عرض مشاركة واحدة
  #13  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 11:31 AM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (35) إلى الآية (39) ]

{وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)}


قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قال عباس: سألت أبا عمرو عن [الشِّجَرة] فكرهها، وقال: يقرأ بها برابر مكة وسودانها.
[المحتسب: 1/73]
وقال هارون الأعور عن بعض العرب: تقول الشِّجرة، وقال ابن أبي إسحاق: لغة بني سُليم الشِّجرة.
قال أبو الفتح: حكى أبو الفضل الرياشي قال: كنا عند أبي زيد وعندنا أعرابي فقلت له: إنه يقول الشِّيَرَة، فسأله فقالها، فقالت له: سله عن تصغيرها، فسأله فقال: شُيَيْرَة.
وأنشد الأصمعي لبعض الرجاز في أرجوزة طويلة:
تحسبه بين الإكام شِيَرة
وإذا كانت الياء فاشية في هذا الحرف -كما ترى- فيجب أن تجعل أصلًا يساوق الجيم، ولا تُجعل بدلًا من الجيم، كما تجعل الجيم بدلًا من الياء في قولهم: رجل فُقَيْمِج؛ أي: فُقَيْمِي، وعَربَانِج؛ أي: عَرَبَانِيّ، وقوله:
حتى إذا ما أمسجت وأمسجا
يريد أمست وأمسى. قال أبو علي: هذا يدلك على أن ما حذف لالتقاء الساكنين في حكم الحاضر الملفوظ به. قال: ألا ترى أنه أبدل من لام أمسيت بعد أن قدرها ملفوظًا بها، ولو كان الحذف ثابتًا هنا لما جاز أن يبدل من اللام شيء؛ لأن البدل إنما هو من ملفوظ به، كما أن البدل ملفوظ به.
قال: وليست كذلك لام عَشِيَّة إذا حقرتها فقلت: عُشيَّة؛ لأن الياء الثانية من عُشَيِّية لم تحذف لالتقاء الساكنين؛ لأنه لا ساكنين هناك، وإنما حذفت حذفًا للتخفيف؛ فلذلك سقط
[المحتسب: 1/74]
قول أبي العباس في تحقير العرب عَشِيَّة على عُشَيْشِيَة؛ لأن الياء لم تثبت هنا فتبدل منها.
وقال أبو الحسن: إن قومًا يقولون في تحقير فَعلية من الياء: إن المحذوف منها الياء الثانية، فعلى هذا قال أبو علي ما قال.
ومما أبدلت فيه الجيم من الياء قوله -ورويناه عن غير وجه:
خالي عُوَيف وأبو عَلِجِّ ... المطعمان اللحمَ بالعَشجِّ
وبالغدواة فلق البَرْنِجِّ ... يُقْلَع بالوَد وبالصِّيصِجِّ
وروينا أيضًا قوله:
يا رب إن كنتَ قلبت حِجَّتِج ... فلا يزال شاحج يأتيك بِج
[المحتسب: 1/75]
قال أبو النجم:
كأن في أذنابهن الشُّوَّلِ ... من عبس الصيف قرون الإجَّل
يريد: الإيَّل.
فقد يجوز أن تكون الجيم في شِجرَة بدلًا من الياء في شيرة لفشو شيرة، وقلة شِجرة). [المحتسب: 1/76]

قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فأزلّهما الشّيطان)
قرأ حمزة وحده: (فأزالهما) بألف مع التخفيف.
وسائر القراء قرأوا: (فأزلّهما) بالتشديد بغير ألف.
قال أبو منصور: من قرأ: (فأزالهما) فهو من زال يزول، ومعناه: فنحّاهما.
ومن قرأ: (فأزلّهما) فهو من زللت أزلّ، وأزلني غيري، ولزللت وجهان: يصلح أن يكون الخطيئة، فأزلهما الشيطان، أي: كسبهما الزلة.
ويصلح أن يكون (فأزلّهما) أي: نحاهما.
وكلتا القراءتين جيدة حسنة، قال ذلك أبو إسحاق الزجاج، والله أعلم بما أراد). [معاني القراءات وعللها: 1/147]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (25- وقوله تعالى: {فأزلهما الشيطان عنها}
قرأ حمزة وحده: {فأزالهما}.
وقرأ الباقون: {فأزلهما} فحجة من قرأ {فأزلهما} أنه جعل من الزلل في
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/81]
الدين، ومن ذلك قولهم: «زلة العالم»، ومن قرأ {فأزالهما} أي: أزالهما عن مكانهما من الجنة، ومعنى قوله {فأزلهما الشيطان} أي: زلاهما بقبولهما من الشيطان، كما تقول: تعلم زيد من عمرو كلمة أهلكته، وإنما معناه: هلك هو بقبولها منه.
فأما رواية أبي عبيد عن حمزة {فأزالهما} بالإمالة فإنه غلط على حمزة؛ لأن من شرط حمزة أن يميل من نحو هذا ما كانت فاء الفعل مكسورة إذا ردها المتكلم إلى نفسه نحو: خاف وخفت، وضاق وضقت، وزال وزلت، {وأما فأزالهما} فإنك تقول: أزلت، فالزاي مفتوحة كما قرأ: {فلما زاغوا} بالإمالة {أزاغ الله} بالفتح). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/82]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله تعالى: فأزلّهما الشّيطان عنها [البقرة/ 36].
فقرأ حمزة وحده: فأزالهما بألف خفيفة، وقرأ الباقون: فأزلّهما مشدّدا بغير ألف.
قال أبو بكر أحمد: وروى أبو عبيد: أنّ حمزة قرأ:
فأزالهما بالإمالة، وهذا غلط.
بسم الله: حجة حمزة في قراءته (فأزالهما الشيطان
[الحجة للقراء السبعة: 2/14]
عنها) أن قوله: يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة وكلا منها [البقرة/ 35] تأويله: أثبتا فثبتا، فأزالهما الشيطان، فقابل الثبات بالزوال، الذي هو خلافه. ومثل ذلك قوله تعالى:
فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق [الشعراء/ 63] تأويله: فضرب فانفلق، ومثله: فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففديةٌ [البقرة/ 196] أي:
فحلق، فعليه فدية. ونسب الفعل إلى الشيطان، لأن زوالهما عنها إنما كان بتزيينه ووسوسته، وتسويله، فلما كان ذلك منه سبب زوالهما عنها أسند الفعل إليه. ومثل هذا قوله تعالى:
وما رميت إذ رميت ولكنّ اللّه رمى [الأنفال/ 17] فالرمي
كان للنبي صلّى الله عليه وسلم حيث رمى فقال: «شاهت الوجوه»
إلا أنه لما كان بقوة الله وإرادته نسب إليه. ومما يقوي قراءته قوله تعالى:
فأخرجهما ممّا كانا فيه [البقرة/ 36] فقوله: فأخرجهما في المعنى قريب من أزالهما، ألا ترى أن إخراجه إياهما منها، إزالة منه لهما عما كانا فيه. فإن قال قائل: ما ننكر أن يكون فاعل أخرجهما، لا يكون ضمير الشيطان ولكن المصدر الذي ذكر فعله كقولهم: من كذب كان شرّا له، فالدّلالة على أن فاعله ضمير الشيطان، قوله في الأخرى: يا بني آدم لا يفتننّكم الشّيطان كما أخرج أبويكم من الجنّة [الأعراف/ 27].
[الحجة للقراء السبعة: 2/15]
ففاعل أخرجهما: الشيطان، كما بيّن ذلك في هذه.
ويقوي قراءته أيضا تأويل من تأوّل أن: فأزلّهما من زلّ، الذي هو عثر، ألا ترى أن ذلك قريب من الإزالة في المعنى.
فإن قال قائل: فإنه إذا قرأ: فأزالهما كان قوله بعد:
فأخرجهما تكريرا، فالقراءة الأخرى أرجح، لأنها لا تكون على التكرير، قيل: إن قوله: أخرجهما، ليس بتكرير لا فائدة فيه، ألا ترى أنه قد يجوز أن يزيلهما عن مواضعهما، ولا يخرجهما مما كانا فيه من الدعة والرفاهية، وإذا كان كذلك لم يكن تكريرا غير مفيد. وعلى أن التكرير في مثل هذا الموضع لتفخيم القصّة وتعظيمها بألفاظ مختلفة ليس بمكروه ولا مجتنب، بل هو مستحبّ مستعمل، كقول القائل: أزلت نعمته، وأخرجته من ملكه، وغلّظت عقوبته. وقالوا: زال عن موضعه وأزلته، وفي التنزيل: إنّ اللّه يمسك السّماوات والأرض أن تزولا [فاطر/ 41]. وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال [إبراهيم/ 46] وقال الهذليّ:
فأزال خالصها بأبيض ناصح... من ماء ألهاب بهنّ التّألب
[الحجة للقراء السبعة: 2/16]
فهذا على ضربين أحدهما: أن يريد: أزال خلوص خالصها بماء أبيض شاب هذه العسل به، فحذف المضاف. أو يكون وضع خالصها موضع خلوصها، كقولهم: العاقبة والعافية، وقوله:
ولا خارجا من فيّ زور كلام في قول من جعل «لا أشتم» جوابا للقسم. والخالص من الماء: الأبيض الصافي، فاستعاره للعسل، لأنهم يصفونها بالبياض في نحو:
وما ضرب بيضاء يأوي مليكها وأنشد السّكّريّ للعجاج:
من خالص الماء وما قد طحلبا حجة من قرأ فأزلّهما الشّيطان [البقرة/ 36] أن أزلّهما يحتمل تأويلين، أحدهما: كسبهما الزّلّة. والآخر: أن يكون أزلّ من زلّ الذي يراد به: عثر. فالدّلالة على الوجه الأول ما جاء في التنزيل من تزيينه لهما تناول ما حظر عليهما جنسه،
[الحجة للقراء السبعة: 2/17]
بقوله: ما نهاكما ربّكما عن هذه الشّجرة [الأعراف/ 20] إلى قوله: لمن النّاصحين وقوله: فوسوس لهما الشّيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما [الأعراف/ 20].
