تفسير قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)}
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {قل أغير اللّه أبغي ربًّا وهو ربّ كلّ شيءٍ ولا تكسب كلّ نفسٍ إلاّ عليها ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى}.
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: {قل} يا محمّد لهؤلاء العادلين بربّهم الأوثان، الدّاعيك إلى عبادة الأصنام واتّباع خطوات الشّيطان: {أغير اللّه أبغي ربًّا}؛ يقول: أسوى اللّه أطلب سيّدًا يسودني. {وهو ربّ كلّ شيءٍ}؛ يقول: وهو سيّد كلّ شيءٍ دونه، ومدبّره ومصلحه. {ولا تكسب كلّ نفسٍ إلاّ عليها}؛ يقول: ولا تجترح نفسٌ إثمًا إلاّ عليها، أي لا يؤخذ بما أتت من معصية اللّه تبارك وتعالى وركبت من الخطيئة سواها، بل كلّ ذي إثمٍ فهو المعاقب بإثمه والمأخوذ بذنبه. {ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى}؛ يقول: ولا تأثم نفسٌ آثمةٌ بإثم نفسٍ أخرى غيرها، ولكنّها تأثم بإثمها وعليه تعاقب دون إثم أخرى غيرها.
وإنّما يعني بذلك المشركين الّذين أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يقول هذا القول لهم، يقول: قل لهم: إنّا لسنا مأخوذين بآثامكم، وعليكم عقوبة إجرامكم، ولنا جزاء أعمالنا. وهذا كما أمره اللّه جلّ ثناؤه في موضعٍ آخر أن يقول لهم: {لكم دينكم ولي دينٌ}.
- وذلك كما حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع، قال: كان في ذلك الزّمان لا مخرج للعلماء العابدين إلاّ إحدى خلّتين، إحداهما أفضل من صاحبتها: إمّا أمرٌ ودعاءٌ إلى الحقّ، أو الاعتزال، فلا تشارك أهل الباطل في عملهم، وتؤدّي الفرائض فيما بينك وبين ربّك، وتحبّ للّه، وتبغض للّه، ولا تشارك أحدًا في إثمٍ. قال: وقد أنزل في ذلك آيةً محكمةً: {قل أغير اللّه أبغي ربًّا وهو ربّ كلّ شيءٍ} إلى قوله: {فيه تختلفون}، وفي ذلك قال: {وما تفرّق الّذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءتهم البيّنة}.
يقال من الوزر: وزر يوزر، فهو وزيرٌ، ووزر يوزر فهو موزورٌ). [جامع البيان: 10/ 48-49]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ثمّ إلى ربّكم مرجعكم فينبّئكم بما كنتم فيه تختلفون}.
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: قل لهؤلاء العادلين بربّهم الأوثان: كلّ عاملٍ منّا ومنكم فله ثواب عمله وعليه وزره، فاعملوا ما أنتم عاملوه. {ثمّ إلى ربّكم} أيّها النّاس {مرجعكم}؛ يقول: ثمّ إليه مصيركم ومنقلبكم، {فينبّئكم بما كنتم فيه} في الدّنيا {تختلفون} من الأديان والملل، إذ كان بعضكم يدين باليهوديّة، وبعضٌ بالنّصرانيّة، وبعضٌ بالمجوسيّة، وبعضٌ بعبادة الأصنام وادّعائه الشّركاء مع اللّه والأنداد، ثمّ يجازى جميعكم بما كان يعمل في الدّنيا من خيرٍ أو شرٍّ، فتعلموا حينئذٍ من المحسن منّا والمسيء). [جامع البيان: 10/ 49]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({قل أغير اللّه أبغي ربًّا وهو ربّ كلّ شيءٍ ولا تكسب كلّ نفسٍ إلّا عليها ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى ثمّ إلى ربّكم مرجعكم فينبّئكم بما كنتم فيه تختلفون (164)}
قوله تعالى: {قل أغير اللّه أبغي ربًّا وهو ربّ كلّ شيءٍ، ولا تكسب كلّ نفس إلاّ عليها}
- حدّثنا أبي ثنا محمّد بن وهب بن عطيّة الدّمشقيّ ثنا الوليد بن مسلمٍ ثنا القاسم بن هزّان حدّثني الزّهريّ حدّثني سعيد بن مرجانة قال: قال ابن عبّاسٍ: عليها ما اكتسبت، من العمل.
- حدّثنا أبي ثنا قبيصة ثنا سفيان عن موسى بن عبيدة عن خالد بن زيدٍ عن محمّد بن كعبٍ القرظيّ: عليها ما اكتسبت من الشّرّ.
قوله: {ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى}.
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ ثنا عبدة بن سليمان عن هاشم بن عروة عن أبيه قال: سئلت عائشة عن ولد الزّنا؟ فقالت: ليس عليه من خطيئة أبويه شيءٌ، وقالت: ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى.
قوله: {ثمّ إلى ربّكم مرجعكم فينبئكم ... الآية}.
- حدّثنا أبي ثنا أحمد بن عبد الرّحمن ثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ عن أبيه عن الرّبيع بن أنسٍ قال: يبعثهم من بعد الموت، فيبعث أولياءه وأعداءه فينبّئهم بأعمالهم). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 1435]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}؛ قال: لا يؤخذ أحد بذنب غيره.
- وأخرج الحاكم وصححه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ليس على ولد الزنا من وزر أبويه شيء لا تزر وازرة وزر أخرى».
- وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن أبي مليكة قال: توفيت أم عمر وبنت أبان بن عثمان فحضرت الجنازة فسمع ابن عمر بكاء فقال: ألا تنهى هؤلاء عن البكاء فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه فأتيت عائشة فذكرت ذلك لها»؛ فقالت: والله إنك لتخبرني عن غير كاذب ولا متهم ولكن السمع يخطى ء وفي القرآن ما يكفيكم {ولا تزر وازرة وزر أخرى}.
- وأخرج عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم عن عروة قال: سئلت عائشة عن ولد الزنا فقالت: ليس عليه من خطيئة أبويه شيء وقرأت: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}.
- وأخرج ابن أبي شيبة عن الشعبي قال: ولد الزنا خير الثلاثة إنما هذا شيء قاله كعب هو شر الثلاثة.
- وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} قال: لا يحمل الله على عبد ذنب غيره ولا يؤاخذه إلا بعمله). [الدر المنثور: 6/ 308-309]
تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)}
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وهو الّذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعضٍ درجاتٍ ليبلوكم في ما آتاكم}.
يقول تعالى ذكره لنبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وأمّته: واللّه {الّذي جعلكم} أيّها النّاس {خلائف الأرض} بأن أهلك من كان قبلكم من القرون والأمم الخالية، واستخلفكم فجعلكم خلائف منهم في الأرض، تخلفونهم فيها، وتعمرونها بعدهم.
والخلائف: جمع خليفةٍ، كما الوصائف جمع وصيفةٍ، وهي من قول القائل: خلف فلانٌ فلانًا في داره يخلفه فهو خليفةٌ فيها، كما قال الشّمّاخ:
تصيبهم وتخطئني المنايا ....... وأخلف في ربوعٍ عن ربوع
- وذلك كما حدّثني الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن مفضّلٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {وهو الّذي جعلكم خلائف الأرض} قال: أمّا خلائف الأرض: فأهلك القرون، واستخلفنا فيها بعدهم.
وأمّا قوله: {ورفع بعضكم فوق بعضٍ درجاتٍ}، فإنّه يقول: وخالف بين أحوالكم، فجعل بعضكم فوق بعضٍ، بأن رفع هذا على هذا بما بسط لهذا من الرّزق ففضّله بما أعطاه من المال والغنى على هذا الفقير فيما خوّله من أسباب الدّنيا، وهذا على هذا بما أعطاه من الأيد والقوّة على هذا الضّعيف الواهن القوى، فخالف بينهم بأن رفع من درجة هذا على درجة هذا، وخفض من درجة هذا عن درجة هذا.
- وذلك كالّذي حدّثني محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن المفضّل، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {ورفع بعضكم فوق بعضٍ درجاتٍ} يقول: في الرّزق..
وأمّا قوله: {ليبلوكم فيما آتاكم} فإنّه يعني: ليختبركم فيما خوّلكم من فضله ومنحكم من رزقه، فيعلم المطيع له منكم فيما أمره به ونهاه عنه والعاصي، ومن المؤدّي ممّا آتاه الحقّ الّذي أمره بأدائه منه والمفرّط في أدائه). [جامع البيان: 10/ 50-51]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {إنّ ربّك سريع العقاب وإنّه لغفورٌ رحيمٌ}.
يقول جلّ ثناؤه لنبيّه محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم: إنّ ربّك يا محمّد لسريع العقاب لمن أسخطه بارتكابه معاصيه وخلافه أمره فيما أمره به ونهاه، ولمن ابتلى منه فيما منحه من فضله وطوله، تولّيًا وإدبارًا عنه، مع إنعامه عليه وتمكينه إيّاه في الأرض، كما فعل بالقرون السّالفة. {وإنّه لغفورٌ}: وإنّه لساترٌ ذنوب من ابتلى منه إقبالاً إليه بالطّاعة عند ابتلائه إيّاه بنعمةٍ، واختباره إيّاه بأمره ونهيه، فمغطٍّ عليه فيها وتاركٌ فضيحته بها في موقف الحساب. {رحيمٌ} بتركه عقوبته على سالف ذنوبه الّتي سلفت بينه وبينه إذ تاب وأناب إليه قبل لقائه ومصيره إليه). [جامع البيان: 10/ 51]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({وهو الّذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعضٍ درجاتٍ ليبلوكم في ما آتاكم إنّ ربّك سريع العقاب وإنّه لغفورٌ رحيمٌ (165)}
قوله: {وهو الّذي جعلكم خلائف الأرض}
- أخبرنا أحمد بن عثمان بن حكيمٍ الأوديّ فيما كتب إليّ ثنا أحمد بن مفضّلٍ ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ: قوله:{وهو الّذي جعلكم خلائف الأرض}، أمّا خلائف الأرض، فأهلك القرون واستخلفنا فيها من بعدهم.
- أخبرنا أبو يزيد القراطيسيّ فيما كتب إليّ قال: سمعت أصبغ بن الفرج قال: سمعت عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، في قوله: {وهو الّذي جعلكم خلائف الأرض}، قال: يستخلف في الأرض قومًا بعد قومٍ، وقومًا بعد قومٍ.
قوله: {ورفع بعضكم فوق بعضٍ درجاتٍ}.
- أخبرنا أحمد بن عثمان بن حكيمٍ فيما كتب إليّ ثنا أحمد بن المفضّل ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ، قوله: {ورفع بعضكم فوق بعضٍ}، يقول: في الرّزق.
- قرأت على محمّد بن الفضل ثنا محمّد بن عليٍّ ثنا محمّد بن مزاحمٍ عن بكير بن معروفٍ عن مقاتل بن حيّان: قوله: {ورفع بعضكم فوق بعضٍ درجاتٍ}، يعني: في الفضل والغنى.
قوله تعالى: {ليبلوكم}.
- وبه عن مقاتل بن حيّان: قوله:{ ليبلوكم في ما آتاكم}، يقول: ليبتليكم فيبلو الغنيّ والفقير، والشّريف والوضيع، والحرّ والعبد.
قوله: {في ما آتاكم}.
- وبه عن مقاتلٍ: {ليبلوكم في ما آتاكم}، يقول: فيما أعطاكم.
قوله تعالى: {إنّ ربّك سريع العقاب وإنّه لغفورٌ رحيمٌ}.
- حدّثنا أبو زرعة ثنا يحيى بن عبد اللّه بن بكيرٍ، حدّثني عبد اللّه بن لهيعة حدّثني عطاء بن دينارٍ عن سعيد بن جبيرٍ: قوله: {لغفورٌ}؛ يعني: غفورًا للذّنوب.
- حدّثنا محمّد بن العبّاس مولى بني هاشمٍ ثنا محمّد بن عمرٍو زنيجٌ ثنا سلمة قال: قال محمّد بن إسحاق: لغفور أي: يغفر الذّنب.
- حدّثنا أبو زرعة ثنا يحيى بن عبد اللّه بن بكيرٍ حدّثني عطاء بن دينارٍ عن سعيد بن جبيرٍ: قوله: {رحيمٌ}، يعني: رحيمًا بالمؤمنين.
- حدّثنا محمّد بن العبّاس ثنا زنيجٌ ثنا سلمة قال: قال محمّدٌ في قوله: {رحيمٌ}؛ يرحم العباد على ما فيهم). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 1435-1436]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن السدي في قوله: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض}؛ قال: أهلك القرون واستخلفنا فيها من بعدهم {ورفع بعضكم فوق بعض درجات}؛ قال: في الرزق.
- وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد في قوله: {جعلكم خلائف الأرض}؛ قال: يستخلف في الأرض قوما بعد قوم وقوما بعد قوم.
- وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مقاتل في قوله: {ورفع بعضكم فوق بعض درجات}؛ يعني في الفضل والغنى {ليبلوكم في ما آتاكم} يقول: ليبتليكم فيما أعطاكم ليبلوا الغني والفقير والشريف والوضيع والحر والعبد). [الدر المنثور: 6/ 309]