عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 25 محرم 1440هـ/5-10-2018م, 09:38 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي سورة البقرة [من الآية (2) إلى الآية (5) ]

سورة البقرة [من الآية (2) إلى الآية (5) ]
بسم الله الرحمن الرحيم
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}


قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) }
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله عزّ وجلّ: (لا ريب)
اتفق القراء على نصب (لا ريب).
وجائز في العربية أن تقول: لا ريبٌ فيه، ولكن لا يجوز القراءة بها، لأن القراءة سنة متبعة.
و (لا) حرف نفي، نصب العرب الحرف بها إذا لم يكرروها بلا تنوين، فإذا كرروها فمنهم من ينصب بلا تنوين، ومن يرفع وينون). [معاني القراءات وعللها: 1/122]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (1- قوله تعالى: {لا ريب فيه هدى}
قرأ أبو عمرو وحده {فيه هدى} بإدغام الهاء في الهاء، وكذلك يفعل بالحرفين إذا التقيا، متجانسين كانا أو متقاربين، فالمتجانسان نحو: {جعل لكم الأرض فراشا} {ولا نكذب بآيات ربنا} و{ذهب بسمعهم وأبصارهم} وإن كان الحرف الأول مشددًا لم يدغم نحو: {أحل لكم} و{مس سقر} أو كانت الكلمة محذوفة عين الفعل نحو: {كدت تركن إليهم} و{كنت ترجو} أو خفت الكلمة بعض الخفة.
فأما المتقاربان [ف] ــــــنحو {خلقكم ثم رزقكم} و{أعلم بالشاكرين} و{مريم بهتانا عظيما}
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/55]
وقرأ الباقون كل ذلك بالإظهار. فحجة من أدغم قال: إظهار الكلمتين كإعادة الحديث مرتين، أو كخطو المقيد، فأسكن الحرف الأول وأدغمه في الثاني ليُعمل اللسان مرة واحدة.
وأما من أظهر فإنه أتى بالكلام على أصله لتكثر حسناته، إذ كان له بكل حرف عشر حسنات، وإنما الإدغام تخفيف وتقليل الكثير. واتفق القراء جميعًا على إدغام الحرفين المتجانسين والأول ساكن نحو قوله: {أن أضرب بعصاك}). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/56]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (قوله تعالى: فيه هدىً [2].
قال أحمد بن موسى: قرأ نافع: (فيه هدى)، و (عليه إنه) [الحج/ 4] (وما أنسانيه إلا) [الكهف/ 63] وما أشبه ذلك إذا كان قبل الهاء ياء ساكنة حركها حركة مختلسة من غير أن يبلغ بها الياء.
واختلف عن نافع: فروى المسيّبي عن نافع أنه أثبت الياء بعد الهاء [في قوله]: عليهي، فيقول من (كتب عليهي أنه من تولاه) [الحج/ 4]. وروى الكسائي عن إسماعيل عن نافع أنه قرأ: عليهي، يثبت الياء في كل
[الحجة للقراء السبعة: 1/175]
القرآن، فإذا كان قبلها واو ساكنة مثل ندعوه إنّه [الطور/ 28] أو ألف مثل اجتباه وهداه [النحل/ 121] ضم الهاء ضما من غير أن يبلغ بالضمة الواو. فإذا كان قبل الهاء حرف غير الواو والياء والألف وهو ساكن حرك الهاء أيضا حركة خفيفة من غير بلوغ واو، مثل: منه وعنه، إلّا في قوله: وأشركهو في أمري [طه/ 32] فإن المسيّبي روى عنه الصلة بالواو في هذا الحرف وحده. فإذا كان ما قبل الهاء متحركا، وكانت الحركة كسرة كسر الهاء ووصلها بياء في اللفظ، كقوله: وأمهي... وصاحبتهي [عبس/ 35]، وكتبهي ورسلهي [البقرة/ 285، والنساء/ 136] وما أشبه ذلك. فإذا كانت الحركة قبل الهاء ضمة أو فتحة ضم الهاء ووصل الهاء بواو.
فمثل ما تحرك ما قبل الهاء فيه بالضمة قوله تعالى: فإن الله يعلمهو [البقرة/ 270]، فهو يخلفهو [سبأ/ 39]. ومثل ما تحرك ما قبل الهاء فيه بالفتحة قوله: خلقهو فقدر هو [عبس/ 19]، ويسرهو [عبس/ 20]، فأقبرهو [عبس/ 21] وما أشبه ذلك، يصل ذلك كله بواو ويقف بغير واو. وكذلك مذهب أبي عمرو وعاصم إلّا في قوله: (وما أنسانيه إلا الشيطان) [الكهف/ 63] فإن أبا بكر بن عياش وحفصا اختلفا فيه عن
[الحجة للقراء السبعة: 1/176]
عاصم فروى أبو بكر عن عاصم: (وما أنسانيه) بكسر الهاء من غير بلوغ ياء ومثله (بما عاهد عليه الله) [الفتح/ 10] ويخلد فيه مهاناً [الفرقان/ 69].
وروى عنه حفص (وما أنسانيه إلّا) بضم الهاء من غير واو. وكذلك اختلفا في قوله: بما عاهد عليه اللّه فضم حفص الهاء وكسرها أبو بكر في سائر القرآن. ومثله: ويخلد فيه مهاناً، فإن حفصا روى عن عاصم أنه يصل الهاء بياء، وحذفها أبو بكر عن عاصم. وهو مذهب حمزة والكسائي وابن عامر، إلّا ما روى حفص عن عاصم في «أنسانيه» و «عليه الله» وفيهي «مهانا» يشبع الكسرة.
فأمّا ابن كثير فإنّه كان [يصل الهاء بياء في كل ذلك إذا كان قبلها ياء أو واو أو ألف أو حرف ساكن أو متحرك]
[الحجة للقراء السبعة: 1/177]
فيقول «فيهي هدى»، و (إليهي، ولديهي، وعليهي، واجتباهو، وهداهو، وما أنسانيهي إلّا، ومنهو، وعنهو) وكل ما كان مثله في القرآن.
قال أبو بكر محمد بن السري: الاختيار في (فيه) الكسر بغير ياء ولا إدغام. وحكى عن أبي حاتم أن ذلك قراءة العامة. قال أبو بكر: وهو الأخف، وخط المصحف بغير ياء.
قال: وأكره الإدغام، لأن من كسر، فالياء يريد، ومن أثبت الياء لم يجز له أن يدغم، لأنّه لم يلتق حرفان، ومع ذلك فهي من الحروف التي يكره إدغام بعضها في بعض، لثقل ذلك.
قال: وقال أبو حاتم: يروى عن نافع أنّه كان يدغم: ((فيه هدى)) ويشمّها شيئا من الضم. قال: وإدغامه وإدغام أبي عمرو يدل على أنّهما لم يكونا يزيدان على ضمّة الهاء بلا واو وعلى كسرها بلا ياء كقراءة العوام.
قال أبو حاتم: والضّم لغة مشهورة، وليس بعد الضم واو في اللفظ. قال: ومن كان من لغته إدخال الواو مع المضموم والياء مع المكسور فقال: فيهو، وفيهي، لم يجز له الإدغام، لأنّ بين الهاءين في اللفظ حرفا حاجزا.
قال أبو بكر: وقال بعض أصحابنا: قراءة من قرأ ((فيه هدى))، بإدغام الهاء في الهاء، هو ثقيل في اللفظ وجائز في
[الحجة للقراء السبعة: 1/178]
القياس، لأنّ الحرفين من مخرج واحد، إلّا أنّه يثقل في اللفظ، لأنّ حروف الحلق ليست بأصل في الإدغام، والحرفان من كلمتين.
وحكى الأخفش أنّها قراءة.
قال أبو بكر- في رواية من روى عن أبي عمرو وغيره أنه كان يشمّ ويدغم-: هذا محال، لا يمكن الإدغام مع شيء من هذا، وذلك أنّه لا فصل بين الحرفين إذا أدغما بحال من الأحوال، لا بقطع ولا حركة ولا ضرب من الضروب، وإنّما يصيران كالحرف الواحد للزوم اللسان لموضع واحد، وإنّما كان أبو عمرو يختلس ويخفي فيظن به الإدغام، وكيف يكون متحرك مدغم فيجب أن يكون متحركا ساكنا. قال: وقال أبو حاتم:
أراد أبو عمرو ونافع الإخفاء، فلذلك أشما الضمّ والكسر، ولو أدغما إدغاما صحيحا أسكنا الهاء الأولى. قال: وكان من شأن أبي عمرو الإخفاء، لكراهية كثرة الحركات والإشباع. انتهت الحكاية عن أبي بكر.
قال أبو علي: قوله تعالى: لا ريب فيه. قال سيبويه: قالوا: أراب كما قالوا: ألام، أي صار صاحب ريبة، كما قالوا: ألام، أي: استحق أن يلام، وأما رابني فيقول: جعل فيّ ريبة، كما تقول: قطعت النخل، أي: أوصلت إليه القطع واستعملته فيه.
[الحجة للقراء السبعة: 1/179]
وقال أبو زيد: قد رابني من فلان أمر رأيته منه ريبا إذا كنت مستيقنا منه بالرّيبة. فإذا أسأت به الظنّ، ولم تستيقن منه بالريبة قلت: قد أرابني من فلان أمر هو فيه، إرابة وقد أربت فأنت مريب، إذا بلغك عنه شيء أو ظننته من غير أن تستيقنه. وقال: أنشدنا أبو عليّ كأنّني أربته بريب.
وقال أبو عبيدة: لا ريب: لا شك.
وأما الهدى فقال سيبويه: قلّما يكون ما ضمّ أوله من المصدر منقوصا، لأن فعل لا تكاد تراه مصدرا من غير بنات الياء والواو.
[الحجة للقراء السبعة: 1/180]
وقال أيضا: قد جاء في هذا الباب- يعني باب اعتلال اللام- المصدر على فعل، قالوا: هديته هدى. ولم يكن هذا في غير هدى وذلك لأنّ الفعل لا يكون مصدرا في هديته فصار هدى عوضا منه قالوا: قريته قرى وقليته قلى، فأشركوا بينهما في هذا فصار عوضا من الفعل في المصدر فدخل كلّ واحد منهما على صاحبه، كما قالوا: كسوة وكسى وجذوة وجذى وصوّة وصوى، لأنّ فعل وفعل أخوان. ومن العرب من يقول: رشوة ورشا، ومنهم من يقول: رشوة ورشا وحبوة وحبا، وأكثر العرب تقول: رشا وكسا وجذا.
قال أبو علي: وقد يجوز أن يكون فعل مصدرا اختصّ به المعتل وإن لم يكن في الصحيح، كما كان كينونة ونحوه مصادر، ولا يكون فيعلولة عنده ولا فعلولة عند من خالفه
[الحجة للقراء السبعة: 1/181]
مصدرا في الصحيح.
ويؤكد الأول ما قاله من أنّه قد يستغنى بفعله نحو: الجلسة والرّكبة عن المصدر.
ويقوّيه أيضا أنّ ناسا من النحويين يزعمون أنّه قد يجرى الأسماء التي ليست بمصادر مجرى المصادر فيقولون: عجبت من دهنك لحيتك وينشدون:
وبعد عطائك المائة الرتاعا
فيجرونه مجرى الإعطاء.
وقال لبيد:
باكرت حاجتها الدجاج
[الحجة للقراء السبعة: 1/182]
وفسّروه على: باكرت حاجتي إليها، فأضيف إلى المفعول، كما يضاف المصدر إليه، فكذلك يكون الهدى والسرى والتّقى، وفي التنزيل: إلّا أن تتّقوا منهم تقاةً [آل عمران/ 28]. فكذلك يكون هذا النحو قد استغني به عن المصدر، كما قالوا: هو يدعه تركا شديدا.
فإن قلت: فلم لا تجعل (تقاةً) مثل رماة في الآية، فيكون حالا مؤكّدة. فإنّ المصدر أوجه: لأنّ القراءة الأخرى:
(إلا أن تتقوا منهم تقية) بهذا أشبه، وإن كان هذا النحو من الحال قد جاء، وسنذكره في موضعه إن شاء الله.
وقال أبو عبيدة: (هدىً للمتّقين): بيانا لهم. وقال أبو الحسن: زعموا أنّ من العرب من يؤنّث الهدى.
وأما الفعل من الهدى: فيتعدى إلى مفعولين، يتعدى إلى الثاني منهما بأحد حرفي جر: إلى، واللام. فمن تعدّيه بإلى قوله: فاهدوهم إلى صراط الجحيم [الصافات/ 23]. ومنه قوله: واهدنا إلى سواء الصّراط
[الحجة للقراء السبعة: 1/183]
[ص/ 22]. ومن تعديه باللام قوله: الحمد للّه الّذي هدانا لهذا [الأعراف/ 43]، وقوله: قل اللّه يهدي للحقّ [يونس/ 35]. فهذا الفعل بتعديه مرة باللام وأخرى بإلى مثل أوحى في قوله: وأوحى ربّك إلى النّحل [النحل/ 68]، وقوله: بأنّ ربّك أوحى لها [الزلزلة/ 5].
وقد يحذف الحرف من قولهم: هديته لكذا وإلى كذا، فيصل الفعل إلى المفعول الثاني، كما قال: اهدنا الصّراط المستقيم، أي: دلنا عليه واسلك بنا فيه، فكأنّه سؤال واستنجاز لما وعدوا به في قوله: يهدي به اللّه من اتّبع رضوانه سبل السّلام [المائدة/ 16] أي سبل دار السلام، بدلالة قوله: لهم دار السّلام عند ربّهم [الأنعام/ 127].
وتكون إضافة الدار إلى السلام على أحد وجهين: إمّا أن يراد به الإضافة إلى السلام الذي هو اسم من أسماء الله على وجه التعظيم لها والرفع منها، كما قيل للكعبة: بيت الله، وللخليفة: عبد الله. وإمّا أن يراد بالسلام جمع سلامة، كأنّه: دار السلامة التي لا يلقون في حلولها عنتا ولا تعذيبا، كما قال: الّذي أحلّنا دار المقامة من فضله لا يمسّنا فيها نصبٌ ولا يمسّنا فيها لغوبٌ [فاطر/ 35]. وسألوا ذلك ليكونوا خلاف من قيل فيه: فاهدوهم إلى صراط الجحيم [الصافات/ 23]، وقيل: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً [الحديد/ 13].