وقد نسب كسب الإنسان الزلّة إلى الشيطان في قوله تعالى:
إنّما استزلّهم الشّيطان ببعض ما كسبوا [آل عمران/ 55] واستزلّ وأزلّ كقولهم: استجاب وأجاب، واستخلف لأهله وأخلف، فكما أنّ استزلّهم من الزّلّة، والمعنى فيه كسبهم الشيطان الزّلّة، كذلك قوله تعالى: فأزلّهما الشّيطان والوجه الآخر أن يكون فأزلّهما من: زل عن المكان، إذا عثر فلم يثبت عليه، ويدل على هذا قوله تعالى:
فأخرجهما ممّا كانا فيه [البقرة/ 36] فكما أن خروجه عن الموضع الذي هو فيه انتقال منه إلى غيره، كذلك عثاره فيه وزليله.
فأما قوله تعالى: فإن زللتم من بعدما جاءتكم البيّنات فاعلموا [البقرة/ 209] فيحتمل وجهين، أحدهما: زللتم من الزّلة، كأن المعنى: فإن صرتم ذوي زلّة، ويجوز أن يراد به العثار، فشبّه المعنى بالعين، فاستعمل الذي هو العثار، والمراد به: الخطأ، وخلاف الصواب.
ومن هذا الباب قول ابن مقبل:
[الحجة للقراء السبعة: 2/18]
يكاد ينشقّ عنه سلخ كاهله... زلّ العثار وثبت الوعث والغدر
السّلخ: مصدر سلخته سلخا، إلا أنه أريد به في هذا المكان المسلوخ، ألا ترى أن المنشقّ إنما يكون الإهاب دون الحدث. وقوله: زلّ العثار، أي: زلّ عند العثار، يريد أنه لفطنته يزل عن الموضع الذي يعثر فيه فلا يعثر، ويكون المصدر في هذا الموضع يراد به المفعول كأنه: المكان المعثور فيه، ومثل ذلك قوله:
على حتّ البراية...
أي: عند البراية.
وقول النابغة:
رابي المجسّة...
أي: عند المجسّة.
[الحجة للقراء السبعة: 2/19]
ومثله: بضّة المتجرّد أي: عند المتجرّد، أي: التجريد.
ومثله للبيد:
صائب الجذمة أي: صائب عند الجذمة، يقول: هو قاصد عند القطع، ومثله قول أوس:
كشف اللّقاء أي: عنده.
فأما قوله: زلّ، فإنه صفة، ككهل، وغيل، وفسل، مما يدلّك على ذلك مقابلته بثبت الذي هو خلافه.
والغدر فيما فسّر عن أبي عمرو في أكثر ظني: مكان متعاد.
والوعث: السهل الذي تسوخ فيه أخفاف الإبل، والمعنى في:
ثبت الوعث، أي: ثبت عند الوعث كما كان في المعنى في:
زلّ العثار، أي: زلّ عند العثار، وإذا كان الغدر هذا الذي فسر،
[الحجة للقراء السبعة: 2/20]
فما أنشده أبو زيد:
يخبطن بالأيدي مكانا ذا غدر تقديره: مكانا غدرا. وتأويل إدخال قوله: «ذا» فيه أنه يوصف بهذا، كأنه قال: مكانا صاحب هذا الوصف. ومن هذا الباب قولهم: «من أزلّت إليه نعمة فليشكرها» كأنه زلّت النعمة إليه، أي: تعدّت. وأزللتها أنا إليه، عدّيتها، كما أنّ قوله:
قام إلى منزعة زلخ فزل معناه: تعدّى من مكانه إلى مكان آخر. وكذلك قوله:
وإنّي وإن صدّت لمثن وقائل... عليها بما كانت إلينا أزلّت
تقديره: أزلّته، ليعود الضمير إلى الموصول.
[الحجة للقراء السبعة: 2/21]
وأما الشيطان فهو فيعال من شطن مثل البيطار، والغيداق.
وليس بفعلان من قوله:
وقد يشيط على أرماحنا البطل ألا ترى أن سيبويه حكى: شيطنته فتشيطن، فلو كان من يشيط لكان شيطنته فعلنته، وفي أنّا لا نعلم هذا الوزن جاء في كلامهم ما يدلك أنه: فيعلته، مثل بيطرته، ومثل هينم، وفي قول أمية أيضا دلالة عليه، وهو قوله:
أيّما شاطن عصاه عكاه... ثم يلقى في السّجن والأكبال
فكما أنّ شاطن فاعل، والنون لام، كذلك شيطان فيعال.
ولا يكون فعلان من يشيط. فإن قلت: فقد أنشد الكسائيّ أو غيره:
[الحجة للقراء السبعة: 2/22]
وقد منّت الخذواء منّا عليهم... وشيطان إذ يدعوهم ويثوّب
ففي ترك صرف شيطان دلالة على أنه مثل: سعدان وحمدان. قيل: لا دلالة في ترك صرف شيطان على ما ذكرت، ألا ترى أنه يجوز أن يكون قبيلة، ويجوز أن يكون اسم مؤنّث؟
فلا يلزم صرفها لذلك، لا لأنّ النون زائدة). [الحجة للقراء السبعة: 2/23]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فأزلهما الشّيطان عنها فأخرجهما ممّا كانا فيه}
قرأ حمزة (فأزالهما الشّيطان عنها) بالألف أي نحاهما عن الحال الّتي كانا عليها من قول القائل أزال فلان فلانا عن موضعه إذا نحاه عنه وزال هو وحجته قوله {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة} أي اثبتا فثبتا فأزالهما الشّيطان فقابل الثّبات بالزوال الّذي هو خلافه وممّا يقوي قراءته قوله {فأخرجهما ممّا كانا فيه} فإخراجهما في المعنى قريب من إزالتهما
وقرأ الباقون فأزلهما من زللت وأزلني غيري أي أوقعهما في الزلل وهو أن يزل الإنسان عن الصّواب إلى الخطأ والزلة وحجتهم قوله إنّما استزلهم الشّيطان ونسب الفعل إلى الشّيطان لأنّهما زلا بإغواء الشّيطان إيّاهما فصار كأنّه أزلهما). [حجة القراءات: 94]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (19- قوله: {فأزلهما} قرأ حمزة بألف مخففة، وقرأه الباقون بغير ألف مشددًا.
وعلة من قرأ بالألف أنه جعله من الزوال، وهو التنحية، واتبع في ذلك مطابقة معنى ما قبله على الضد، وذلك أنه قال تعالى ذكره لآدم: {اسكن أنت وزوجك الجنة} «35» فأمرها بالثبات في الجنة، وضد الثبات الزوال، فسعى
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/235]
إبليس اللعين فأزالهما بالمعصية عن المكان الذي أمرهما الله بالثبات فيه مع الطاعة، فكان الزوال به أليق، لما ذكرنا، وأيضًا فإنه مطابق لما بعده في المعنى لأن بعده {فأخرجهما مما كانا فيه} والخروج عن المكان هو الزوال عنه، فلفظ الخروج عن الجنة يدل على الزوال عنها، وبذلك قرأ الحسن والأعرج وطلحة.
20- وعلة من قرأ بغير ألف الإجماع في قولهم: {إنما استزلهم الشيطان} «آل عمران 155»، أي: أكسبهم الزلة، فليس للشيطان قدرة على زوال أحد من مكان إلى مكان، إنما قدرته على إدخال الإنسان في الزلل، فيكون ذلك سببًا إلى زواله من مكان إلى مكان بذنبه، ويقوي ذلك أنه قال في موضع آخر: {فوسوس لهما الشيطان} «الأعراف 20»، والوسوسة إنما هي إدخالهما في الزلل بالمعصية، وليست الوسوسة بإزالة منه لهما من مكان إلى مكان، إنما هي تزين فعل المعصية، وهي الزلة لا الزوال، وايضًا فإنه قد يحتمل أن يكون معنى «فأزلهما» من: زل عن المكان، إذا تنحى عنه، فيكون في المعنى كقراءة من قرأ بألف من الزوال، والاختيار القراءة بغير ألف، لما ذكرنا من العلة، ولأنه قد يكون بمعنى «فأزالهما» فيتفق معنى القراءتين، ولأنه إجماع من القراء غير حمزة، ولأنه مروي عن ابن عباس، وبه قرأ أبو جعفر يزيد وشيبة، وأبو عبد الرحمن السلمي وقتادة ومجاهد وابن أبي إسحاق، وهي قراءة أهل المدينة، وأهل مكة، وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد، قال أبو عبيد من قرأ بغير ألف ذهب إلى الزلل في الدين كقوله: {فتزل قدم بعد ثبوتها} «النحل 94» ومن خفف أراد إزالتهما عن موضعهما). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/236]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (14- {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} [آية/ 36]:-
بالألف، قرأها حمزة وحده.
