامه عليه، من صلاة جمعةٍ أو عيدٍ أو جماعةٍ، أو اجتماعٍ لمشورةٍ ونحو ذلك -أمرهم اللّه تعالى ألّا ينصرفوا عنه والحالة هذه إلّا بعد استئذانه ومشاورته. وإنّ من يفعل ذلك فهو من المؤمنين الكاملين.
ثمّ أمر رسوله -صلوات اللّه وسلامه عليه -إذا استأذنه أحدٌ منهم في ذلك أن يأذن له، إن شاء؛ ولهذا قال: {فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم اللّه إنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ}.
وقد قال أبو داود: حدّثنا أحمد بن حنبل ومسدّد، قالا حدّثنا بشرٌ -هو ابن المفضّل -عن عجلان عن سعيدٍ المقبريّ، عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلّم، فإذا أراد أن يقوم فليسلّم، فليست الأولى بأحقّ من الآخرة".
وهكذا رواه التّرمذيّ والنّسائيّ، من حديث محمّد بن عجلان، به. وقال التّرمذيّ: حسنٌ). [تفسير ابن كثير: 6/ 88]
تفسير قوله تعالى: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({لا تجعلوا دعاء الرّسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا قد يعلم اللّه الّذين يتسلّلون منكم لواذًا فليحذر الّذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنةٌ أو يصيبهم عذابٌ أليمٌ (63)}.
قال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: كانوا يقولون: يا محمّد، يا أبا القاسم، فنهاهم اللّه عزّ وجلّ، عن ذلك، إعظامًا لنبيّه، صلوات اللّه وسلامه عليه قال: فقالوا: يا رسول اللّه، يا نبيّ اللّه. وهكذا قال مجاهدٌ، وسعيد بن جبير.
وقال قتادة: أمر اللّه أن يهاب نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وأن يبجّل وأن يعظّم وأن يسود.
وقال مقاتل [بن حيّان] في قوله: {لا تجعلوا دعاء الرّسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا} يقول: لا تسمّوه إذا دعوتموه: يا محمّد، ولا تقولوا: يا بن عبد اللّه، ولكن شرّفوه فقولوا: يا نبيّ اللّه، يا رسول اللّه.
وقال مالكٌ، عن زيد بن أسلم في قوله: {لا تجعلوا دعاء الرّسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا} قال: أمرهم اللّه أن يشرّفوه.
هذا قولٌ. وهو الظّاهر من السّياق، كما قال تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا} [البقرة: 104]، وقال {يا أيّها الّذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النّبيّ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعضٍ أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} إلى قوله: {إنّ الّذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون ولو أنّهم صبروا حتّى تخرج إليهم لكان خيرًا لهم} [الحجرات: 2-5]
فهذا كلّه من باب الأدب [في مخاطبة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم والكلام معه وعنده كما أمروا بتقديم الصّدقة قبل مناجاته]
والقول الثّاني في ذلك أنّ المعنى في: {لا تجعلوا دعاء الرّسول بينكم كدعاء بعضكم بعضًا} أي: لا تعتقدوا أنّ دعاءه على غيره كدعاء غيره، فإنّ دعاءه مستجابٌ، فاحذروا أن يدعو عليكم فتهلكوا. حكاه ابن أبي حاتمٍ، عن ابن عبّاسٍ، والحسن البصريّ، وعطيّة العوفي، واللّه أعلم.
وقوله: {قد يعلم اللّه الّذين يتسلّلون منكم لواذًا} قال مقاتل بن حيّان: هم المنافقون، كان يثقل عليهم الحديث في يوم الجمعة -ويعني بالحديث الخطبة -فيلوذون ببعض الصّحابة -أصحاب محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم -حتّى يخرجوا من المسجد، وكان لا يصلح للرّجل أن يخرج من المسجد إلّا بإذنٍ من النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في يوم الجمعة، بعدما يأخذ في الخطبة، وكان إذا أراد أحدهم الخروج أشار بإصبعه إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فيأذن له من غير أن يتكلّم الرّجل؛ لأنّ الرّجل منهم كان إذا تكلّم والنّبيّ -صلّى اللّه عليه وسلّم -يخطب، بطلت جمعته.
قال السّدّي كانوا إذا كانوا معه في جماعةٍ، لاذ بعضهم ببعضٍ، حتّى يتغيّبوا عنه، فلا يراهم.
وقال قتادة في قوله: {قد يعلم اللّه الّذين يتسلّلون منكم لواذًا}، يعني: لواذًا [عن نبيّ اللّه وعن كتابه.
وقال سفيان: {قد يعلم اللّه الّذين يتسلّلون منكم لواذًا} قال: من الصّفّ. وقال مجاهدٌ في الآية: {قد يعلم اللّه الّذين يتسلّلون منكم لواذًا}] قال: خلافًا.
وقوله: {فليحذر الّذين يخالفون عن أمره} أي: عن أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، سبيله هو ومنهاجه وطريقته [وسنّته] وشريعته، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قبل، وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله، كائنًا ما كان، كما ثبت في الصّحيحين وغيرهما، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردّ".