[الحجة للقراء السبعة: 1/184]
وقد يكون قوله: اهدنا الصّراط المستقيم سؤالا لأن يلطف لهم بالتثبيت على الإيمان وطرق الهدى والدين فلا يكونوا كمن وصف بقوله: وضلّوا عن سواء السّبيل [المائدة/ 77]، وقوله: ومن يفعله منكم فقد ضلّ سواء السّبيل [الممتحنة/ 1].
ويقوي ذلك قوله: وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ولا تتّبعوا السّبل فتفرّق بكم عن سبيله [الأنعام/ 153]، وقوله: وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصّراط المستقيم [الصافات/ 117، 118].
ويقوي الوجه الأوّل قوله: والّذين قتلوا في سبيل اللّه فلن يضلّ أعمالهم، سيهديهم ويصلح بالهم [محمد/ 4، 5]، فهذا على الدلالة إلى طريق الجنة والثواب.
فأمّا قوله: إنّ الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات يهديهم ربّهم بإيمانهم [يونس/ 9] فإنّه يكون مثل قوله: سيهديهم ويصلح بالهم بدلالة اتصال الحال به، وهو قوله: تجري من تحتهم الأنهار في جنّات النّعيم، ويكون الظرف على هذا متعلقا بيهديهم. ويجوز أن يكون يهديهم في دينهم كقوله: والّذين اهتدوا زادهم هدىً [محمد/ 17]، ويكون الحال فيه كقوله: هدياً بالغ الكعبة [المائدة/ 95]. وكما أجاز سيبويه
[الحجة للقراء السبعة: 1/185]
من قولهم: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، ويكون الظرف على هذا متعلقا بتجري.
فأمّا قوله: ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً [النساء/ 175] فقوله: صراطا مستقيما على فعل دلّ عليه يهديهم كأنه: يعرّفهم صراطا مستقيما، ويدلّهم عليه. وإن شئت قلت: إنّ معنى يهديهم إليه: يهديهم إلى صراطه، ويكون انتصاب صراط كقولك: مررت بزيد رجلا صالحا.
وقال أبو الحسن: يقال هديت العروس إلى بعلها، وتقول أيضا: أهديتها إليه، وهديت له. وتقول: أهديت له هديّة. وبنو تميم يقولون: هديت العروس إلى زوجها، جعلوه في معنى: دللتها، وقيس تقول: أهديتها جعلوه بمنزلة الهديّة.
وممّا يدلّ على أن الهدى الدلالة- كما فسره أبو الحسن- أنّه قد قوبل به الضلال في نحو قوله: واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضّالّين [البقرة/ 198]. أي: من قبل هداه، فلما دلّ الفعل على المصدر أضمر. وقال ابن مقبل:
قد كنت أهدي ولا أهدى فعلّمني... حسن المقادة أنّي فاتني بصري
وقيل في قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 1/186]
حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة... يخشعن في الآل غلفا أو يصلّينا
إن معنى استبنت الهدى: أضاء لي النهار. هاجمة: كأنّها مطرقة من البعد، وغلفا: تلبس أغطية من السراب. وقال أبو عمرو: غلفا: ليس عليها شيء يسترها. وقوله: أو يصلّينا، كأنّهن- ممّا يرفعهنّ السراب ويضعهن- يصلين، وحكى أحمد بن يحيى عن بعض البغداديين يقال: هديّ بيت الله، وأهل الحجاز يخففون، وتميم تثقّله. وواحد الهديّ هديّة. وقد قرئ بالوجهين، حتّى يبلغ الهدي محلّه [البقرة/ 196] والهدي محله.
ويقال: فلان هديّ بني فلان وهديهم، أي جارهم يحرم عليهم منه ما يحرم من الهدي. وأهديت الهدي إهداء، وأهديت الهديّة إهداء، وهديت العروس إلى زوجها هداء، ويقال: أهديتها بالألف. ويقال: نظر فلان هدية أمره أي: جهة أمره، وما أحسن هديه أي: سمته وسكونه وهديت الضالّة أهديها هداية، وهديته الدين أهديه هدى، ورجل
[الحجة للقراء السبعة: 1/187]
مهداء: كثير الهدايا، والمهدى: الطبق الذي يهدى عليه.
وقال أحمد هدى وأهدى واحد، وأنشد:
لقد علمت أمّ الأديبر أنّني... أقول لها هدّي ولا تذخري لحمي
انتهت الحكاية عنه.
قال أبو علي: وواحد الهديّ هديّة، مثل مطيّ ومطيّة قال:
حلفت بربّ مكة والمصلّى... وأعناق الهديّ مقلّدات
وقال:
متى أنام لا يؤرّقني الكري... ليلا ولا أسمع أجراس المطي
[الحجة للقراء السبعة: 1/188]
ومن خفف الهدي فواحده هدية مثل شرية وشري، وقالوا: هدي للواحد، وقالوا: هديّ للعروس قال:
برقم ووشم كما نمنمت... بميشمها المزدهاة الهديّ
قيل: إن ذلك من قوله: وإنّي مرسلةٌ إليهم بهديّةٍ [سبأ/ 35].
فأمّا قوله: (لا ريب فيه) فيجوز أن تجعل (فيه) خبرا، ويجوز أن تجعله صفة، فإن جعلته صفة أضمرت الخبر، وإن جعلته خبرا كان موضعه رفعا في قياس قول سيبويه من حيث يرتفع خبر المبتدأ، وعلى قول أبي الحسن موضعه رفع من حيث كان خبر إنّ رفعا، فإن جعلت (فيه) صفة، ولم تجعله خبرا كان موضعه نصبا في قول من وصف على اللفظ كما عطف على اللفظ في قوله:
لا أب وابنا
[الحجة للقراء السبعة: 1/189]
ومن وصف على الموضع كما عطف على الموضع في قوله:
لا أمّ لي إن كان ذاك ولا أب
كان موضعه رفعا على هذا. والموضع للظرف نفسه لا لما كان يتعلق به، لأن الحكم له دون ما كان يكون الظرف منتصبا به في الأصل، ألا ترى أنّ الضمير قد صار في الظرف.
فأمّا قوله: لا تثريب عليكم اليوم [يوسف/ 92] فلا يخلو قوله: عليكم واليوم من أن يكون تعلقهما بتثريب الذي هو المصدر أو بغيره. فلا يجوز أن يتعلق بالمصدر، لأنّه لو تعلق به لكان صلة له، ألا ترى أنّ ما يتعلق بالمصدر يكون من تمامه ومن صلته، وإذا كان من تمامه لم يجز بناؤه على الفتح
[الحجة للقراء السبعة: 1/190]
من دونه، كما أنّ ما يتعلق باسم الفاعل في نحو: لا آمرا بالمعروف لك، إذا جعلت الباء من صلة الآمر، ولا ضاربا رجلا عندك، لا يجوز أن يبنى الاسم دونه، لأنّ البناء إنّما يكون في آخر الاسم، كما أنّ التثنية والجمع كذلك، فكما لا يثنّى قبل أن يتمّ بصلته، كذلك لا يجعل مع الأول اسما واحدا، كما أنّ: (لا خيرا من زيد) كذلك. فإذا لم يجز تعلّقهما ولا تعلّق واحد منهما بالمصدر تعلّق بغيرهما. فيمكن أن يكون (عليكم) صفة للمصدر، لأنّه نكرة، والجارّ كان في الأصل متعلّقا بمضمر يكون في موضع الصفة، ويكون (اليوم) في موضع الخبر، لأنّه مصدر، فتكون أسماء الأحيان خبرا عنه.
ويجوز أيضا أن يكون (اليوم) متعلقا بما هو في موضع صفة، كما كان (عليكم) كذلك، فإذا حملته على هذا أضمرت خبرا وجعلت (عليكم) أيضا مثله.
ويجوز أن يتعلق اليوم بعليكم على أن تكون ظرفا له، فإذا حملته على هذا أضمرت أيضا خبرا.
ويجوز أيضا أن يتعلق اليوم بعليكم على أن يكون (عليكم) خبرا لا صفة. ومثل ذلك قوله: لا عاصم اليوم من أمر اللّه إلّا من رحم [هود/ 43] (اليوم): معمول (من أمر اللّه)، والجارّ متعلق بمحذوف، وإن شئت جعلته صفة وأضمرت الخبر. ولا يكون (اليوم) ولا قوله (من أمر اللّه)
[الحجة للقراء السبعة: 1/191]
من صلة (عاصم) في قول سيبويه.
والبغداديّون- فيما حكي لنا عنهم- يجيزون في هذا ونحوه أن يكون الظرف من صلة المنفي المبني غير المنون.
فأما قوله تعالى: لا بشرى يومئذٍ للمجرمين [الفرقان/ 22] فإن جعلت «بشرى» في موضع تنوين، جاز أن يكون يومئذ من صلته، وإن جعلته في موضع الفتح للنفي، جاز أن يكون خبرا، لأنّ «بشرى» حدث، فلا يمتنع أن يكون خبره ظرفا من الزمان، ويكون (للمجرمين) صفة لبشرى. وقد يكون تبيينا: مثل: لك بعد سقيا.
ويجوز أن يكون (للمجرمين) الخبر، ويكون (يومئذٍ) تبيينا، مثل: وكانوا فيه من الزّاهدين [يوسف/ 20].
وأكثر ما يكون هذا التبيين بحروف الجر، ولا يمتنع ذلك في الظروف أيضا، لأنّ حرف الجر يقدر معها ويراد، فكأنه في حكم الثبات. وقول أمية:
فلا لغو ولا تأثيم فيها... وما فاهوا به لهم مقيم
إن قلت ما موضع (فيها) في هذا الموضع؟ وكيف
[الحجة للقراء السبعة: 1/192]
القول فيه؟. فإن قياس قول سيبويه أن يكون فيها في موضع رفع، لكونها خبرا عن الاسمين، كما أنّك لو قلت: لا رجل ولا غلام فيها كان (فيها) خبرا عنهما، ألا ترى أنّ ((لا)) مع ((رجل)) في موضع اسم مرفوع على قول سيبويه، وخبره مرفوع، كما يرتفع خبر: لا رجل في الدار.
وقياس قول أبي الحسن ألا يكون (فيها) خبرا عنهما جميعا، لأن ارتفاع الخبرين مختلف في قولهما. وذلك أن خبر (لا تأثيمٌ) يرتفع عند أبي الحسن بلا، دون كونه خبرا للابتداء، وخبر (لغو) مرتفع بالابتداء فإذا اختلف إعراب خبريهما لم يجز أن يكون قوله (فيها) خبرا عنهما، لأنّه يجب من ذلك أن يعمل في (فيها) عاملان مختلفان، فإذا كان ذلك غير سائغ، علمت أن كونه خبرا عنهما غير سائع، وإذا لم يجز أن يكون خبرا عنهما لاختلاف إعرابيهما وجب أن يكون لكل واحد خبر. فلك أن تجعل (فيها) خبرا عن تأثيم، ويكون ذكره يدلّ على خبر الأوّل، كما أن قوله:
............. وأنت بما... عندك راض .......
[الحجة للقراء السبعة: 1/193]
دلّ على خبر: نحن بما عندنا.
ويجوز أن تجعل (فيها) خبرا عن الأوّل وتحذف خبر (لا تأثيمٌ)، ويدلّ عليه ما تقدّم من خبر الأول. وقولهم: لا خير بخير بعده النار، ولا شرّ بشر بعده الجنة. يجوز أن يكون بخير متعلقا بمحذوف في موضع رفع بأنّه خبر لا وقولك: بعده النار الجملة في موضع جر بكونه وصفا لخير المجرور.
وقياس قول سيبويه أن تكون النار والجنة على هذا الوجه يرتفعان بالظرف لكونهما صفتين للنكرة.
ويجوز أن تجعل لا بمنزلة ليس على قوله: «لا مستصرخ» فتكون الباء حينئذ في القياس كالباء التي تزاد في خبر ليس.
فإن لم تجعل لا بمنزلة ليس وجعلتها الناصبة لم يجز
[الحجة للقراء السبعة: 1/194]
أن تكون الباء في خبرها، لأن خبرها مرفوع كخبر المبتدأ، ألا ترى أنه قد حكي عن يونس أنّهم يقولون: لا رجل أفضل منك، فيرفعون (أفضل) لأنه خبر، فكما لا تدخل الباء على خبر المبتدأ كذلك لا تدخل على خبر لا، لأنّها مع ما عملت فيه بمنزلة المبتدأ.
وإن شئت أجزت دخول الباء لمضارعتها ليس وكون الكلام بها في النفي بمنزلة ليس، فكما دخلت على خبر ليس وكانت هي مثلها في النفي دخلت على خبرها أيضا الباء، ألا ترى أنّه قد جاء: أولم يروا أنّ اللّه الّذي خلق السّماوات والأرض ولم يعي بخلقهنّ بقادرٍ [الأحقاف/ 33] فدخلت الباء حيث كان معنى الكلام النفي وكان المعنى: أليس الله بقادر.
وإن شئت أجزت دخول الباء على خبر المبتدأ على قياس قول أبي الحسن، لأنّه قد أجاز في قوله: جزاء سيّئةٍ بمثلها [يونس/ 27] أن تكون الباء داخلة على خبر المبتدأ، لأنّه قد جاء: وجزاء سيّئةٍ سيّئةٌ مثلها [الشورى/ 40] فيجوز على هذا أن تكون الباء داخلة على الخبر الذي هو في موضع رفع.
وإن جعلت الهاء في قوله: (بعده النار) لخير المنفي بلا كانت الجملة التي هي: (بعده النّار) (وبعده الجنّة) في موضع نصب بكونها صفة للاسم الذي عمل فيه (لا)، كأنّه: لا خير
[الحجة للقراء السبعة: 1/195]
بعده النار بخير، فيجوز في الباء في قولك: (بخير) ما جاز فيها إذا جعلت قولهم (بعده النار) صفة لخير الذي دخلت عليه الباء. وتقديره في هذا الوجه تقدير: لا رجل قام غلامه أفضل منك.
وأمّا ما ذهب إليه البغداديّون من استجازتهم إعمال أسماء الفاعلين والمصادر إذا بنيا مع لا على الفتح، فممّا يبيّن أنّه لم يكن ينبغي أن يعملوه كما كان يعمل قبل- أنّ ذلك بالبناء مع لا على الفتح قد فارق شبه الفعل، كما أن اسم الفاعل والمصادر بالتصغير والوصف قد فارقا ذلك، فكما لا يعمل اسم الفاعل والمصدر مصغّرين ولا موصوفين كذلك اسم الفاعل والمصدر إذا بني كل واحد منهما مع لا على الفتح.
