عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 21 جمادى الآخرة 1435هـ/21-04-2014م, 03:57 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {المص (1) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {المص (1) كتابٌ أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرجٌ منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين (2) اتّبعوا ما أنزل إليكم من ربّكم ولا تتّبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكّرون (3)}
تقدم القول في تفسير الحروف المقطعة التي في أوائل السور وذكر اختلاف المتأولين فيها، ويختص هذا الموضع زائدا على تلك الأقوال بما قاله السدي: إن المص هجاء اسم الله هو المصور، وبقول زيد بن علي إن معناه أنا الله الفاصل). [المحرر الوجيز: 3/ 509]

تفسير قوله تعالى: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) }

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {كتابٌ أنزل إليك ... الآية}، قال الفراء وغيره كتابٌ رفع على الخبر للحروف، كأنه قال هذه الحروف كتاب أنزل إليك، ورد الزجّاج على هذا القول بما لا طائل فيه، وقال غيره: كتابٌ رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هذا كتاب وأنزل إليك في موضع الصفة ل كتابٌ، ثم نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يبرم أو يستصحب من هذا الكتاب أو بسبب من أسبابه حرجا، ولفظ النهي هو للحرج ومعناه للنبي عليه السلام، وأصل الحرج الضيق، ومنه الحرجة الشجر الملتف الذي قد تضايق، و «الحرج» هاهنا يعم الشك والخوف والهم وكل ما يضيق الصدر، وبحسب سبب الحرج يفسر الحرج هاهنا، وتفسيره بالشك قلق، والضمير في منه عائد على الكتاب أي بسبب من أسبابه، و «من» هاهنا لابتداء الغاية، وقيل يعود على التبليغ الذي يتضمنه معنى الآية، وقيل على الابتداء.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا التخصيص كله لا وجه له إذ اللفظ يعم الجهات التي هي من سبب الكتاب ولأجله وذلك يستغرق التبليغ والإنذار وتعرض المشركين وتكذيب المكذبين وغير ذلك.
وقوله تعالى: {فلا يكن في صدرك حرجٌ منه}؛ اعتراض في أثناء الكلام، ولذلك قال بعض الناس إن فيه تقديما وتأخيرا، وقوله لتنذر اللام متعلقة ب أنزل. وقوله وذكرى معناه تذكرة وإرشاد، وذكرى في موضع رفع عطفا على قوله كتابٌ. فالتقدير هذه الحروف كتاب وذكرى، وقيل رفعه على جهة العطف على صفة الكتاب فالتقدير هذه الحروف كتاب منزل إليك وذكرى، فهي عطف على منزل داخلة في صفة الكتاب، وقيل ذكرى في موضع نصب بفعل مضمر تقديره لتنذر به وتذكر ذكرى للمؤمنين، وقيل نصبها على المصدر وقيل ذكرى في موضع خفض عطفا على قوله: {لتنذر} أي لإنذارك وذكرى). [المحرر الوجيز: 3/ 509-510]

تفسير قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) }

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {اتّبعوا ما أنزل إليكم من ربّكم ... الآية}، قال الطبري وحكاه: التقدير قل اتبعوا، فحذف القول لدلالة الإنذار المتقدم الذكر عليه، وقالت فرقة: قوله: اتبعوا أمر يعم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمته.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والظاهر أن يكون أمرا لجميع الناس أي اتبعوا ملة الإسلام والقرآن، وقرأ الجحدري «ابتغوا ما أنزل»، من الابتغاء، وقرأ مجاهد «ولا تبتغوا» من الابتغاء أيضا، وقوله أولياء، يريد كل ما عبد واتبع من دون الله كالأصنام والأحبار والكهان والنار والكواكب وغير ذلك، والضمير في قوله من دونه راجع على ربّكم، هذا أظهر وجوهه وأبينها، وقيل يعود على قوله اتّبعوا ما، وقيل يعود على الكتاب المتقدم الذكر، وقليلًا نعت لمصدر نصب بفعل مضمر، وقال مكي هو منصوب بالفعل الذي بعده، قال الفارسي وما في قوله ما تذكّرون موصولة بالفعل وهي مصدرية، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر «تذكّرون» بتشديد الذال والكاف، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص «تذكّرون» بتخفيف الذال وتشديد الكاف، وقرأ ابن عامر «يتذكرون» بالياء كناية عن غيب، وروي عنه أنه قرأ «تتذكرون» بتاءين على مخاطبة حاضرين). [المحرر الوجيز: 3/ 510-511]