ووجه قراءته هذه أنه عز وجل قال أمام ذلك {يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ}، وتأويل ذلك: أثبتا في الجنة فثبتا فأزالهما الشيطان، فحصل في ذلك مقابلة الثبات بالزوال الذي هو خلافه؛ لأن الثبات في المكان استقرار فيه، والزوال مفارقة عنه، ويقوي ذلك قوله تعالى: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}؛ لأن الإخراج قريب المعنى من الإزالة.
وقرأ الباقون {فَاَزَلَّهمَا} مشددة اللام من غير ألف.
فيجوز أن يكون المراد كسبهما الزلة، كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}، وأزل واستزل واحد، كأجاب
[الموضح: 268]
واستجاب.
ويجوز أن يكون {أَزَلَّهما} من قولهم: زل عن المكان إذا عثر عنه فلم يثبت عليه، فيكون حينئذٍ قريبًا في المعنى من أزالهما وأخرجهما؛ لأن الزلول عن الموضع انتقال عنه كالخروج). [الموضح: 269]

قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ).
اتفق القراء على هذه القراءة، إلا ما روي عن ابن كثير أنه قرأ: (فتلقّى آدم من ربّه كلماتٌ).
[معاني القراءات وعللها: 1/147]
قال أبو منصور: والقراءة برفع (آدم) ونصب (كلمات)؛ لأن آدم تعلم الكلمات من ربه، فقيل: تلقى الكلمات.
والعرب تقول: تلقيت هذا من فلان.
معناه: أن فهمي قبله من لفظه.
والذي قرأ به ابن كثير جائز في العربية، لأن ما تلقيته فقد تلقاك.
والقراءة الجيدة ما عليه العامة). [معاني القراءات وعللها: 1/148]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (27- وقوله تعالى: {فتلقى ءادم من ربه كلمات}.
قرأ ابن كثير، {فتلقى ءادم} بالنصب {كلمت} بالرفع، جعل الفعل للكلمات.
وقرأ الباقون {ءادم من ربه كلمات} بالنصب وإنما كسرت التاء، لأنها غير الأصلية، فمن جعل الفعل لآدم فحجته أن الله تعالى علم آدم الكلمات وأمره بهن فقبلها آدم وتلقاها.
وأخبرنا ابن دريد رحمه الله عليه قال: حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/82]
قال: تلا أبو مهدي يوما آية فقال: تلقيتها عن عمرو، تلقاها عن أبيه تلقاها عن أبي هريرة، تلقاها عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، أي: أخذها وقبلها.
فأما ابن كثير فإنه جعل الفعل للكلمات؛ لأن كل من لقيته فقد لقيك، وكل من استقبلته فقد استقبلك، وفي ذلك قراءة ابن مسعود: {لا ينال عهدي الظالمون}، لأن العهد لما نال الظالمين، نال الظالمون العهد، وينشد:
قد سالم الحيات منه القدما
الأفعوان والشجاع الشجعما
لأن القدم لما سالمت الحيات سالمت الحيات القدم). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/83]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله تعالى: فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ [البقرة/ 37].
في رفع الاسم ونصب الكلمات، ونصب الاسم ورفع الكلمات. فقرأ ابن كثير وحده: فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ بنصب الاسم ورفع الكلمات. وقرأ الباقون: فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ برفع الاسم ونصب الكلمات.
قال أبو علي: قالوا: لقي زيد خيرا، فتعدى الفعل إلى مفعول واحد، وفي التنزيل: فإذا لقيتم الّذين كفروا [الأنفال/ 15] وفيه إذا لقيتم فئةً فاثبتوا واذكروا اللّه [الأنفال/ 45] ولقد لقينا من سفرنا هذا نصباً [الكهف/ 62] فإذا ضعّفت العين منه، تعدى إلى مفعولين،
[الحجة للقراء السبعة: 2/23]
فقلت: لقّيت زيدا خيرا، فيصير الاسم الذي كان الفاعل المفعول الأول، قال: ولقّاهم نضرةً وسروراً [الدهر/ 11] وليس تضعيف العين هنا، على حدّ فرّح وأفرحته، وخرّج وخرّجته وأخرجته، ألا ترى أنك إذا قلت: ألقيت كذا، فليس بمنقول من لقيته، كأشربته من شربته يدل على أنه ليس بمنقول منه، أنه لو كان كذلك لتعدى إلى مفعولين، كما تعدى لقّيت، فلما لم يتعدّ إلى الثاني إلا بحرف الجر نحو ألقيت بعض متاعك بعضه على بعض، علمت أنه استئناف بناء على حدة، وليست الهمزة همزة نقل كالتي في قولك:
ضربت زيدا، أو: أضربته إياه، وشربت الماء وأشربته الماء، فجعلوا ألقيته بمنزلة طرحته، في تعدّيه إلى مفعول واحد. فأما مصدر لقيت، فقال أبو زيد: لقيته لقية واحدة في التلاقي والقتال، ولقيته لقاء ولقيانا ولقاة.
فأمّا قوله: إنّ الّذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدّنيا [يونس/ 7] أي: بدلا من الآخرة كما قال: أرضيتم بالحياة الدّنيا من الآخرة [التوبة/ 38] ومعنى من الآخرة أي:
بدلا منها، كما قال: ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكةً في الأرض يخلفون [الزخرف/ 60] أي: بدلا منكم، ومثل هذا قوله: إن يشأ يذهبكم أيّها النّاس ويأت بآخرين
[الحجة للقراء السبعة: 2/24]
[النساء/ 133] وقوله: إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرّيّة قومٍ آخرين [الأنعام/ 134].
وقال الراعي:
أخذوا المخاض من الفصيل غلبة... ظلما ويكتب للأمير أفيلا
وقال آخر:
كسوناها من الرّيط اليماني... ملاء في بنائقها فضول
أي: بدلا من الريط.
ويكون قوله: لا يرجون لقاءنا [يونس/ 7]. أي: لا يخافون ذلك، لأنهم لا يؤمنون بها، فلا يوجلون منها كما يوجل المؤمنون المصدقون بها، المعنيون بقوله: إنّما أنت منذر من يخشاها [النازعات/ 45] وقال: وهم من السّاعة مشفقون [الأنبياء/ 49] فيكون الرجاء هنا الخوف كما قال:
... لا ترجون للّه وقاراً [نوح/ 13] وكما قال:
إذا لسعته النّحل لم يرج لسعها
[الحجة للقراء السبعة: 2/25]
وقد يكون لا يرجون الرجاء الذي خلافه اليأس، كما قال: قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفّار من أصحاب القبور [الممتحنة/ 13] أي: من الآخرة، فحذف من الآخرة لتقدم ذكرها كما قال: يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسّماوات [إبراهيم/ 48] فحذف المتأخّر لدلالة ما تقدم عليه، ويجوز أن تكون: كما يئس الكفار من حشر أصحاب القبور.
ومن ذلك قوله: وقال الّذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا [الفرقان/ 21] وقال: قد خسر الّذين كذّبوا بلقاء اللّه [الأنعام/ 31] فالمعنى والله أعلم:
بالبعث، كما قال: بل كانوا لا يرجون نشوراً [الفرقان/ 40] ويقوي ذلك حتّى إذا جاءتهم السّاعة بغتةً [الأنعام/ 31] وعلى هذا قوله: بل هم بلقاء ربّهم كافرون [السجدة/ 10].
فأما قوله: تحيّتهم يوم يلقونه سلامٌ [الأحزاب/ 44] فالمعنى: يوم يلقون ثوابه، فهم خلاف من وصف بقوله:
فسوف يلقون غيًّا [مريم/ 59] وقوله: واتّقوا اللّه واعلموا أنّكم ملاقوه [البقرة/ 223] أي: ملاقون جزاءه، إن ثوابا وإن عقابا. وقوله: الّذين يظنّون أنّهم ملاقوا ربّهم [البقرة/ 46] أي ملاقو ثواب ربّهم، خلاف من وصف بقوله: لا يقدرون على شيءٍ ممّا كسبوا [البقرة/ 264] وقوله: حتّى إذا جاءه لم يجده شيئاً [النور/ 39]
[الحجة للقراء السبعة: 2/26]
ونحو ذلك مما يدل على إحباط الثّواب وأنهم إليه راجعون، أي: يصدّقون بالبعث ولا يكذبون به، كما حكي عن المنكرين له في نحو: أإذا متنا وكنّا تراباً وعظاماً أإنّا لمبعوثون [الواقعة/ 47] ونحو قولهم فيه: إن هذا إلّا أساطير الأوّلين [الأنعام/ 25].