فإن قلت: إنّ هلمّ في قول أهل الحجاز قد بني الفعل فيه مع حرف قبله، وأعمل عمل الفعل، وحقروا رويدا وأعملوه عمل الفعل في نحو: رويد عليّا، فكذلك ما تنكر أن بني الاسم مع ما قبله على الفتح ويعمل. وأنشد بيت الهذليّ:
رويد عليّا جدّ ماثدي أمّهم... إلينا ولكن ودّهم متماين
[الحجة للقراء السبعة: 1/196]
قيل: إنّ ما ذكرته في هلمّ على هذا القول قليل، وكذلك رويد، ومع ذلك فإنّ هلمّ إذا أعمل على قول أهل الحجاز فإنّه ليس يعمل كما يعمل الفعل، ولكن كما تعمل الأسماء التي سمّي بها الفعل، نحو عليك ورويد: يدلّك على أنّه على هذا الحدّ أعمل، ليس على ما أعمل الفعل أنّهم جعلوه للاثنين والجمع والمذكر والمؤنث على لفظ واحد. فهذا
ممّا يدلك أنّه بالبناء عندهم على هذا الحدّ الذي بني عليه خرج عندهم من حكم الفعل وعن عمله على حدّ عمل الفعل. ففي هذا دلالة على أنّهم إذا بنوه مع ما قبله لم يعملوه على حدّ ما يعمل الفعل، كما أعمله بنو تميم لمّا لم يبنوه مع الحرف الذي قبله.
وإذا كان أهل الحجاز قد فعلوا ذلك بهلمّ لمكان البناء الذي أحدثوه فيه فكذلك ينبغي على قياس ما فعلوه من ذلك ألا يجوز إعمال اسم الفاعل والمصدر عمل الفعل إذا بنيا مع (لا) لخروجه بذلك عن شبه الفعل.
فأمّا إعمالهم الفعل إذا لحقه النون الخفيفة أو الثقيلة مع أنّه يبنى مع كل واحد منهما، فإن ذلك ليس بمنزلة هلمّ المبنيّ مع ما قبله، ولكن بمنزلة البناء مع علامة الضمير،
[الحجة للقراء السبعة: 1/197]
وبمنزلة التغيير الذي يلحق الآخر للإعراب، نحو لحاق النون للإعراب، وحذف اللامات للجزم، ألا ترى أن الخفيفة تجري مجرى التنوين في: لنسفعاً [العلق/ 15] وفي اضربا القوم فليس ذلك إذا كهلمّ المبني على الفتح مع ما قبله.
فأمّا ما أجازه أحد شيوخنا- وهو أبو إسحاق الزجّاج- في قوله: ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً من أنّه بمنزلة حلو حامض - أي هو كتاب وهو هدى- فالقول في إجازة هذا على الوجه الذي ذكره مشكل. وذاك أن ارتفاعهما لا يخلو من أن يكون بأنّهما خبر المبتدأ، أو يكون الثاني تابعا للأول.
فإن قيل: يرتفع الاسمان بأنّهما خبر المبتدأ قيل: لم نر شيئا رافعا يرفع اسمين على هذا الحدّ. وقد شبّهوا ارتفاع خبر
[الحجة للقراء السبعة: 1/198]
المبتدأ بارتفاع الفاعل، وزعموا أنّه ارتفع لمشابهة الفاعل.
فإن قلت: إنّ الثاني تابع للأول فليس يجوز أن يكون الثاني بدلا من الأول، لأنّ الأول مراد، كما أن الثاني كذلك، ومن ثمّ لم يجز أن يكون الثاني صفة للأول. والصفة أبعد أن تجوز، لأنّك لا تصف الحلو بأنه حامض، وإنما تخبر عن الأول أنه قد جمع الطعمين، ولا مدخل هاهنا لشيء من باقي التوابع. فإذا بعد هذان ولم يخل منهما ثبت إشكال المسألة.
ولا يستقيم أن يجعل (حامض) خبر مبتدأ محذوف وأنت تريد هذا المعنى؛ لأن الكلام يصير جملتين وإنّما يراد في المخبر عنه أنّه قد جمع الطعمين في جملة واحدة، كأنّك قلت: مزّ.
فإن قلت: أجعل الاسمين موضعهما رفع، لوقوعهما موقع اسم مفرد يرتفع بأنّه خبر مبتدأ، كما يجعل موضع الجملة رفعا إذا وقع موقع الخبر فإنّ في ذلك بعدا لأنّ هذا وإن كان مشبها للجملة في أنّهما اسمان فليس بها، ألا ترى أنّك إذا سميت رجلا: عاقلة لبيبة، أعملت فيه العوامل، ولم تجعله بمنزلة أن تسمّيه بزيد منطلق وأنت
تريد الجملة. فممّا نقول في ذلك أن هذين الاسمين لا يمتنع أن يقعا جميعا خبرا لمبتدإ.
وإذا جاز أن يقع خبر المبتدأ جملة ولم يمتنع ذلك- وإن كان الفاعل يمتنع أن يكون جملة- كان هذا أيضا جائزا أن يكون في موضع
[الحجة للقراء السبعة: 1/199]
خبر المبتدأ. وقد جاء أشدّ من هذا، وهو أنّ هذه الجمل قد وقعت موقع خبر إنّ في مثل: إن زيدا أبوه منطلق، وإن زيدا قام أبوه. وإذا جاز هذا في إنّ مع أنّ فيه نصبا ظاهرا، وحكم النصب ألّا يكون إلا برفع لفاعل أو مشبه به، ووقعت الجملة موقع الرافع الفاعل فهذا أجوز.
واختلفوا في ضرب من هذا. وهو قولهم: أقائم الزيدان، وإنّ قائما الزيدان. فأجازوا: أقائم الزيدان، على أن يرتفع (قائم) بالابتداء ويسدّ (الزيدان) مسدّ الخبر، فإذا ألحقت هذا الكلام (إنّ) ذهب أبو عثمان فيه إلى أنّه لا يجوز، وقال: لأنّ الكلام يبقى بلا رافع، ألا ترى أن (الزيدان) يرتفعان بقائم، فلا يبقى شيء رافع يكون هذا النصب عنه.
وأجاز أبو الحسن: إنّ قائما الزيدان، ومن حجّته أن يقول: إنّ «إنّ» إذا جاز أن يقع في موضع المرتفع بها الجملة مع أن الجملة لا تكون في موضع الفاعل، وقد وقعت في موضع الفاعل في باب إنّ، فأن يقع الاسم المرتفع بقائم هنا أشبه، لأنّه قد ثبت أنّه قد سدّ مسدّ الخبر في الابتداء، فإذا سدّ مسدّ الخبر في الابتداء فأن يسدّ مسدّه هاهنا أشبه، لأنّه مفرد، وقد سدّت الجملة مسدّه. فسدها هنا مسدّ فاعل إنّ كما سدّ مسد الخبر مع المبتدأ.
فأمّا ما يرجع من هذا الخبر الذي هو: (حلو حامض) ونحوه إلى المبتدأ فالقول فيه أنّه لا يخلو من أن يكون
[الحجة للقراء السبعة: 1/200]
الضمير في أحد الاسمين، أو في كلّ واحد منهما ضمير، أو يكون فيهما ضمير واحد، أو لا يكون في واحد منهما ضمير.
فلا يجب أن يكون في أحد الاسمين دون الآخر، لأن كلّ واحد منهما إذا خصصته بتحمّله الضمير لم يكن بأولى بذلك من صاحبه. ولا يستقيم أن يكون في كل واحد منهما ضمير: لأنّك إن حمّلت كلّ واحد منهما ضميرا لم يكن ذلك الغرض في الإخبار، ألا ترى أن الضمير إذا حمّلته كلّ واحد منهما فالضمير فاعل، فتصير كأنّك قد أخبرت عن المبتدأ بفعل كل واحد من اسمي الفاعل، كأنّك قلت: حلا وحمض، وليس الغرض كذلك ولا المراد، إنّما المراد: أن الأول قد جمع الطعمين، ألا ترى أن أبا عمر قال في تفسير ذلك: ترش شيرين.
فإذا كان ذلك مؤديا إلى خلاف المعنى المراد لم يستقم.
ولا يجوز أن يكون ضمير واحد فيهما جميعا، لأنّه يجب أن يعمل الصفتان جميعا فيه، وهذا ممتنع، كما يمتنع أن يعمل فعلان في فاعل وإذا كانت هذه الوجوه غير مستقيمة ثبت أنه لا ضمير في ذلك.
[الحجة للقراء السبعة: 1/201]
فإن قلت: فعلام يحمل؟ قلنا: نحمله على المعنى، ونردّ الضمير في ذلك إلى المبتدأ في المعنى، كما فعل ذلك في الصفة في قولك: مررت برجل قائم أبواه لا قاعدين، ألا ترى أنه لا عائد في لفظ هذه الصفة إلى الموصوف، وإنما يرجع إليه الذكر في المعنى، كأنك قلت: لا قاعد أبواه.
ونظير ما قلنا أيضا في المبتدأ قوله: سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم [البقرة/ 6] ألا ترى أن الذكر يرجع إلى هذا المبتدأ أيضا على المعنى فكما أن الكلام وتقديره محمول على المعنى كذلك في قولنا: هذا حلو حامض، الذكر عائد من المعنى كما أنّه مما ذكرنا في الصفة وفي قولهم: مررت برجل قائم وقاعد يعود الذكر على المعنى.
فإن قلت: فما تقديره في الإعراب؟ فالقول إنّه: كما أن الاسمين وقعا موقع مفرد فيما ذكرنا من عود الذكر إلى المبتدأ، كأنّه قال في «حلو حامض»: مزّ، وفي «زيد ظريف كاتب»: جامع، فكذلك الاسمان وقعا موقع المفرد، كما تقع الجملة موقع المفرد في هذا الموضع.
ونظير هذا، في أن الصفتين جرتا مجرى الجملة في بعض الوجوه، تسميتهم بعاقلة لبيبة امرأة أو رجلا، ألا ترى أنهم لم يمتنعوا من الصرف وحكوا حال النكرة كما فعلوا ذلك في الجمل، فهذان الاسمان إذا وقعا موقع خبر الابتداء وإن لم
[الحجة للقراء السبعة: 1/202]
يجز أن يقع بعد الفعل اسمان يسند الفعل إليهما فإن المبتدأ قد وقع موضع خبره الجمل، نحو قولهم: زيد أبوه منطلق، وعمرو قام أبوه، وكما جاز هذا وإن امتنع في الفاعل، وجاز: إن زيدا أبوه منطلق كذلك يجوز وقوع هاتين الصفتين موقع خبر الابتداء على حدّ ما وقعت الجمل، وإن لم يكونا جملة.
وأمّا هاء الضمير في قوله: فيه هدى، فالهاء وحدها هي الاسم. قال سيبويه: الهاء التي هي هاء الإضمار الياء التي بعدها أيضا مع هذا أضعف، لأنّها ليست بحرف من نفس الكلمة ولا بمنزلته. فقد نصّ أنّ الزيادة التي تلحق الهاء ليست من نفس الكلمة، كما ترى.
ويدلّ على ذلك أنّه قد جاء في الشعر نحو:
... له أرقان
فهذا يدلّ على أنّ حرف المدّ إنّما لحقه في الوصل للخفاء، كما لحقت الواو الهمزة في نحو: كندأو للخفاء
[الحجة للقراء السبعة: 1/203]
الذي في الهمزة. ومن ثمّ أبدل منها قوم الواو في الوقف في الرفع فقالوا: الكلو.
ويدلّ أيضا على أنّها على حرف واحد في الأصل أنّها نظيرة الياء للمتكلم والكاف للمخاطب، فكما أنّ كل واحد من ذلك على حرف مفرد فكذلك الهاء ينبغي أن تكون الاسم وحدها بغير ياء أو واو لاحقة له.
فإن قلت: فلم لا تستدلّ بلحاق الألف للمؤنث أن الواو أو الياء بحذاء الألف؟ قيل: تكون الألف لاحقة لتبيين من المذكّر، كما لحقت في أعطيتكاها لذلك، وكما أن السين في قول من قال: أكرمكس لذلك، فكما أنّ الكاف حرف مفرد وإنّما لحقه حرف المدّ وغيره للتبيين فكذلك يكون لحاق الألف الهاء للمؤنث، إلّا أنّ الهاء لزمها الألف في جميع اللغات- إلّا فيما لا اعتداد به- لخفائها وخفة الألف والتبيين للفصل.
فإن قلت: فما حكم الهاء أن تكون، أمتحركة أم ساكنة؟
فالقول: إنّها ينبغي أن تكون متحركة، على قياس الكاف والياء في لك ولي فاعلم، ويكون ما جاء في الشعر من نحو:
[الحجة للقراء السبعة: 1/204]
كأنّه صوت حاد
وما له من مجد تليد...
جاء على الأصل، وحذف حرف المدّ الزائد معه. والذين قالوا:
له أرقان
فهي لغة قوم فيما زعم أبو الحسن وغيره، شبّهوه بالألف في التثنية وبالياء في غلامي، فأسكنوه لذلك. وهو أيضا على قياس إسكانهم الميم من عليكم وعليهم بعد حذف الواو منه.
وممّا يقوّي أنّها متحركة في الأصل لحاق حرف اللين له في نحو ضربهو، ومرّ بهي، ولو كان ساكنا لم يوصل بذلك،
[الحجة للقراء السبعة: 1/205]
كما لم يوصل حرف الروي إذا كان ساكنا، ولكان إذا وصل بحرف لين وجب أن يكسر كما كسر:
فاغن وازددي.
وهذا مثل المدّ في نحو آمين ولزم في لغة الأكثر في الوصل لخفاء الهاء.
وقول الشاعر:
أجرّه الرّمح ولا تهاله
إن شئت جعلت الألف الردف فيه كالألف في: منتزاح.
وإن شئت قلت: ردّ الألف المنقلبة من العين وجعل حركة التقاء الساكنين بمنزلة الحركة اللازمة.
فأمّا حذفهم له في الوقف فليس بدليل قاطع على زيادة هذه الحروف، لأنّهم قد حذفوا في الوقف الواو في: ضربكم، وهذا لهم، والياء في عليهم، مع أنّها من نفس الكلمة، وليست
[الحجة للقراء السبعة: 1/206]
بزيادة بدلالة أن المؤنّث الذي بحذائه ليس النون الثانية فيه بزيادة ولكن إنّما حذفتا في الوقف، لأنّهما حرفا علّة قد حذفا في الوصل في: عليه ومنه ونحو ذلك.
