عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 13 محرم 1440هـ/23-09-2018م, 04:37 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وأيّوب إذ نادى ربّه أنّي مسّني الضّرّ وأنت أرحم الرّاحمين (83) فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضرٍّ وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمةً من عندنا وذكرى للعابدين (84)}.
يذكر تعالى عن أيّوب، عليه السّلام، ما كان أصابه من البلاء، في ماله وولده وجسده، وذلك أنّه كان له من الدّوابّ والأنعام والحرث شيءٌ كثيرٌ، وأولادٌ كثيرةٌ، ومنازل مرضيّةٌ. فابتلي في ذلك كلّه، وذهب عن آخره، ثمّ ابتلي في جسده -يقال: بالجذام في سائر بدنه، ولم يبق منه سليمٌ سوى قلبه ولسانه، يذكر بهما اللّه عزّ وجلّ، حتّى عافه الجليس، وأفرد في ناحيةٍ من البلد، ولم يبق من النّاس أحدٌ يحنو عليه سوى زوجته، كانت تقوم بأمره، ويقال: إنّها احتاجت فصارت تخدم النّاس من أجله، وقد قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "أشدّ النّاس بلاءً الأنبياء، ثمّ الصّالحون، ثمّ الأمثل فالأمثل" وفي الحديث الآخر: "يبتلى الرّجل على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابةٌ زيد في بلائه".
وقد كان نبيّ اللّه أيّوب، عليه السّلام، غايةً في الصّبر، وبه يضرب المثل في ذلك.
وقال يزيد بن ميسرة: لمّا ابتلى اللّه أيّوب، عليه السّلام، بذهاب الأهل والمال والولد، ولم له يبق شيءٌ، أحسن الذّكر، ثمّ قال: أحمدك ربّ الأرباب، الّذي أحسنت إليّ، أعطيتني المال والولد، فلم يبق من قلبي شعبةٌ، إلّا قد دخله ذلك، فأخذت ذلك كلّه منّي، وفرّغت قلبي، ليس يحول بيني وبينك شيءٌ، لو يعلم عدوّي إبليس بالّذي صنعت، حسدني. قال: فلقي إبليس من ذلك منكرًا.
قال: وقال أيّوب، عليه السّلام: يا ربّ، إنّك أعطيتني المال والولد، فلم يقم على بابي أحدٌ يشكوني لظلمٍ ظلمته، وأنت تعلم ذلك. وأنّه كان يوطأ لي الفراش فأتركها وأقول لنفسي: يا نفس، إنّك لم تخلقي لوطء الفرش، ما تركت ذلك إلّا ابتغاء وجهك. رواه ابن أبي حاتمٍ.
وقد ذكر عن وهب بن منبّهٍ في خبره قصّةٌ طويلةٌ، ساقها ابن جريرٍ وابن أبي حاتمٍ بالسّند عنه، وذكرها غير واحدٍ من متأخّري المفسّرين، وفيها غرابةٌ تركناها لحال الطّول.
وقد روي أنّه مكث في البلاء مدّةً طويلةً، ثمّ اختلفوا في السّبب المهيّج له على هذا الدّعاء، فقال الحسن وقتادة، ابتلي أيّوب، عليه السّلام، سبع سنين وأشهرًا، ملقًى على كناسة بني إسرائيل، تختلف الدّوابّ في جسده ففرّج اللّه عنه، وعظمّ له الأجر، وأحسن عليه الثّناء.
وقال وهب بن منبّهٍ: مكث في البلاء ثلاث سنين، لا يزيد ولا ينقص.