تفسير قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) }

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وكم من قريةٍ أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون (4) فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلاّ أن قالوا إنّا كنّا ظالمين (5) فلنسئلنّ الّذين أرسل إليهم ولنسئلنّ المرسلين (6) فلنقصّنّ عليهم بعلمٍ وما كنّا غائبين (7)}
كم في موضع رفع بالابتداء والخبر أهلكناها، ويصح أن يكون الخبر في قوله فجاءها وأهلكناها صفة، ويصح أن تكون في موضع نصب بفعل مقدر بعدها تقديره وكم أهلكنا من قرية أهلكناها، وقدر الفعل بعدها- وهي خبرية- تشبيها لها بالاستفهامية في أن لها في كل حال صدر الكلام، وقالت فرقة المراد وكم من أهل قرية وحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقام المضاف، وقالت فرقة إنما عبر بالقرية لأنها أعظم في العقوبة إذا هلك البشر وقريتهم، وقد بين في آخر الآية بقوله أو هم أن البشر داخلون في الهلاك، فالآية على هذا التأويل تتضمن هلاك القرية وأهلها جميعا، وعلى التأويل الأول تتضمن هلاك الأهل ولا معنى لذكر القرية، والمراد بالآية التكثير، وقرأ ابن أبي عبلة: «وكم من قرية أهلكناهم فجاءهم بأسنا». وقوله فجاءها يقتضي ظاهره أن المجيء بعد الإهلاك، وذلك مستحيل فلم يبق إلا أن يعدل على ظاهر هذا التعقيب فقيل الفاء قد تجيء بمنزلة الواو ولا تعطى رتبة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ضعيف وقيل عبر عن إرادة الإهلاك بالإهلاك، قال مكي في المشكل: مثل قوله: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ} [النحل: 98].
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا يحتج به في تأويل من قال الفاء في هذه الآية لتعقيب القول، وقيل المعنى «أهلكناها» بالخذلان وقلة التوفيق فجاءها بأسنا بعد ذلك، وقال الفراء وحكاه الطبري أن الإهلاك هو مجيء البأس ومجيء البأس هو الإهلاك فلما تلازما لم يبال أيهما قدم في الرتبة، وقيل إن الفاء لترتيب القول فقط فكأنه أخبر عن قرى كثيرة أنه أهلكها ثم قال فكان من أمرها مجيء البأس.
وبياتاً نصب على المصدر في موضع الحال، وقائلون من القائلة، وإنما خص وقتي الدعة والسكون لأن مجيء العذاب فيهما أفظع وأهول لما فيه من البغت والفجأة، وأو في هذا الموضع كما تقول: الناس في فلان صنفان حامد أو ذام، فكأنه قال جاءهم بأسنا فرقتين بائتين أو قائلين، وهذا هو الذي يسمى اللف، وهو إجمال في اللفظ يفرقه ذهن المخاطب دون كلفة، والبأس: العذاب، وقيل: المراد أو وهم قائلون فكره اجتماع حرفي العطف فحذفت الواو وهذا تكلف لأن معنى اللف باق). [المحرر الوجيز: 3/ 511-512]

تفسير قوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) }

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {فما كان دعواهم ... الآية}، تبين في هذه الآية غاية البيان أن المراد في الآية قبلها أهل القرى، والدعوى في كلام العرب لمعنيين، أحدهما الدعاء قال الخليل: تقول اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين ومنه قول عز وجل: {فما زالت تلك دعواهم} [الأنبياء: 15].
ومنه قول الشاعر [الطويل]:
وإن مذلت رجلي دعوتك أشتفي ....... بدعواك من مذل بها فيهون
والثاني الادعاء، فقال الطبري: هي في هذا الموضع يعني الدعاء.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويتوجه أن يكون أيضا بمعنى الادعاء، لأن من ناله مكروه أو حزبه حادث فمن شأنه أن يدعو كما ذهب إليه المفسرون في فعل هؤلاء المذكورين في هذه الآية، ومن شأنه أيضا أن يدعي معاذير وأشياء تحسن حاله وتقيم حجته في زعمه، فيتجه أن يكون هؤلاء بحال من يدعي معاذير ونحوها، فأخبر الله عنهم أنهم لم تكن لهم دعوى ثم استثنى من غير الأول، كأنه قال لم يكن دعاء أو ادعاء إلا الإقرار والاعتراف، أي هذا كان بدل الدعاء أو الادعاء، وتحتمل الآية أن يكون المعنى فما آلت دعواهم التي كانت في حال كفرهم إلا إلى اعتراف، ونحو من الآية قول الشاعر: [الفرزدق]
وقد شهدت قيس فما كان نصرها ....... قتيبة إلا عضها بالأباهم
واعترافهم وقولهم إنّا كنّا ظالمين هو في المدة بين ظهور العذاب إلى إتيانه على أنفسهم، وفي ذلك مهلة بحسب نوع العذاب تتسع لهذه المقالة وغيرها، وروى ابن مسعود عن النبي عليه السلام أنه قال «ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم». وفسر عبد الملك بن ميسرة هذا الحديث بهذه الآية. ودعواهم خبر كان، واسمها إلّا أن قالوا وقيل بالعكس). [المحرر الوجيز: 3/ 512-514]

تفسير قوله تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) }

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {فلنسئلنّ الّذين أرسل إليهم ... الآية}، وعيد من الله عز وجل لجميع العالم، أخبر أنه يسأل الأمم أجمع عما بلغ إليهم عنه وعن جميع أعمالهم ويسأل النبيين عما بلغوا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وقد نفي السؤال في آيات وذلك هو سؤال الاستفهام الحقيقي وقد أثبت في آيات كهذه الآية وهذا هو سؤال التقرير، فإن الله قد أحاط علما بكل ذلك قبل السؤال فأما الأنبياء والمؤمنون فيعقبهم جوابهم رحمة وكرامة، وأما الكفار ومن نفذ عليه الوعيد من العصاة فيعقبهم جوابهم عذابا وتوبيخا، فمن أنكر منهم قص عليه بعلم، وقرأ ابن مسعود وابن عباس «فلنسألن الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا ولنسألن المرسلين»). [المحرر الوجيز: 3/ 514]

تفسير قوله تعالى: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) }

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {فلنقصّنّ}؛ أي فلنسردن عليهم أعمالهم قصة قصة، بعلمٍ أي بحقيقة ويقين، قال ابن عباس: يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: يشبه أن يكون الكلام هنا استعارة إذ كل شيء فيه مقيد، وما كنّا غائبين أي ما كنا من لا يعلم جميع تصرفاتهم كالغائب عن الشيء الذي لا يعرف له حالا). [المحرر الوجيز: 3/ 514]

تفسير قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {والوزن يومئذٍ الحقّ فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون (8) ومن خفّت موازينه فأولئك الّذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون (9)}
الوزن مصدر وزن يزن، ورفعه بالابتداء والحقّ خبره، ويومئذٍ ظرف منتصب ب الوزن ويصح أن يكون يومئذٍ خبر الابتداء، والحقّ نعت ل الوزن والتقدير الوزن الحق ثابت أو ظاهر يومئذ، ويومئذٍ إشارة إلى يوم القيامة والفصل بين الخلائق، واختلف الناس في معنى الوزن والموازين فقالت فرقة: إن الله عز وجل أراد أن يعلم عباده أن الحساب والنظر يوم القيامة هو في غاية التحرير ونهاية العدل فمثل لهم في ذلك بالوزن والميزان إذ لا يعرف البشر أمرا أكثر تحريرا منه، فاستعير للعدل وتحرير النظر لفظة الوزن والميزان كما استعار ذلك أبو طالب في قوله:
بميزان قسط لا يخس شعيرة ....... له حاكم من نفسه غير عائل
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا القول أصح من الأول من جهات، أولها أن ظواهر كتاب الله عز وجل تقتضيه وحديث الرسول عليه السلام ينطق به، من ذلك: قوله لبعض الصحابة وقد قال له يا رسول الله أين أجدك في القيامة؟ فقال: «اطلبني عند الحوض فإن لم تجدني فعند الميزان»، ولو لم يكن الميزان مرئيا محسوسا لما أحاله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الطلب عنده، وجهة أخرى أن النظر في الميزان والوزن والثقل والخفة المقترنات بالحساب لا يفسد شيء منه ولا تختل صحته، وإذا كان الأمر كذلك فلم نخرج من حقيقة اللفظ إلى مجازه دون علة؟ وجهة ثالثة وهي أن القول في الميزان هو من عقائد الشرع الذي لم يعرف إلا سمعا، وإن فتحنا فيه باب المجاز غمرتنا أقوال الملحدة والزنادقة في أن الميزان والصراط والجنة والنار والحشر ونحو ذلك إنما هي ألفاظ يراد بها غير الظاهر.
وروي هذا القول عن مجاهد والضحاك وغيره، وكذلك استعير على قولهم الثقل والخفة لكثرة الحسنات وقلتها، وقال جمهور الأمة: إن الله عز وجل أراد أن يعرض لعباده يوم القيامة تحرير النظر وغاية العدل بأمر قد عرفوه في الدنيا وعهدته أفهامهم، فميزان القيامة له عمود وكفتان على هيئة موازين الدنيا، قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: صاحب الموازين يوم القيامة جبريل عليه السلام، وقالوا: هذا الذي اقتضاه لفظ القرآن ولم يرده نظر.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فينبغي أن يجري في هذه الألفاظ إلى حملها على حقائقها، وأما «الثقل» و «الخفة» فإن الآثار تظاهرت بأن صحائف الحسنات والسيئات توضع في كفتي الميزان فيحدث الله في الجهة التي يريد ثقلا وخفة على نحو إحداثه ذلك في جسم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وقت نزول الوحي عليه، ففي الصحيح من حديث زيد بن ثابت أنه قال: كنت أكتب حتى نزلت: {غير أولي الضّرر} [النساء: 95]، وفخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على فخذي حتى كادت أن ترض فخذي، وفي الحديث أنه كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته بركت به عجزا عن حمله لثقل الحادث فيه، ولا بد لنا أن نعلم أن الثقل الحادث مع الحسنات إنما يتعلق بجسم، إذ العرض لا يقوم بالعرض، فجائز أن يحدث الثقل في الصحائف وهو أقربها إلى الظن، وجائز أن يحدث في ذلك من الأجسام المجاورة لتلك الحال، وإلى حدوثه في الصحائف ذهب أبو المعالي، ورويت في خبر الميزان آثار عن صحابة وتابعين في هيئته وطوله وأحواله لم تصح بالإسناد، فلم نر للإطالة بها وجها، وقال الحسن فيما روي عنه: بلغني أن لكل أحد يوم القيامة ميزانا على حدة.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا قول مردود الناس على خلافه، وإنما لكل أحد وزن يختص به والميزان واحد، وروي عن مجاهد في قوله ثقلت موازينه أن «الموازين» الحسنات نفسها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وجمع لفظ «الموازين» إذ في الميزان موزونات كثيرة فكأنه أراد التنبيه عليها بجمعه لفظ الميزان. والمفلحون في اللغة المدركون لبغيتهم الناجحون في طلبهم ومنه قول عبيد: [الرجز]
أفلح بما شئت فقد يبلغ بالض ....... ضعف وقد يخدع الأريب
فأما قول الشاعر: [المنسرح]
... ... ... ... ....... والمسي والصبح لا فلاح معه
فقد قيل إنه بمعنى البقاء.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: والبقاء بلوغ بغية فالمعنيان متقاربان، ووزن الله تعالى أعمال العباد مع علمه بدقائق الأشياء وجلائلها نظير كتبه أعمالهم في صحائفهم واستنساخه ذلك ونظير استنطاقه جوارحهم بالشهادة عليهم إقامة للحجة وإيضاحا، فقد تقرر في الشرع أن كلمة التوحيد ترجح ميزان من وزنت في أعماله ولا بد، فإن قال قائل كيف تثقل موازين العصاة من المؤمنين بالتوحيد ويصح لهم حكم الفلاح ثم تدخل طائفة منهم النار وذلك شقاء لا محالة؟ فقالت طائفة إنه توزن أعمالهم دون التوحيد فتخف الحسنات فيدخلون النار ثم عند إخراجهم يوزن التوحيد فتثقل الحسنات فيدخلون الجنة، وأيضا فمعرفة العاصي أنه غير مخلد فلاح وإن تقدمه شقاء على جهة التأديب). [المحرر الوجيز: 3/ 514-518]

تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) }

قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {ومن خفّت موازينه ... الآية}، المعنى من خفت كفة حسناته فشالت، وخسروا أنفسهم أي بالهلاك والخلود في النار وتلك غاية الخسارة، وقوله: بما كانوا أي جزاء بذلك كما تقول أكرمتك بما أكرمتني، و «ما» في هذا الموضع مصدرية، و «الآيات» هنا البراهين والأوامر والنواهي ويظلمون أي يضعونها في غير مواضعها بالكفر والتكذيب). [المحرر الوجيز: 3/ 518]


رد مع اقتباس