والوقف موضع قد يحذف منه ما يثبت في الوصل، نحو: الكبير المتعال [الرعد/ 9] واللّيل إذا يسر [الفجر/ 3] فلمّا حذف فيه ما يثبت في الوصل وهو من أصل الكلمة وجب أن يلزم الحذف فيه ما قد استمرّ فيه الحذف في الوصل، لاختصاص الوقف بالتغيير، فجعل تغييره الحذف، كما ألزم الأكثر تاء التأنيث في النداء الحذف إذ كان موضعا قد يحذف فيه ما لا يتغيّر، نحو آخر، وحارث، ومالك، وعامر. فلمّا حذف فيه هذا الذي لا يتغيّر ألزم الحذف فيه ما يتغيّر وهو التاء في طلحة، وسلمة ونحو ذلك.
الحجّة لمن كسر الهاء من (فيه هدىً) ولم يلحقها الياء فيقول: فيهي هدى [البقرة/ 2].
أمّا كسر الهاء مع أنّ أصلها الضم فمن أجل الياء أو الكسرة اللّتين تقعان قبلها، والهاء تشبه الألف لموافقتها لها في المخرج من الحلق، ولما فيها من الخفاء، فكما نحوا بالألف نحو الياء بالإمالة من أجل الكسرة أو الياء كذلك كسروا الهاء للكسرة والياء، وذلك حسن ليتجانس الصوتان ويتشاكلا، ألا تراهم كيف اتفقوا في اصطبر وازدجر وازدان على الإبدال من تاء
[الحجة للقراء السبعة: 1/207]
الافتعال حرفا مجانسا لما قبله من الحروف في الإطباق والجهر، فبحسب اتفاقهم في هذا الموضع على ما ذكرت لك طلبا لتشاكل الحروف يحسن الكسر في الهاء في: (فيه هدى).
والهاء وإن كانت متحركة والألف ساكنة فقد رأيتهم أجروها متحركة مجرى الألف والياء والواو إذا كنّ سواكن في القوافي في نحو: خليلها، ومرامها. وقد تقدم ذكر كثير من ذلك في فاتحة الكتاب.
وأمّا ترك إتباع الهاء الياء في: (فيه هدى). وما أشبهه في الوصل فلكراهة اجتماع حروف فيه متقاربة، وقد كرهوا من اجتماع المتقاربة ما كرهوا من اجتماع الأمثال، ألا ترى أنّهم يدغمون المتقاربة كما يدغمون الأمثال فالقبيلان من الأمثال والمتقاربة إذا اجتمعت خفّفت تارة بالإدغام، وتارة بالقلب، وتارة بالحذف.
فما خفّف بالإدغام فنحو ردّ وودّ في وتد.
وما خفّف بالقلب فنحو: تقضيت وتقصيت [ونحو:
ظلت ومست] ونحو:
لا أملاه حتى يفارقا
[الحجة للقراء السبعة: 1/208]
ونحو: طست وستّ وما خفف بالحذف فنحو قوله: اسطاع، واستخذ فلان مالا- فيمن قدره استفعل من تخذت- واستحيت، وعل ماء بنو فلان، وتقيت تتقي، وما أشبه ذلك.
وجهة التشابه في هذه الحروف أن الهاء من الحلق، والألف منه أيضا، والياء قريبة من الألف وموافقة لها في اللين، فمن ثمّ أبدلت من الياء في هذي فقالوا: هذه، فلمّا اجتمعت هذه الحروف المتقاربة خففوا بالحذف كما خفّف غيرها فيما أريتك بالحذف.
وممّا يحسّن الحذف هاهنا- مع ما ذكرنا من اجتماع المتشابهة- أن الهاء حرف خفيّ، فإذا اكتنفها ساكنان من حروف اللين كان كأن الساكنين قد التقيا، لخفاء الهاء وأنّهم لم يعتدّوا بها للخفاء في مواضع، ألا ترى أنّ من قال: ردّ فأتبع الضمّة الضمّة إذا وصل الفعل بضمير المؤنّث قال: ردّها، فلم يتبع الضمّ الضمّ كما كان يتبع قبل، وجعله بمنزلة ردّا، فكما لم يعتدّ بها هاهنا وجعلت الدال في حكم الملازقة للألف كذلك إذا لم يعتدّ بها في نحو: فيهي، وعصاهو، وخذوهو، صار كأن الساكنين قد التقيا. ولهذا حذف حرف اللين بعد الهاء من حذف من العرب، وإن كان الساكن الذي قبلها ليس من حروف اللين نحو: منه.
[الحجة للقراء السبعة: 1/209]
ويذهب سيبويه إلى أنّ الإتمام في نحو: منهو، أجود من الحذف، وأن الحذف إذا كان قبل الهاء حرف اللين أحسن.
ولمن لم يتبع الهاء الياء ولا الواو في نحو: منه وعنه- وهو قراءة نافع إلّا فيما روي عنه من قوله: وأشركهو في أمري [طه/ 32]- أن يحتجّ في حذف حرف اللين بعد الهاء، وإن لم يكن قبلها حرف اللين، بترك اعتدادهم بها في ردّها، وبقولهم: يريد أن تضربها فيقول: كما لم يعتدّوا بها في هذه المواضع كذلك لا أعتدّ بها في: منه، فإذا أتبعت الهاء حرف اللين في: منه، فكأني قد جمعت بين ساكنين، لأنّ الهاء غير معتدّ بها عندهم حيث أريتك.
ومثل الهاء، في أنّه لمّا كان حرفا خفيا لم يعتدّوا به حاجزا، النون وذلك في قولهم: هو ابن عمي دنيا وفي قنية لمّا كانت النون خفيّة صارت الواو كأنّها وليت الكسرة فقلبتها، كما قلبتها في غازية ومحنية، ولو كان مكان النون حرف غيره لم يكن فيما بعده القلب، نحو: جرو وعدوه، فهذا مثل الهاء في أنّه للخفاء لم يعتدّ به حاجزا، كما لم يعتدّ بالهاء.
[الحجة للقراء السبعة: 1/210]
الحجة لابن كثير في اتباعه هذه الهاء في الوصل الواو أو الياء وتسويته بين حروف اللين وبين غيرها من الحروف إذا وقعت قبل الهاء
من حجّته أن الهاء وإن كانت خفيّة فليس يخرجها ذلك من أن تكون كغيرها من حروف المعجم التي لا خفاء فيها- نحو الراء والضاد- وأنّ الهاء والنون عند الجميع في وزن الشعر بمنزلة الراء والضاد- وإن كان في الراء تكرير وفي الضاد استطالة- وإذا كان كذلك كان حجزها بين الساكنين كحجز غيرها من الحروف التي لا خفاء فيها.
وأمّا اجتماع الحروف المتشابهة فلم يكرهها في هذا الموضع، كما لم يكره اجتماعها في غيره، ألا ترى أن كثيرا قد قالوا: استطاع. فأتمّوا ولم يحذفوا منه شيئا، وفي التنزيل:
من استطاع إليه سبيلًا [آل عمران/ 97]، وقالوا جميعا:
استدار واستثار فلم يحذفوا، وقالوا: سدس وعتد وعتدان، ووطد يطد. والهاء وإن كانت جرت متحرّكة في القوافي مجرى غيرها ساكنا في نحو: خليلها، فقد جرت في القوافي أيضا مجرى غيرها من الحروف متحرّكة وساكنة. فالمتحركة نحو قوله:
............... ...... سود قوادمها صهب خوافيها
[الحجة للقراء السبعة: 1/211]
فهي حرف الرويّ، كالكاف في: جواريكا.
والساكنة نحو قوله:
وبكّي النساء على حمزة
................. .... وتقول سعدى وا رزيّتيه
فهي هاهنا كالياء والواو والألف.
وأما الإدغام في (فيه هدى) فلم يذكره أبو بكر أحمد بن موسى عن أحد منهم في هذا الموضع من كتابه فنقول فيه. وما ذكره محمد بن السريّ في رواية من روى عن أبي عمرو وغيره أنّه كان يشمّ ويدغم- من أنّ ذلك محال لا يمكن- فإنّ الإشمام لا يمتنع مع الإدغام، وذلك أنّ الإشمام عند النحويين ليس بصوت فيفصل بين المدغم والمدغم فيه، وإنّما هو تهيئة العضو لإخراج الصوت الذي هو الضم ليدلّ عليه، وليس بخارج إلى اللفظ، كما أن تبقية الإطباق مع الإدغام كما ذكرنا
[الحجة للقراء السبعة: 1/212]
في الضمّ، وإذا كان كذلك لم يمتنع مع الإدغام كما لم يمتنع تبقية الإطباق معه، ألا ترى أنّه لا يمتنع أن يدغم ويهيّئ العضو لإخراج الضمة إلى اللفظ فلا يخرجها كما لم يمتنع ذلك في الوقف إذا قلت: هذا معن وعلى هذا قرءوا: ما لك لا تأمنّا [يوسف/ 11] فأشمّوا النون المدغمة، لأنّها كانت مرفوعة ليدلّوا بالإشمام على الرّفعة التي كانت في الحرف، كما دلّوا بإبقاء الإطباق على أنّ الحرف المدغم كان مطبقا. ولو كان مكان الإشمام روم الحركة لامتنع الرّوم مع الإدغام، لأنّه صوت يحجز، ألا ترى أنّهم يزعمون أنّه يفصل بروم الحركة بين خطاب المذكر والمؤنث، نحو: ضربتك وضربتك فهذا لا يمكن الإدغام معه، لأنّ هذا الصوت يفصل وإن كان مخفى غير مشبع، كما تفصل الحركة المشبعة الممطّطة.
ولعلّ أبا بكر ظنّ أنّ القرّاء ليس يعنون بالإشمام ما يعني به النحويون في أنّه تهيئة العضو للصوت وهمّ به، وليس بخروج إلى اللفظ. والذي أحسب أنّه من أجله ظنّ ذلك حكايته عن أبي حاتم أنّه أراد أبو عمرو ونافع الإخفاء، فلذلك أشمّا الضمّ والكسر، والإشمام إنّما يكون عند النحويين في الضمّ، فأمّا الكسر فلا إشمام فيه. وذلك أنّ الإشمام إنّما هو
[الحجة للقراء السبعة: 1/213]
تحريك الشفتين يراه البصير دون الأعمى، فيستدلّ بذلك على إرادة الفاعل لذلك الضمّ، وليس هذا في الكسر، لأنّه لا فائدة فيه لبصير ولا لأعمى من حيث لا يظهر للرائي، فلمّا رأى أبا حاتم حكى ذلك في الجرّ كما حكاه في الضمّ، قدّر أنّهم يعنون به الحركة دون ما يعني به النحويّون ممّا ذكرنا). [الحجة للقراء السبعة: 1/214]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : (بسم الله الرّحمن الرّحيم {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين}
قرأ ابن كثير فيهي وعليهي بإشباع الهاء يصلها بياء وحجته أن أصلها فيهو وعليهو ثمّ قلبوا الواو ياء للياء الّتي قبلها وكسروا الهاء فصارت فيهي وعليهي وقرأ ايضا فقلنا اضربوهو ومنهو بإشباع الهاء يصلها بواو على أصلها
قرأ الباقون فيه وعليه من غير إشباع وحجتهم أن الكسرة تنوب عن الياء وتدل عليها وكذلك الضمة قال أهل البصرة إنّما حذفت الياء لسكونها وسكون الياء الّتي قبل الهاء لأن الهاء ليست بحاجز حصين فكأن السّاكن قبلها ملاق للساكن الّذي بعدها فتحذف الياء ألا ترى أنّها إذا تحرّك ما قبلها لم تحذف منها الياء نحو أمه وصاحبته لأن ما قبلها متحرك فليس يجتمع ساكنان
قرأ أبو عمرو فيه هدى وقيل لهم بالإدغام وقرأ الباقون بالإظهار
[حجة القراءات: 83]
وحجّة أبي عمرو أن إظهار الكلمتين كإعادة الحديث مرّتين فأسكن الحرف الأول وأدغمه في الثّاني ليعمل اللّسان مرّة واحدة وشبه الخليل ذلك بالمقيد إذا رفع رجله في موضع ثمّ أعادها إليه ثانية قال والّذي أوجب الإدغام هو أنه يثقل على اللّسان رفعه من مكان وإعادته في ذلك المكان أو فيما يقرب منها وشبه غيره بإعادة الحديث مرّتين
وأما من أظهر فإنّه أتى بالكلام على أصله وأدّى لكل حرف حقه من إعرابه لتكثر حسناته إذ كان له بكل حرف عشر حسنات). [حجة القراءات: 84]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (1- {لَا رَيْبَ فِيهِ} [آية/ 2].
قرأ ابن كثير (فيهي هدى) بياءٍ بعد الهاء، وكذلك في كل هاء كناية، قبلها ياء ساكنة، نحو: عليهي وأنسانيهي، فإذا كان قبلها ساكنٌ غير الياء وصلها بواو نحو: آتيناهو ومنهو.
وقد روي عن نافع أيضًا (واشركهو).
لقد تقدم أن أصل هذه الهاء أن تكون على الضم، وكسرتها إنما تكون لياءٍ أو كسرة تقعان قبلها، وتوصل هذه الهاء بوابو زائدة تقوى بها؛ لأنها حرفٌ خفي، فيخرج بها عن الخفاء إلى البيان، فيُزاد في المذكر واو، وفي المؤنث
[الموضح: 237]
ألفٌ، ليستوي المذكر والمؤنث في باب الزيادة مع حصول الفرق بينهما.
والهاء وحدها هي الاسم، كما أن كل واحدٍ من ضميري المتكلم والمخاطر نحو: غلامي وغلامك على حرفٍ واحدٍ.
ولما وقع قبل هذه الهاء ياءٌ كُسِرَت الهاء لأجلها، فانقلب الواو التي بعدها ياء فقيل: فيهي وعليهي، واعتد بالهاء حاجزًا بين الساكنين وإن كانت خفية؛ لأنها كغيرها من الحروف.
وأما قراءته لما كان نحو: منهو بالواو فإنها على ما قدمناه من أن الضمة والواو أصل في الهاء، وإنما كسرت هناك للياء أو الكسرة قبلها، وليس هاهنا واحدٌ منهما فجاء على الأصل.
وأما الباقون فإنهم يحرّكون هذه الحروف كلها بكسرة مختلسة من غير ياءٍ إلا ص- عن عاصم في قوله تعالى: (وَمَا أَنْسَانِيهُ} و{عَاهَدَ عَلَيْهُ} بضمتين مختلستين، وفي الفرقان (فيهي مهانا) بياءٍ كقراءة ابن كثير.