وقال السّدّيّ: تساقط لحم أيّوب حتّى لم يبق إلّا العصب والعظام، فكانت امرأته تقوم عليه وتأتيه بالزّاد يكون فيه، فقالت له امرأته لمّا طال وجعه: يا أيّوب، لو دعوت ربّك يفرّج عنك؟ فقال: قد عشت سبعين سنةً صحيحًا، فهل قليلٌ للّه أن أصبر له سبعين سنةً؟ فجزعت من ذلك فخرجت، فكانت تعمل للنّاس بأجرٍ وتأتيه بما تصيب فتطعمه، وإنّ إبليس انطلق إلى رجلين من فلسطين كانا صديقين له وأخوين، فأتاهما فقال: أخوكما أيّوب أصابه من البلاء كذا وكذا، فأتياه وزوراه واحملا معكما من خمر أرضكما، فإنّه إن شرب منه برأ. فأتياه، فلمّا نظرا إليه بكيا، فقال: من أنتما؟ فقالا: نحن فلانٌ وفلانٌ! فرحّب بهما وقال: مرحبًا بمن لا يجفوني عند البلاء، فقالا يا أيّوب، لعلّك كنت تسر شيئًا وتظهر غيره، فلذلك ابتلاك اللّه؟ فرفع رأسه إلى السّماء ثمّ قال: هو يعلم، ما أسررت شيئًا أظهرت غيره. ولكنّ ربّي ابتلاني لينظر أأصبر أم أجزع، فقالا له: يا أيّوب، اشرب من خمرنا فإنّك إن شربت منه برأت. قال: فغضب وقال جاءكما الخبيث فأمركما بهذا؟ كلامكما وطعامكما وشرابكما عليّ حرامٌ. فقاما من عنده، وخرجت امرأته تعمل للنّاس فخبزت لأهل بيتٍ لهم صبيٌّ، فجعلت لهم قرصًا، وكان ابنهم نائمًا، فكرهوا أن يوقظوه، فوهبوه لها.
فأتت به إلى أيّوب، فأنكره وقال: ما كنت تأتيني بهذا، فما بالك اليوم؟ فأخبرته الخبر. قال: فلعلّ الصّبيّ قد استيقظ، فطلب القرص فلم يجده فهو يبكي على أهله. [فانطلقي به إليه. فأقبلت حتّى بلغت درجة القوم، فنطحتها شاةٌ لهم، فقالت: تعس أيّوب الخطّاء! فلمّا صعدت وجدت الصّبيّ قد استيقظ وهو يطلب القرص، ويبكي على أهله]، لا يقبل منهم شيئًا غيره، فقالت: رحم اللّه أيّوب فدفعت القرص إليه ورجعت. ثمّ إنّ إبليس أتاها في صورة طبيبٍ، فقال لها: إنّ زوجك قد طال سقمه، فإن أراد أن يبرأ فليأخذ ذبابًا فليذبحه باسم صنم بني فلانٍ فإنّه يبرأ ويتوب بعد ذلك. فقالت ذلك لأيّوب، فقال: قد أتاك الخبيث. للّه عليّ إن برأت أن أجلدك مائة جلدةٍ. فخرجت تسعى عليه، فحظر عنها الرّزق، فجعلت لا تأتي أهل بيتٍ فيريدونها، فلمّا اشتد عليها ذلك وخافت على أيوب الجوع حلقت من شعرها قرنًا فباعته من صبيّةٍ من بنات الأشراف، فأعطوها طعامًا طيّبًا كثيرًا فأتت به أيّوب، فلمّا رآه أنكره وقال: من أين لك هذا؟ قالت: عملت لأناسٍ فأطعموني. فأكل منه، فلمّا كان الغد خرجت فطلبت أن تعمل فلم تجد فحلقت أيضًا قرنًا فباعته من تلك الجارية، فأعطوها من ذلك الطّعام، فأتت به أيّوب، فقال: واللّه لا أطعمه حتّى أعلم من أين هو؟ فوضعت خمارها، فلمّا رأى رأسها محلوقًا جزع جزعًا شديدًا، فعند ذلك دعا ربّه عزّ وجلّ: {أنّي مسّني الضّرّ وأنت أرحم الرّاحمين}.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا موسى بن إسماعيل، حدّثنا حمّادٌ، حدّثنا أبو عمران الجونيّ، عن نوف البكالي؛ أنّ الشّيطان الّذي عرّج في أيّوب كان يقال له: "سوطٌ"، قال: وكانت امرأة أيّوب تقول: "ادع اللّه فيشفيك"، فجعل لا يدعو، حتّى مرّ به نفرٌ من بني إسرائيل، فقال بعضهم لبعضٍ: ما أصابه ما أصابه إلّا بذنبٍ عظيمٍ أصابه، فعند ذلك قال: "ربّ إنّي مسّني الضّرّ وأنت أرحم الرّاحمين".
وحدّثنا أبي، حدّثنا أبو سلمة، حدّثنا جرير بن حازمٍ، عن عبد اللّه بن عبيد بن عميرٍ قال: كان لأيّوب، عليه السّلام، أخوان فجاءا يومًا، فلم يستطيعا أن يدنوا منه، من ريحه، فقاما من بعيدٍ، فقال أحدهما للآخر: لو كان اللّه علم من أيّوب خيرًا ما ابتلاه بهذا؟ فجزع أيّوب من قولهما جزعا لم يجزع من شيءٍ قطّ، فقال: اللّهمّ، إن كنت تعلم أنّي لم أبت ليلةً قطّ شبعان وأنا أعلم مكان جائعٍ، فصدّقني. فصدّق من السّماء وهما يسمعان. ثمّ قال: اللّهمّ، إن كنت تعلم أنّي لم يكن لي قميصان قطّ، وأنا أعلم مكان عارٍ، فصدقني فصدّق من السّماء وهما يسمعان. اللّهمّ بعزّتك ثمّ خرّ ساجدًا، ثمّ قال اللّهمّ بعزّتك لا أرفع رأسي أبدًا حتّى تكشف عنّي. فما رفع رأسه حتّى كشف عنه.
وقد رواه ابن أبي حاتمٍ من وجهٍ آخر مرفوعًا بنحو هذا فقال: أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهبٍ أخبرني نافع بن يزيد، عن عقيل، عن الزّهريّ، عن أنس بن مالكٍ، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "إنّ نبيّ اللّه أيّوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنةً، فرفضه القريب والبعيد، إلّا رجلين من إخوانه، كانا من أخصّ إخوانه، كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلّم -واللّه-لقد أذنب أيّوب ذنبًا ما أذنبه أحدٌ من العالمين. فقال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنةً لم يرحمه اللّه فيكشف ما به. فلمّا راحا إليه لم يصبر الرّجل حتّى ذكر ذلك له، فقال أيّوب، عليه السّلام: ما أدري ما تقول، غير أنّ اللّه عزّ وجلّ يعلم أنّي كنت أمرّ على الرّجلين يتنازعان فيذكران اللّه، فأرجع إلى بيتي فأكفّر عنهما، كراهة أن يذكرا اللّه إلّا في حقٍّ. قال: وكان يخرج في حاجته، فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتّى يبلغ، فلمّا كان ذات يومٍ أبطأت عليه، فأوحي إلى أيّوب في مكانه: أن اركض برجلك، هذا مغتسلٌ باردٌ وشرابٌ".
رفع هذا الحديث غريبٌ جدًّا.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا موسى بن إسماعيل، حدّثنا حمّاد، أخبرنا عليّ بن زيدٍ، عن يوسف بن مهران، عن ابن عبّاسٍ، قال: وألبسه اللّه حلّةً من الجنّة، فتنحّى أيّوب فجلس في ناحيةٍ، وجاءت امرأته، فلم تعرفه، فقالت: يا عبد اللّه، أين ذهب المبتلى الّذي كان هاهنا؟ لعلّ الكلاب ذهبت به أو الذّئاب، فجعلت تكلّمه ساعةً، فقال: ويحك! أنا أيّوب! قالت: أتسخر منّي يا عبد اللّه؟ فقال: ويحك! أنا أيّوب، قد ردّ اللّه عليّ جسدي.
وبه قال ابن عبّاسٍ: وردّ عليه ماله وولده عيانًا، ومثلهم معهم.
وقال وهب بن منبّهٍ: أوحى اللّه إلى أيّوب: قد رددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم، فاغتسل بهذا الماء، فإنّ فيه شفاءك، وقرّب عن صاحبتك قربانًا، واستغفر لهم، فإنّهم قد عصوني فيك. رواه ابن أبي حاتمٍ.