أي: فليحذر وليخش من خالف شريعة الرّسول باطنًا أو ظاهرًا {أن تصيبهم فتنةٌ} أي: في قلوبهم، من كفرٍ أو نفاقٍ أو بدعةٍ، {أو يصيبهم عذابٌ أليمٌ} أي: في الدّنيا، بقتلٍ، أو حد، أو حبسٍ، أو نحو ذلك.
قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرّزّاق، حدّثنا معمر، عن همّام بن منبّه قال: هذا ما حدّثنا أبو هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "مثلي ومثلكم كمثل رجلٍ استوقد نارًا، فلمّا أضاءت ما حولها. جعل الفراش وهذه الدّوابّ اللّاتي [يقعن في النّار] يقعن فيها، وجعل يحجزهنّ ويغلبنه ويتقحّمن فيها". قال: "فذلك مثلي ومثلكم، أنا آخذٌ بحجزكم عن النّار هلمّ عن النّار، فتغلبوني وتقتحمون فيها". أخرجاه من حديث عبد الرّزّاق). [تفسير ابن كثير: 6/ 88-90]
تفسير قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ألا إنّ للّه ما في السّموات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبّئهم بما عملوا واللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ (64)}.
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض، وأنه عالم غيب السموات والأرض، وهو عالمٌ بما العباد عاملون في سرّهم وجهرهم، فقال: {قد يعلم ما أنتم عليه} و"قد" للتّحقيق، كما قال قبلها: {قد يعلم اللّه الّذين يتسلّلون منكم لواذًا}، وقال تعالى: {قد يعلم اللّه المعوّقين منكم والقائلين لإخوانهم هلمّ إلينا} [الأحزاب: 18]. وقال تعالى: {قد سمع اللّه قول الّتي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى اللّه واللّه يسمع تحاوركما إنّ اللّه سميعٌ بصيرٌ} [المجادلة: 1]، وقال: {قد نعلم إنّه ليحزنك الّذي يقولون فإنّهم لا يكذّبونك ولكنّ الظّالمين بآيات اللّه يجحدون} [الأنعام: 33]، وقال: {قد نرى تقلّب وجهك في السّماء [فلنولّينّك قبلةً ترضاها]} [البقرة:144] فكلّ هذه الآيات فيها تحقيق الفعل بـ"قد"، كما يقول المؤذّن تحقيقًا وثبوتًا: "قد قامت الصّلاة، قد قامت الصّلاة" فقوله تعالى: {قد يعلم ما أنتم عليه} أي: هو عالمٌ به، مشاهدٌ له، لا يعزب عنه مثقال ذرّةٍ، كما قال تعالى: {وتوكّل على العزيز الرّحيم الّذي يراك حين تقوم * وتقلّبك في السّاجدين * إنّه هو السّميع العليم} [الشّعراء: 217-220]. وقال: {وما تكون في شأنٍ وما تتلو منه من قرآنٍ ولا تعملون من عملٍ إلا كنّا عليكم شهودًا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربّك من مثقال ذرّةٍ في الأرض ولا في السّماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتابٍ مبينٍ} [يونس: 61]، وقال تعالى: {أفمن هو قائمٌ على كلّ نفسٍ بما كسبت} [الرّعد: 33] أي: هو شهيدٌ على عباده بما هم فاعلون من خيرٍ وشرٍّ. وقال تعالى: {ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرّون وما يعلنون [إنّه عليمٌ بذات الصّدور]} [هودٍ: 5]، وقال تعالى: {سواءٌ منكم من أسرّ القول ومن جهر به ومن هو مستخفٍ باللّيل وساربٌ بالنّهار} [الرّعد:10]، وقال تعالى: {وما من دابّةٍ في الأرض إلا على اللّه رزقها ويعلم مستقرّها ومستودعها كلٌّ في كتابٍ مبينٍ} [هودٍ: 6]، وقال: {وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البرّ والبحر وما تسقط من ورقةٍ إلا يعلمها ولا حبّةٍ في ظلمات الأرض ولا رطبٍ ولا يابسٍ إلا في كتابٍ مبينٍ} [الأنعام: 59].والآيات والأحاديث في هذا كثيرةٌ جدًّا.
وقوله: {ويوم يرجعون إليه} أي: ويوم ترجع الخلائق إلى اللّه -وهو يوم القيامة - {فينبّئهم بما عملوا} أي: يخبّرهم بما فعلوا في الدّنيا، من جليلٍ وحقيرٍ، وصغيرٍ وكبيرٍ، كما قال تعالى: {ينبّأ الإنسان يومئذٍ بما قدّم وأخّر} [القيامة: 13]. وقال: {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين ممّا فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرًا ولا يظلم ربّك أحدًا} [الكهف: 49]. ولهذا قال هاهنا: {ويوم يرجعون إليه فينبّئهم بما عملوا واللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ} والحمد للّه ربّ العالمين، ونسأله التمام).[تفسير ابن كثير: 6/ 90]