عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 23 محرم 1440هـ/3-10-2018م, 09:02 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آَللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({قل الحمد للّه وسلامٌ على عباده الّذين اصطفى آللّه خيرٌ أم ما يشركون (59) أم من خلق السّموات والأرض وأنزل لكم من السّماء ماءً فأنبتنا به حدائق ذات بهجةٍ ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإلهٌ مع اللّه بل هم قومٌ يعدلون (60)}.
يقول تعالى آمرًا رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم أن يقول: {الحمد للّه} أي: على نعمه على عباده، من النّعم الّتي لا تعدّ ولا تحصى، وعلى ما اتّصف به من الصّفات العلى والأسماء الحسنى، وأن يسلّم على عباد اللّه الّذين اصطفاهم واختارهم، وهم رسله وأنبياؤه الكرام، عليهم من اللّه الصّلاة والسّلام، هكذا قال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، وغيره: إنّ المراد بعباده الّذين اصطفى: هم الأنبياء، قال: وهو كقوله تعالى: {سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون * وسلامٌ على المرسلين * والحمد للّه ربّ العالمين} [الصّافّات: 180 -182].
وقال الثّوريّ، والسّدّيّ: هم أصحاب محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، رضي [اللّه] عنهم أجمعين، وروي نحوه عن ابن عبّاسٍ.
ولا منافاة، فإنّهم إذا كانوا من عباد اللّه الّذين اصطفى، فالأنبياء بطريق الأولى والأحرى، والقصد أنّ اللّه تعالى أمر رسوله ومن اتّبعه بعد ما ذكر لهم ما فعل بأوليائه من النّجاة والنّصر والتّأييد، وما أحلّ بأعدائه من الخزي والنّكال والقهر، أن يحمدوه على جميع أفعاله، وأن يسلّموا على عباده المصطفين الأخيار.
وقد قال أبو بكرٍ البزّار: حدّثنا محمّد بن عمارة بن صبيح، حدّثنا طلق بن غنّامٍ، حدّثنا الحكم بن ظهير، عن السّدّيّ -إن شاء اللّه -عن أبي مالكٍ، عن ابن عبّاسٍ: {وسلامٌ على عباده الّذين اصطفى} قال: هم أصحاب محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم اصطفاهم اللّه لنبيّه، رضي اللّه عنهم.
وقوله: {آللّه خيرٌ أم ما يشركون}: استفهام إنكارٍ على المشركين في عبادتهم مع اللّه آلهةً أخرى). [تفسير ابن كثير: 6/ 201]

تفسير قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) :(ثمّ شرع تعالى يبيّن أنّه المنفرد بالخلق والرّزق والتّدبير دون غيره، فقال: {أمّن خلق السّموات والأرض} أي: تلك السّموات بارتفاعها وصفائها، وما جعل فيها من الكواكب النّيّرة والنّجوم الزّاهرة والأفلاك الدّائرة، والأرض باستفالها وكثافتها، وما جعل فيها من الجبال والأوعار والسّهول، والفيافي والقفار، والأشجار والزّروع، والثّمار والبحور والحيوان على اختلاف الأصناف والأشكال والألوان وغير ذلك.
وقوله: {وأنزل لكم من السّماء ماءً} أي: جعله رزقًا للعباد، {فأنبتنا به حدائق} أي: بساتين {ذات بهجةٍ} أي: منظرٍ حسنٍ وشكلٍ بهيٍّ، {ما كان لكم أن تنبتوا شجرها} أي: لم تكونوا تقدرون على إنبات شجرها، وإنّما يقدر على ذلك الخالق الرّازق، المستقلّ بذلك المتفرّد به، دون ما سواه من الأصنام والأنداد، كما يعترف به هؤلاء المشركون، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ اللّه} [الزّخرف: 87]، {ولئن سألتهم من نزل من السّماء ماءً فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولنّ اللّه} [العنكبوت: 63] أي: هم معترفون بأنّه الفاعل لجميع ذلك وحده لا شريك له، ثمّ هم يعبدون معه غيره ممّا يعترفون أنّه لا يخلق ولا يرزق، وإنّما يستحقّ أن يفرد بالعبادة من هو المتفرّد بالخلق والرّزق؛ ولهذا قال: {أإلهٌ مع اللّه} أي: أإلهٌ مع اللّه يعبد. وقد تبيّن لكم، ولكلّ ذي لبٍّ ممّا يعرفون به أيضًا أنّه الخالق الرّازق.
ومن المفسّرين من يقول: معنى قوله: {أإلهٌ مع اللّه} [أي: أإلهٌ مع اللّه] فعل هذا. وهو يرجع إلى معنى الأوّل؛ لأنّ تقدير الجواب أنّهم يقولون: ليس ثمّ أحدٌ فعل هذا معه، بل هو المتفرّد به. فيقال: فكيف تعبدون معه غيره وهو المستقلّ المتفرّد بالخلق والتّدبير؟ كما قال: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} [النّحل: 17].
وقوله هاهنا: {أمّن خلق السّموات والأرض}: {أمّن} في هذه الآيات [كلّها] تقديره: أمّن يفعل هذه الأشياء كمن لا يقدر على شيءٍ منها؟ هذا معنى السّياق وإن لم يذكر الآخر؛ لأنّ في قوّة الكلام ما يرشد إلى ذلك، وقد قال: {آللّه خيرٌ أمّا يشركون}.
ثمّ قال في آخر الآية: {بل هم قومٌ يعدلون} أي: يجعلون للّه عدلًا ونظيرًا. وهكذا قال تعالى: {أم من هو قانتٌ آناء اللّيل ساجدًا وقائمًا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربّه} [الزّمر: 9] أي: أمّن هو هكذا كمن ليس كذلك؟ ولهذا قال: {قل هل يستوي الّذين يعلمون والّذين لا يعلمون إنّما يتذكّر أولو الألباب} [الزّمر: 9]، {أفمن شرح اللّه صدره للإسلام فهو على نورٍ من ربّه فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذكر اللّه أولئك في ضلالٍ مبينٍ} [الزّمر: 22]، وقال {أفمن هو قائمٌ على كلّ نفسٍ بما كسبت} [الرّعد: 33] أي: أمن هو شهيدٌ على أفعال الخلق، حركاتهم وسكناتهم، يعلم الغيب جليله وحقيره، كمن هو لا يعلم ولا يسمع ولا يبصر من هذه الأصنام الّتي عبدوها؟ ولهذا قال: {وجعلوا للّه شركاء قل سمّوهم} [الرّعد: 33]، وهكذا هذه الآيات الكريمات كلها). [تفسير ابن كثير: 6/ 201-202]

تفسير قوله تعالى: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({أم من جعل الأرض قرارًا وجعل خلالها أنهارًا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزًا أإلهٌ مع اللّه بل أكثرهم لا يعلمون (61)}.
يقول: {أمّن جعل الأرض قرارًا} أي: قارّةً ساكنةً ثابتةً، لا تميد ولا تتحرّك بأهلها ولا ترجف بهم، فإنّها لو كانت كذلك لما طاب عليها العيش والحياة، بل جعلها من فضله ورحمته مهادًا بساطًا ثابتةً لا تتزلزل ولا تتحرّك، كما قال في الآية الأخرى: {اللّه الّذي جعل لكم الأرض قرارًا والسّماء بناءً} [غافرٍ: 64].
{وجعل خلالها أنهارًا} أي: جعل فيها الأنهار العذبة الطّيّبة تشقّها في خلالها، وصرّفها فيها ما بين أنهارٍ كبارٍ وصغارٍ وبين ذلك، وسيّرها شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا بحسب مصالح عباده في أقاليمهم وأقطارهم حيث ذرأهم في أرجاء الأرض، سيّر لهم أرزاقهم بحسب ما يحتاجون إليه، {وجعل لها رواسي} أي: جبالًا شامخةً ترسي الأرض وتثبّتها؛ لئلّا تميد بكم {وجعل بين البحرين حاجزًا} أي: جعل بين المياه العذبة والمالحة حاجزًا، أي: مانعًا يمنعها من الاختلاط، لئلّا يفسد هذا بهذا وهذا بهذا، فإنّ الحكمة الإلهيّة تقتضي بقاء كلٍّ منهما على صفته المقصودة منه، فإنّ البحر الحلو هو هذه الأنهار السّارحة الجارية بين النّاس. والمقصود منها: أن تكون عذبة زلالا تسقى الحيوان والنّبات والثّمار منها. والبحار المالحة هي المحيطة بالأرجاء والأقطار من كلّ جانبٍ، والمقصود منها: أن يكون ماؤها ملحًا أجاجًا، لئلّا يفسد الهواء بريحها، كما قال تعالى: {وهو الّذي مرج البحرين هذا عذبٌ فراتٌ وهذا ملحٌ أجاجٌ وجعل بينهما برزخًا وحجرًا محجورًا} [الفرقان: 53]؛ ولهذا قال: {أإلهٌ مع اللّه} أي: فعل هذا؟ أو يعبد على القول الأوّل والآخر؟ وكلاهما متلازمٌ صحيحٌ، {بل أكثرهم لا يعلمون} أي: في عبادتهم غيره). [تفسير ابن كثير: 6/ 203]

تفسير قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({أمّن يجيب المضطرّ إذا دعاه ويكشف السّوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإلهٌ مع اللّه قليلا ما تذكّرون (62)}.
ينبّه تعالى أنّه هو المدعوّ عند الشّدائد، المرجوّ عند النّوازل، كما قال: {وإذا مسّكم الضّرّ في البحر ضلّ من تدعون إلا إيّاه} [الإسراء: 67]، وقال تعالى: {ثمّ إذا مسّكم الضّرّ فإليه تجأرون} [النّحل: 53]. وهكذا قال هاهنا: {أمّن يجيب المضطرّ إذا دعاه} أي: من هو الّذي لا يلجأ المضطرّ إلّا إليه، والّذي لا يكشف ضرّ المضرورين سواه.
قال الإمام أحمد: حدّثنا عفّان، حدّثنا وهيب، حدّثنا خالدٌ الحذّاء، عن أبي تميمة الهجيمي، عن رجلٍ من بلهجيمٍ قال: قلت: يا رسول اللّه، إلام تدعو؟ قال: "أدعو إلى اللّه وحده، الّذي إن مسّك ضرٌّ فدعوته كشف عنك، والّذي إن أضللت بأرضٍ قفر فدعوته ردّ عليك، والّذي إن أصابتك سنة فدعوته أنبت لك". قال: قلت: أوصني. قال: "لا تسبّنّ أحدًا، ولا تزهدنّ في المعروف، ولو أن تلقى أخاك وأنت منبسطٌ إليه وجهك، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي، واتّزر إلى نصف السّاق، فإن أبيت فإلى الكعبين. وإيّاك وإسبال الإزار، فإنّ إسبال الإزار من المخيلة، [وإنّ اللّه -تبارك تعالى -لا يحبّ المخيلة] .
وقد رواه الإمام أحمد من وجهٍ آخر، فذكر اسم الصّحابيّ فقال: حدّثنا عفّان، حدّثنا حمّاد بن سلمة، حدّثنا يونس -هو ابن عبيدٍ -حدّثنا عبيدة الهجيمي عن أبي تميمة الهجيمي، عن جابر بن سليم الهجيمي قال: أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو محتبٍ بشملة، وقد وقع هدبها على قدميه، فقلت: أيّكم محمّدٌ -أو: رسول اللّه؟ -فأومأ بيده إلى نفسه، فقلت: يا رسول اللّه، أنا من أهل البادية، وفيّ جفاؤهم، فأوصني. فقال: "لا تحقرنّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي، وإن امرؤٌ شتمك بما يعلم فيك فلا تشتمه بما تعلم فيه، فإنّه يكون لك أجره وعليه وزره. وإيّاك وإسبال الإزار، فإنّ إسبال الإزار من المخيلة، وإنّ اللّه لا يحبّ المخيلة، ولا تسبّنّ أحدًا". قال: فما سببت بعده أحدًا، ولا شاةً ولا بعيرًا.
وقد روى أبو داود والنّسائيّ لهذا الحديث طرقًا، وعندهما طرفٌ صالحٌ منه.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا عليّ بن هاشمٍ حدّثنا عبدة بن نوحٍ، عن عمر بن الحجّاج، عن عبيد اللّه بن أبي صالحٍ قال: دخل عليّ طاوسٌ يعودني، فقلت له: ادع اللّه لي يا أبا عبد الرّحمن. فقال: ادع لنفسك، فإنّه يجيب المضطرّ إذا دعاه.
وقال وهب بن منبّهٍ: قرأت في الكتاب الأوّل: إنّ اللّه يقول: بعزّتي إنّه من اعتصم بي فإن كادته السّموات ومن فيهنّ، والأرض بمن فيها، فإنّي أجعل له من بين ذلك مخرجًا. ومن لم يعتصم بي فإنّي أخسف به من تحت قدميه الأرض، فأجعله في الهواء، فأكله إلى نفسه.
وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة رجلٍ -حكى عنه أبو بكرٍ محمّد بن داود الدّينوري، المعروف بالدّقّيّ الصّوفيّ -قال هذا الرّجل: كنت أكاري على بغلٍ لي من دمشق إلى بلد الزّبداني، فركب معي ذات مرّةٍ رجلٌ، فمررنا على بعض الطّريق، على طريقٍ غير مسلوكةٍ، فقال لي: خذ في هذه، فإنّها أقرب. فقلت: لا خبرة لي فيها، فقال: بل هي أقرب. فسلكناها فانتهينا إلى مكانٍ وعر ووادٍ عميقٍ، وفيه قتلى كثيرٌ، فقال لي: أمسك رأس البغل حتّى أنزل. فنزل وتشمّر، وجمع عليه ثيابه، وسلّ سكّينًا معه وقصدني، ففررت من بين يديه وتبعني، فناشدته اللّه وقلت: خذ البغل بما عليه. فقال: هو لي، وإنّما أريد قتلك. فخوّفته اللّه والعقوبة فلم يقبل، فاستسلمت بين يديه وقلت: إن رأيت أن تتركني حتّى أصلّي ركعتين؟ فقال: [صلّ] وعجّل. فقمت أصلي فأرتج عليّ القرآن فلم يحضرني منه حرفٌ واحدٌ، فبقيت واقفًا متحيّرًا وهو يقول: هيه. افرغ. فأجرى اللّه على لساني قوله تعالى: {أمّن يجيب المضطرّ إذا دعاه ويكشف السّوء}، فإذا أنا بفارسٍ قد أقبل من فم الوادي، وبيده حربةٌ، فرمى بها الرّجل فما أخطأت فؤاده، فخرّ صريعًا، فتعلّقت بالفارس وقلت: باللّه من أنت؟ فقال: أنا رسول [اللّه] الّذي يجيب المضطرّ إذا دعاه، ويكشف السّوء. قال: فأخذت البغل والحمل ورجعت سالمًا.
وذكر في ترجمة "فاطمة بنت الحسن أمّ أحمد العجليّة" قالت: هزم الكفّار يومًا المسلمين في غزاةٍ، فوقف جواد جيّد بصاحبه، وكان من ذوي اليسار ومن الصّلحاء، فقال للجواد: ما لك؟ ويلك. إنّما كنت أعدّك لمثل هذا اليوم. فقال له الجواد: وما لي لا أقصّر وأنت تكل علوفتي إلى السّوّاس فيظلمونني ولا يطعمونني إلّا القليل؟ فقال: لك عليّ عهد اللّه أنّي لا أعلفك بعد هذا اليوم إلّا في حجري. فجرى الجواد عند ذلك، ونجّى صاحبه، وكان لا يعلفه بعد ذلك إلّا في حجره، واشتهر أمره بين النّاس، وجعلوا يقصدونه ليسمعوا منه ذلك، وبلغ ملك الرّوم أمره، فقال: ما تضام بلدةٌ يكون هذا الرّجل فيها. واحتال ليحصّله في بلده، فبعث إليه رجلًا من المرتدّين عنده، فلمّا انتهى إليه أظهر له أنّه قد حسنت نيّته في الإسلام وقومه، حتّى استوثق، ثمّ خرجا يومًا يمشيان على جنب السّاحل، وقد واعد شخصًا آخر من جهة ملك الرّوم ليتساعدا على أسره، فلمّا اكتنفاه ليأخذاه رفع طرفه إلى السّماء وقال: اللّهمّ، إنّه إنّما خدعني بك فاكفنيهما بما شئت، قال: فخرج سبعان إليهما فأخذاهما، ورجع الرّجل سالـمًا.
وقوله تعالى: {ويجعلكم خلفاء الأرض} أي: يخلف قرنا لقرنٍ قبلهم وخلفًا لسلفٍ، كما قال تعالى: {إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرّيّة قومٍ آخرين} [الأنعام: 133]، وقال تعالى: {وهو الّذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعضٍ درجاتٍ} [الأنعام: 165]، وقال تعالى: {وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الأرض خليفةً} [البقرة: 30]، أي: قومًا يخلف بعضهم بعضًا كما قدّمنا تقريره. وهكذا هذه الآية: {ويجعلكم خلفاء الأرض} أي: أمّةً بعد أمّةٍ، وجيلًا بعد جيلٍ، وقومًا بعد قومٍ. ولو شاء لأوجدهم كلّهم في وقتٍ واحدٍ، ولم يجعل بعضهم من ذرّيّة بعضٍ، بل لو شاء لخلقهم كلّهم أجمعين، كما خلق آدم من ترابٍ. ولو شاء أن يجعلهم بعضهم من ذرّيّة بعضٍ ولكن لا يميت أحدًا حتّى تكون وفاة الجميع في وقتٍ واحدٍ، فكانت تضيق عليهم الأرض وتضيق عليهم معايشهم وأكسابهم، ويتضرّر بعضهم ببعضٍ. ولكن اقتضت حكمته وقدرته أن يخلقهم من نفسٍ واحدةٍ، ثمّ يكثرهم غاية الكثرة، ويذرأهم في الأرض، ويجعلهم قرونًا بعد قرونٍ، وأممًا بعد أممٍ، حتّى ينقضي الأجل وتفرغ البرية، كما قدّر ذلك تبارك وتعالى، وكما أحصاهم وعدّهم عدًا، ثمّ يقيم القيامة، ويوفي كلّ عاملٍ عمله إذا بلغ الكتاب أجله؛ ولهذا قال تعالى: {أمّن يجيب المضطرّ إذا دعاه ويكشف السّوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإلهٌ مع اللّه} أي: يقدر على ذلك، أو إلهٌ مع اللّه يعبد، وقد علم أنّ اللّه هو المتفرّد بفعل ذلك {قليلا ما تذكّرون} أي: ما أقلّ تذكّرهم فيما يرشدهم إلى الحقّ، ويهديهم إلى الصّراط المستقيم). [تفسير ابن كثير: 6/ 203-206]

تفسير قوله تعالى: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({أمّن يهديكم في ظلمات البرّ والبحر ومن يرسل الرّياح بشرًا بين يدي رحمته أإلهٌ مع اللّه تعالى اللّه عمّا يشركون (63)}.
يقول: {أمّن يهديكم في ظلمات البرّ والبحر} أي: بما خلق من الدّلائل السّماويّة والأرضيّة، كما قال: {وعلاماتٍ وبالنّجم هم يهتدون} [النّحل: 16]، وقال تعالى: {وهو الّذي جعل لكم النّجوم لتهتدوا بها في ظلمات البرّ والبحر} الآية [الأنعام: 97].
{ومن يرسل الرّياح بشرًا بين يدي رحمته} أي: بين يدي السّحاب الّذي فيه مطرٌ، يغيث به عباده المجدبين الأزلين القنطين، {أإلهٌ مع اللّه تعالى اللّه عمّا يشركون}). [تفسير ابن كثير: 6/ 206]

تفسير قوله تعالى: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({أمّن من يبدأ الخلق ثمّ يعيده ومن يرزقكم من السّماء والأرض أإلهٌ مع اللّه قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين (64)}.
أي: هو الّذي بقدرته وسلطانه يبدأ الخلق ثمّ يعيده، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {إنّ بطش ربّك لشديدٌ إنّه هو يبدئ ويعيد} [البروج: 12، 13]، وقال {وهو الّذي يبدأ الخلق ثمّ يعيده وهو أهون عليه} [الرّوم: 27].
{ومن يرزقكم من السّماء والأرض} أي: بما ينزل من مطر السّماء، وينبت من بركات الأرض، كما قال: {والسّماء ذات الرّجع. والأرض ذات الصّدع} [الطّارق: 11، 12]، وقال {يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السّماء وما يعرج فيها} [الحديد: 4]، فهو، تبارك وتعالى، ينزّل من السّماء ماءً مباركًا فيسكنه في الأرض، ثمّ يخرج به [منها] أنواع الزّروع والثّمار والأزاهير، وغير ذلك من ألوانٍ شتّى، {كلوا وارعوا أنعامكم إنّ في ذلك لآياتٍ لأولي النّهى} [طه: 54]؛ ولهذا قال: {أإلهٌ مع اللّه} أي: فعل هذا. وعلى القول الآخر: يعبد؟ {قل هاتوا برهانكم} على صحّة ما تدّعونه من عبادة آلهةٍ أخرى، {إن كنتم صادقين} في ذلك، وقد علم أنّه لا حجّة لهم ولا برهان، كما قال [اللّه]: {ومن يدع مع اللّه إلهًا آخر لا برهان له به فإنّما حسابه عند ربّه إنّه لا يفلح الكافرون} [المؤمنون: 117]). [تفسير ابن كثير: 6/ 206]

رد مع اقتباس