والظنّ هاهنا العلم، وكذلك قول المؤمن: إنّي ظننت أنّي ملاقٍ حسابيه [الحاقة/ 20] فأما الآية الأولى التي هي قوله:
الّذين يظنّون أنّهم ملاقوا ربّهم [البقرة/ 46] أي: ثوابه، فقد يجوز أن لا يكون منهم القطع على ذلك والحتم به، بدلالة قول إبراهيم: والّذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدّين [الشعراء/ 82] فأما قوله: إنّي ظننت أنّي ملاقٍ حسابيه [الحاقة/ 20] فلا يكون إلا على العلم والتيقّن، لأن صحة الإيمان إنما يكون بالقطع على ذلك والتّيقّن به والشاكّ فيه لا إيمان له.
ويقال: لقيته ولاقيته، فمن لاقيت قوله: واعلموا أنّكم ملاقوه [البقرة/ 223] والّذين يظنّون أنّهم ملاقوا ربّهم [البقرة/ 46] وقال: تحيّتهم يوم يلقونه سلامٌ [الأحزاب/ 44] ولو كان يلاقونه كقوله: أنّكم ملاقوه [البقرة/ 223] كان حسنا، وقال: وإذا لقوا الّذين آمنوا
[الحجة للقراء السبعة: 2/27]
[البقرة/ 14] وقال:
يا نفس صبرا كلّ حيّ لاق كأنه: لاق منيّته وأجله.
وقال آخر:
فلاقى ابن أنثى يبتغي مثل ما ابتغى... من القوم مسقيّ السّمام حدائده
وقال:
وكان وإيّاها كحرّان لم يفق... عن الماء إذ لاقاه حتّى تقدّدا
وأما قوله: ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مريةٍ من لقائه [السجدة/ 23] فيكون على إضافة المصدر إلى المفعول، مثل: بسؤال نعجتك [ص/ 24] وهم من بعد غلبهم
[الحجة للقراء السبعة: 2/28]
[الروم/ 3] لأن الضمير للرّوم وهم المغلوبون كأنه: لمّا قيل:
فخذها بقوّةٍ [الأعراف/ 145] أي بجد واجتهاد، أعلمنا أنه أخذ بما أمر به، وتلقاه بالقبول، فالمعنى: من لقاء موسى الكتاب، فأضيف المصدر إلى ضمير الكتاب، وفي ذلك مدح له على امتثاله ما أمر به، وتنبيه على الأخذ بمثل هذا الفعل كقوله: اتّبع ما أوحي إليك من ربّك [الأنعام/ 106] وفإذا قرأناه فاتّبع قرآنه [القيامة/ 18] ويجوز أن يكون الضمير لموسى، والمفعول به محذوف، كقوله: إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم [فاطر/ 14] فالدعاء مضاف إلى الفاعل، والمفعولون محذوفون. ومثل ذلك في إضافة المصدر إلى الفاعل، وحذف المفعول به قوله: لمقت اللّه أكبر من مقتكم أنفسكم [المؤمن/ 10] وهذا على قياس من قرأ: فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ لأن موسى هو اللاقي، كما أن آدم هو المتلقّي.
ويجوز أن يكون الضمير لموسى في قوله: من لقائه ويكون الفاعل محذوفا، والمعنى من لقائك موسى، ويكون ذلك في الحشر والاجتماع للبعث، أو في الجنة، فيكون كقوله: فلا يصدّنّك عنها من لا يؤمن بها [طه/ 16] فأما قوله: لينذر يوم التّلاق [المؤمن/ 15] فإنه يكون يوم تلاقي الظالم والمظلوم، والجائر والعادل، وتلاقي الأمم مع شهدائها كقوله: ونزعنا من كلّ أمّةٍ شهيداً [القصص/ 75] ومثل يوم التلاقي قوله: يوم يجمعكم ليوم الجمع [التغابن/ 9] وقوله: ليجمعنّكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه [النساء/ 87]. ونحو ذلك من الآي.
وقوله: ويوم تقوم السّاعة يومئذٍ يتفرّقون [الروم/ 14]، فإن
[الحجة للقراء السبعة: 2/29]
هذا التفرق بعد الاجتماع والتلاقي الذي أضيف اليوم إليهما، وذلك بعد الأخذ للمظلوم من الظالم، وقد بيّن هذا بقوله:
فريقٌ في الجنّة وفريقٌ في السّعير [الشورى/ 7] فأما قوله:
يوم يفرّ المرء من أخيه، وأمّه وأبيه [عبس/ 34، 35] وقد قال: يوم الجمع ويوم التّلاق، فليس يراد بالفرار المضاف إليه اليوم الشّراد ولا النّفار، وأنت قد تقول لمن تكلّم: فررت مما لزمك، لا تريد بذلك بعادا في المحل.
وتقدير يوم يفرّ المرء من أخيه: يوم يفر المرء من موالاة أخيه، أو من نصرته. كما كانوا، أو من مساءلة أخيه لاهتمامه بشأنه، فالفرار من موالاته يدل عليه قوله: إذ تبرّأ الّذين اتّبعوا من الّذين اتّبعوا [البقرة/ 166] وأما الفرار من نصرته على حد ما كانوا يتناصرون في الدنيا، فيدل عليه قوله:
يوم لا يغني مولًى عن مولًى شيئاً ولا هم ينصرون إلّا من رحم اللّه [الدخان/ 41، 42] والمسألة يدل عليها قوله: ولا يسئل حميمٌ حميماً [المعارج/ 10].
وقد روي أنّ بعضهم قرأ: يوم التّناد [المؤمن/ 32] وكأنه اعتبر يوم يفرّ المرء من أخيه، فجعل التنادّ تفاعلا من ندّ البعير: إذا شرد ونفر، وليس ذلك بالوجه، ألا ترى أنه ليس يسهل أن تقول: نددت من ما لزمك، ولا ناددت منه، كما تقول: فررت منه؟ ونرى سيبويه يستعمل في هذا المعنى فرّ كثيرا، ولا يستعمل ندّ، فليس هذا الاعتبار إذا بالوجه. وأما
[الحجة للقراء السبعة: 2/30]
التنادي الذي عليه الكثرة والجمهور، فإنه يدل عليه قوله: يوم يدع الدّاع إلى شيءٍ نكرٍ [القمر/ 6] وقوله: يوم ندعوا كلّ أناسٍ بإمامهم [الإسراء/ 71] ويوم يدعوكم فتستجيبون بحمده [الاسراء/ 52]. فالتنادي أشبه بهذه الآي. ألا ترى أن الدعاء والنداء يتقاربان به، إذ نادى ربّه نداءً خفيًّا [مريم/ 3] فنادته الملائكة [آل عمران/ 39] وقال: فدعا ربّه أنّي مغلوبٌ [القمر/ 10] فقد استعمل كلّ واحد من النداء والدعاء في موضع الآخر، وليس التنادّ والفرار كذلك.
وأما قوله: (كلمات) فالكلمات: جمع كلمة، والكلمة:
اسم الجنس، لوقوعها على الكثير من ذلك والقليل، قالوا:
قال امرؤ القيس في كلمته، يعنون قصيدته، وقال قسّ في كلمته، يعنون خطبته. وقال ابن الأعرابي: يقال: لفلان كلمة شاعرة، أي: قصيدة. وقد قيل لكل واحد من الكلم الثلاث:
كلمة، فالكلمة كأنها اسم الجنس، لتناولها الكثير والقليل.
كما أن الليل لما كان كذلك وقع على الكثير منه أو القليل، فالكثير نحو قوله: وجعلنا اللّيل لباساً [النبأ/ 10] ومن رحمته جعل لكم اللّيل والنّهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله [القصص/ 73] ومن ثمّ جعله سيبويه في جواب كم، إذا قيل: سير عليه الليل والنهار.
وأما وقوعه على القليل وما هو دون ليلة فنحو قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/31]
وإنّكم لتمرّون عليهم مصبحين وباللّيل [الصافات/ 137 - 138].
فكذلك الكلمة قد وقعت على القليل والكثير. فأما وقوعها على الكثير فنحو ما قدمناه، وأما وقوعها على القليل، فإنّ سيبويه قد أوقعها على الاسم المفرد، والفعل المفرد، والحرف المفرد. فأما الكلام: فإن سيبويه قد استعمله فيما كان مؤلّفا من هذه الكلم، فقال: لو قلت: إن يضرب يأتينا، لم يكن كلاما، وقال أيضا: إنما يحكى: فقلت ونحوه، ما كان كلاما، لا قولا. فأوقع الكلام على المتألّف، وعلى هذا الذي استعمله جاء التنزيل، قال تعالى: سيقول المخلّفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتّبعكم يريدون أن يبدّلوا كلام اللّه قل لن تتّبعونا [الفتح/ 15] فالكلام المذكور هنا والله أعلم يعنى به قوله: فإن رجعك اللّه إلى طائفةٍ منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدوًّا [التوبة/ 83] ألا ترى قوله: كذلكم قال اللّه من قبل [الفتح/ 15]. والكلمات المذكورة في قوله: فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ [البقرة/ 37] فيما فسّر هي قولهما: ربّنا ظلمنا أنفسنا الآية [الأعراف/ 22]. وسئل بعض سلف المسلمين عما يقوله المذنب، فقال: يقول ما قال أبوه:
ظلمنا أنفسنا وما قاله موسى: قال ربّ إنّي ظلمت نفسي [القصص/ 16] وما قاله يونس: لا إله إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين [الأنبياء/ 87]
[الحجة للقراء السبعة: 2/32]
وما قالته الملكة: إنّي ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان [النمل/ 44] وأما الكلمات في قوله تعالى: وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ فأتمّهنّ [البقرة/ 124] فالمراد بها انقياده لأشياء امتحن بها وأخذت عليه، منها: الكوكب، والشمس، والقمر، والهجرة، في قوله: إنّي مهاجرٌ إلى ربّي [العنكبوت/ 26] والختان، وعزمه على ذبح ابنه، فالمعنى: وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بإقامة كلمات [أو بتوفية كلمات، والتقدير ذوي كلمات] أي: يعبّر بها عن هذه الأشياء المسمّيات وعلى هذا وصف في قوله: وإبراهيم الّذي وفّى [النجم/ 37].
فإن قلت: فهل يجوز أن يكون الكلم المتكلّم به، كما أنّ الصيد هو المصيد، والضرب المضروب، والنسخ المنسوخ؟ فالقول: إنّ هذا إنما جاء في المصادر، وليس قولهم الكلم بمصدر. فإن قلت: فقد أجرى قوم من العلماء ما كان من بناء المصدر مجرى المصدر، واستشهدوا على ذلك بأشياء، منها قولهم:
وبعد عطائك المائة الرّتاعا
[الحجة للقراء السبعة: 2/33]
فالقول: إنا لم نعلم لهم نصّا على ذلك. ومما ينبغي أن يحمل فيه الكلمات على الشرع كقوله: وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ قوله: وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه [التحريم/ 12] فالكلمات والله أعلم تكون: الشرائع التي شرعت لها دون القول، لأن ذلك قد استغرقه قوله تعالى: وكتبه فكأن المعنى صدّقت بالشرائع فأخذت بها وصدّقت بالكتب فلم تكذّب بها. ومما يحمل من الكلم على أنّه قول، قوله تعالى: إنّما المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم [النساء/ 171] فهذا- والله أعلم- يعني به.
قوله: خلقه من ترابٍ ثمّ قال له كن فيكون [آل عمران/ 59] أي: قال من أجل خلقه: كن، فيكون، فسمّي كلمة لحدوثه عند قول ذلك.
وقوله: وتمّت كلمت ربّك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا [الأعراف/ 137] هي- والله أعلم- قوله: ونريد أن نمنّ على الّذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّةً الآية [القصص/ 5] وقوله: وتمّت كلمة ربّك صدقاً وعدلًا لا مبدّل لكلماته [الأنعام/ 115] وهو كقوله: ما يبدّل القول لديّ [ق/ 29] أي: لا خلف فيه ولا تبديل له، والكلمات تقديرها: ذوي الكلمات أي ما عبر عنه بها من وعد ووعيد، وثواب وعقاب. وقوله: وألزمهم كلمة التّقوى
[الحجة للقراء السبعة: 2/34]
[الفتح/ 26] [حدثنا يوسف بن يعقوب الأزرق بإسناده] عن مجاهد، قال: لا إله إلا الله. وقد يجوز أن تكون كلمة التقوى: شرائعه، التي أمروا بالأخذ لها والتمسك بها. وأما قوله: واللّه أعلم بأعدائكم وكفى باللّه وليًّا وكفى باللّه نصيراً من الّذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه [النساء/ 45 - 46].
فسألني أحد شيوخنا عنه، فأجبت بأنّ التقدير: وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا، فقوله: من الّذين هادوا متعلق بالنّصرة، كقوله: فمن ينصرنا من بأس اللّه إن جاءنا [المؤمن/ 29] أي: من يمنعنا؟ فيكون: يحرّفون الكلم- على هذا- حالا من الذين هادوا، تقديره: وكفى بالله مانعا لهم منكم محرّفين الكلم. وأكثر الناس فيما علمت يذهبون إلى أن المعنى: من الذين هادوا يحرّفون الكلم، أي: فريق يحرفون الكلم، فحذف الموصوف، وأقيمت الصفة مقامه، كقوله: ومن آياته يريكم البرق [الروم/ 24] أي:
أنه يريكم فيها البرق، أو يريكموها البرق، وهذا أشبه لقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/35]
ومن الّذين هادوا سمّاعون للكذب سمّاعون لقومٍ آخرين لم يأتوك، يحرّفون الكلم [المائدة/ 41] فكما أن يحرفون في هذه الآية صفة لقوله: سمّاعون كأنه قال: ومن الذين هادوا فريق سمّاعون للكذب، أي: يسمعون ليكذبوا فيما يسمعونه منه، ويحرّفونه عنه، سمّاعون لقوم آخرين لم يأتوك، يحرفون الكلم.
فكما أن يحرفون هنا، صفة لقوله: سمّاعون، كذلك يكون في الآية الأخرى. فإن قلت: فلم لا يكون حالا من الضمير الذي في قوله: لم يأتوك؟ فإن ذلك ليس بالسهل في المعنى، ألا ترى أن المعنى: ومن الذين هادوا فريق يسمعون من النبي صلّى الله عليه وسلّم، ليكذبوا فيما يسمعونه، ويحرفون بكذبهم فيه، فإذا كان كذلك لم يكن حالا من الضمير الذي في: لم يأتوك، لأنهم إذا لم يأتوا لم يسمعوا فيحرفوا، فإذا كان كذلك، كان وصفا ولم يكن حالا، وتكون، يحرفون: على قياس ما قلناه، في قوله: وكفى باللّه نصيراً، من الّذين هادوا يحرّفون [النساء/ 45 - 46] حالا من الضمير الذي في اسم الفاعل، كأنه: سمّاعون محرفين للكلم، أي: مقدرين تحريفه، كقوله: معه صقر صائدا به غدا. وهدياً بالغ الكعبة [المائدة/ 95] وقد يجوز أن يكون التحريف المعنيّ بقوله:
من الّذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه [النساء/ 46] ما كانوا يقصدونه في قولهم: راعنا [البقرة/ 104] من السّب، وخلاف ما يقصده المسلمون، إذا خاطبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، من المراعاة. قال أبو زيد: «قال الصّقيل: ما كلّمت فلانا إلا
[الحجة للقراء السبعة: 2/36]
مشاورة، تقول: أشرت إليه وأشار إليّ» فهذا على أمرين:
أحدهما: أن يكون استثناء منقطعا، والآخر على: كلامك المشاورة، كقولك: عتابك السيف. فأما النطق والمنطق فكان القياس في المنطق فتح العين، لأنه من نطق، لكنه قد جاء على الكسر كما قال: إليّ مرجعكم [آل عمران/ 55، لقمان/ 15] وقال: ويسئلونك عن المحيض [البقرة/ 222] وقد استعمل رؤبة الكلام في موضع النطق فقال:
لو أنني أوتيت علم الحكل... علم سليمان كلام النمل
فهذا إنما أراد به قوله: وورث سليمان داود وقال يا أيّها النّاس علّمنا منطق الطّير [النمل/ 16] فعبّر بالكلام بما عبّر عنه بالمنطق. وقول أوس:
ففاءوا ولو أسطو على أمّ بعضهم... أصاخ فلم ينطق ولم يتكلّم
على هذا تكرير وقال: لقد علمت ما هؤلاء ينطقون [الأنبياء/ 65] لأنها جماد لا كلام لها. وقال: يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون
[الحجة للقراء السبعة: 2/37]
[النور/ 24] والشهادة: كلام وقول. وقال: وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا؟ قالوا: أنطقنا اللّه الّذي أنطق كلّ شيءٍ [فصلت/ 21].
ومن ذلك قوله: يومئذٍ يودّ الّذين كفروا وعصوا الرّسول لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون اللّه حديثاً [النساء/ 42] لأن ما ذكر من جوارحهم تشهد عليهم، فقيل: لا يكتمون، لمّا كان إظهار ذلك وإبداؤه بجوارحهم.
والقول، والكلام، والمنطق، يستعمل كل واحد من ذلك في موضع الآخر ويعبر بكل واحد منها كما عبر بالآخر، قال:
وأنّهم يقولون ما لا يفعلون [الشعراء/ 226] وقال: علّمنا منطق الطّير [النمل/ 16] وقال عن الهدهد: فقال أحطت بما لم تحط به [النمل/ 22] فأما قوله: هذا كتابنا ينطق عليكم بالحقّ [الجاثية/ 28] فهو في المعنى: كقوله: مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلّا أحصاها [الكهف/ 49] وقوله: وكلّ شيءٍ أحصيناه كتاباً [النبأ/ 29] أي: كل شيء من أعمالهم، كما قال: وكلّ شيءٍ فعلوه في الزّبر، وكلّ صغيرٍ وكبيرٍ مستطرٌ [القمر/ 52 - 53] وقال: أحصاه اللّه ونسوه [المجادلة/ 6] وقال: وكلّ إنسانٍ ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً [الإسراء/ 13] وقال: هنالك تبلوا كلّ نفسٍ ما أسلفت [يونس/ 30].
