تفاسير القرن الثامن الهجري
تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يا أيّها الّذين آمنوا لا تكونوا كالّذين آذوا موسى فبرّأه اللّه ممّا قالوا وكان عند اللّه وجيهًا (69)}.
قال البخاريّ عند تفسير هذه الآية: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم، حدّثنا روح بن عبادة، حدّثنا عوفٌ، عن الحسن [ومحمّدٍ] وخلاس، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: إنّ موسى كان رجلًا حييا، وذلك قوله: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تكونوا كالّذين آذوا موسى فبرّأه اللّه ممّا قالوا وكان عند اللّه وجيهًا}.
هكذا أورد هذا الحديث هاهنا مختصرًا جدًّا، وقد رواه في أحاديث "الأنبياء" بهذا السّند بعينه، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ موسى، عليه السّلام، كان رجلًا حييا ستّيرا، لا يرى من جلده شيء استحياءً منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يتستّر هذا التّستّر إلّا من عيبٍ بجلده، إمّا برصٌ وإمّا أدرة وإمّا آفةٌ، وإنّ اللّه، عزّ وجلّ، أراد أن يبرئه ممّا قالوا لموسى عليه السّلام، فخلا يومًا وحده، فخلع ثيابه على حجرٍ، ثمّ اغتسل، فلمّا فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإنّ الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتّى انتهى إلى ملأٍ من بني إسرائيل، فرأوه عريانا أحسن ما خلق اللّه، عزّ وجلّ، وأبرأه ممّا يقولون، وقام الحجر، فأخذ ثوبه فلبسه، وطفق بالحجر ضربًا بعصاه، فواللّه إنّ بالحجر لندبًا من أثر ضربه ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا -قال: فذلك قوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تكونوا كالّذين آذوا موسى فبرّأه اللّه ممّا قالوا وكان عند اللّه وجيهًا}.
وهذا سياقٌ حسنٌ مطوّلٌ، وهذا الحديث من أفراد البخاريّ دون مسلمٍ
وقال الإمام أحمد: حدّثنا روحٌ، حدّثنا عوفٌ، عن الحسن، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم -وخلاسٌ، ومحمّدٌ، عن أبي هريرة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال في هذه الآية: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تكونوا كالّذين آذوا موسى فبرّأه اللّه ممّا قالوا} قال: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ موسى كان رجلًا حييا ستّيرا، لا يكاد يرى من جلده شيء استحياءً منه".
ثمّ ساق الحديث كما رواه البخاريّ مطوّلًا ورواه في تفسيره. عن روحٍ، عن عوفٍ، به. ورواه ابن جريرٍ من حديث الثّوريّ، عن جابرٍ الجعفيّ، عن عامرٍ الشّعبيّ، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بنحو هذا. وهكذا رواه من حديث سليمان بن مهران الأعمش، عن المنهال بن عمرٍو، عن سعيد بن جبير، وعبد اللّه بن الحارث، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {لا تكونوا كالّذين آذوا موسى} قال: قال قومه له: إنّك آدر. فخرج ذات يومٍ يغتسل، فوضع ثيابه على صخرةٍ، فخرجت الصّخرة تشتدّ بثيابه، وخرج يتبعها عريانا حتّى انتهت به مجالس بني إسرائيل، قال: فرأوه ليس بآدر، فذلك قوله: {فبرّأه اللّه ممّا قالوا}.
وهكذا رواه العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ سواءً.
وقال الحافظ أبو بكرٍ البزّار: حدّثنا روح بن حاتمٍ وأحمد بن المعلّى الآدميّ قالا حدّثنا يحيى بن حمّادٍ، حدّثنا حمّاد بن سلمة، عن عليّ بن زيدٍ، عن أنسٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "كان موسى، عليه السّلام، رجلًا حييا، وإنّه أتى -أحسبه قال: الماء -ليغتسل، فوضع ثيابه على صخرةٍ، وكان لا يكاد تبدو عورته، فقال بنو إسرائيل: إنّ موسى آدر -أو: به آفةٌ، يعنون: أنّه لا يضع ثيابه - فاحتملت الصّخرة ثيابه حتّى صارت بحذاء مجالس بني إسرائيل، فنظروا إلى موسى كأحسن الرّجال، أو كما قال، فذلك قوله: {فبرّأه اللّه ممّا قالوا وكان عند اللّه وجيهًا}.
وقال ابن أبي حاتمٍ، حدّثنا أبي، حدّثنا سعيد بن سليمان، حدّثنا عبّاد بن العوّام، عن سفيان بن حسينٍ، حدّثنا الحكم، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ عن عليّ بن أبي طالبٍ، رضي اللّه عنهم، في قوله: {فبرّأه اللّه ممّا قالوا} قال: صعد موسى وهارون الجبل، فمات هارون، عليه السّلام، فقال بنو إسرائيل لموسى، عليه السّلام: أنت قتلته، كان ألين لنا منك وأشدّ حياءً. فآذوه من ذلك، فأمر اللّه الملائكة فحملته، فمرّوا به على مجالس بني إسرائيل، فتكلّمت بموته، فما عرف موضع قبره إلّا الرّخم، وإنّ اللّه جعله أصمّ أبكم.
وهكذا رواه ابن جريرٍ، عن عليّ بن موسى الطّوسيّ، عن عبّاد بن العوّام، به.
ثمّ قال: وجائزٌ أنّ يكون هذا هو المراد بالأذى، وجائزٌ أن يكون الأوّل هو المراد، فلا قول أولى من قول اللّه، عزّ وجلّ.
قلت: يحتمل أن يكون الكلّ مرادًا، وأن يكون معه غيره، واللّه أعلم.
قال الإمام أحمد: حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا الأعمش، عن شقيق، عن عبد اللّه قال: قسم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ذات يومٍ قسمًا، فقال رجلٌ منّ الأنصار: إنّ هذه القسمة ما أريد بها وجه اللّه. قال: فقلت: يا عدوّ اللّه، أما لأخبرنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بما قلت. قال: فذكر ذلك للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فاحمرّ وجهه، ثمّ قال: "رحمة اللّه على موسى، فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر".
أخرجاه في الصّحيحين من حديث سليمان بن مهران الأعمش، به.
طريقٌ أخرى: قال الإمام أحمد: حدّثنا حجّاجٌ، سمعت إسرائيل بن يونس، عن الوليد بن أبي هاشمٍ -مولى الهمدانيّ، عن زيد بن زائدٍ، عن عبد اللّه بن مسعودٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لأصحابه: "لا يبلّغني أحدٌ من أصحابي عن أحدٍ شيئًا، فإنّي أحبّ أن أخرج إليكم وأنا [سليم الصّدر] ". فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مالٌ فقسمه، قال: فمررت برجلين وأحدهما يقول لصاحبه: واللّه ما أراد محمّدٌ بقسمته وجه الله ولا الدار الآخرة. قال: فتثبّت حتّى سمعت ما قالا ثمّ أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت: يا رسول اللّه، إنّك قلت لنا: "لا يبلّغني أحدٌ عن أصحابي شيئًا"، وإنّي مررت بفلانٍ وفلانٍ، وهما يقولان كذا وكذا. فاحمرّ وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وشقّ عليه، ثمّ قال: "دعنا منك، لقد أوذي موسى بأكثر من هذا، فصبر".
وقد رواه أبو داود في الأدب، عن محمّد [بن يحيى الذّهلي، عن محمّد بن يوسف الفريابيّ، عن إسرائيل عن الوليد] بن أبي هاشمٍ به مختصرًا: "لا يبلّغني أحدٌ [من أصحابي] عن أحدٍ شيئًا؛ إنّي أحبّ أن أخرج إليكم وأنا سليم الصّدر"
وكذا رواه التّرمذيّ في "المناقب"، عن الذّهليّ سواءً، إلّا أنّه قال: "زيد بن زائدة". ورواه أيضًا عن محمّد بن إسماعيل، عن عبد اللّه بن محمّدٍ، عن عبيد اللّه بن موسى وحسين بن محمّدٍ كلاهما عن إسرائيل، عن السّدّيّ، عن الوليد بن أبي هاشمٍ، به مختصرًا أيضًا، فزاد في إسناده السّدّيّ، ثمّ قال: غريبٌ من هذا الوجه.
وقوله: {وكان عند اللّه وجيهًا} أي: له وجاهةٌ وجاهٌ عند ربّه، عزّ وجلّ.
قال الحسن البصريّ: كان مستجاب الدّعوة عند اللّه. وقال غيره من السّلف: لم يسأل اللّه شيئًا إلّا أعطاه. ولكن منع الرّؤية لما يشاء اللّه، عزّ وجلّ.
وقال بعضهم: من وجاهته العظيمة [عند اللّه]: أنّه شفع في أخيه هارون أن يرسله اللّه معه، فأجاب اللّه سؤاله، وقال: {ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيًّا} [مريم: 53] ). [تفسير ابن كثير: 6/ 484-487]
تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه وقولوا قولا سديدًا (70) يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع اللّه ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا (71)}
يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين بتقواه، وأن يعبدوه عبادة من كأنّه يراه، وأن يقولوا {قولا سديدًا} أي: مستقيمًا لا اعوجاج فيه ولا انحراف. ووعدهم أنّهم إذا فعلوا ذلك، أثابهم عليه بأن يصلح لهم أعمالهم، أي: يوفّقهم للأعمال الصّالحة، وأن يغفر لهم الذّنوب الماضية. وما قد يقع منهم في المستقبل يلهمهم التّوبة منها.
ثمّ قال: {ومن يطع اللّه ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا}: وذلك أنّه يجار من النّار، ويصير إلى النّعيم المقيم.
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عمرو بن عون، حدّثنا خالدٌ، عن ليث، عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعريّ قال: صلّى بنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم صلاة الظّهر، فلمّا انصرف أومأ إلينا بيده فجلسنا، فقال: "إنّ اللّه أمرني أن آمركم، أن تتّقوا اللّه وتقولوا قولًا سديدًا". ثمّ أتى النّساء فقال: "إنّ اللّه أمرني أن آمركنّ: أن تتّقين اللّه وتقلن قولًا سديدًا".
وقال ابن أبي الدّنيا في كتاب "التّقوى": حدّثنا محمّد بن عبّاد بن موسى، حدثنا عبد العزيز بن عمران الزّهريّ، حدّثنا عيسى بن سمرة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي اللّه عنها، قالت: ما قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم على المنبر إلّا سمعته يقول: {يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه وقولوا قولا سديدًا} الآية. غريبٌ جدًّا.
وروى من حديث عبد الرّحيم بن زيدٍ العمّي، عن أبيه، عن محمّد بن كعبٍ، عن ابن عبّاسٍ موقوفًا، من سرّه أن يكون أكرم النّاس، فليتّق اللّه.
قال عكرمة: القول السّديد: لا إله إلّا اللّه.
وقال غيره: السّديد: الصّدق. وقال مجاهدٌ: هو السّداد. وقال غيره: هو الصّواب. والكل حق). [تفسير ابن كثير: 6/ 487-488]
تفسير قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إنّا عرضنا الأمانة على السّموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنّه كان ظلومًا جهولا (72) ليعذّب اللّه المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب اللّه على المؤمنين والمؤمنات وكان اللّه غفورًا رحيمًا (73)}
قال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: يعني بالأمانة: الطّاعة، وعرضها عليهم قبل أن يعرضها على آدم، فلم يطقنها، فقال لآدم: إنّي قد عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال فلم يطقنها، فهل أنت آخذٌ بما فيها؟ قال: يا ربّ، وما فيها؟ قال: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت. فأخذها آدم فتحمّلها، فذلك قوله: {وحملها الإنسان إنّه كان ظلومًا جهولا}.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، الأمانة: الفرائض، عرضها الله على السموات والأرض والجبال، إن أدّوها أثابهم. وإن ضيّعوها عذّبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصيةٍ، ولكن تعظيمًا لدين اللّه ألّا يقوموا بها، ثمّ عرضها على آدم فقبلها بما فيها، وهو قوله: {وحملها الإنسان إنّه كان ظلومًا جهولا} يعني: غرًا بأمر اللّه.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن بشّارٍ، حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، عن أبي بشرٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ أنّه قال في هذه الآية: {إنّا عرضنا الأمانة على السّموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها} قال: عرضت على آدم فقال: خذها بما فيها، فإن أطعت غفرت لك، وإن عصيت عذّبتك. قال: قبلت، فما كان إلّا قدر ما بين العصر إلى اللّيل من ذلك اليوم، حتّى أصاب الخطيئة.
وقد روى الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، قريبًا من هذا. وفيه نظرٌ وانقطاعٌ بين الضّحّاك وبينه، واللّه أعلم. وهكذا قال مجاهدٌ، وسعيد بن جبيرٍ، والضّحّاك، والحسن البصري، وغير واحد: [ألا] إنّ الأمانة هي الفرائض.
وقال آخرون: هي الطّاعة.
وقال الأعمش، عن أبي الضّحى، عن مسروقٍ [قال]: قال أبيّ بن كعبٍ: من الأمانة أنّ المرأة اؤتمنت على فرجها.
وقال قتادة: الأمانة: الدّين والفرائض والحدود.
وقال بعضهم: الغسل من الجنابة.
وقال مالكٌ، عن زيد بن أسلم قال: الأمانة ثلاثةٌ: الصّلاة، والصّوم، والاغتسال من الجنابة.
وكلّ هذه الأقوال لا تنافي بينها، بل هي متّفقةٌ وراجعةٌ إلى أنّها التّكليف، وقبول الأوامر والنّواهي بشرطها، وهو أنّه إن قام بذلك أثيب، وإن تركها عوقب، فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه، إلّا من وفّق اللّه، وباللّه المستعان.
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عبد العزيز بن المغيرة [البصريّ]، حدّثنا حمّاد بن واقدٍ -يعني: أبا عمر الصّفّار -سمعت أبا معمرٍ -يعني: عون بن معمرٍ -يحدّث عن الحسن -يعني: البصريّ -أنّه تلا هذه الآية: {إنّا عرضنا الأمانة على السّموات والأرض والجبال} قال: عرضها على السّبع الطّباق الطّرائق الّتي زيّنت بالنّجوم، وحملة العرش العظيم، فقيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قال: قيل لها: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت. قالت: لا. ثمّ عرضها على الأرضين السّبع الشّداد، الّتي شدّت بالأوتاد، وذلّلت بالمهاد، قال: فقيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قال: قيل لها: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت. قالت: لا. ثمّ عرضها على الجبال الشّمّ الشّوامخ الصّعاب الصّلاب، قال: قيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قال: قيل لها: إن أحسنت جزيت، وإن أسأت عوقبت. قالت: لا.
وقال مقاتل بن حيّان: إنّ اللّه حين خلق خلقه، جمع بين الإنس والجن، والسموات والأرض والجبال، فبدأ بالسموات فعرض عليهنّ الأمانة وهي الطّاعة، فقال لهنّ: أتحملن هذه الأمانة، ولكن على الفضل والكرامة والثّواب في الجنّة = ؟ فقلن: يا ربّ، إنّا لا نستطيع هذا الأمر، وليست بنا قوّةٌ، ولكنّا لك مطيعين. ثمّ عرض الأمانة على الأرضين، فقال لهنّ: أتحملن هذه الأمانة وتقبلنها منّي، وأعطيكنّ الفضل والكرامة ؟ فقلن: لا صبر لنا على هذا يا ربّ ولا نطيق، ولكنّا لك سامعين مطيعين، لا نعصيك في شيءٍ تأمرنا به. ثمّ قرّب آدم فقال له: أتحمل هذه الأمانة وترعاها حقّ رعايتها؟ فقال عند ذلك آدم: ما لي عندك؟ قال: يا آدم، إن أحسنت وأطعت ورعيت الأمانة، فلك عندي الكرامة والفضل وحسن الثّواب في الجنّة. وإن عصيت ولم ترعها حقّ رعايتها وأسأت، فإنّي معذّبك ومعاقبك وأنزلك النّار. قال: رضيت [يا] ربّ. وتحمّلها، فقال اللّه عزّ وجلّ: قد حمّلتكها. فذلك قوله: {وحملها الإنسان}. رواه ابن أبي حاتمٍ.
وعن مجاهدٍ أنّه قال: عرضها على السموات فقالت: يا ربّ، حمّلتني الكواكب وسكّان السّماء وما ذكر، وما أريد ثوابًا ولا أحمل فريضةً. قال: وعرضها على الأرض فقالت: يا ربّ، غرست فيّ الأشجار، وأجريت فيّ الأنهار وسكّان الأرض وما ذكر، وما أريد ثوابًا ولا أحمل فريضةً. وقالت الجبال مثل ذلك، قال اللّه تعالى: {وحملها الإنسان إنّه كان ظلومًا جهولا} في عاقبة أمره. وهكذا قال ابن جريج.
وعن ابن أشوع أنّه قال: لمّا عرض اللّه عليهنّ حمل الأمانة، ضججن إلى اللّه ثلاثة أيّامٍ ولياليهنّ، وقلن: ربّنا. لا طاقة لنا بالعمل، ولا نريد الثّواب.
ثمّ قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا هارون بن زيد بن أبي الزّرقاء الموصليّ، حدّثنا أبي، حدّثنا هشام بن سعدٍ، عن زيد بن أسلم في هذه الآية: {إنّا عرضنا الأمانة على السّموات والأرض والجبال} [الآية]، فقال الإنسان: بين أذني وعاتقي فقال اللّه تعالى: إنّي معينك عليها، أي: معينك على عينيك بطبقتين، فإذا نازعاك إلى ما أكره فأطبق. ومعينك على لسانك بطبقتين، فإذا نازعك إلى ما أكره فأطبق. ومعينك على فرجك بلباسٍ، فلا تكشفه إلى ما أكره.
ثمّ روي عن أبي حازمٍ نحو هذا.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا يونس، حدّثنا ابن وهبٍ قال: قال ابن زيدٍ في قول اللّه، عزّ وجلّ: {إنّا عرضنا الأمانة على السّموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها} قال: إنّ اللّه عرض عليهنّ الأمانة أن يفترض عليهنّ الدّين، ويجعل لهنّ ثوابًا وعقابًا، ويستأمنهنّ على الدّين. فقلن: لا نحن مسخّراتٌ لأمرك، لا نريد ثوابًا ولا عقابًا. قال: وعرضها اللّه على آدم فقال: بين أذني وعاتقي. قال ابن زيدٍ: فقال اللّه تعالى له: أمّا إذ تحمّلت هذا فسأعينك، أجعل لبصرك حجابًا، فإذا خشيت أن تنظر إلى ما لا يحلّ لك فأرخ عليه حجابه، وأجعل للسانك بابًا وغلقًا، فإذا خشيت فأغلق، وأجعل لفرجك لباسًا فلا تكشفه إلّا على ما أحللت لك.
وقال ابن جريرٍ: حدّثني سعيد بن عمرٍو السّكوني، حدّثنا بقيّة، حدّثنا عيسى بن إبراهيم، عن موسى بن أبي حبيبٍ، عن الحكم بن عميرٍ -وكان من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم- قال: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "إن الأمانة والوفاء نزلا على ابن آدم مع الأنبياء، فأرسلوا به، فمنهم رسول اللّه، ومنهم نبيٌّ، ومنهم نبيٌّ رسولٌ، ونزل القرآن وهو كلام اللّه، ونزلت العربيّة والعجميّة، فعلموا أمر القرآن وعلموا أمر السّنن بألسنتهم، ولم يدع اللّه شيئًا من أمره ممّا يأتون وما يجتنبون وهي الحجج عليهم، إلّا بيّنه لهم. فليس أهل لسانٍ إلّا وهم يعرفون الحسن والقبيح، ثمّ الأمانة أوّل شيءٍ يرفع ويبقى أثرها في جذور قلوب النّاس، ثمّ يرفع الوفاء والعهد والذّمم وتبقى الكتب، فعالمٌ يعمل، وجاهلٌ يعرفها وينكرها ولا يحملها، حتّى وصل إليّ وإلى أمّتي، ولا يهلك على اللّه إلّا هالكٌ، ولا يغفله إلّا تاركٌ. فالحذر أيّها النّاس، وإيّاكم والوسواس الخنّاس، فإنّما يبلوكم أيّكم أحسن عملًا.
هذا حديثٌ غريبٌ جدًّا، وله شواهد من وجوهٍ أخرى.
ثمّ قال ابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن خلفٍ العسقلانيّ، حدّثنا عبد اللّه بن عبد المجيد الحنفيّ، أخبرنا أبو العوّام القطّان، حدّثنا قتادة، وأبان بن أبي عيّاشٍ، عن خليد العصري، عن أبي الدّرداء، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "خمسٌ من جاء بهنّ يوم القيامة مع إيمانٍ دخل الجنّة: من حافظ على الصّلوات الخمس على وضوئهنّ وركوعهنّ وسجودهنّ ومواقيتهنّ، وأعطى الزّكاة من ماله طيّب النّفس بها -وكان يقول، وايم اللّه لا يفعل ذلك إلّا مؤمنٌ -[وصام رمضان، وحجّ البيت إن استطاع إلى ذلك سبيلًا]، وأدّى الأمانة". قالوا: يا أبا الدّرداء، وما أداء الأمانة؟ قال: الغسل من الجنابة، فإنّ اللّه لم يأمن ابن آدم على شيءٍ من دينه غيره.
وهكذا رواه أبو داود عن محمّد بن عبد الرّحمن العنبريّ، عن أبي عليٍّ عبيد اللّه بن عبد المجيد الحنفيّ، عن أبي العوّام عمران بن داور القطّان، به.
وقال ابن جريرٍ أيضًا: حدّثنا تميم بن المنتصر، أخبرنا إسحاق، عن شريكٍ، عن الأعمش، عن عبد اللّه بن السّائب، عن زاذان، عن عبد اللّه بن مسعودٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "القتل في سبيل اللّه يكفّر الذّنوب كلّها -أو قال: يكفّر كلّ شيءٍ -إلّا الأمانة، يؤتى بصاحب الأمانة فيقال له: أدّ أمانتك. فيقول: أنّى يا ربّ وقد ذهبت الدّنيا؟ فيقال له: أدّ أمانتك. فيقول: أنّى يا ربّ، وقد ذهبت الدّنيا؟ فيقال له: أدّ أمانتك. فيقول: أنّى يا ربّ وقد ذهبت الدّنيا؟ فيقول: اذهبوا به إلى أمّه الهاوية. فيذهب به إلى الهاوية، فيهوي فيها حتّى ينتهي إلى قعرها، فيجدها هنالك كهيئتها، فيحملها فيضعها على عاتقه، فيصعد بها إلى شفير جهنّم، حتّى إذا رأى أنّه قد خرج زلّت فهوى في أثرها أبد الآبدين". وقال: والأمانة في الصّوم، والأمانة في الوضوء، والأمانة في الحديث، وأشدّ ذلك الودائع. فلقيت البراء فقلت: ألا تسمع إلى ما يقول أخوك عبد اللّه؟ فقال: صدق.
قال شريكٌ: وحدّثنا عيّاشٌ العامريّ، عن زاذان، عن عبد اللّه بن مسعودٍ، رضي اللّه عنه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بنحوه. ولم يذكر: "الأمانة في الصّلاة وفي كلّ شيءٍ". إسناده جيّدٌ، ولم يخرّجوه.
وممّا يتعلّق بالأمانة الحديث الّذي رواه الإمام أحمد:
حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا الأعمش، عن زيد بن وهبٍ، عن حذيفة قال: حدّثنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدّثنا "أنّ الأمانة نزلت في جذر قلوب الرّجال، ثمّ نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السّنّة". ثمّ حدّثنا عن رفع الأمانة، فقال: "ينام الرّجل النّومة فتقبض الأمانة من قلبه، فيظلّ أثرها مثل أثر [الوكت، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظلّ أثرها مثل أثر] المجل كجمرٍ دحرجته [على رجلك، تراه منتبرا وليس فيه شيءٌ". قال: ثمّ أخذ حصًى فدحرجه] على رجله، قال: "فيصبح النّاس يتبايعون لا يكاد أحدٌ يؤدّي الأمانة، حتّى يقال: إن في بني فلانٍ رجلًا أمينًا، حتّى يقال للرّجل: ما أجلده وأظرفه وأعقله. وما في قلبه حبّةٌ من خردلٍ من إيمانٍ. ولقد أتى عليّ زمانٌ وما أبالي أيّكم بايعت، إن كان مسلمًا ليردنّه عليّ دينه، وإن كان نصرانيًّا أو يهوديًّا ليردنّه عليّ ساعيه، فأمّا اليوم فما كنت أبايع منكم إلّا فلانًا وفلانًا".
وأخرجاه في الصّحيحين من حديث الأعمش، به.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا حسن، حدّثنا ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد الحضرميّ، عن عبد اللّه بن عمرٍو؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "أربعٌ إذا كنّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدّنيا: حفظ أمانةٍ، وصدق حديثٍ، وحسن خليقةٍ، وعفّة طعمة".
هكذا رواه الإمام أحمد في مسنده عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص.
وقد قال الطّبرانيّ في مسند عبد اللّه بن عمر بن الخطّاب: حدّثني يحيى بن أيّوب العلّاف المصريّ، حدّثنا سعيد بن أبي مريم، حدّثنا ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد، عن ابن حجيرة، عن عبد اللّه بن عمر، رضي اللّه عنهما، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أربعٌ إذا كنّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدّنيا: حفظ أمانةٍ، وصدق حديثٍ، وحسن خليقةٍ، وعفّة طعمةٍ". فزاد في الإسناد: "ابن حجيرة"، وجعله من مسند ابن عمر.
وقد ورد النّهي عن الحلف بالأمانة، قال عبد اللّه بن المبارك في كتاب الزّهد: حدّثنا شريكٌ، عن أبي إسحاق الشّيبانيّ، عن خناس بن سحيم -أو قال: جبلة بن سحيم -قال: أقبلت مع زياد بن حدير من الجابية فقلت في كلامي: لا والأمانة. فجعل زيادٌ يبكي ويبكي، فظننت أنّي أتيت أمرًا عظيمًا، فقلت له: أكان يكره هذا؟ قال: نعم. كان عمر بن الخطّاب ينهى عن الحلف بالأمانة أشدّ النّهي.
وقد ورد في ذلك حديثٌ مرفوعٌ، قال أبو داود: حدّثنا أحمد بن عبد اللّه بن يونس، حدّثنا زهيرٌ، حدّثنا الوليد بن ثعلبة الطّائيّ، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلم: "من حلف بالأمانة فليس منّا"، تفرّد به أبو داود، رحمه اللّه). [تفسير ابن كثير: 6/ 488-493]
تفسير قوله تعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) :(وقوله تعالى: {ليعذّب اللّه المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} أي: إنّما حمل ابن آدم الأمانة وهي التّكاليف ليعذّب اللّه المنافقين منهم والمنافقات، وهم الّذين يظهرون الإيمان خوفًا من أهله ويبطنون الكفر متابعةً لأهله، {والمشركين والمشركات}، وهم الّذين ظاهرهم وباطنهم على الشّرك باللّه، عزّ وجلّ، ومخالفة رسله، {ويتوب اللّه على المؤمنين والمؤمنات} أي: وليرحم المؤمنين من الخلق الّذين آمنوا باللّه، وملائكته وكتبه ورسله العاملين بطاعته {وكان اللّه غفورًا رحيمًا}). [تفسير ابن كثير: 6/ 493]