[وقال] أيضًا: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا عمرو بن مرزوقٍ، حدّثنا همام، عن قتادة، عن النضر ابن أنسٍ، عن بشير بن نهيك، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "لمّا عافى اللّه أيّوب، أمطر عليه جرادًا من ذهبٍ، فجعل يأخذ بيده ويجعله في ثوبه". قال: "فقيل له: يا أيّوب، أما تشبع؟ قال: يا ربّ، ومن يشبع من رحمتك".
أصله في الصّحيحين، وسيأتي في موضعٍ آخر.
وقوله: {وآتيناه أهله ومثلهم معهم} قد تقدّم عن ابن عبّاسٍ أنّه قال: ردّوا عليه بأعيانهم. وكذا رواه العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ أيضًا. وروي مثله عن ابن مسعودٍ ومجاهدٍ، وبه قال الحسن وقتادة.
وقد زعم بعضهم أنّ اسم زوجته رحمة، فإن كان أخذ ذلك من سياق الآية فقد أبعد النّجعة، وإن كان أخذه من نقل أهل الكتاب، وصحّ ذلك عنهم، فهو ممّا لا يصدّق ولا يكذّب. وقد سمّاها ابن عساكر في تاريخه -رحمه اللّه تعالى-قال: ويقال: اسمها ليا ابنة منشّا بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، قال: ويقال: ليا بنت يعقوب، عليه السّلام، زوجة أيّوب كانت معه بأرض البثنيّة.
وقال مجاهدٌ: قيل له: يا أيّوب، إن أهلك لك في الجنّة، فإن شئت أتيناك بهم، وإن شئت تركناهم لك في الجنّة، وعوّضناك مثلهم. قال: لا بل اتركهم لي في الجنّة. فتركوا له في الجنّة وعوّض مثلهم في الدّنيا.
وقال حمّاد بن زيدٍ، عن أبي عمران الجوني، عن نوف البكالي قال: أوتي أجرهم في الآخرة، وأعطي مثلهم في الدّنيا. قال: فحدّثت به مطرّفا، فقال: ما عرفت وجهها قبل اليوم.
وهكذا روي عن قتادة، والسّدّيّ، وغير واحدٍ من السّلف، واللّه أعلم.
وقوله: {رحمةً من عندنا} أي: فعلنا به ذلك رحمةً من اللّه به، {وذكرى للعابدين} أي: وجعلناه في ذلك قدوةً، لئلّا يظنّ أهل البلاء أنّما فعلنا بهم ذلك لهوانهم علينا، وليتأسّوا به في الصّبر على مقدورات اللّه وابتلائه لعباده بما يشاء، وله الحكمة البالغة في ذلك). [تفسير ابن كثير: 5/ 359-363]

تفسير قوله تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كلٌّ من الصّابرين (85) وأدخلناهم في رحمتنا إنّهم من الصّالحين (86)}.
أمّا إسماعيل فالمراد به ابن إبراهيم الخليل، عليهما السّلام، وقد تقدّم ذكره في سورة مريم، وكذلك إدريس، عليه السّلام وأمّا ذو الكفل فالظّاهر من السّياق أنّه ما قرن مع الأنبياء إلّا وهو نبيٌّ. وقال آخرون: إنّما كان رجلًا صالحًا، وكان ملكًا عادلًا وحكمًا مقسطًا، وتوقّف ابن جريرٍ في ذلك، فاللّه أعلم.
وقال ابن جريج، عن مجاهدٍ في قوله: {وذا الكفل} قال: رجلٌ صالحٌ غير نبيٍّ، تكفّل لنبيّ قومه أن يكفيه أمر قومه ويقيمهم له ويقضي بينهم بالعدل، ففعل ذلك، فسمي: ذا الكفل. وكذا روى ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ أيضًا.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا محمّد بن المثنّى، حدّثنا عفّان، حدّثنا وهيب، حدّثنا داود، عن مجاهدٍ قال: لمّا كبر اليسع قال: لو أنّي استخلفت رجلًا على النّاس يعمل عليهم في حياتي، حتّى أنظر كيف يعمل؟ فجمع النّاس، فقال: من يتقبّل منّي بثلاثٍ: أستخلفه يصوم النّهار، ويقوم اللّيل، ولا يغضب. قال: فقام رجلٌ تزدريه العين، فقال: أنا. فقال: أنت تصوم النّهار، وتقوم اللّيل، ولا تغضب؟ قال: نعم، قال: فردّهم ذلك اليوم، وقال مثلها في اليوم الآخر، فسكت النّاس، وقام ذلك الرّجل وقال أنا. فاستخلفه، قال: وجعل إبليس يقول للشّياطين: عليكم بفلانٍ. فأعياهم ذلك، قال: دعوني وإيّاه، فأتاه في صورة شيخٍ كبيرٍ فقيرٍ، فأتاه حين أخذ مضجعه للقائلة -وكان لا ينام اللّيل والنّهار إلّا تلك النّومة-فدقّ الباب، فقال: من هذا؟ قال: شيخٌ كبيرٌ مظلومٌ. قال: فقام ففتح الباب، فجعل يقصّ عليه، فقال: إنّ بيني وبين قومي خصومةً، وإنّهم ظلموني، وفعلوا بي وفعلوا. وجعل يطول عليه حتّى حضر الرّواح وذهبت القائلة، فقال: إذا رحت فأتني آخذ لك بحقّك. فانطلق، وراح. فكان في مجلسه، فجعل ينظر هل يرى الشّيخ؟ فلم يره، فقام يتبعه، فلمّا كان الغد جعل يقضي بين النّاس، وينتظره ولا يراه، فلمّا رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه، أتاه فدقّ الباب، فقال: من هذا؟ قال الشّيخ الكبير المظلوم. ففتح له فقال: ألم أقل لك إذا قعدت فأتني؟ قال: إنّهم أخبث قومٍ، إذا عرفوا أنّك قاعدٌ قالوا: نحن نعطيك حقّك. وإذا قمت جحدوني. قال: فانطلق، فإذا رحت فأتني. قال: ففاتته القائلة، فراح فجعل ينتظره ولا يراه، وشقّ عليه النّعاس، فقال لبعض أهله: لا تدعنّ أحدًا يقرب هذا الباب حتّى أنام، فإنّي قد شقّ عليّ النّوم. فلمّا كان تلك السّاعة أتاه فقال له الرّجل: وراءك وراءك؟ فقال: إنّي قد أتيته أمس، فذكرت له أمري، فقال: لا واللّه لقد أمرنا ألّا ندع أحدًا يقربه. فلمّا أعياه نظر فرأى كوّة في البيت، فتسوّر منها، فإذا هو في البيت، وإذا هو يدقّ الباب من داخلٍ، قال: فاستيقظ الرّجل فقال: يا فلان، ألم آمرك؟ فقال أمّا من قبلي واللّه فلم تؤت، فانظر من أين أتيت؟ قال: فقام إلى الباب فإذا هو مغلقٌ كما أغلقه، وإذا الرّجل معه في البيت، فعرفه، فقال: أعدوّ اللّه؟ قال: نعم، أعييتني في كلّ شيءٍ، ففعلت ما ترى لأغضبك. فسمّاه اللّه ذا الكفل؛ لأنّه تكفّل بأمر فوفى به.
وهكذا رواه بن أبي حاتمٍ، من حديث زهير بن إسحاق، عن داود، عن مجاهدٍ، بمثله.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا أحمد بن يونس، حدّثنا أبو بكر بن عيّاشٍ، عن الأعمش، عن مسلمٍ، قال: قال ابن عبّاسٍ: كان قاضٍ في بني إسرائيل، فحضره الموت، فقال: من يقوم مقامي على ألّا يغضب؟ قال: فقال رجلٌ: أنا. فسمّي ذا الكفل. قال: فكان ليله جميعًا يصلّي، ثمّ يصبح صائمًا فيقضي بين النّاس -قال: وله ساعةٌ يقيلها-قال: فكان كذلك، فأتاه الشّيطان عند نومته، فقال له أصحابه: ما لك؟ قال: إنسانٌ مسكينٌ، له على رجلٍ حقٌّ، وقد غلبني عليه. قالوا: كما أنت حتّى يستيقظ -قال: وهو فوق نائمٌ-قال: فجعل يصيح عمدًا حتّى يوقظه، قال: فسمع، فقال: ما لك؟ قال: إنسانٌ مسكينٌ، له على رجلٍ حقٌّ. قال: اذهب فقل له يعطيك. قال: قد أبى. قال: اذهب أنت إليه. قال: فذهب، ثمّ جاء من الغد، فقال: ما لك؟ قال: ذهبت إليه فلم يرفع بكلامك رأسًا. قال: اذهب إليه فقل له يعطيك حقّك، قال: فذهب، ثمّ جاء من الغد حين قال، قال: فقال له أصحابه: اخرج، فعل اللّه بك، تجيء كلّ يومٍ حين ينام، لا تدعه ينام؟. فجعل يصيح: من أجل أنّي إنسانٌ مسكينٌ، لو كنت غنيًّا؟ قال: فسمع أيضًا، فقال: ما لك؟ قال: ذهبت إليه فضربني. قال: امش حتّى أجيء معك. قال: فهو ممسكٌ بيده، فلمّا رآه ذهب معه نثر يده منه ففر.
وهكذا روي عن عبد اللّه بن الحارث، ومحمّد بن قيسٍ، وابن حجيرة الأكبر، وغيرهم من السّلف، نحوٌ من هذه القصّة، واللّه أعلم.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا أبو الجماهر، أخبرنا سعيد بن بشيرٍ، حدّثنا قتادة، عن أبي كنانة بن الأخنس قال: سمعت الأشعريّ وهو يقول على هذا المنبر: ما كان ذو الكفل بنبيٍّ، ولكن كان -يعني: في بني إسرائيل-رجلٌ صالحٌ يصلّي كلّ يومٍ مائة صلاةٍ، فتكفّل له ذو الكفل من بعده، فكان يصلّي كلّ يومٍ مائة صلاةٍ، فسمّي ذا الكفل.
وقد رواه ابن جريرٍ من حديث عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة قال: "قال أبو موسى الأشعريّ = " فذكره منقطعًا، واللّه أعلم.
وقد روى الإمام أحمد حديثًا غريبًا فقال:
حدّثنا أسباط بن محمّدٍ، حدّثنا الأعمش، عن عبد اللّه بن عبد اللّه، عن سعدٍ مولى طلحة، عن ابن عمر قال: سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حديثًا لو لم أسمعه إلّا مرّةً أو مرّتين -حتّى عدّ سبع مرّاتٍ-ولكن قد سمعته أكثر من ذلك، قال: "كان الكفل من بني إسرائيل، لا يتورّع من ذنبٍ عمله، فأتته امرأةٌ فأعطاها ستّين دينارًا، على أن يطأها، فلمّا قعد منها مقعد الرّجل من امرأته، أرعدت وبكت، فقال: ما يبكيك؟ أكرهتك؟ قالت: لا ولكنّ هذا عملٌ لم أعمله قطّ، وإنّما حملني عليه الحاجة. قال: فتفعلين هذا ولم تفعليه قطّ؟ فنزل فقال: اذهبي فالدّنانير لك. ثمّ قال: "واللّه لا يعصي اللّه الكفل أبدًا. فمات من ليلته فأصبح مكتوبًا على بابه: قد غفر اللّه للكفل".
هكذا وقع في هذه الرواية "الكفل"، من غير إضافةٍ، فاللّه أعلم. وهذا الحديث لم يخرّجه أحدٌ من أصحاب الكتب السّتّة، وإسناده غريبٌ، وعلى كلّ تقديرٍ فلفظ الحديث إن كان "الكفل"، ولم يقل: "ذو الكفل"، فلعلّه رجلٌ آخر، واللّه أعلم). [تفسير ابن كثير: 5/ 363-365]

رد مع اقتباس