وأنشد أبو الحسن:
[الحجة للقراء السبعة: 2/38]
صدّها منطق الدّجاج عن القص*- د وصوت الناقوس فاجتنبتنا وأنشد:
فصبّحت والطير لم تكلّم خابية طمّت بسيل مفعم وقال:
فلم ينطق الديك حتى ملأ... ت كوب الرّباب له فاستدارا
فوضع كلّ واحد من الكلام والنطق موضع الصوت في قوله:
لمّا تذكّرت بالدّيرين أرّقني... صوت الدجاج وقرع بالنواقيس
وإنما يعني: انتظاره صوت الديكة. ولم نر النطق مسندا إلى القديم. كما أضيف إليه الكلام في قوله: حتّى يسمع كلام اللّه [التوبة/ 6] وقد جاءت هذه الكلمة في اللغة فيما يطيف بالشيء ويحيط به كقوله: النّطاق والمنطقة. وقال:
[الحجة للقراء السبعة: 2/39]
من خمر ذي نطف أغنّ منطّق... وافى بها لدراهم الأسجاد
فإذا كان كذلك لم يكن قول أوس: «لم ينطق ولم يتكلّم» تكريرا، وكان كلّ واحد منهما لمعنى غير الآخر.
وأنشد بعض البغداذيين:
فإن تنطق الهجراء أو تشر في الخنا... فإنّ البغاث الأطحل اللّون ينطق
فأسند إلى البغاث النطق.
الإعراب
الأفعال المتعدية إلى المفعول به على ثلاثة أضرب:
منها ما يجوز فيه أن يكون الفاعل له مفعولا به. ومنها: ما يجوز أن يكون المفعول به فاعلا له، نحو: أكرم بشر بكرا، وشتم زيد عمرا وضرب عبد الله زيدا.
ومنها: ما لا يكون فيه المفعول به فاعلا له نحو: دققت
[الحجة للقراء السبعة: 2/40]
الثوب، وأكلت الخبز، وسرقت درهما وأعطيت دينارا، وأمكنني الغوص.
ومنها: ما يكون إسناده إلى الفاعل في المعنى، كإسناده إلى المفعول به، وذلك نحو: أصبت، ونلت، وتلقّيت، تقول: نالني خير، ونلت خيرا، وأصابني خير، وأصبت خيرا، ولقيني زيد، ولقيت زيدا، وتلقاني، وتلقيته، قال:
إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا... أصبت حليما أو أصابك جاهل
وقال: وقد بلغني الكبر [آل عمران/ 40] وقد بلغت من الكبر عتيًّا [مريم/ 8]. وكذلك: أفضيت إليه، وأفضى إليّ، وقال: وقد أفضى بعضكم إلى بعضٍ [النساء/ 21]. وإذا كانت معاني هذه الأفعال على ما ذكرنا، فنصب ابن كثير لآدم ورفعه الكلمات في المعنى، كقول من رفع آدم ونصب الكلمات.
ومن حجّة من رفع: أنّ عليه الأكثر، ومما يشهد للرفع قوله: إذ تلقّونه بألسنتكم [النور/ 15] فأسند الفعل إلى المخاطبين والمفعول به كلام يتلقّى، كما أنّ الذي تلقّاه آدم كلام متلقّى. فكما أسند الفعل إلى المخاطبين، فجعل التلقّي
[الحجة للقراء السبعة: 2/41]
لهم، كذلك يلزم أن يسند الفعل إلى آدم، فيجعل التّلقّي له دون الكلمات. ومن ذلك قول القائل: في آيات تلقّيتها عن عمّي، تلقّاها عن أبي هريرة. فجعل الكلام مفعولا به، وأسند الفعل إلى الآخذ له دون الكلام، فكذلك ينبغي أن يكون في الآية.
ومما يقوّي الرفع في آدم أنّ أبا عبيدة قال في تأويل قوله: فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ [البقرة/ 37] أي: قبلها.
فإذا كان آدم القابل، فالكلمات مقبولة. ومثل هذه الآية في إسناد الفعل فيها مرّة إلى الكلمات ومرة إلى آدم قوله: لا ينال عهدي الظّالمين [البقرة/ 124] وفي حرف عبد الله فيما قيل:
(لا ينال عهدي الظالمون) فلمن رفع أن يقول: ولا ينالون من عدوٍّ نيلًا [التوبة/ 120] فأسند الفعل إليهم، ولم يقل: ولا ينالهم من عدو نيل، والنّيل: يكون مصدرا كالبيع. ويكون الشيء الذي ينال، مثل الخلق، والصّيد، وضرب الأمير. وقوله:
تفرجة القلب قليل النيل.
يجوز أن يكون المعنى: قليل ما ينال، كما يقال: قليل الكسب، ويكون قليل النيل: قليل ما ينيل، وكلاهما ذمّ.
وقال: لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون [آل عمران/ 92].
[الحجة للقراء السبعة: 2/42]
وحجّة من قرأ بالنصب قوله: لا ينالهم اللّه برحمةٍ [الأعراف/ 49] ولم يقل لا ينالون الله برحمة كما قال: ولكن يناله التّقوى منكم [الحج/ 37] فكما أسند الفعل إلى التقوى دون اسم الله سبحانه، كذلك كان يمكن لا ينالون الله برحمة أي: مرحوما به، يرحمون عباده به، وكأنّ المعنى في: لن ينال اللّه لحومها [الحج/ 37] لن ينال قربة الله أو ثواب الله قربة لحومها ودمائها، أو ثوابهما، لأن ذلك ليس بقربة على حدّ ما يتقرّبون به، ويتنسّكون فلا يقبله، ولا يثيب عليه، من حيث كان معصية، ولكن يقبل من ذلك ما كان عن تقوى الله وطاعته دون ما كان من المعاصي التي قد كرهها ونهى عنها. وكأنّ المراد بينال: معنى القبول. كما قال: ألم يعلموا أنّ اللّه هو يقبل التّوبة عن عباده ويأخذ الصّدقات [التوبة/ 104] فمعنى قبوله التوبة أن يبطل به ما كان يستحقّ من العقوبات التي تكفّرها التوبة، وأخذ الصّدقات هو الجزاء عليها والإثابة من أجلها). [الحجة للقراء السبعة: 2/43]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فتلقى آدم من ربه كلمات} 37
قرأ ابن كثير فتلقى آدم نصب كلمات رفع جعل الفعل للكلمات لأنّها تلقت آدم عليه السّلام وحجته أن العرب تقول تلقيت زيدا وتلقاني زيد والمعنى واحد لأن من لقيته فقد لقيك وما نالك فقد نلته
[حجة القراءات: 94]
وقرأ الباقون {فتلقى آدم من ربه كلمات} آدم رفع بفعله لأنّه تلقى من ربه الكلمات أي أخذها منه وحفظها وفهمها والعرب تقول تلقيت هذا من فلان المعنى إن فهمي قبلها منه وحجتهم ما روي في التّفسير في تأويل قوله {فتلقى آدم من ربه كلمات} أي قبلها فإذا كان آدم القابل فالكلمات مقبولة). [حجة القراءات: 95]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (21- قوله: {فتلقى آدم من ربه كلمات} قرأه ابن كثير بنصب
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/236]
«آدم» ورفع «كلمات» وقرأه الباقون برفع آدم، ونصب «الكلمات» والتاء مكسورة في حال النصب، على سنن العربية.
وعلة من نصب «آدم» ورفع «الكلمات» أنه جعل الكلمات استنقذت «آدم» بتوفيق الله له، لقوله إياها، والدعاء بها، فتاب الله عليه، وأيضًا فإنه لما كان الله، جل ذكره، من أجل الكلمات تاب الله عليه، بتوفيقه إياه لقوله لها كانت هي التي أنقذته، ويسرت له التوبة من الله، فهي الفاعلة، وهي المستنقذ بها، وكان الأصل أن يقال على هذه القراءة: فتلقت آدم من ربه كلمات لكن لما كان بعد ما بين المؤنث وفعله حسن حذف علامة التأنيث، وهو أصل يجري في كل القرآن، إذا جعل فعل المؤنث بغير علامة، وقيل: إنما ذكر، لأنه محمول على المعنى؛ لأن الكلام والكلمات واحد، فحمل على الكلام فذكر، وقيل: ذكر لأن تأنيث الكلمات غير حقيقي؛ إذ لا ذكر لها من لفظها، وبذلك قرأ ابن عباس ومجاهد وأهل مكة.
22- وعلة من قرأ برفع «آدم» ونصب «الكلمات» أنه جعل «آدم» هو الذي تلقى الكلمات؛ لأنه هو الذي قبلها ودعا بها، وعمل بها، فتاب الله عليه، فهو الفاعل لقبوله الكلمات، فالمعنى على ذلك، وهو الخطاب وفي تقديم «آدم» على الكلمات تقوية أنه الفاعل، وقد قال أبو عبيد في معنى {فتلقى آدم من ربه كلمات} معناه: قبلها، فإذا كان آدم قابلا فالكلام مقبول، فهو المفعول وآدم الفاعل، وعليها الجماعة، وهي قراءة الحسن والأعرج وشيبة وأهل المدينة وعيسى بن عمر والأعمش، وهي قراءة العامة، وهي اختيار أبي
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/237]
عبيد وغيره). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/238]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (15- {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [آية/ 37]:-
بنصب {آدَمَ} ورفع الكلمات، قرأها ابن كثير وحده.
ووجهه أن {تَلَقّى} من الأفعال التي مفعولها فاعل، وفاعلها مفعول، وذلك لأنك إذا أسندتها إلى أيهما شئت لا يتغير المعنى، وذلك نحو: أصبت خيرًا وأصابني خير، ونلت مالاً ونالني مال، وتلقيت زيدًا وتلقاني زيد؛ لأن ما تلقيته فقد تلقاك، فإذن هذه وقراءة الجمهور سواءً في المعنى.
وقرأ الباقون {آدَمُ} بالرفع و{كَلِمَاتٍ} بالنصب، وهو أقوى وأحسن في العربية؛ لأن التلقي ههنا بمعنى التلقن والقبول، فآدم هو القابل والمتلقن، والكلمات مقبولة متلقنة، يؤيد ذلك قوله تعالى {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} فأسند الفعل إلى المخاطبين، وجعل القول مفعولاً به). [الموضح: 269]

قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون (38)
فالقراءة بتنوين (فلا خوفٌ).
قال أبو منصور: وهو الجيد عند النحويين، المختار إذا تكرر حرف النفي، وقرأ يعقوب وحده (فلا خوف) وهو جائز في العربية، وإن كان المختار ما عليه الجماعة). [معاني القراءات وعللها: 1/148]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (28- وقوله تعالى: {فمن اتبع هداي}
اتفق القراء السبعة على فتح الياء من {هداي} لالتقاء الساكنين، وهما الألف والياء، ففتحت الياء على أصل الكلمة، ومثله: {بشراي}
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/83]
{ومحياي} إلا ورشًا فإنه روى عن نافع {هداي} {وبشراي} بإسكان الياء، وإنما جمع بين ساكنين؛ لأن الألف قبل الياء حرف لين، كما فعل ذلك أبو عمرو في قوله {واللائي يئسن} بإسكان الياء، والاختيار فتح الياء، ومما لا يجوز ...... بحذف الياء الأخيرة، وقد ذكرته في (الأعراف).
وأما قوله: {وقولوا للناس حسنا} بالتنوين فالألف في الوقف عوض من التنوين ولا يجوز الإمالة فيها، قال الأخفش: وقرأ بعضهم {وقولوا للناس حسنى}، مثل: {ولله الأسماء الحسنى}، جعلها ألف التأنيث، قال البصريون: هذا غلط؛ لأن الاسم الذي على (فعلى) لا يجوز إلا بالألف واللام مثل: الصغرى والكبرى.
قال أبو عبد الله: قد يجوز؛ لأن الخليل وسيبويه ذكرا أن قوله: {وأخر متشابهات} جمع أخرى ولم يصرف آخر لأنه معدول من الألف واللام فيجوز أن يكون (حسنى) معدولاً، وقوله: {قولوا للناس حسنا} اليهود والنصارى، أي: لا تجادلوهم إلا بالتي هي أحسن. وقال آخرون: يعني جميع الناس.
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/84]
قال أبو عبد الله: والاختيار {وقولوا للناس حسنا} وإن كان حمزة قد قرأ {حسنى} لأن جعفر بن محمد عليهما السلام سأل رجلاً كيف تقرأ: {وقولوا للناس حسنا} أو {حسنى} فقال: ابن سيرين أقرأني {حسنا} فقال: أما نحن معشر أهل البيت فنقرأ {حسنى}.
وأما قوله: {ولا ءآمين البيت الحرام} فالياء التي قبل النون علامة الجميع، وقرأ الأعمش {ولا ءآمي البيت الحرام} مثل: {حاضري المسجد الحرام} فأسقط النون للإضافة، والياء سقطت لسكونها ولسكون اللام لفظًا، وتثبت خطا، فالوقف على هذه القراءة {آمي} بالياء، ولولا خلاف المصحف لكانت قراءة جيدة.
وأما قوله: {من نبإي المرسلين} و{من تلقائي نفسي} فكتبتا في المصحف {من نباي} و{تلقاي} بالياء، وقد ذكرت علته في (الأعراف).
وأما قوله: {وهو عليهم عمى} فالوقف عليها بالألف ولا تكون عوضًا في التنوين، وهي لام الفعل أصلية، والأصل: عمي، فانقلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
وقرأ ابن عباس: {وهو عليهم عم} فعلى هذه القراءة هي بالألف، وأما قوله: {يا ويلتا أعجزت} هذه الألف مبدلة من ياء والأصل يا ويلتي، كما قالوا: «يا ربي» و«يا ربا»، و«يا عجبي»، و«يا عجبا»، و«يا حسرتي»
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/85]
و «يا حسرتا»، فأما قوله: {يا أبت إني رأيت} فيجوز أن يكون أراد: «يا أبتي» ثم قلب فقال: «يا أبتا ثم حذف الألف».
ويجوز أن يكون أراد: «يا أبتاه».
وفيه قول ثالث: قال قطرب: أراد يا أبتا بالتنوين فحذف، كما قال الشاعر:
* يا دار أقوت بعد ساكنيها *
أراد: دارًا، وقال غيره من البصريين: أخطأ قطرب: لأن المنادي، المنكور منصوب معرب منون، ولا يجوز حذف التنوين فالرواية:
* يا دار أقوت .... *
بالرفع. وأما قوله: {هذا صراط علي مستقيم} الياء الأخيرة ياء الإضافة أدغمت فيها الياء الأولى التي في {على} وقرأ ابن سيرين: {صراط علي مستقيم} أي: رفيع، فالياء في هذه القراءة مبدلة من واو، والأصل: عليو، لأنه من علا يعلو فانقلبت الواو ياء، لسكون الياء، وأدغمت الياء في الياء. وأما قوله: {إنها لإحدى الكبر} «فإحدى» مونثة أحد، والياء التي في آخرها ألف مقصورة علامة التأنيث، وقرأ ابن كثير {لاحدى الكبر} بغير همزة، حدثنا بذلك ابن مجاهد، عن ابن أبي خيثمة، وإدريس، عن
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/86]
خلفٍ؛ عن أهل مكة كأنه حذف الهمزة اختصارًا و{نذيرًا للبشر} نصب على الحال، وقال الفراء: معناه: قم يا محمد نذيرًا للبشر، وفي قراءة أُبَيِّ {نذير للبشر} بالرفع.
وكل ما ورد في القرآن من نحو هذا فيجوز فيه الرفع على البدل، والنصب على الحال، والمدح والذم كقوله: {إنها لظى * نزاعة للشوى} و{نزاعة} و{إن هذه أمتكم أمة واحدة}، قرأ الحسن: {أمة واحدة} وأما قوله: {تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى} أي: مختلفة متفرقة، فالياء في آخر {شتى} ألف مقصورة علم التأنيث، وقرأ عبد الله: {وقلوبهم أشت} أي: أشد اختلافًا، وفي هذه السورة حرفان أيضًا عن عبد الله، {خالدان فيها} وفي قراءتنا {خالدين} لأن الخبر إذا وقع بين
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/87]
صفتين متفقتين كان الاختيار فيه النصب كقولك: إن زيدًا في الدار قائمًا فيها، ويجوز الرفع عند البصريين، ولا يجوز عند الكوفيين الرفع إلا مع الصفة المختلفة كقولك: إن زيدًا في الدار راغب فيك.
والحرف الثاني: {ولا تجعل في قلوبنا غمرا للذين آمنوا} وفي قراءتنا: {غلا}.
وحرف ثالث عن ابن مسعود: {أو تركتموها قوما}.
وأما قوله: {ولا يأتل أولو الفضل منكم} يفتعل من الألية وهو القسم، سقطت الياء للجزم، وقرأ أبو جعفر المدني {ولا يتأل أولو الفضل منكم} بفتح اللام، فالألف ساقطة للجزم في هذه القراءة والأصل: يتألى يتفعل من الألية أيضًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من يتأل على الله يكذبه» وتقول العرب في الإيلاء من قوله: {للذين يؤلون من نسائهم} الألوة والألوة والألية، وفي العود يقال: مجامرهم الألوة بتشديد الواو.
حدثني ابن عرفة قال: حدثنا محمد بن يونس، عن الأصمعي قال:
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/88]
اطلع أعرابي في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
ألا دفنتم رسول الله في سفط = من الألوة أحوى ملبسًا ذهبا
يقال للعود الذي يتبخر به الكباء والمندل والألوة، والمجمر والقطر، قال امرؤ القيس:
كأن المدام وصوب الغمام = وريح الخزامى ونشر القطر
يعل به برد أنيابها = إذا طرب الطائر المستحر
وأما قوله {سرابيلهم من قطران} فالقطران اسم واحد آخره نون مثل الظربان وهي: دويبة منتنة الريح، ومن قرأ على قراءة عكرمة: {من قطر آن} فالقطر: النحاس، والآني: الذي قد انتهى حره، من قوله تعالى: {من عين آنية} أي: حارة، ففي هذه القراءة آخر الاسم ياء سقطت لسكونها وسكون التنوين مثل {فاقض ما أنت قاض}
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/89]
حدثني ابن مجاهد عن السمري عن الفراء عن أبي بكر بن عياش عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قرأ: {قطر آن}.
وأما قوله: {واستوت على الجودي} بتشديد الياء فهو (فُعْلِيٌّ) مثل: بُخْتِيّ وكرسي وهو اسم جبلٍ. ذكر الفراء أن بعضهم. قرأ {على الجودي} بإرسال ........................................................................................................................................................
كانت عاملة جعلت «لا» عاملة، ولما كانت جوابا لـ «هل» ولم تعملها إذ كانت «هل» غير عاملة، فإذا رفعت نوَّنتَ، وإذا نصبتَ لم يجز التنوين، أعني فيما ولى «لا» وقد مرَّت علَّةُ هذا في قوله: {فلا رفث ولا فسوق}.
فإن سأل سائل فقال: فإن كان الأمر على ما قد زعمت فما وجه قول جرير:
ألم تعلم مسرحي القوافي = فلا عيا بهن ولا اجتلابا؟
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/90]
فالجواب في ذلك: ما قال سيبويه: إن عيا واجتلابا هما مصدران، ومعناه: فلا أعيا عيا ولا أجتلب اجتلابا). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/91]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي الطفيل، وعبد الله بن أبي إسحاق، وعاصم الجحدري، وعيسى بن عمر الثقفي: [هُدَيَّ].
قال أبو الفتح: هذه لغة فاشية في هذيل وغيرهم؛ أن يقلبوا الألف من آخر المقصور إذا أضيف إلى ياء المتكلم ياء. قال الهذلي:
سبقوا هَوَيَّ وأعنقوا لهواهم ... فتُخِرِّمُوا ولكل جنب مَصْرَعُ
وروينا عن قطرب قول الشاعر:
يطوف بي عِكَبٌّ في مَعَدٍّ ... ويطعن بالصُّمُلَّة في قَفَيَّا
فإن لم تَثْأَرَا لي من عِكَبٍّ ... فلا أرويتما أبدًا صَدَيَّا
قال لي أبو علي: وجه قلب هذه الألف لوقوع ياء ضمير المتكلم بعدها، أنه موضع ينكسر فيه الصحيح، نحو: هذا غلامي، ورأيت صاحبي، فلما لم يتمكنوا من كسر الألف قلبوها ياء، فقالوا: هذه عَصَيّ، وهذا فتيّ؛ أي: عصاي وفتاي، وشبهوا ذلك بقولك: مررت بالزيدين، لما لم يتمكنوا من كسر الألف للجر قلبوها ياء، ولا يجوز على هذا أن تقلب ألف التثنية لهذه الياء، فتقول: هذان غلاميّ؛ لما فيه من زوال علم الرفع، ولو كانت ألف عصا ونحوها علمًا للرفع لم يجز فيها عصَيّ.
[المحتسب: 1/76]
ومنهم من يبدل هذه الألفات في الوقف ياءات، فيقول: هذه عصيْ، ورأيت حبليْ، وهذه رَجَيْ؛ أي: الناحية؛ يريد رجًا.
ومنهم من يبدلها في الوقف أيضًا واوًا، فيقول: هذه عَصَو وأَفعَو وحُبَلَو.
ومنهم من يبدلها في الوصل واوًا أيضًا، فيقول: هذه حُبْلَو يا فتى.
ومن البدل في الوقف ياء ما أنشده بعض أصحابنا؛ وهو محمد بن حبيب:
إن لِطيٍّ نسوة الفَضيْ ... يمنعهن الله ممن قد طغيْ
بالمشرفيات وطعن بالقَنيْ ... يا حبذا جفانك ابن قَحْطَبيْ
وحبذا قدورك الْمُنْصَّبيْ ... كأن صوت غليها إذا غَلَيْ
صوت جمال هَدَرَيْ فَقَبْقَبيْ
أراد: ابن قحطبة، فإما أن يكون حذف الهاء للترخيم في غير النداء، فبقيت الباء مفتوحة، فأشبع الفتحة للقافية؛ فصارت قحطبًا، ثم أبدل الألف ياء على ما مضى، وإما أن يكون أبدل الهاء ألفًا؛ فصارت قحطبة إلى قحطبا، ثم أبدل الألف ياء على ما مضى، وعلى ذلك يجوز أيضًا أن يكون قوله:
كفعل الْهِرِّ يحترِشُ العَظايا
أراد: العَظَاية، ثم أبدل الهاء ألفًا؛ فصار العظايا.
وإن شئت قلت: شبه ألف النصب بهاء التأنيث فقال: العظايا، كما تقول: العظاية، وهذا قول أبي عثمان.
[المحتسب: 1/77]
وفيه قول لي ثالث؛ وهو أن يكون العَظايا جمع عَظَاية على التكسير، كما تقول في حمامة حمائم، فعظايا على هذا كمطايا وحوايا جمع حَوِيَّة.
وأما قوله: الْمُنَصَّبَيْ فأراد المنصبة، فأبدل الهاء ألفًا، ثم أبدل الألف ياء على ما مضى، ولا يجوز أن يكون أراد هنا الترخيم؛ لأنه فيه لام التعريف، وما فيه هذه اللام فلا يجوز نداؤه أصلًا، فهو من الترخيم أبعد، وهذا يفسد قول من قال في قول العجاج:
أَوالِفًا مكة من وُرْقِ الْحَمِي
إنه أراد الحمام ثم رخم؛ لأن ما فيه لام التعريف لا يُنادى اصلًا فكيف يرخم؟
وأما قوله: هَدَرَيْ، فإنه أراد هدر، ثم أشبع الفتحة على حد قوله:
ينباع من ذِفرى غضوب جَسْرَةٍ
فصار هدَرَا، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف فقال: هدَرَيْ.
وكذلك قوله: قَبْقَبيْ أراد قبقب، ثم أشبع فصار قبقبا، وعلى هذا التخريج يسقط قول سيبويه عن يونس في قوله محتجًّا عليه بقول الشاعر:
دعوت لما نا بني مِسْوَرًا ... فَلَبَّى فَلَبَّيْ يَدَيْ مِسْورِ
[المحتسب: 1/78]
قال سيبويه: لو كان لبيك اسمًا واحدًا -كما يقول يونس، وإنما قُلب في لبيك لاتصاله بالمضمر كما يُقلب في إليك وعليك -لما قال: فَلَبَّيْ يَدَيْ مِسْوَرِ، ولقال: فَلَبَّى يدَيْ مِسْوَرِ، على حد قولك: على يَدَيْ فلان، وإلى يَدَيْ جعفر، فثبات الياء مع المظهر يدلك على أنه لم يقلب في لبيك على حد ما قلب في إليك وعليك، وفي ذلك رد لقول يونس: إن لبيك مفرد كإلبيك وعليك.
قال أبو علي: يمكن يونس أن يقول: إنه أجرى الوصل مجرى الوقف، فكما تقول في الوقف: عَصيْ وفَتيْ كذلك قال: فَلَبَّيْ، ثم وصل على ذلك، هذا ما قاله أبو علي.
وعليه أن يقال: كيف يحسن تقدير الوقف على المضاف دون المضاف إليه؟
وجوابه: أن ذلك قد جاء، إلا ترى إلى ما أنشده أبو زيد من قول الشاعر:
ضَخْمٌ نجارى طيِّب عُنْصُرِّي
أراد: عنصري، فثقَّل الراء لنية الوقف، ثم أطلق بالإضافة من بعد.
نعم، وإذا جاز هذا التوهم مع أن المضاف إليه مضمر، والمضمر المجرور لا يجوز تصور انفصاله، فأن يجوز ذلك مع المظهر الذي هو "يَدي" أولى وأجدر، من حيث كان المظهر أقوى من المضمر.
ومثله قوله:
يا ليتها قد خرجت من فَمِّه
أراد: من فمه، ثم نوى الوقف على الميم فثقلها، على حد قوله في الوقف: هذا خالدّ، وهو يجعلّ، ثم أضاف على ذلك فهذا كقولهم: عنصرِّي.
ويُروى من فُمِّه بضم الفاء أيضًا، وفيه أكثر من هذا). [المحتسب: 1/79]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}
قرأ ورش عن نافع {فمن تبع هداي} ساكنة الياء وقرأ الباقون بفتح الياء وإنّما فتحت لأنّها أتت بعد ساكن واصلها الحركة الّتي هي الفتح وقد ذكرته عند قوله إنّي أعلم). [حجة القراءات: 95]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (16- {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [آية/ 38]:
بالفتح من غير تنوينٍ، قرأها يعقوب وحده في جميع القرآن.
[الموضح: 269]
ووجهه أنه أراد نفي جميع أنواع الخوف؛ لأن {لا} إذا بني مع النكرة على الفتح كان النفي به عامًا نحو: لا رجل في الدار، فإنه نفي كون جميع أجناس الرجال في الدار؛ لأنه جواب: هل من رجل في الدار؟، فكما أن: هل من رجل في الدار عام في الاستفهام، كذلك: لا رجل، عام في النفي، فإذن {لا خوف} آكد في نفي الخوف، لما فيه من عموم النفي بجنس الخوف.
وقرأ الباقون {لا خَوْفٌ} بالرفع والتنوين، على الابتداء؛ لأنه يكون جواب: هل فيه خوف؟
والمعنيان يتقاربان في أن الفي يراد به العموم والكثرة؛ لأن النكرة فيها عموم، وإذا كانت في النفي فلا نظر في كونها عامة، يدل على ذلك قول أمية:-
7- فلا لغو ولا تأثيم فيها = وما فاهوا به أبدًا مقيم
[الموضح: 270]
لأنه أراد من نفي اللغو ما أراده من نفي التأثيم). [الموضح: 271]

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)}

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس