عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 1 رجب 1435هـ/30-04-2014م, 01:31 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإلى ثمود أخاهم صالحًا قال يا قوم اعبدوا اللّه ما لكم من إلهٍ غيره قد جاءتكم بيّنةٌ من ربّكم هذه ناقة اللّه لكم آيةً فذروها تأكل في أرض اللّه ولا تمسّوها بسوءٍ فيأخذكم عذابٌ أليمٌ (73) واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عادٍ وبوّأكم في الأرض تتّخذون من سهولها قصورًا وتنحتون الجبال بيوتًا فاذكروا آلاء اللّه ولا تعثوا في الأرض مفسدين (74) قال الملأ الّذين استكبروا من قومه للّذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أنّ صالحًا مرسلٌ من ربّه قالوا إنّا بما أرسل به مؤمنون (75) قال الّذين استكبروا إنّا بالّذي آمنتم به كافرون (76) فعقروا النّاقة وعتوا عن أمر ربّهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين (77) فأخذتهم الرّجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين (78)}
قال علماء التّفسير والنّسب: ثمود بن عاثر بن إرم بن سام بن نوحٍ، وهو أخو جديس بن عاثر، وكذلك قبيلة طسم، كلّ هؤلاء كانوا أحياءً من العرب العاربة قبل إبراهيم الخليل، عليه السّلام، وكانت ثمود بعد عادٍ، ومساكنهم مشهورةٌ فيما بين الحجاز والشّام إلى وادي القرى وما حوله، وقد مرّ رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- على قراهم ومساكنهم، وهو ذاهبٌ إلى تبوك سنة تسعٍ.
قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الصّمد، حدّثنا صخر بن جويرية، عن نافعٍ، عن ابن عمر قال: لمّا نزل رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- بالنّاس على تبوك، نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود، فاستسقى النّاس من الآبار الّتي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا منها ونصبوا منها القدور. فأمرهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فأهرقوا القدور، وعلفوا العجين الإبل، ثمّ ارتحل بهم حتّى نزل بهم على البئر الّتي كانت تشرب منها النّاقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الّذين عذّبوا وقال:«إنّي أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فلا تدخلوا عليهم»
وقال [الإمام] أحمد أيضًا: حدّثنا عفّان، حدّثنا عبد العزيز بن مسلمٍ، حدّثنا عبد اللّه بن دينارٍ، عن عبد اللّه بن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو بالحجر:«لا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين إلّا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم»
وأصل هذا الحديث مخرّج في الصّحيحين من غير وجهٍ
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدّثنا يزيد بن هارون، أخبرنا المسعوديّ، عن إسماعيل بن أوسط، عن محمّد بن أبي كبشة الأنماريّ، عن أبيه قال: لمّا كان في غزوة تبوك، تسارع النّاس إلى أهل الحجر، يدخلون عليهم، فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فنادى في النّاس: «الصّلاة جامعةٌ». قال: فأتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو ممسكٌ بعيره وهو يقول: «ما تدخلون على قومٍ غضب اللّه عليهم». فناداه رجلٌ منهم: نعجب منهم يا رسول اللّه. قال: «أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك: رجلٌ من أنفسكم ينبّئكم بما كان قبلكم، وبما هو كائنٌ بعدكم، فاستقيموا وسدّدوا، فإنّ اللّه لا يعبأ بعذابكم شيئًا، وسيأتي قومٌ لا يدفعون عن أنفسهم شيئًا»
لم يخرجه أحدٌ من أصحاب السّنن وأبو كبشة اسمه: عمر بن سعدٍ، ويقال: عامر بن سعدٍ، واللّه أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرّزّاق: حدّثنا معمر، عن عبد اللّه بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزّبير، عن جابرٍ قال: لمّا مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالحجر قال: «لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالحٍ فكانت -يعني النّاقة -ترد من هذا الفجّ، وتصدر من هذا الفجّ، فعتوا عن أمر ربّهم فعقروها، وكانت تشرب ماءهم يومًا ويشربون لبنها يومًا، فعقروها، فأخذتهم صيحةٌ، أهمد الله من تحت أديم السّماء منهم، إلّا رجلًا واحدًا كان في حرم اللّه». فقالوا: من هو يا رسول اللّه؟ قال:«أبو رغال. فلمّا خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه»
وهذا الحديث ليس في شيءٍ من الكتب السّتّة، وهو على شرط مسلمٍ.
فقوله تعالى: {وإلى ثمود أخاهم صالحًا} أي: ولقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحًا، {قال يا قوم اعبدوا اللّه ما لكم من إلهٍ غيره} جميع الرّسل يدعون إلى عبادة اللّه وحده لا شريك له، كما قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنّه لا إله إلا أنا فاعبدون} [الأنبياء:25] وقال [تعالى] {ولقد بعثنا في كلّ أمّةٍ رسولا أن اعبدوا اللّه واجتنبوا الطّاغوت}[النّحل:36].
وقوله: {قد جاءتكم بيّنةٌ من ربّكم هذه ناقة اللّه لكم آيةً} أي: قد جاءتكم حجّةٌ من اللّه على صدق ما جئتكم به. وكانوا هم الّذين سألوا صالحًا أن يأتيهم بآيةٍ، واقترحوا عليه أن تخرج لهم من صخرةٍ صماء عيّنوها بأنفسهم، وهي صخرةٌ منفردةٌ في ناحية الحجر، يقال لها: الكاتبة، فطلبوا منه أن يخرج لهم منها ناقةً عشراء تمخض، فأخذ عليهم صالحٌ العهود والمواثيق لئن أجابهم اللّه إلى سؤالهم وأجابهم إلى طلبتهم ليؤمننّ به وليتبعنّه؟ فلمّا أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم، قام صالحٌ، عليه السّلام، إلى صلاته ودعا اللّه، عزّ وجلّ، فتحرّكت تلك الصّخرة ثمّ انصدعت عن ناقةٍ جوفاء وبراء يتحرّك جنينها بين جنبيها، كما سألوا، فعند ذلك آمن رئيس القوم وهو: "جندع بن عمرٍو" ومن كان معه على أمره وأراد بقيّة أشراف ثمود أن يؤمنوا فصدّهم "ذؤاب بن عمرو بن لبيدٍ" "والحباب" صاحب أوثانهم، ورباب بن صمعر بن جلهس، وكان ل"جندع بن عمرٍو" ابن عمٍّ يقال له: "شهاب بن خليفة بن محلّاة بن لبيد بن حراسٍ"، وكان من أشراف ثمود وأفاضلها، فأراد أن يسلم أيضًا فنهاه أولئك الرّهط، فأطاعهم، فقال في ذلك رجلٌ من مؤمني ثمود، يقال له مهوس بن عنمة بن الدّميل، رحمه اللّه:
وكانت عصبةٌ من آل عمرو ....... إلى دين النّبيّ دعوا شهابا
عزيز ثمود كلّهم جميعًا
....... فهمّ بأن يجيب فلو أجابا
لأصبح صالحٌ فينا عزيزًا
....... وما عدلوا بصاحبهم ذؤابا
ولكنّ الغواة من آل حجرٍ
....... تولّوا بعد رشدهم ذئابا
فأقامت النّاقة وفصيلها بعد ما وضعته بين أظهرهم مدّةً، تشرب ماء بئرها يومًا، وتدعه لهم يومًا، وكانوا يشربون لبنها يوم شربها، يحتلبونها فيملئون ما شاءوا من أوعيتهم وأوانيهم، كما قال في الآية الأخرى: {ونبّئهم أنّ الماء قسمةٌ بينهم كلّ شربٍ محتضرٌ} [القمر:28] وقال تعالى: {هذه ناقةٌ لها شربٌ ولكم شرب يومٍ معلومٍ} [الشّعراء:155] وكانت تسرح في بعض تلك الأودية ترد من فجّ وتصدر من غيره ليسعها؛ لأنها كانت تتضلّع عن الماء، وكانت -على ما ذكر -خلقًا هائلًا ومنظرًا رائعًا، إذا مرّت بأنعامهم نفرت منها. فلمّا طال عليهم واشتدّ تكذيبهم لصالحٍ النّبيّ، عليه السّلام، عزموا على قتلها، ليستأثروا بالماء كلّ يومٍ، فيقال: إنّهم اتّفقوا كلّهم على قتلها
قال قتادة: بلغني أنّ الّذي قتل النّاقة طاف عليهم كلّهم، أنّهم راضون بقتلها حتّى على النّساء في خدورهنّ، وعلى الصّبيان [أيضًا]
قلت: وهذا هو الظّاهر؛ لأنّ اللّه تعالى يقول: {فكذّبوه فعقروها فدمدم عليهم ربّهم بذنبهم فسوّاها} [الشّمس: 14] وقال: {وآتينا ثمود النّاقة مبصرةً فظلموا بها} [الإسراء: 59] وقال: {فعقروا النّاقة} فأسند ذلك على مجموع القبيلة، فدلّ على رضا جميعهم بذلك، واللّه أعلم.
وذكر الإمام أبو جعفر بن جريرٍ، رحمه اللّه، وغيره من علماء التّفسير في سبب قتل النّاقة: أنّ امرأةً منهم يقال لها: "عنيزة ابنة غنم بن مجلز" وتكنّى أمّ غنم كانت عجوزًا كافرةً، وكانت من أشدّ النّاس عداوةً لصالحٍ، عليه السّلام، وكانت لها بناتٌ حسانٌ ومالٌ جزيلٌ، وكان زوجها ذؤاب بن عمرٍو أحد رؤساء ثمود، وامرأةً أخرى يقال لها: "صدوف بنت المحيّا بن دهر بن المحيّا" ذات حسبٍ ومالٍ وجمالٍ، وكانت تحت رجلٍ مسلمٍ من ثمود، ففارقته، فكانتا تجعلان لمن التزم لهما بقتل النّاقة، فدعت "صدوف" رجلًا يقال له: "الحباب" وعرضت عليه نفسها إن هو عقر النّاقة، فأبى عليها. فدعت ابن عمٍّ لها يقال له: "مصدع بن مهرج بن المحيّا"، فأجابها إلى ذلك -ودعت "عنيزة بنت غنمٍ" قدار بن سالف بن جندع وكان رجلًا أحمر أزرق قصيرًا، يزعمون أنّه كان ولد زنية، وأنّه لم يكن من أبيه الّذي ينسب إليه، وهو سالفٌ، وإنّما هو من رجلٍ يقال له: "صهيادٌ" ولكن ولد على فراش "سالفٍ"، وقالت له: أعطيك أيّ بناتي شئت على أن تعقر النّاقة! فعند ذلك، انطلق "قدار بن سالفٍ" "ومصدع بن مهرجٍ"، فاستفزّا غواة من ثمود، فاتّبعهما سبعة نفرٍ، فصاروا تسعة رهطٍ، وهم الّذين قال اللّه تعالى: {وكان في المدينة تسعة رهطٍ يفسدون في الأرض ولا يصلحون} [النّمل:48] وكانوا رؤساء في قومهم، فاستمالوا القبيلة الكافرة بكمالها، فطاوعتهم على ذلك، فانطلقوا فرصدوا النّاقة حين صدرت عن الماء، وقد كمن لها "قدارٌ" في أصل صخرةٍ على طريقها، وكمن لها "مصدعٌ" في أصل أخرى، فمرّت على "مصدعٍ" فرماها بسهمٍ، فانتظم به عضلة ساقها وخرجت "أمّ غنم عنيزة"، وأمرت ابنتها وكانت من أحسن النّاس وجهًا، فسفرت عن وجهها لقدارٍ وذمّرته فشدّ على النّاقة بالسّيف، فكسف عرقوبها، فخرّت ساقطةً إلى الأرض، ورغت رغاة واحدةً تحذّر سقبها، ثمّ طعن في لبّتها فنحرها، وانطلق سقبها -وهو فصيلها -حتّى أتى جبلًا منيعًا، فصعد أعلى صخرةٍ فيه ورغا -فروى عبد الرّزّاق، عن معمر، عمّن سمع الحسن البصري أنه قال: يا ربّ أين أمّي؟ ويقال: إنّه رغا ثلاث مرّاتٍ. وإنّه دخل في صخرةٍ فغاب فيها، ويقال: بل اتّبعوه فعقروه مع أمّه، فاللّه أعلم
فلمّا فعلوا ذلك وفرغوا من عقر النّاقة، بلغ الخبر صالحًا، عليه السّلام، فجاءهم وهم مجتمعون، فلمّا رأى النّاقة بكى وقال: {تمتّعوا في داركم ثلاثة أيّامٍ [ذلك وعدٌ غير مكذوبٍ]} [هودٍ:65] وكان قتلهم النّاقة يوم الأربعاء، فلمّا أمسى أولئك التّسعة الرّهط عزموا على قتل صالحٍ [عليه السّلام] وقالوا: إن كان صادقًا عجّلناه قبلنا، وإن كان كاذبًا ألحقناه بناقته! {قالوا تقاسموا باللّه لنبيّتنّه وأهله ثمّ لنقولنّ لوليّه ما شهدنا مهلك أهله وإنّا لصادقون. ومكروا مكرًا ومكرنا مكرًا وهم لا يشعرون * فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنّا دمّرناهم وقومهم أجمعين * فتلك بيوتهم خاويةً بما ظلموا} الآية. [النّمل:49-52]
فلمّا عزموا على ذلك، وتواطؤوا عليه، وجاءوا من اللّيل ليفتكوا بنبيّ اللّه صالحٍ، أرسل اللّه، سبحانه وتعالى، وله العزّة ولرسوله، عليهم حجارةً فرضختهم سلفًا وتعجيلًا قبل قومهم، وأصبح ثمود يوم الخميس، وهو اليوم الأوّل من أيّام النّظرة، ووجوههم مصفرّةٌ كما وعدهم صالحٌ، عليه السّلام، وأصبحوا في اليوم الثّاني من أيّام التّأجيل، وهو يوم الجمعة، ووجوههم محمّرةٌ، وأصبحوا في اليوم الثّالث من أيّام المتاع وهو يوم السّبت، ووجوههم مسوّدةٌ، فلمّا أصبحوا من يوم الأحد وقد تحنّطوا وقعدوا ينتظرون نقمة اللّه وعذابه، عياذًا باللّه من ذلك، لا يدرون ماذا يفعل بهم، ولا كيف يأتيهم العذاب؟ و [قد] أشرقت الشّمس، جاءتهم صيحةٌ من السّماء ورجفة شديدةٌ من أسفل منهم، ففاضت الأرواح وزهقت النّفوس في ساعةٍ واحدةٍ {فأصبحوا في دارهم جاثمين} أي: صرعى لا أرواح فيهم، ولم يفلت منهم أحدٌ، لا صغيرٌ ولا كبيرٌ، لا ذكرٌ ولا أنثى -قالوا: إلّا جاريةً كانت مقعدة -واسمها "كلبة بنة السّلق"، ويقال لها: "الزّريقة" -وكانت كافرةً شديدة العداوة لصالحٍ، عليه السّلام، فلمّا رأت ما رأت من العذاب، أطلقت رجلاها، فقامت تسعى كأسرع شيءٍ، فأتت حيًّا من الأحياء فأخبرتهم بما رأت وما حلّ بقومها، ثمّ استسقتهم من الماء، فلمّا شربت، ماتت.
قال علماء التّفسير: ولم يبق من ذرّيّة ثمود أحدٌ، سوى صالحٍ، عليه السّلام، ومن اتّبعه، رضي اللّه عنهم، إلّا أنّ رجلًا يقال له: "أبو رغال"، كان لمّا وقعت النّقمة بقومه مقيما في الحرم، فلم يصبه شيءٌ، فلمّا خرج في بعض الأيّام إلى الحلّ، جاءه حجرٌ من السّماء فقتله.
وقد تقدّم في أوّل القصّة حديث "جابر بن عبد اللّه" في ذلك، وذكروا أنّ أبا رغالٍ هذا هو والد ثقيفٍ" الّذين كانوا يسكنون الطّائف
قال عبد الرّزّاق: قال معمر: أخبرني إسماعيل بن أميّة؛ أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم مرّ بقبر أبي رغالٍ فقال: «أتدرون من هذا؟» فقالوا: اللّه ورسوله أعلم. قال: «هذا قبر أبي رغالٍ، رجلٍ من ثمود، كان في حرم اللّه، فمنعه حرم اللّه عذاب اللّه. فلمّا خرج أصابه ما أصاب قومه، فدفن هاهنا، ودفن معه غصنٌ من ذهبٍ، فنزل القوم فابتدروه بأسيافهم، فبحثوا عنه، فاستخرجوا الغصن».
وقال عبد الرّزّاق: قال معمرٌ: قال الزّهريّ: أبو رغالٍ: أبو ثقيفٍ
هذا مرسلٌ من هذا الوجه، وقد روي متّصلًا من وجهٍ آخر، كما قال محمّد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أميّة، عن بجير بن أبي بجيرٍ قال: سمعت عبد اللّه بن عمرٍو يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول، حين خرجنا معه إلى الطّائف، فمررنا بقبرٍ فقال: «هذا قبر أبي رغالٍ، وهو أبو ثقيفٍ، وكان من ثمود، وكان بهذا الحرم فدفع عنه، فلمّا خرج [منه] أصابته النّقمة الّتي أصابت قومه بهذا المكان، فدفن فيه. وآية ذلك أنّه دفن معه غصن من ذهب، إن أنتم نبشم عنه أصبتموه [معه] فابتدره النّاس فاستخرجوا منه الغصن».
وهكذا رواه أبو داود، عن يحيى بن معينٍ، عن وهب بن جرير بن حازمٍ، عن أبيه، عن ابن إسحاق، به
قال شيخنا أبو الحجّاج المزيّ: وهو حديثٌ حسنٌ عزيزٌ
قلت: تفرّد بوصله "بجير بن أبي بجيرٍ" هذا، وهو شيخٌ لا يعرف إلا بهذا الحديث. قال يحيى ابن معينٍ: ولم أسمع أحدًا روى عنه غير إسماعيل بن أميّة.
قلت: وعلى هذا، فيخشى أن يكون وهم في رفع هذا الحديث، وإنّما يكون من كلام عبد اللّه بن عمرٍو، ممّا أخذه من الزّاملتين.
قال شيخنا أبو الحجّاج، بعد أن عرضت عليه ذلك: وهذا محتملٌ، واللّه أعلم). [تفسير القرآن العظيم: 3/ 439-443]

تفسير قوله تعالى: {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى: {فتولّى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربّي ونصحت لكم ولكن لا تحبّون النّاصحين (79)}
هذا تقريعٌ من صالحٍ، عليه السّلام، لقومه، لمّا أهلكهم اللّه بمخالفتهم إياه، وتمردهم على الله، وإبائهم عن قبول الحقّ، وإعراضهم عن الهدى إلى العمى -قال لهم صالحٌ ذلك بعد هلاكهم تقريعًا وتوبيخًا وهم يسمعون ذلك، كما ثبت في الصّحيحين: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لمّا ظهر على أهل بدرٍ، أقام هناك ثلاثًا، ثمّ أمر براحلته فشدّت بعد ثلاثٍ من آخر اللّيل فركبها ثمّ سار حتّى وقف على القليب، قليب بدرٍ، فجعل يقول: «يا أبا جهل بن هشامٍ، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، ويا فلان بن فلانٍ: هل وجدتم ما وعد ربّكم حقًّا؟ فإنّي وجدت ما وعدني ربّي حقًّا». فقال له عمر: يا رسول اللّه، ما تكلّم من أقوامٍ قد جيّفوا؟ فقال: «والّذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يجيبون».
وفي السّيرة أنّه، عليه السّلام قال لهم: «بئس عشيرة النّبيّ كنتم لنبيّكم، كذّبتموني وصدقني النّاس، وأخرجتموني وآواني النّاس، وقاتلتموني ونصرني النّاس، فبئس عشيرة النّبيّ كنتم لنبيّكم».
وهكذا صالحٌ، عليه السّلام، قال لقومه: {لقد أبلغتكم رسالة ربّي ونصحت لكم} أي: فلم تنتفعوا بذلك، لأنّكم لا تحبّون الحقّ ولا تتّبعون ناصحًا؛ ولهذا قال: {ولكن لا تحبّون النّاصحين}
وقد ذكر بعض المفسّرين أنّ كلّ نبيٍّ هلكت أمّته، كان يذهب فيقيم في الحرم، حرم مكّة، فاللّه أعلم.
وقد قال الإمام أحمد: حدّثنا وكيع، حدّثنا زمعة بن صالحٍ، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: لمّا مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بوادي عسفان حين حجّ قال: «يا أبا بكر، أيّ وادي هذا؟ » قال: هذا وادي عسفان. قال: «لقد مرّ به هودٌ وصالحٌ، عليهما السّلام، على بكرات حمر خطمها اللّيف، أزرهم العباء، وأرديتهم النّمار، يلبّون يحجّون البيت العتيق».
هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه، لم يخرجه أحدٌ منهم). [تفسير القرآن العظيم: 3/ 443-444]


رد مع اقتباس