وإنما اختلس هؤلاء الكسرة من غير بلوغ ياءٍ؛ لأنهم كرهوا اجتماع حروف متقاربة؛ ولأن الهاء خفية، فإذا اكتنفها ساكنان من حروف اللين فكأن الساكنين قد التقيا لخفاء الهاء، إذ كانت الهاء غير معتدٍّ بحجزها بين الساكنين لخفائها، ولهذه العلة حذفوا الياء والواو بعد الهاء وإن كان الساكن
[الموضح: 238]
الذي قبلها ليس من حروف اللين كمنه وعنه كراهة ما يقرب من الجمع بين الساكنين.
وأما رواية ص- عن عاصم {أنسانيه} و{عَاهَدَ عَلَيْهُ} بالضمة، فإنها على الأصل، وأما روايته أيضًا (فِيهِي مُهَانًا) فعلى قلب الواو ياءً لأجل الياء التي قبل الهاء كما قدمنا ذكره، وفي مثل ذلك اتباع الأثرِ مع الأخذ باللغتين). [الموضح: 239]

قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (2- وقوله تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب}.
قرأ أبو عمرو إذا حدر القراءة أو قرأ في الصلاة {يؤمنون} بترك الهمز تخفيفًا؛ إذا كانت الهمزة تخرج في أقصى الحلق وفي إخراجها كلفة، وأكثر العرب يلينها، ومنهم من يحذفها جملة، فإذا حقق القراءة همز، وإنما يفعل ذلك بالهمزات الساكنات، وغذا كان سكون الهمزة علامة للهمز نحو قوله تعالى {أو ننسأها} {وإن تبد لكم تسؤكم} لم يدع الهمزة، وكذلك إذا كن في الحرف لغتان نحو: {موصدة} لأن لا يخرج من لغة إلى لغة، وكذلك إذا كان ترك الهمز أثقل من الهمز لم يدع الهمزة نحو قوله: {وتؤوي إليك من تشاء} وكن حمزة لا يهمز إذا وقف، ويهمز إذا أدرج ولا يبالي إذا كانت الهمزة ساكنة أو متحركة نحو قوله تعالى: {لن يجدوا من دونه موئلا} يقف {مولا}
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/56]
{وأصحب المشئمة} يقف {المشمة}، وإنما يفعل ذلك اتباعًا للمصحف: لأن {المشئمة} كتب في المصحف بغير ألف {وموئلا} بغير ياء، والدليل على ذلك أنه يقف منهن جرًا بغير واوٍ. ويقف {هزوا} و{وكفوا} بواو؛ لأنها كذلك كتبت في المصحف.
وروى ورش عن نافع بترك الهمزة الساكنات والمتحركات وحجته في ذلك: أن الهمزة المتحركة أثقل من الهمزة الساكنة، وكان يقرأ: {ويوخركم إلى أجل} {ويودهي إليك} وكان ينقل حركات الهمزات إلى الساكن قبلها وكان يقرأ {قد أفلح} يريد: {قد أفلح}، وكذلك: {فلن يقبل من أحدهم مل الأرض} أنشدني ابن عرفة شاهدًا لورش:
تضوع مسكا بطن نعمان أن مشت = به زينب في نسوة عطرات
ولما رأت ركب النميري أعرضت = وكن من أن يلقينه حذرات
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/57]
أراد: «من أن» بنقل فتحة الهمزة إلى النون.
وقرأ الباقون: {يؤمنون}، و{يؤتون} {ويؤثرون} {ويؤخركم} و{يألتكم} {والكأس} {والبأس}. كل ذلك مهموز على الأصل.
واختلف عن أبي عمرو في الأسماء المهموزة، فروى بعضهم عنه بترك الهمز وهو اختيار ابن مجاهد. وروى عنه آخرون بالهمز.
فإن سأل سائل: لم همز أبو عمرو «الكأس» «والبأس» ولم يهمز {يؤمنون} {ويؤتون}؟
فالجواب في ذلك أن الفعل ثقيل والهمزة ثقيلة، والاسم خفيف فحذفوا في الموضع الذي استثقلوه وأثبتوا في الموضع الذي استخفوه). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/58]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في الهمز من قوله تعالى: الّذين يؤمنون بالغيب [البقرة/ 3].
فكان ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي يهمزون (يؤمنون) وما أشبه ذلك؛ مثل: (يأكلون) و (يأمرون) و (يؤتون). ساكنة الهمزة كانت أو متحركة، مثل (يؤخّره) و (يؤدّه). إلا أنّ حمزة كان يستحب ترك الهمز في كل القرآن إذا أراد أن يقف، والباقون يقفون بالهمز.
وروى ورش عن نافع ترك الهمز الساكن في مثل:
(يؤمنون) وما أشبهه وكذلك المتحرك مثل يؤدّه [آل عمران/ 75] ويؤخّركم [نوح/ 4] ولا يؤاخذكم [البقرة/ 225] وما كان مثله.
وأمّا أبو عمرو فكان إذا أدرج القراءة أو قرأ في الصلاة لم يهمز كلّ همزة ساكنة مثل: (يؤمنون) و (يؤمن) و (يأخذون) وما أشبه ذلك.
[الحجة للقراء السبعة: 1/214]
وقال أبو شعيب السوسي عن اليزيدي عن أبي عمرو:
إنّه كان إذا قرأ في الصلاة لم يهمز كل همزة ساكنة إلّا أنه كان يهمز حروفا من السواكن بأعيانها، أذكرها إذا مررت بها، إن شاء الله.
فإذا كان سكون الهمزة علامة للجزم لم يترك همزها، مثل: ننسأها [البقرة/ 106] وتسؤكم [المائدة/ 101] وهيئ لنا [الكهف/ 10] ويهيئ لكم [الكهف/ 16] واقرأ كتابك [الإسراء/ 14] ومن يشأ يجعله [الأنعام/ 39] وأنبئهم [البقرة/ 33] وما أشبه ذلك.
وروى الشمونيّ محمد بن حبيب عن الأعشى عن أبي بكر عن عاصم أنّه لم يكن يهمز الهمزة الساكنة، مثل (يؤمنون) وما أشبهه.
أخبرنا أحمد بن موسى قال: حدثنا محمد بن عيسى بن
[الحجة للقراء السبعة: 1/215]
حيّان المقرئ قال: حدثنا أبو هشام قال: سمعت أبا يوسف الأعشى يقرأ على أبي بكر فهمز (يؤمنون).
قال ابن مجاهد: وحدثني محمد بن عيسى بن حيّان المقرئ قال: حدثنا أبو هشام عن سليم عن حمزة أنّه كان إذا قرأ في الصلاة لم يكن يهمز.
أخبرنا أحمد بن موسى قال: حدّثنا جعفر بن محمد الفريابيّ قال: حدّثنا منجاب بن الحارث قال: حدثنا شريك بن عبد الله قال: كان عاصم صاحب همز ومدّ وقراءة شديدة.
[الحجة للقراء السبعة: 1/216]
قال أبو زيد: الأمون: الناقة القويّة الظهيرة. والأمانة:
خلاف الخيانة، والأمن خلاف الخوف. قال أحمد بن يحيى: أمن فهو أمين، فهذا بمنزلة ظرف فهو ظريف. وقالوا: أمنته فهو أمين، فهذا فعيل بمعنى مفعول، فتقول من هذا: امرأة أمين، ومن الأول: أمينة مثل ظريفة، وقال الشاعر:
وكنت أمينه لو لم تخنه... ولكن لا أمانة لليماني
فهذا كأنّه المأمون، أي: أمنك فخنت. وقول حسان:
وأمين حدثته سرّ نفسي... فوعاه حفظ الأمين الأمينا
قال بعضهم: كأنّه قال: حفظ المؤتمن المؤتمن: وقالوا أمّان في معنى الأمين، قال الأعشى:
ولقد شهدت التاجر ال... أمّان مورودا شرابه
فأمين وأمّان ككريم وكرّام ومثله حسّان وحسّانة ورجل قرّاء.. وأنشد غيره:
وعنس أمون قد تعلّلت جهدها... على صفة أو لم يصف لي واصف
[الحجة للقراء السبعة: 1/217]
فأمون يمكن أن يكون من الذي هو خلاف الخوف، كأنّه يؤمن عثارها في سيرها، أو يؤمن كلالها وونيّها فيه. ويكون أمون في معنى مأمون، أي غير مخوف، كقولهم: طريق ركوب، أي يركب، وحلوب وقتوب أي: تحلب وتركب وتقتب.
ويكون أمون مثل أمين: لأنّك قد تقول: خانت في سيرها: إذا قصّرت عمّا أراد منها راكبها في المسير.
وقال- جل من قائل-: لا تخونوا اللّه والرّسول وتخونوا أماناتكم [الأنفال/ 27]، فيجوز أن يكون لا تخونوا ذوي أماناتكم وهو أشبه بما قبله، وذوو الأمانة نحو المودع والمعير والموكّل والشريك ومن يدك في ماله يد أمانة لا يد ضمان.
ومن هذا الباب الكافر الموادع، قال تعالى: وإمّا تخافنّ من قومٍ خيانةً فانبذ إليهم على سواءٍ [الأنفال/ 58].
ويجوز أن تكون الأمانات لا يراد معها حذف المضاف، لأنّ خنت من باب أعطيت يتعدّى إلى مفعولين، ويجوز أن يقتصر على أحدهما. فإذا قدّرت حذف المضاف كان بمنزلة أعطيت زيدا، وإذا لم تقدّره كان بمنزلة أعطيت درهما. وعلى هذا قول كثير:
فأخلفن ميعادي وخنّ أمانتي... وليس لمن خان الأمانة دين
[الحجة للقراء السبعة: 1/218]
ويدلّك على تعدّي خنت إلى مفعولين قول أوس:
خانتك ميّة ما علمت كما... خان الإخاء خليله لبد
وأنشد أبو زيد:
فقال مجيبا والّذي حجّ حاتم... أخونك عهدا إنني غير خوّان
والعهد كأنّه الأمانة، فأخونك عهدا كقولك: أخونك أمانة. وقال أبو ذؤيب:
فسوف تقول إن هي لم تجدني... أخان العهد أم أثم الحليف
ومما يدلّك على تقارب الكلمتين استعمالهم إياهما في القسم، نحو: عهد الله وأمانة الله. وتقول: أمنت الرجل: إذا لم تخفه، آمنه قال: هل آمنكم عليه إلّا كما أمنتكم
على أخيه من قبل [يوسف/ 64]. وأمنته وائتمنته إذا لم تخش خيانته. قال- عز وجل -: فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته [البقرة/ 283]. فهذا كقوله تعالى: إنّ اللّه يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها [النساء/ 58].
قال أبو عبيدة: وقالوا في مصدره: الأمن والأمنة
[الحجة للقراء السبعة: 1/219]
والأمان. وفي التنزيل: إذ يغشّيكم النّعاس أمنةً منه [الأنفال/ 11]. وقال أيضا: أمنةً نعاساً [آل عمران/ 154].
وقولهم: آمن زيد يحتمل غير وجه: يجوز أن يكون أمنته فآمن، فجاء المطاوع على أفعل، كقولك: كببته فأكبّ، وفي التنزيل: فكبّت وجوههم في النّار [النمل/ 90]، وفيه: أفمن يمشي مكبًّا على وجهه [الملك/ 22].
وقال:
كما أكبّ على ساعديه النّمر
ومما يدلّك على ذلك تعدّيه بالحرف.
وقال أبو عثمان: أجفل الغيم إذا انقلع، وجفلته الريح، ولا يقال: أجفلته. ويجوز في آمن أن يكون المعنى: صار ذا أمن، مثل: أجرب وأقطف وأعاه، أي: صار ذا عاهة في ماله، فكذلك آمن صار ذا أمن في ماله ونفسه بإظهار الشهادتين، كقولهم: أسلم، أي صار ذا سلم بذلك، وخرج عن أن يكون حربا مستحل المال والنفس. فهذا كأنّه الأصل في اللغة ثم صار المؤمن والمسلم من أسماء المدح في الشرع. وسوّت الشريعة بين التسمية بالمؤمن والمسلم لقوله: فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيتٍ من المسلمين
[الحجة للقراء السبعة: 1/220]
[الذاريات/ 35، 36].
وقال أبو زيد: قالوا: ما آمنت أن أجد صحابة إيمانا، أي: ما وثقت أن أجد صحابة، والإيمان: الثقة.
وقال أبو الصقر: ما آمنت أن أجد صحابة إيمانا، معناه: ما كدت أجد صحابة.
وقال أبو الحسن في قوله تعالى: يؤمن باللّه ويؤمن للمؤمنين [التوبة/ 61]، أي: يصدّقهم، كما تقول: أما تؤمن لي بأن أقول كذا وكذا، أي أما تصدقني؟.
وقال أحمد بن يحيى: قالوا: رجل أمنة: إذا كان يثق بكل ما سمعه.
قال أبو علي: فثقته بما يسمعه إنّما هو لأمنه الكذب في المستمع، وإذا أمن كذبه فقد صدّقه. فيجوز في آمن أن يكون مما حكيناه عن أبي زيد وغيره من معنى الثقة والتصديق.
فأما قولهم: رجل أمنة، فوصف بالمصدر. وحكي رجل أمنة. فهذا: وصف مثل هزأة ونكحة. وقال: والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك [النساء/ 162]، فهذا من أجل قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 1/221]
من الّذين قالوا آمنّا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم [المائدة/ 41]. فأمّا قوله: قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم [الحجرات/ 14]، فنفى عنهم الإيمان، وأثبت لهم الإسلام، فلأنّ الإيمان على التصديق والثقة. وكأنّ المعنى: أنّهم، وإن صاروا ذوي سلم وخرجوا من أن يكونوا حربا بإظهار الشهادتين، فإنّهم لم يصدّقوا ولم يثقوا بما دخلوا فيه، فلم يطابق اعتقاداتهم ما أظهروه من الشهادتين، ولم يوافقه.
فهذا في المعنى مثل قوله: من الّذين قالوا آمنّا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم [المائدة/ 41]. وإيمان المنافقين من هذا الضرب لإظهارهم بألسنتهم ما أمنوا به على دمائهم وأموالهم، والباطن منهم خلاف الظاهر. ولذلك قرأ من قرأ اتّخذوا أيمانهم جنّةً [المنافقون/ 2]، فهؤلاء وإن كانوا قد أظهروا الإسلام، وجرت عليهم أحكامه، فليسوا مسلمين مخلصين، ولا واثقين بما دخلوا فيه، كمن وصف في قوله: الّذين آمنوا وتطمئنّ قلوبهم بذكر اللّه ألا بذكر اللّه تطمئنّ القلوب [الرعد/ 28].
فأمّا جمع من جمع بين هذه الآية وبين الأخرى وهي قوله: إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم [الأنفال/ 2] وقوله: إنّهما متدافعتان- لأنّ الوجل خلاف
[الحجة للقراء السبعة: 1/222]
الطمأنينة- فجهل وذهاب عمّا عليه الآيتان وما أريد بهما، وذلك أنّ الاطمئنان إنّما يكون عن ثلج القلب وشرح الصدر بمعرفة التوحيد والعلم به وما يتبع ذلك من الدرجة الرفيعة والثواب الجزيل. والوجل إنّما يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى وما يستحق به الوعيد فتوجل القلوب لذلك. فكلّ واحد من الحالين غير صاحبتها، فليس هنا إذا تضادّ ولا تدافع.
وهذان المعنيان المفترقان في هاتين الآيتين قد اجتمعا في آية واحدة، وهي قوله: تقشعرّ منه جلود الّذين يخشون ربّهم ثمّ تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر اللّه ذلك هدى اللّه يهدي به من يشاء [الزمر/ 23]، لأنّ هؤلاء قد سكنت نفوسهم إلى معتقدهم ووثقوا به، فانتفى عنهم الشكّ، والارتياب الذي يعرض لمن كان خلافهم ممن أظهر الإسلام تعوّذا، فحصل له حكمه دون العلم الموجب لثلج الصدر وانتفاء الريب والشكّ.
وقال: الّذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين [الزخرف/ 69] كأنّه: صدّقوا ووثقوا، ثم قال: وكانوا مسلمين؛ لأنّ بعض من يعلم صدق ما أتى به النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يدخلوا في دينه وسلمه: كاليهود الذين علموا صدقه وجحدوه، وكفروا بما أتى به، قال: فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به [البقرة/ 89] وقال: إنّ الّذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى [البقرة/ 159]
[الحجة للقراء السبعة: 1/223]
فهؤلاء وإن كانوا قد علموا واستيقنوا فقد دخلوا في جملة من ذمّ بقوله: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوًّا [النمل/ 14]. وقال: يا أيّها الّذين آمنوا ادخلوا في السّلم كافّةً [البقرة/ 208] وقال: يمنّون عليك أن أسلموا قل لا تمنّوا عليّ إسلامكم بل اللّه يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين [الحجرات/ 17]. فهذا يدلّ على أنّ الإيمان من الأمن، أي هداكم لما تحرزون به أنفسكم وأموالكم في العاجلة، ولا تخسرون معه أنفسكم وأهليكم في الآجلة.
ويجوز أن يكون هداكم للصدق وإن كان قد قال: إن كنتم صادقين ألا ترى أنّه ليس كل من هدي إلى الصدق يصدّق كالمعاند الجاحد لما عرف؟.
وقال بعض المتأوّلين في قوله في صفة التابوت: إنّ في ذلك لآيةً لكم إن كنتم مؤمنين [البقرة/ 248] معنى مؤمنين: مصدّقين لي، وذلك أنّه لا يخلو من أن يراد به: أهل الإيمان بالله، أو يراد به: إن كنتم مصدقين لي. فلا يجوز الأول لكفرهم بالله في تكذيبهم نبيهم لقوله: أنّى يكون له الملك علينا [البقرة/ 247]، فأنكروا أن يملّكوا من ملّكه نبيّهم قال: فإذا لم يجز هذا الوجه ثبت الوجه الآخر الذي هو التصديق به.
وأمّا قوله: وما يؤمن أكثرهم باللّه إلّا وهم مشركون
[الحجة للقراء السبعة: 1/224]
[يوسف:/ 106] فليس المؤمن هنا المطابق معتقده ما يظهره باللسان، ولكن المعنى: أن أكثرهم مع إظهارهم الإيمان بألسنتهم مشركون. وقد يطلق على المظهر ذلك بلسانه اسم مؤمن، ولا يجوز أن يراد بذلك المدح، ولكن الاسم الجاري على الفعل. وعلى هذا قوله: فإن علمتموهنّ مؤمناتٍ فلا ترجعوهنّ إلى الكفّار [الممتحنة/ 10] ألا ترى أن هذا على ما يظهرنه بألسنتهن من الشهادتين.
ومثل قوله: وما يؤمن أكثرهم باللّه إلّا وهم مشركون قوله: يعرفون نعمت اللّه ثمّ ينكرونها [النحل/ 83] ومثله: الّذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ [الأنعام/ 82] في قول من ذهب إلى أنّ الشرك الظلم، واحتجّ بقوله: إنّ الشّرك لظلمٌ عظيمٌ [لقمان/ 13]. والمعنى فيهما: أنّهم إذا سئلوا: من خلقهم، قالوا: الله. ثم يجعلون له شريكا. وقال السدّيّ في قوله: ولكن لعنهم اللّه بكفرهم فلا يؤمنون إلّا قليلًا [النساء/ 46]: القليل قولهم: الله ربنا، والجنة حقّ، والنار حقّ. فهذا قليل من إيمانهم، والقليل ليس بشيء.
فهذا مثل ما تقدّم من أنّه عبارة عن الفعل وليس بمدح كقوله: وبشّر المؤمنين بأنّ لهم من اللّه فضلًا كبيراً [الأحزاب/ 47]، فقليلا على قول السّدّيّ وصف مصدر محذوف تقديره: فلا يؤمنون إلّا إيمانا قليلا. وهذا أوجه من أن
[الحجة للقراء السبعة: 1/225]
يحمل القليل على أنّهم ناس، لأن (قليلا) مفرد، وفي التنزيل:
إنّ هؤلاء لشرذمةٌ قليلون [الشعراء/ 54] إلّا أنّه قد جاء فعيل مفردا يراد به الكثرة كفعول، نحو قوله: وحسن أولئك رفيقاً [النساء/ 69] وقال: ولا يسئل حميمٌ حميماً يبصّرونهم [المعارج/ 10] فدلّ عود الذكر مجموعا إلى القبيلين على أنّه أريد بهما الكثرة، وقال رؤبة:
دعها فما النحويّ من صديقها
فإن جعلت القليل ناسا، وجب ألا يكونوا دخلوا في اللعن، فيكون: إلّا قليلا، استثناء من قوله: لعنهم اللّه...
إلّا قليلًا [النساء/ 46].
ويجوز أن يكون الاستثناء من قوله: فلا يؤمنون، ويكون قوله: لعنهم اللّه واقعا على الكفار منهم دون المستثنين.
وما قاله السدّي هو القول: لأنّه قد قال: فقليلًا ما يؤمنون، وما زائدة، فالمعنى: يؤمنون قليلا، أي إيمانا قليلا.
وأمّا قوله: وما أنت بمؤمنٍ لنا ولو كنّا صادقين [يوسف/ 17] فليس المعنى على: ما أنت بمصدّق لنا ولو كنا
[الحجة للقراء السبعة: 1/226]
صادقين عندك، لأنّ الأنبياء لا تكذّب الصادقين، ولكن المعنى: ما أنت واثقا، ولا غير خائف الكذب في قولنا، ولو كنّا على الحقيقة صادقين عندك لما خلونا من ظنّة منك وتهمة لك أنّا قد كذبناك، لفرط محبّتك ليوسف وإشفاقك عليه. وهذا المعنى متعالم في استعمال الناس. فمؤمن هنا من آمن، أي صار ذا أمن أو صار ذا ثقة، فنفى ذلك، أي: لا تثق بأن الأمر كما تخبر ولا تسكن نفسك إليه.
وأمّا قوله: فلا يؤمنوا حتّى يروا العذاب الأليم [يونس/ 88] فإنّ قوله: لا يؤمنوا في موضع نصب بالعطف على قوله: ليضلوا عن سبيلك فلا يؤمنوا. ولم يعطوا الأموال ليضلوا ويكفروا ولكن لمّا اختاروا ذلك فصار إليه عاقبة أمرهم كان بمنزلة قوله تعالى: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًّا وحزناً [القصص/ 8]، لمّا أدى التقاطهم
إيّاه إلى ذلك، وإن كان الالتقاط لغيره.
وأمّا قوله: ها أنتم أولاء تحبّونهم ولا يحبّونكم وتؤمنون بالكتاب كلّه [آل عمران/ 119]، ففي قوله: تؤمنون بالكتاب كلّه إنباء عن كون المؤمنين على خلاف صفة من ذكر في
[الحجة للقراء السبعة: 1/227]
قوله: ويقولون نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعضٍ [النساء/ 150]، وفي قوله: الّذين جعلوا القرآن عضين [الحجر/ 91].
وأمّا قولنا في وصف القديم سبحانه: «المؤمن المهيمن» فإنّه يحتمل تأويلين:
أحدهما: أن يكون من «أمن» المتعدي إلى مفعول، فنقل بالهمزة فتعدى إلى مفعولين، فصار من «أمن» زيد العذاب وآمنته العذاب، فمعناه المؤمن عذابه من لا يستحقه. وفي هذه الصفة وصف القديم سبحانه بالعدل كما قال: قائماً بالقسط [آل عمران/ 18].
والآخر: أن يكون معناه المصدق، أي المصدق الموحدين له على توحيدهم إياه، يدل على ذلك قوله:
شهد اللّه أنّه لا إله إلّا هو [آل عمران/ 18]. ألا ترى أنّ الشاهد مصدق لما يشهد به، كما أنّه مصدق من يشهد له، فإذا شهد سبحانه بالتوحيد فقد صدّق الموحدين.
فأمّا قوله «المهيمن» فقال أبو الحسن في قوله: ومهيمناً عليه [المائدة/ 48] إنّه الشاهد، وقد روي في التفسير أنه الأمين.
[الحجة للقراء السبعة: 1/228]
حدثنا أحمد بن محمد البصري قال: حدثنا المؤمل قال: حدثنا إسماعيل عن أبي رجاء قال سألت الحسن عن: مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه [المائدة/ 48] قال: مصدقا بهذه الكتب وأمينا عليها.
والمعنيان متقاربان، ألا ترى أن الشاهد أمين فيما يشهد به؟ فهذا التأويل موافق لما جاء في التفسير من أنّه الأمين.
وإن جعلت الشاهد خلاف الغيبة كان بمنزلة قوله: لا يخفى على اللّه منهم شيءٌ [غافر/ 16]، ولا يعزب عنه مثقال ذرّةٍ في السّماوات [سبأ/ 3]،
[الحجة للقراء السبعة: 1/229]
وقال: وكنّا لحكمهم شاهدين [الأنبياء/ 78].
وقالوا: إنه مفيعل من الأمان، مثل مبيطر، وأبدلت من الفاء التي هي همزة الهاء كما أبدلت منها في غير هذا الموضع. وروى اليزيدي أبو عبد الله عن أبي عبيدة قال: لا يوجد مثل هذا البناء إلا أربعة أشياء: مبيطر ومصيطر ومبيقر ومهيمن.
قال أبو علي: وليست الياء للتصغير، إنما هي التي لحقت فعل وألحقته بالأربعة، نحو دحرج وإن كان اللفظ قد وافق اللفظ.
وأما قولهم: الأمان فإنّه، وإن كان اسم حدث، وكان بزنة الجمال والذّهاب والتّمام، فقد صار كأنّه لكثرته في الاستعمال خارجا عن أحكام المصادر. ألا ترى أن قولهم: أعطيته أمانا، ولك الأمان صار بمنزلة الكف والمتاركة، فكأنّه لما خرج بذلك عن بابه صار بمنزلة قولهم: لله درّك. الذي زعم أنّه بمنزلة قولهم: لله بلادك. فلذلك لا تكاد تجده معملا إعمال المصادر.
قال بعض المتأولين في قوله: الّذين يؤمنون بالغيب [البقرة/ 3]، أي: يؤمنون إذا غابوا عنكم، ولم يكونوا
[الحجة للقراء السبعة: 1/230]
كالمنافقين الذين يقولون: إنّا معكم إنّما نحن مستهزؤن [البقرة/ 14]. ويقوي ما ذهب إليه هذا المتأول قوله: الّذين يخشون ربّهم بالغيب [الأنبياء/ 49] وقوله: وخشي الرّحمن بالغيب [يس/ 11] وقال الهذلي:
أخالد ما راعيت من ذي قرابة... فتحفظني بالغيب أو بعض ما تبدي
فالجار والمجرور في موضع حال، أي تحفظني غائبا، ويخشون ربّهم غائبين عن مرآة الناس لا يريدون بإيمانهم تصنعا لأحد، ولا تقربا إليه رجاء المنالة، ولكن يخلصون إيمانهم لله تعالى.
ويجوز فيها وجه آخر، وهو أن هذه الآية كأنّها إجمال ما فصل في قوله: والمؤمنون كلٌّ آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله [البقرة/ 280] والموصوفون فيها خلاف من وصف في قوله:
ومن يكفر باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضلّ ضلالًا بعيداً [النساء/ 136]، فكفرهم بالملائكة ادعاؤهم إياهم بنات، كما وبّخوا في قوله: أم اتّخذ ممّا يخلق بناتٍ [الزخرف/ 16] وقوله: وجعلوا الملائكة الّذين هم عباد الرّحمن إناثاً [الزخرف/ 19] وكفرهم بالكتب إنكارهم
[الحجة للقراء السبعة: 1/231]
لها في قوله: وما قدروا اللّه حقّ قدره إذ قالوا ما أنزل اللّه على بشرٍ من شيءٍ [الأنعام/ 91] وكفرهم بإرسال الرسل [إنكارهم] إرسالهم بنحو قوله: ولئن أطعتم بشراً مثلكم [المؤمنون/ 34] وقوله: أهذا الّذي بعث اللّه رسولًا [الفرقان/ 41]، وكفرهم بالآخرة قولهم: لا تأتينا السّاعة قل بلى وربّي [سبأ/ 3]. فكل هذه الأمور غيب قد أنكروه ودفعوه فلم يؤمنوا به ولم يستدلوا على صحته، فقال تعالى: الّذين يؤمنون بالغيب [البقرة/ 4] أي بهذه الأشياء التي كفر بها هؤلاء الذين ذكر كفرهم بها عنهم وخصهم بالإيقان بالآخرة في قوله: وبالآخرة هم يوقنون [البقرة/ 4] وإن كان الإيمان بالغيب قد شملها لما كان من كفر المشركين بها وجحدهم إياها في نحو ما حكى عنهم من قولهم: وقالوا ما هي إلّا حياتنا الدّنيا نموت ونحيا [الجاثية/ 24] فكان في تخصيصهم بذلك مدح لهم.
ونظير ذلك في أنّه خصّ بعد ما عمّ قوله: اقرأ باسم ربّك الّذي خلق [العلق/ 1] فعم بقوله: «خلق» جميع مخلوقاته ثم خص فقال خلق الإنسان من علقٍ [العلق/ 2] ويقرب من هذا قوله: الرّحمن الرّحيم حيث أريد تخصيص المسلمين بالكرامة في قوله: وكان بالمؤمنين رحيماً [الأحزاب/ 43] فالباء على هذا الوجه ليست في موضع الحال كما كانت كذلك في الوجه الأول، ولكنه في موضع نصب بأنه مفعول به، كما
[الحجة للقراء السبعة: 1/232]
أنها مفعول في قوله: ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه [البقرة/ 8] إنّي آمنت بربّكم [يس/ 25] والغيب: ما غاب عنك فلم تشهده. وقال: عالم الغيب والشّهادة. قال أبو زيد: بدا غيّبان العود، إذا بدت عروقه التي تغيبت منه، وذلك إذا أصابه البعاق من المطر فاشتد السيل فحفر أصول الشجر حتى تظهر عروقه. وقوله: وللّه غيب السّماوات والأرض مصدر مضاف إلى المفعول على الاتساع فحذف حرف الجر، لأنّك تقول: غبت في الأرض، وغبت ببلد كذا، فتعديه بحرف الجر فحذف الحرف وأضيف المصدر إلى المفعول به في المعنى نحو من دعاء الخير [فصلت/ 49] وبسؤال نعجتك [ص/ 24]. ويحتمل وجهين:
أحدهما: ذوو غيب السموات والأرض، أي ما غاب فيها من أولي العلم وغيرهم، كقوله: ألا له الخلق والأمر [الأعراف/ 54].
والآخر: أن يكون المعنى: ولله علم غيب السموات، ويدل على ذلك قوله: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً
[الحجة للقراء السبعة: 1/233]
[الجن/ 26]، وعالم الغيب والشّهادة فتعالى عمّا يشركون [المؤمنون/ 92]. وقال: إنّ الّذين آمنوا ثمّ كفروا ثمّ آمنوا ثمّ كفروا ثمّ ازدادوا كفراً [النساء/ 137]، يعني به المنافقين.
والإيمان الأول دخولهم في الإسلام وحقنهم الدماء والأموال، وكفرهم بعد: نفاقهم، وأن باطنهم على غير ظاهرهم، وإيمانهم بعد يقيهم نفاقهم بقولهم: (إنّا مؤمنون) في قوله: وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا، فهذا الإظهار منهم للإيمان ثانية يدخلون به في حكم الإسلام بعد الكفر، كما أنّ من جاء من المؤمنات مظهرات للإسلام داخلات في حكمه. وقال: فإن علمتموهنّ مؤمناتٍ [الممتحنة/ 10] فعلمن مؤمنات بما أظهرنه من ذلك، فكذلك هؤلاء يكونون مؤمنين بإظهارهم الإيمان بعد ما علم منهم من النفاق. وكفرهم بعد هذا الإيمان الثاني قولهم: إذا خلوا إلى أصحابهم إنّا معكم إنّما نحن مستهزؤن فما ازدادوه من الكفر إنّما هو بقولهم: إنّما نحن مستهزؤن فهذا زيادة في الكفر.
ويدل على أن المستهزئ باستهزائه كافر فيزداد به كفرا إلى كفره قوله: وقد نزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات اللّه يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم، وقال: إنّكم إذاً مثلهم
[الحجة للقراء السبعة: 1/234]
فإذا كان المجالس مثلهم وإن لم يظهر ذلك ولم يعتقده، فالقائل لذلك أشد ذهابا في الكفر.
[بسم الله] الإعراب
لا تخلو الألف في آمن من أن تكون زائدة أو منقلبة، وليس في القسمة أن تكون أصلا. فلا يجوز أن تكون زائدة لأنّها لو كانت كذلك لكان فاعل ولو كان فاعل لكان مضارعه يفاعل مثل يقاتل ويضارب في مضارع قاتل وضارب، فلما كان مضارع آمن يؤمن دلّ ذلك على أنّها غير زائدة، فإذا لم تكن زائدة كانت منقلبة. وإذا كانت منقلبة لم يخل انقلابها من أن يكون عن الواو أو عن الياء أو عن الهمزة. فلا يجوز أن تكون منقلبة عن الواو لأنها في موضع سكون، وإذا كانت في موضع سكون وجب تصحيحها ولم يجز انقلابها، وبمثل هذه الدلالة لا يجوز أن تكون منقلبة عن الياء، فإذا لم يجز انقلابها، عن الواو ولا عن الياء ثبت أنها منقلبة عن الهمزة، وإنما انقلبت عنها ألفا لوقوعها ساكنة بعد حرف مفتوح، فكما أنها إذا خففت في رأس، وفأس، وبأس، انقلبت ألفا لسكونها وانفتاح ما قبلها، كذلك قلبت في نحو: آمن، وآجر، وآتى، وفي الأسماء نحو آدر وآخر وآدم، إلّا أنّ الانقلاب هاهنا لزمها لاجتماع
[الحجة للقراء السبعة: 1/235]
الهمزتين، والهمزتان إذا اجتمعتا في كلمة، لزم الثانية منهما القلب بحسب الحركة التي قبلها إذا كانت ساكنة نحو آمن، اؤتمن، ائذن، ائتنا.
ومن ثم قلنا في آوى إن الفاء منها همزة، ألا ترى أنّها لا تخلو من أن تكون أفعل أو فاعل أو فعلى، فلا يجوز أن تكون فاعل لأنّ مثل: طابق، وتابل مصروف في المعرفة، وقد منعوا آوى الصرف، فعلم بذلك أنه ليس مثل طابق، ولا يجوز أن يكون فعلى لأنّه لو كان إياها لكانت الألف في موضع سكون، وإذا كانت في موضع سكون وجب صحتها وانتفى انقلابها، فلو كانت العين واوا لوجب إدغامها في الواو التي هي لام كما وجب إدغام حوّاء وعوّاء، ولا يجوز أن تكون الألف منقلبة عن الياء مع وقوع واو بعدها لأنّ ذلك مرفوض في كلامهم غير موجود.
فإن قلت فقد جاء خيوان في اسم هذا الموضع الذي باليمن فالقول في ذلك أنه فيعال وليس بفعلان، وإنما منع
[الحجة للقراء السبعة: 1/236]
الصرف لأنه يجعل اسما لبقعة أو بلدة، فلا يجوز إذن أن يكون فعلى، فإذا لم يجز أن يكون فاعل ولا فعلى ثبت أنّه أفعل، وإنّما لم يصرف لوزن الفعل، وأنّه علم. فهو مثل آمن، ولو نكر كما نكروا عرسا في ابن عرس لكان القياس صرفه.
فأمّا قراءة من قرأ: (آتينا بها) فإنّما هو فاعلنا وليس بأفعلنا، ولو كان أفعلنا لم تدخل الباء، ألا ترى أنك تقول:
جئت به، فإذا عديت بالهمزة قلت: أجأته، ولم تقل: أجأت به.
وفي التنزيل: فأجاءها المخاض [مريم/ 23]، فكذلك قوله:
(آتينا بها). لو كان أفعل لم يحتج إلى الباء.
وكذلك تقول: أبى زيد شرب الماء، فإذا فعلت أنت به الإباء قلت: آبيته ولا تقول: آبيت به قال:
قد أوبيت كلّ ماء فهي صادية... مهما تصب أفقا من بارق تشم
[الحجة للقراء السبعة: 1/237]
فإن قلت: فقد قرأ بعضهم: (يذهب بالأبصار) فأثبت الباء مع النقل بالهمزة، فهلا أجزت في «آتينا بها» أن تكون أفعلنا بها ولا تكون فاعلنا. فإنّ ما ذكرته هو قياس هذا القول، إلا أن الحمل عليه والردّ إليه ينبغي ألّا يجوز ما وجد عنه مندوحة.
فأمّا آجر فهو فاعل، لأنّك تقول في المضارع: يؤاجر مثل يقاتل، ولو كان أفعل لكان يؤجر. والذي جاء في التنزيل من ذلك على فعل لأنّ المضارع يفعل في قوله: على أن تأجرني ثماني حججٍ [القصص/ 27].
فأمّا حجة من قرأ (يؤمنون) بتحقيق الهمز، فلأنّه إنّما ترك
[الحجة للقراء السبعة: 1/238]
الهمز في أومن لاجتماع الهمزتين، كما أنّ تركها في آمن كذلك، فلما زال اجتماعهما مع سائر حروف المضارعة سوى الهمزة، ردّ الكلمة إلى الأصل فهمز، لأنّ الهمزة، من الأمن والأمنة، فاء الفعل. ومما يقوي الهمز في ذلك أنّ من تركها إنّما يقلبها واوا ساكنة وما قبلها متحرك بالضم، والواو الساكنة إذا انضم ما قبلها فقد استجازوا قلبها همزة. قال محمد بن يزيد: أخبرني أبو عثمان قال: أخبرني الأخفش قال: كان أبو حية النّميري يهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة وينشد:
لحبّ المؤقدان إليّ مؤسى
وتقدير ذلك أن الحركة لما كانت تلي الواو في مؤسى صارت كأنّها عليها، والواو إذا تحركت بالضمة أبدلت منها الهمزة.
ومثل إبدالهم من الواو الساكنة المضموم ما قبلها الهمزة استجازتهم الإمالة في مقلات، ومصباح، حيث كانت الكسرة
[الحجة للقراء السبعة: 1/239]
كأنّها على المستعلي فصار مثل قفاف وصفاف، فإذا جاز إبدال الهمزة من الواو التي ذكرنا واجتلابها، وإن لم تكن من الكلمة، فالهمزة التي هي أصل في الكلمة أولى بالتقرير وألّا يبدل منها الواو.
وحجة من لم يهمز أن يقول [إنّ] هذه الهمزة قد لزمها البدل في مثالين من الفعل الماضي والمضارع، فالماضي نحو: آمن وأومن، والمضارع نحو أومن ولم يجز تحقيقها في هذه المواضع. وهذا القلب الذي لزمها في المثالين إعلال لها، والإعلال إذا لزم مثالا أتبع سائر الأمثلة العارية من الإعلال: كإعلالهم يقوم لقام، وإعلالهم يكرم من أجل أكرم، وأعد ليعد، فوجب على هذا أن يختار ترك الهمز في يؤمنون اعتبارا لما أرينا من الإعلال ليتبع قولهم (يؤمنون) في الإعلال المثالين الآخرين لا على التخفيف القياسي في نحو جونة في جؤنة وبوس في بؤس.
فإن قلت: فهلّا لم يجز غير القلب والتخفيف كما لم يجز إلّا الإعلال فيما شبهته به وإلزامه الحذف والقلب؟.
[الحجة للقراء السبعة: 1/240]
فالقول: إن القياس على ما أريناك.
ولم يلزم ما شبهنا به [من] الحذف والقلب في كل موضع، ألا ترى أنّهم إذا قالوا: يوعد، وما أقوله وأقول بزيد، ويؤكرم في الشعر، وأهريق لم يلزم الحذف والقلب.
وحدثنا علي بن سليمان أن أحمد بن يحيى أخبرهم:
يقال: قد اتّمن فلان فلانا وقد اتمنته، والأصل: ايتمن وايتمنته، ثم أدغمت الياء في التاء فشددت التاء. وفي الائتمام: قد اتّممت به مفتوح التاء.
هذا لفظ أحمد بن يحيى واستثبتّ أبا الحسن في ذلك فأثبته وصححه، ولم أعلم لأصحابنا في هذه المسألة نصا.
وقياس قولهم عندي أن الإدغام فيها لا يجوز لأنّ الياء غير لازمة، فلا يكون مثل اتّسر واتعد، ألا ترى أنّهم قالوا: لو بنيت مثل: افعل أو افعل من أويت، لقلت: إيّا وإيّ فقلبت الفاء ياء وأدغمتها في الواو كما تدغم فيها الياء التي من نفس الكلمة. وقالوا: لو بنيت مثل افعوعل من أويت، لقلت: إيووّي وإيويّا على قول أبي الحسن، ولم تدغم الياء المنقلبة عن الهمزة التي هي فاء في الواو التي هي عين لأنّها غير لازمة، فكذلك الياء في ائتمنته غير لازمة، لأنّك إذا أسقطت
[الحجة للقراء السبعة: 1/241]
همزة الوصل في الدرج نحو قد ائتمن رجعت الهمزة، وإذا لم يدغموا نحو نوي ورويا إذا خففوا الهمزة مع لزوم الواو في قول أهل التخفيف فألا يدغم ائتمن ونحوه أجدر.
فإن قلت: فقد أدغم قوم رويا فقالوا ريّا. فالقول إن الإدغام في هذا أشبه لما ذكرنا من لزومها، وتلك لما لم تلزم كانت بمنزلة المنفصل، على أن أبا الحسن يحمل ريّا فيمن أدغم على القلب نحو أخطيت في اللام. ويقوي ذلك أن بعضهم كسر الفاء منها فقال: ريّا، كما قالوا في: ليّ ليّ.
فإن قلت: فهل يجوز الإدغام في المصدر من قوله:
آوى إليه أخاه [يوسف/ 69] فالقول إن ترك إدغام ذلك وامتناعه على قول الخليل بيّن، ألا ترى أنّه لم يدغم أووم ولا يووم وشبهه بسوير فألّا يدغم هذا أجدر، لأنّها لما
[الحجة للقراء السبعة: 1/242]
أبدلت ولزم إبدالها صارت بمنزلة الألف الزائدة حتى أبدلت منها الواو في التكسير، كما أبدلت من ألف ضارب، فقالوا أوادم كما قالوا ضوارب.
ومن قال: أيّم، وخالف الخليل، فينبغي ألّا يدغم هذا لما ذكرنا من مشابهتها الزيادة، ولأنّه مثل ما تركت العرب إدغامه في قولهم: ديوان. ألا ترى أنها أبدلت لاجتماع الهمزتين كما أبدلت في ديوان لاجتماع المثلين وكراهة ذلك لأنّ كل واحد من الأمرين يتوصل به إلى إزالة المثلين، كما يتوصل بالآخر.
فأما قول الشاعر:
جيش المحمّين حشّ النار تحتهما... غرثان أمسى بواد مؤهب الحطب
فمن أخذه من الأهبة والتأهب همز إن شاء. ومن أخذه من وهب، وجعل الفاء الواو لم يهمز، إلّا على قول من قال: مؤسى، وقد تؤوّل البيت على الأمرين جميعا). [الحجة للقراء السبعة: 1/243]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({الّذين يؤمنون بالغيب} 3
قرأ أبو عمرو وورش عن نافع يومنون بغير همز وكذلك ياكلون ويومرون وحجتهما في ذلك ثقل الهمز وبعد مخرجها وما فيها من المشقّة فطلب من تخفيفها ما لم يطلب من تخفيف ما سواها ولهذا قيل: النّطق بها كالتهوع
وورش يترك أيضا الهمزة المتحركة مثل: (لا يواخذكم) و(لا يوده) وأبو عمرو يهمز
[حجة القراءات: 84]
وحجته أن الهمزة الساكنة أثقل من المتحركة وذلك أن تخرج الهمزة الساكنة من الصّدر ولا تخرج إلّا مع حبس النّفس والهمزة المتحركة تعينها حركتها وتعين المتكلّم بها على خروجها فلذلك همز أبو عمرو المتحركة وترك الساكنة وترك أيضا ورش ما كان سكونها علامة للجزم نحو إن نشأ وتسؤهم وهمز أبو عمرو وحجته في ذلك أن الكلمة قد سقط منها حرف قبل الهمزة لسكونها وسكون الهمزة وهو الألف من نشاء والواو من تسوؤهم وسقطت حركة الهمزة للجزم فلو أسقط منها الهمزة لكان قد أسقط من الكلمة ثلاثة أشياء: الهمزة وحركتها والألف فيخل بالكلمة). [حجة القراءات: 85]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (2- {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [آية/ 3]:
ابن كثير وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب يهمزون ذلك وما أشبهه نحو {يُؤْثِرُونَ} و{يُؤْتُونَ}.
لأن الهمزة هاهنا فاء الفعل، وإنما أُبدلت في: أومن واوً، وفي: آمن ألفًا كراهة اجتماع الهمزتين، وليس في: يؤمن ذلك، فوجب أن ترد الكلمة إلى أًلها من الهمز.
وكان أبو عمرو يترك الهمز من ذلك في حال الإدراج وفي الصلاة، ويهمز في حال التحقيق والترتيل.
[الموضح: 239]
وإنما ترك الهمز في حال الإدراج؛ لأن هذه الهمزة لزمها الإبدال في الماضي نحو: آمن، وفي المستقبل نحو: أومِن، ولم يجر تحقيقهما في هذين الموضعين لاجتماع الهمزتين فأجرى سائر الأمثلة من هذا البناء مجرى هذين المثالين إرادة الإطراد كما قلنا في يعد حين أجرى سائر أمثلة المضارع مجراه في الحذف ليطرد.
ويجوز أن يكون خفف الهمزة على التخفيف القياسي، وذلك هو وقوع الضمة قبل الهمزة الساكنة فقلب الهمزة لأجله واوًا كبوس ولومٍ ونحوهما.
وإنما فعل أبو عمر هذا الإبدال في حال الإدراج؛ لأنه موضع تخفيف، وأما في حال التحقيق فإنه جاء به على الأصل، فأخذ في الحالين باللغتين.
وروى ش- عن نافع بترك الهمز في كل حالٍ، وهذا على ما قدمناه من إرادة التخفيف وطلب الإطراد في الأمثلة.
وأما حمزة فإنه إذا وقف على المهموز وقف بترك الهمزة اسمًا كان أم فعلًا نحو: يومنون والمومنون ومستهزون، هكذا يقف على كل مهموز، وإذا لم يقف حقق الهمزة.
وإنما فعل ذلك؛ لأن الوقف موضع تغيير ألا ترى أن حركات الإعراب تحذف فيه، وكذلك التنوين الذي هو علم الصرف، وربما يزيدون على الكلمة
[الموضح: 240]
في حال الوقف ما ليس منها نحوها بيان الحركة في نحو: أغزه وارمه وكتابيه، والتضعيف في الوقف نحو: فرج وخالد، وربما يبدلون عن الحرف غيره نحو الهاء عن التاء في نحو: الرحمة والصلاة.
فلما كان التحقيق والإبدال في الهمزة جائزين اختار حمزة الإبدال في موضع الوقف؛ لأنه موضع تغيير). [الموضح: 241]

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (والّذين يؤمنون بما أنزل إليك)
كان ابن كثير يهمز كل حرف مهموز همزته، نحو قوله: (أأنذرتهم أم لم تنذرهم) و(وادعوا شهداءكم من دون اللّه) و(كانوا أنفسهم يظلمون).
وإنما يضم الميم إذا كانت في كلمة مضمرة، مثل: (أنتم) و(هم) و(كنتم) إذا انضم ما قبل الميم، أو كان مفتوحا، فإذا كان انكسر ما قبلها سكنها، نحو: (في قلوبهم مرضٌ) و(في طغيانهم يعمهون).
وقال ورش عن نافع الهاء مكسورة، والميم موقوفة، إلا أن يلقى الميم ألف أصلية، كقولك: (أأنذرتهم أم لم تنذرهم).
[معاني القراءات وعللها: 1/123]
وقرأ حمزة ويعقوب بضم الهاءات في تلك المواضع المذكورة على الأصل؛ لأن أصل الهاء الضم، ألا ترى أنك تقول: (هم يوقنون)
و (هم يوقنون) فتجد الهاء مضمومة لا غير.
وروى إسحاق الأزرق عن حمزة (عليهم) بكسر الهاء وجزم الميم.
وأخبرني المنذري عن أبي العباس أنه ذكر قول أبي عبيد في (عليهم)، و(لديهم) و(إليهم) قال: قال أبو عبيد: اختيارنا كسر الهاء، ووقف الميم في كله ما لم يلقها ألف ولام، فإذا لقيتها ألف ولام كان الخفض أحب إليّ؛ لأنه أقيس في العربية أن يكون كل حرف منجزم بعده حرف ساكن أن يكون حركته إلى الخفض.
قال أبو العباس: وهذا غلط؛ لأن للميم حركة، وهو الضم، فإذا حركت كان أولى بها أن يرد إلى حركتها التي هي لها فتضم.
قال: وقال الأخفش ومن قال بقوله: أضم الهاء وأسكن الميم؛ لأن الهاء هو الأصل، وهي القراءة القديمة، قراءة أهل الحجاز ولغتهم.
[معاني القراءات وعللها: 1/124]
ويسكن الميم فيها، وكذلك كل هاءٍ ضم وميم قبلها ياء ساكنة وما قبل الياء مفتوح، مثل: (عليهم) و(لديهم).
قال أبو العباس: أما ما ادعي من أنها أصل فهي الأصل، ولكن العرب تقرب الحرف من الحرف إذا قاربه، مثل الإدغام.
قال: والكسر في (عليهم) أولى، لأن الهاء من جنس الياء، لأنها يقع في القوافي مكانها، وأن الهاء ينقطع إلى مخرج الياء، فلذلك أتبعت الهاء الياء، وكذلك إذا كانت الهاء منفردة من الميم فقد اجتمعوا على كسر الهاء، مثل (به) و(عليه).
وزعم الفراء أنها لغة... النبي صلى الله عليه، فإذا جاءوا
بالألف واللام ضموا الهاء والميم.
قال أبو العباس: وهذا هو القياس؛ لأن الهاء إذا انفردت تبعت الكسر والياء لمؤاخاتها لهما، وإذا كانت معهما الميم، والأصل (هم)، ثم أتبعت الهاء والياء والكسرة كما ذكرنا، فإذا حركت الميم ردت الهاء والميم إلى أصلهما، فإذا لم تأت بالميم تركت الهاء على ما تبعت، مثل (به القول) و(عليه العذاب).
[معاني القراءات وعللها: 1/125]
فهنا هو الاختيار، والضم لغة والإشباع في الضم والكسر لغة، مثل: (به يا هذا) و(عليه يا هذا) و(بهو) و(عليهو) و(بهي) و(عليهي) - فإذا كان ما قبلها ساكنا حذفوا الواو، وهو الاختيار، وعليه القراءة وإذا انفتح ما قبل الهاء أو انضم فلا فرق بينهم أنه الإشباع، مثل (ضربهو) و(لن يضربهو) وإذا كان قبله ساكن مثل (عنه) و(إليهم) و(محياهم) فالاختيار الحذف عند أبي العباس، والذين يقولون: (عليهم) هم الذين أتبعوا الهاء شكلها، وردوا الميم إلى أصلها.
وقال أبو إسحاق الزجاج: الأصل في هذه الهاء التي في قولك: ضربتهو يا فتى) و(مررت بهو يا فتى) أن يتكلم به في الوصل بواو، فإذا وقفت قلت: (ضربته) و(مررت به)
قال: وزعم سيبويه أن الواو زيدت على الهاء في الذكر كما زيدت الألف في المؤنث في قولك: (ضربتها) و(مررت بها) ليستوي المؤنث والمذكر في باب الزيادة قال أبو إسحاق: والقول "في هذا الواو عند أصحابنا أنها إنما زيدت لخفاء الهاء، وذلك أن الهاء تخرج من أقصى الحلق، والواو حرف مدٍّ ولينٍ تخرج من طرف الشفتين، فإذا زيدت الواو بعد الهاء أخرجتها من الخفاء إلى الإبانة، فلهذا زيدت - وتسقط في الوقف - كما
[معاني القراءات وعللها: 1/126]
تسقط الضمة والكسرة في قولك - ساكنة أو متحركة في جميع القرآن.
إلا (القرآن) فإنه لا يهمزه ويهمز (قرأت) وكلهم يهمزون "يؤمنون " و"نؤمن " و، يأكلون، و، تأكل، و، يؤتون، و، يأتون " ونحو هنا من الحروف إلا أبا عمرو فإنه يطرح الهمزة من هنا ونحوه مما يكون فيه الهمز ساكنة، وذلك أنها لما سكنت ضعفت، واستحسن طرحها لسكونها في الحدر والدرج إلا أن يكون همزها أخف من طرحها.
وروى اليزيدي عن أبي عمرو أنه كان إذا قرأ في الصلاة أو أدرج القراءة لم يهمز.
وإذا حقق همز.
وكذلك قرأت بحرف عاصم الذي رواه أبو بكر عنه من رواية الأعشى عن أبي بكر بطرح الهمز من هذه الحروف، ومن حروف أخر الهمزة فيهن متحركة، نحو قوله؛، مائة
[معاني القراءات وعللها: 1/127]
حبةٍ، و: (ليطمئن قلبي)، و: (تطمئن قلوبنا)، و(كم من فئةٍ قليلةٍ)، و(رئاء الناس)، و(كتابًا مؤجلا)، و(فئتين التقتا)، و(وإذا قرئ القرآن)، و(المؤلّفة قلوبهم).
ونحو هذا في قراءة الأعشى عن أبي بكر، وأحسب أن الذي حكاه الإشناني عن ابن الصباح عن حفص عن عاصم عن أبي عبد الرحمن عن علي أنه كان يدع الهمز من الخوف إذا تخوف النقصان هو هذا الذي رواه الأعشى عن أبي بكر عن عاصم من طرح الهمز فيما قدمت ذكره.
وكان حمزة يهمز هذه الحروف كلها إذا وصل القراءة، فإذا سكت وقف بغير همز، وكذلك يفعل بقوله: (يستهزئون) وقوله: (ويستنبئونك)، ونحو هذا.
فأما: (خائفين) و(الخائنين)
[معاني القراءات وعللها: 1/128]
و (يكلؤكم) و(تفتأ) يشير بصدره إلى الهمز ولا يهمز.
وما الهمزة فيه عين الفعل فإنه يصله ويقف عليه بالهمز، نحو (موئلا) و(تراءت الفئتان)، وقال الأدمي: قف على (مؤجّلًا) بالهمز أيضا.
قال أبو منصور: وللعرب مذاهب في الهمز: فمنهم من يحقق الهمز، ويسمونه (النبر).
ومنهم من يخفف الهمز ويلينه.
ومنهم من يحذف الهمز. ومنهم من يحول الهمز.
وهي لغات معروفة، والقرآن نزل بلغات العرب، فمن همز ما قرئ به فهو الأتم المختار، ومن لم يهمز مما ترك همزه كثير من القراء فهو مصيب). [معاني القراءات وعللها: 1/129]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (3- قوله تعالى: {بما أنزل إليك}.
قرأ ابن كثير وحده {بما أنزل إليك} لا يمد حرفًا لحرف
وقرأ الباقون بالمد.
فمن مد قال: الألف خفيفة، والهمزة خفيفة فقووهما بالمد.
ومن لم يمد حرفًا لحرف أتى بالكلمة على أصلها؛ لأن الكلمتين من حرفين وشبهه بالإدغام في حرفين وفي حرف فإذا كان من كلمة لم يجز إلا الإدغام نحو: فر ومد. وإذا كان من كلمتين كنت بالخيار كقولك: جعل لك وجعل لك. واتفقوا جميعا على مد الحرف إذا كان من كلمة نحو قوله: {وأنزلنا من السماء ماء} و{ألاء تحبونهم} {فقطع
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/58]
أمعاءهم} {فبأي آلاء ربكما تكذبان}.
وأعلم بأن الحروف اللواتي تكون بها المد ثلاثة: الواو والياء والألف، فواو قبلها ضمة، وبعدها همزة، وياء قبلها كسرة وبعدها همزة، وألف بعدها همزة ولا يكون ما قبلها إلا مفتوحا، فالألف نحو قوله تعالى: {بما أنزل إليك} و{ها أنتم ألاء} والواو نحو قوله: {قالوا إنا معكم} والياء نحو: {في آذانهم وقر} ). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/59]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({والّذين يؤمنون بما أنزل إليك} {وعلى أبصارهم غشاوة}
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (بما أنزل إليك) و(على أبصارهم) لا يمدون حرفا لحرف وهو أن تكون المدّة من كلمة والهمزة من أخرى وحجتهم في ذلك أنهم أرادوا الفرق بين ما المدّة فيه لازمة لا تزول بحال وبين ما هي فيه عارضة قد تزول في بعض الأحوال نحو بما أنزل إليك فإنّها تزول عند الوقف والّتي لا تزول نحو دعاء ونداء وبناء وسماء فجعلوا ذلك فرقا بينهما
وقرأ ابن عامر والكسائيّ مدا وسطا ومد حمزة وعاصم مدا
[حجة القراءات: 85]
مفرطا وحجتهم في ذلك أن المدّ إنّما وجب عند استقبال الهمزة سواء كانت الهمزة من نفس الكلمة أو من الأخرى إذا التقتا لأنّه لا فرق في اللّفظ بينهما). [حجة القراءات: 86] (م)

قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس