تفاسير القرن الثامن الهجري
تفسير قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولـمّا يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا اللّه ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئًا إنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ (14) إنّما المؤمنون الّذين آمنوا باللّه ورسوله ثمّ لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه أولئك هم الصّادقون (15) قل أتعلّمون اللّه بدينكم واللّه يعلم ما في السّماوات وما في الأرض واللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ (16) يمنّون عليك أن أسلموا قل لا تمنّوا عليّ إسلامكم بل اللّه يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين (17) إنّ اللّه يعلم غيب السّماوات والأرض واللّه بصيرٌ بما تعملون (18) }
يقول تعالى منكرًا على الأعراب الّذين أوّل ما دخلوا في الإسلام ادّعوا لأنفسهم مقام الإيمان، ولم يتمكّن الإيمان في قلوبهم بعد: {قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولـمّا يدخل الإيمان في قلوبكم}. وقد استفيد من هذه الآية الكريمة: أنّ الإيمان أخصّ من الإسلام كما هو مذهب أهل السّنّة والجماعة، ويدلّ عليه حديث جبريل، عليه السّلام، حين سأل عن الإسلام، ثمّ عن الإيمان، ثمّ عن الإحسان، فترقّى من الأعمّ إلى الأخصّ، ثمّ للأخصّ منه.
قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرّزّاق، أخبرنا معمر، عن الزّهريّ، عن عامر بن سعد بن أبي وقّاصٍ، عن أبيه قال: أعطى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم رجالًا ولم يعط رجلًا منهم شيئًا، فقال سعدٌ: يا رسول اللّه، أعطيت فلانًا وفلانًا ولم تعط فلانًا شيئًا، وهو مؤمنٌ؟ فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "أو مسلمٌ" حتّى أعادها سعدٌ ثلاثًا، والنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "أو مسلمٌ" ثمّ قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّي لأعطي رجالًا وأدع من هو أحب إليّ منهم فلم أعطيه شيئًا؛ مخافة أن يكبّوا في النّار على وجوههم".
أخرجاه في الصّحيحين من حديث الزّهريّ، به.
فقد فرّق النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بين المسلم والمؤمن، فدلّ على أنّ الإيمان أخصّ من الإسلام. وقد قرّرنا ذلك بأدلّته في أوّل شرح كتاب الإيمان من "صحيح البخاريّ" وللّه الحمد والمنّة. ودلّ ذلك على أنّ ذاك الرّجل كان مسلمًا ليس منافقًا؛ لأنّه تركه من العطاء ووكله إلى ما هو فيه من الإسلام، فدلّ هذا على أنّ هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الآية ليسوا بمنافقين، وإنّما هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم، فادّعوا لأنفسهم مقامًا أعلى ممّا وصلوا إليه، فأدّبوا في ذلك. وهذا معنى قول ابن عبّاسٍ وإبراهيم النّخعيّ، وقتادة، واختاره ابن جريرٍ. وإنّما قلنا هذا لأنّ البخاريّ، رحمه اللّه، ذهب إلى أنّ هؤلاء كانوا منافقين يظهرون الإيمان وليسوا كذلك. وقد روي عن سعيد بن جبيرٍ، ومجاهدٍ، وابن زيدٍ أنّهم قالوا في قوله: {ولكن قولوا أسلمنا} أي: استسلمنا خوف القتل والسّباء. قال مجاهدٌ: نزلت في بني أسد بن خزيمة. وقال قتادة: نزلت في قومٍ امتنّوا بإيمانهم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
والصّحيح الأوّل؛ أنّهم قومٌ ادّعوا لأنفسهم مقام الإيمان، ولم يحصل لهم بعد، فأدّبوا وأعلموا أنّ ذلك لم يصلوا إليه بعد، ولو كانوا منافقين لعنّفوا وفضحوا، كما ذكر المنافقون في سورة براءة. وإنّما قيل لهؤلاء تأديبًا: {قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولـمّا يدخل الإيمان في قلوبكم} أي: لم تصلوا إلى حقيقة الإيمان بعد.
