عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 21 جمادى الآخرة 1435هـ/21-04-2014م, 04:19 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {ولقد مكّنّاكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلًا ما تشكرون (10) }
يقول تعالى ممتنًّا على عبيده فيما مكّن لهم من أنّه جعل الأرض قرارًا، وجعل لها رواسي وأنهارًا، وجعل لهم فيها منازل وبيوتًا، وأباح منافعها، وسخّر لهم السّحاب لإخراج أرزاقهم منها، وجعل لهم فيها معايش، أي: مكاسب وأسبابًا يتّجرون فيها، ويتسبّبون أنواع الأسباب، وأكثرهم مع هذا قليل الشّكر على ذلك، كما قال تعالى: {وإن تعدّوا نعمة اللّه لا تحصوها إنّ الإنسان لظلومٌ كفّارٌ} [إبراهيم: 34].
وقد قرأ الجميع: {معايش} بلا همزٍ، إلّا عبد الرّحمن بن هرمز الأعرج فإنّه همزها. والصّواب الّذي عليه الأكثرون بلا همزٍ؛ لأنّ معايش جمع معيشةٍ، من عاش يعيش عيشًا، ومعيشةٌ أصلها "معيشة" فاستثقلت الكسرة على الياء، فنقلت إلى العين فصارت معيشة، فلمّا جمعت رجعت الحركة إلى الياء لزوال الاستثقال، فقيل: معايش. ووزنه مفاعل؛ لأنّ الياء أصليّةٌ في الكلمة. بخلاف مدائن وصحائف وبصائر، جمع مدينةٍ وصحيفةٍ وبصيرةٍ من: مدن وصحف وأبصر، فإنّ الياء فيها زائدةٌ، ولهذا تجمع على فعائل، وتهمز لذلك، واللّه أعلم). [تفسير القرآن العظيم: 3/ 390-391]

تفسير قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) }

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {ولقد خلقناكم ثمّ صوّرناكم ثمّ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلّا إبليس لم يكن من السّاجدين (11) }
ينبّه تعالى بني آدم في هذا المقام على شرف أبيهم آدم، ويبيّن لهم عداوة عدوّهم إبليس، وما هو منطوٍ عليه من الحسد لهم ولأبيهم آدم، ليحذروه ولا يتّبعوا طرائقه، فقال تعالى: {ولقد خلقناكم ثمّ صوّرناكم ثمّ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا}، وهذا كقوله تعالى: {وإذ قال ربّك للملائكة إنّي خالقٌ بشرًا من صلصالٍ من حمإٍ مسنونٍ فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة} الآية [الحجر: 28 -30]، وذلك أنّه تعالى لمّا خلق آدم، عليه السّلام، بيده من طينٍ لازبٍ، وصوّره بشرًا سويًّا ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة بالسّجود له تعظيمًا لشأن الرّبّ تعالى وجلاله، فسمعوا كلّهم وأطاعوا، إلّا إبليس لم يكن من السّاجدين. وقد تقدّم الكلام على إبليس في أوّل تفسير "سورة البقرة".
وهذا الّذي قرّرناه هو اختيار ابن جريرٍ: أنّ المراد بذلك كلّه آدم، عليه السّلام.
وقال سفيان الثّوريّ، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرٍو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ: {ولقد خلقناكم ثمّ صوّرناكم} قال: خلقوا في أصلاب الرّجال، وصوّروا في أرحام النّساء.
رواه الحاكم، وقال: صحيحٌ على شرط الشّيخين، ولم يخرّجاه
ونقله ابن جريرٍ عن بعض السّلف أيضًا: أنّ المراد بخلقناكم ثمّ صوّرناكم: الذّرّيّة.
وقال الرّبيع بن أنسٍ، والسّدي، وقتادة، والضّحّاك في هذه الآية: {ولقد خلقناكم ثمّ صوّرناكم} أي: خلقنا آدم ثمّ صوّرنا الذّرّيّة.
وهذا فيه نظرٌ؛ لأنّه قال بعده: {ثمّ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} فدلّ على أنّ المراد بذلك آدم، وإنّما قيل ذلك بالجمع لأنّه أبو البشر، كما يقول اللّه تعالى لبني إسرائيل الّذين كانوا في زمن الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم: {وظلّلنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المنّ والسّلوى} [البقرة: 57] والمراد: آباؤهم الّذين كانوا في زمن موسى [عليه السّلام] ولكن لمّا كان ذلك منّةً على الآباء الّذين هم أصلٌ صار كأنّه واقعٌ على الأبناء. وهذا بخلاف قوله تعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالةٍ من طينٍ ثمّ جعلناه نطفةً في قرارٍ مكينٍ} [المؤمنون: 12 -13] فإنّ المراد منه آدم المخلوق من السّلالة وذرّيّته مخلوقون من نطفةٍ، وصحّ هذا لأنّ المراد من خلقنا الإنسان الجنس، لا معينا، والله أعلم). [تفسير القرآن العظيم: 3/ 391-392]

تفسير قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) }

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {قال ما منعك ألّا تسجد إذ أمرتك قال أنا خيرٌ منه خلقتني من نارٍ وخلقته من طينٍ (12) }
قال بعض النّحاة في توجيه قوله تعالى: {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} لا هاهنا زائدةٌ.
وقال بعضهم: زيدت لتأكيد الجحد، كقول الشّاعر:
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله
فأدخل "إن" وهي للنّفي، على "ما" النّافية؛ لتأكيد النّفي، قالوا: وكذلك هاهنا: {ما منعك ألا تسجد} مع تقدّم قوله: {لم يكن من السّاجدين}
حكاهما ابن جريرٍ وردّهما، واختار أنّ "منعك" تضمّن معنى فعلٍ آخر تقديره: ما أحوجك وألزمك واضطرّك ألّا تسجد إذ أمرتك، ونحو ذلك. وهذا القول قويٌّ حسنٌ، واللّه أعلم.
وقول إبليس لعنه اللّه: {أنا خيرٌ منه} من العذر الّذي هو أكبر من الذّنب، كأنّه امتنع من الطّاعة لأنّه لا يؤمر الفاضل بالسّجود للمفضول، يعني لعنه اللّه: وأنا خيرٌ منه، فكيف تأمرني بالسّجود له؟ ثمّ بيّن أنّه خيرٌ منه، بأنّه خلق من نارٍ، والنّار أشرف ممّا خلقته منه، وهو الطّين، فنظر اللّعين إلى أصل العنصر، ولم ينظر إلى التّشريف العظيم، وهو أنّ اللّه تعالى خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وقاس قياسًا فاسدًا في مقابلة نصّ قوله تعالى: {فقعوا له ساجدين} [ص:72] فشذّ من بين الملائكة بترك السّجود؛ فلهذا أبلس من الرّحمة، أي: أيس من الرّحمة، فأخطأ قبّحه اللّه في قياسه ودعواه أنّ النّار أشرف من الطّين أيضًا، فإنّ الطّين من شأنه الرّزانة والحلم والأناة والتّثبّت، والطّين محلّ النّبات والنّموّ والزّيادة والإصلاح. والنّار من شأنها الإحراق والطّيش والسّرعة؛ ولهذا خان إبليس عنصره، ونفع آدم عنصره في الرّجوع والإنابة والاستكانة والانقياد والاستسلام لأمر اللّه، والاعتراف وطلب التّوبة والمغفرة.
وفي صحيح مسلمٍ، عن عائشة، رضي اللّه عنها، قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «خلقت الملائكة من نورٍ، وخلق إبليس من مارجٍ من نارٍ، وخلق آدم ممّا وصف لكم» هكذا رواه مسلمٌ.
وقال ابن مردويه: حدّثنا عبد اللّه بن جعفرٍ، حدّثنا إسماعيل، عن عبد اللّه بن مسعودٍ، حدثنا نعيم ابن حمّادٍ، حدّثنا عبد الرّزّاق، عن معمر، عن الزّهريّ، عن عروة، عن عائشة قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «خلق اللّه الملائكة من نور العرش، وخلق الجانّ من [مارجٍ من] نارٍ، وخلق آدم ممّا وصف لكم». قلت لنعيم بن حمّادٍ: أين سمعت هذا من عبد الرّزّاق؟ قال: باليمن وفي بعض ألفاظ هذا الحديث في غير الصّحيح: «وخلقت الحور العين من الزّعفران».
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا القاسم، حدّثنا الحسين، حدّثنا محمّد بن كثيرٍ، عن ابن شوذب، عن مطرٍ الورّاق، عن الحسن في قوله: {خلقتني من نارٍ وخلقته من طينٍ} قال: قاس إبليس، وهو أوّل من قاس. إسناده صحيحٌ.
وقال: حدّثني عمرو بن مالكٍ، حدّثني يحيى بن سليمٍ الطّائفيّ عن هشامٍ، عن ابن سيرين قال: أوّل من قاس إبليس، وما عبدت الشّمس والقمر إلّا بالمقاييس إسنادٌ صحيحٌ أيضًا). [تفسير القرآن العظيم: 3/ 392-393]

تفسير قوله تعالى: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبّر فيها فاخرج إنّك من الصّاغرين (13) قال أنظرني إلى يوم يبعثون (14) قال إنّك من المنظرين (15) }
يقول تعالى مخاطبًا لإبليس بأمرٍ قدريٍّ كونيٍّ: {فاهبط منها} أي: بسبب عصيانك لأمري، وخروجك عن طاعتي، فما يكون لك أن تتكبّر فيها.
قال كثيرٌ من المفسّرين: الضّمير عائدٌ إلى الجنّة، ويحتمل أن يكون عائدًا إلى المنزلة الّتي هو فيها في الملكوت الأعلى.
{فاخرج إنّك من الصّاغرين} أي: الذّليلين الحقيرين، معاملةً له بنقيض قصده، مكافأةً لمراده بضدّه، فعند ذلك استدرك اللّعين وسأل النّظرة إلى يوم الدّين، قال: {أنظرني إلى يوم يبعثون * قال إنّك من المنظرين} أجابه تعالى إلى ما سأل، لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة الّتي لا تخالف ولا تمانع، ولا معقّب لحكمه، وهو سريع الحساب). [تفسير القرآن العظيم: 3/ 393]

تفسير قوله تعالى: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) }

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {قال فبما أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم (16) ثمّ لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين (17) }
يخبر تعالى أنّه لمّا أنظر إبليس {إلى يوم يبعثون} واستوثق إبليس بذلك، أخذ في المعاندة والتّمرّد، فقال: {فبما أغويتني لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم} أي: كما أغويتني.
قال ابن عبّاسٍ: كما أضللتني. وقال غيره: كما أهلكتني لأقعدنّ لعبادك -الّذين تخلقهم من ذرّيّة هذا الّذي أبعدتني بسببه -على {صراطك المستقيم} أي: طريق الحقّ وسبيل النّجاة، ولأضلّنّهم عنها لئلّا يعبدوك ولا يوحّدوك بسبب إضلالك إيّاي.
وقال بعض النّحاة: الباء هاهنا قسميّةٌ، كأنّه يقول: فبإغوائك إيّاي لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم.
قال مجاهدٌ: {صراطك المستقيم} يعني: الحقّ.
وقال محمّد بن سوقة، عن عون بن عبد اللّه: يعني طريق مكّة.
قال ابن جريرٍ: والصّحيح أنّ الصّراط المستقيم أعمّ من ذلك [كلّه].
قلت: لما روى الإمام أحمد: حدّثنا هاشم بن القاسم، حدّثنا أبو عقيل-يعني الثّقفيّ عبد اللّه بن عقيلٍ -حدّثنا موسى بن المسيّب، أخبرني سالم بن أبي الجعد عن سبرة بن أبي فاكه قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: «إنّ الشّيطان قعد لابن آدم بطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك؟ ». قال: «فعصاه وأسلم». قال: "وقعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنّما مثل المهاجر كالفرس في الطّول؟ فعصاه وهاجر، ثمّ قعد له بطريق الجهاد، وهو جهاد النّفس والمال، فقال: تقاتل فتقتل، فتنكح المرأة ويقسّم المال؟ ". قال: "فعصاه، فجاهد". قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «فمن فعل ذلك منهم فمات، كان حقًّا على اللّه أن يدخله الجنّة، أو قتل كان حقًّا على اللّه، عزّ وجلّ، أن يدخله الجنّة، وإن غرق كان حقًّا على اللّه أن يدخله الجنّة، أو وقصته دابّةٌ كان حقًّا على اللّه أن يدخله الجنّة»). [تفسير القرآن العظيم: 3/ 393-394]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) }

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {ثم لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين} قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {ثمّ لآتينّهم من بين أيديهم} أشكّكهم في آخرتهم، {ومن خلفهم} أرغّبهم في دنياهم {وعن أيمانهم} أشبه عليهم أمر دينهم {وعن شمائلهم} أشهّي لهم المعاصي.
وقال عليّ بن طلحة -في روايةٍ -والعوفي، كلاهما عن ابن عبّاسٍ: أمّا {من بين أيديهم} فمن قبل دنياهم، وأمّا {من خلفهم} فأمر آخرتهم، وأمّا {عن أيمانهم} فمن قبل حسناتهم، وأمّا {عن شمائلهم} فمن قبل سيّئاتهم.
وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة: أتاهم {من بين أيديهم} فأخبرهم أنّه لا بعث ولا جنّة ولا نار {ومن خلفهم} من أمر الدّنيا فزيّنها لهم ودعاهم إليها و {عن أيمانهم} من قبل حسناتهم بطّاهم عنها {وعن شمائلهم} زيّن لهم السّيّئات والمعاصي، ودعاهم إليها، وأمرهم بها. أتاك يا ابن آدم من كلّ وجهٍ، غير أنّه لم يأتك من فوقك، لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة اللّه.
وكذا روي عن إبراهيم النّخعي، والحكم بن عتيبة والسّدّيّ، وابن جريرٍ إلّا أنّهم قالوا: {من بين أيديهم} الدّنيا {ومن خلفهم} الآخرة.
وقال مجاهدٌ: "من بين أيديهم وعن أيمانهم": حيث يبصرون، "ومن خلفهم وعن شمائلهم": حيث لا يبصرون.
واختار ابن جريرٍ أنّ المراد جميع طرق الخير والشّرّ، فالخير يصدّهم عنه، والشّرّ يحببه لهم.
وقال الحكم بن أبانٍ، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {ثم لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم} ولم يقل: من فوقهم؛ لأنّ الرّحمة تنزل من فوقهم.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {ولا تجد أكثرهم شاكرين} قال: موحّدين.
وقول إبليس هذا إنّما هو ظنٌّ منه وتوهّمٌ، وقد وافق في هذا الواقع، كما قال تعالى: {ولقد صدّق عليهم إبليس ظنّه فاتّبعوه إلا فريقًا من المؤمنين * وما كان له عليهم من سلطانٍ إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممّن هو منها في شكٍّ وربّك على كلّ شيءٍ حفيظٌ} [سبأٍ: 20، 21].
ولهذا ورد في الحديث الاستعاذة من تسلّط الشّيطان على الإنسان من جهاته كلّها، كما قال الحافظ أبو بكرٍ البزّار في مسنده:
حدّثنا نصر بن عليٍّ، حدّثنا عمرو بن مجمّع، عن يونس بن خبّاب، عن ابن جبير بن مطعم -يعني نافع بن جبيرٍ -عن ابن عبّاسٍ -وحدّثنا عمر بن الخطّاب -يعني السّجستانيّ -حدّثنا عبد اللّه بن جعفرٍ، حدّثنا عبيد اللّه بن عمرٍو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن يونس بن خبّابٍ -عن ابن جبير بن مطعمٍ -عن ابن عبّاسٍ قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «اللّهمّ إنّي أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللّهمّ استر عورتي، وآمن روعتي واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بك اللّهمّ أن أغتال من تحتي». تفرّد به البزّار وحسّنه.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا وكيع، حدّثنا عبادة بن مسلمٍ الفزاريّ، حدّثني جبير بن أبي سليمان ابن جبير بن مطعمٍ، سمعت عبد اللّه بن عمر يقول: لم يكن رسول اللّه يدع هؤلاء الدّعوات حين يصبح وحين يمسي: «اللّهمّ إنّي أسألك العافية في الدّنيا والآخرة، اللّهمّ إنّي أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللّهمّ استر عوراتي، وآمن روعاتي، اللّهمّ احفظني من بين يديّ ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي». قال وكيعٌ: يعني الخسف.
ورواه أبو داود، والنّسائيّ، وابن ماجه، وابن حبّان، والحاكم من حديث عبادة بن مسلمٍ، به وقال الحاكم: صحيح الإسناد). [تفسير القرآن العظيم: 3/ 394-396]

تفسير قوله تعالى: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) }

قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {قال اخرج منها مذءومًا مدحورًا لمن تبعك منهم لأملأنّ جهنّم منكم أجمعين (18) }
أكّد تعالى عليه اللّعنة والطّرد والإبعاد والنّفي عن محلّ الملأ الأعلى بقوله: {اخرج منها مذءومًا مدحورًا}
قال ابن جرير: أما "المذؤوم" فهو المعيب، والذّأم غير مشدّد: العيب. يقال: "ذأمه يذأمه ذأمًا فهو مذءومٌ". ويتركون الهمز فيقولون: "ذمته أذيمه ذيمًا وذاما، والذّامّ والذّيم أبلغ في العيب من الذّمّ".
قال: "والمدحور": المقصى. وهو المبعد المطرود.
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: ما نعرف المذءوم" و "المذموم" إلّا واحدًا.
وقال سفيان الثّوريّ، عن أبي إسحاق، عن التّميميّ، عن ابن عبّاسٍ: {اخرج منها مذءومًا مدحورًا} قال: مقيتًا.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: صغيرًا مقيتًا. وقال السّدّيّ: مقيتًا مطرودًا. وقال قتادة: لعينًا مقيتًا. وقال مجاهدٌ: منفيًّا مطرودًا. وقال الربيع بن أنس: مذؤوما: منفيًّا، والمدحور: المصغّر.
وقوله تعالى: {لمن تبعك منهم لأملأنّ جهنّم منكم أجمعين} كقوله: {قال اذهب فمن تبعك منهم فإنّ جهنّم جزاؤكم جزاءً موفورًا * واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشّيطان إلا غرورًا * إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطانٌ وكفى بربّك وكيلا} [الإسراء: 63 -65] ). [تفسير القرآن العظيم: 3/ 396]


رد مع اقتباس