ثمّ قال: {وإن تطيعوا اللّه ورسوله لا يلتكم من أعمالكم [شيئًا]} أي: لا ينقصكم من أجوركم شيئًا، كقوله: {وما ألتناهم من عملهم من شيءٍ} [الطّور: 21].
وقوله: {إنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ} أي: لمن تاب إليه وأناب).[تفسير ابن كثير: 7/ 388-389]
تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) :(وقوله: {إنّما المؤمنون} أي: إنّما المؤمنون الكمّل {الّذين آمنوا باللّه ورسوله ثمّ لم يرتابوا} أي: لم يشكّوا ولا تزلزلوا، بل ثبتوا على حالٍ واحدةٍ، وهي التّصديق المحض، {وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه} أي: وبذلوا مهجهم ونفائس أموالهم في طاعة اللّه ورضوانه، {أولئك هم الصّادقون} أي: في قولهم إذا قالوا: "إنّهم مؤمنون"، لا كبعض الأعراب الّذين ليس معهم من الدّين إلّا الكلمة الظّاهرة.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا يحيى بن غيلان، حدّثنا رشدين، حدّثني عمرو بن الحارث، عن أبي السّمح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيدٍ قال: أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "المؤمنون في الدّنيا على ثلاثة أجزاءٍ: [الّذين] آمنوا باللّه ورسوله ثمّ لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل اللّه. والّذي يأمنه النّاس على أموالهم وأنفسهم. ثمّ الّذي إذا أشرف على طمعٍ تركه للّه، عزّ وجلّ"). [تفسير ابن كثير: 7/ 390]
تفسير قوله تعالى: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) :(وقوله: {قل أتعلّمون اللّه بدينكم} أي: أتخبرونه بما في ضمائركم، {واللّه يعلم ما في السّموات وما في الأرض} أي: لا يخفى عليه مثقال ذرّةٍ في الأرض ولا في السّماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، {واللّه بكلّ شيءٍ عليمٌ}). [تفسير ابن كثير: 7/ 390]
تفسير قوله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) :(ثمّ قال [تعالى]: {يمنّون عليك أن أسلموا}، يعني: الأعراب [الّذين] يمنّون بإسلامهم ومتابعتهم ونصرتهم على الرّسول، يقول اللّه ردًّا عليهم: {قل لا تمنّوا عليّ إسلامكم}، فإنّ نفع ذلك إنّما يعود عليكم، وللّه المنّة عليكم فيه، {بل اللّه يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} أي: في دعواكم ذلك، كما قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم للأنصار يوم حنينٍ: "يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلّالًا فهداكم اللّه بي؟ وكنتم متفرّقين فألّفكم اللّه بي؟ وعالةً فأغناكم اللّه بي؟ " كلّما قال شيئًا قالوا: اللّه ورسوله أمنّ.
وقال الحافظ أبو بكرٍ البزّار: حدّثنا إبراهيم بن سعيدٍ الجوهريّ، حدّثنا يحيى بن سعيدٍ الأمويّ، عن محمّد بن قيسٍ، عن أبي عونٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ [رضي اللّه عنهما] قال: جاءت بنو أسدٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول اللّه، أسلمنا وقاتلتك العرب، ولم تقاتلك، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ فقههم قليلٌ، وإنّ الشّيطان ينطق على ألسنتهم". ونزلت هذه الآية: {يمنّون عليك أن أسلموا قل لا تمنّوا عليّ إسلامكم بل اللّه يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين}
ثمّ قال: لا نعلمه يروى إلّا من هذا الوجه، ولا نعلم روى أبو عونٍ محمّد بن عبيد اللّه، عن سعيد بن جبيرٍ، غير هذا الحديث).[تفسير ابن كثير: 7/ 390-391]
تفسير قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) :(ثمّ كرّر الإخبار بعلمه بجميع الكائنات، وبصره بأعمال المخلوقات فقال: {إنّ اللّه يعلم غيب السّموات والأرض واللّه بصيرٌ بما تعملون}).[تفسير ابن كثير: 7/ 391]