عرض مشاركة واحدة
  #31  
قديم 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 10:14 AM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

مبدأ تسمية المصحف:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مبدأ تسمية المصحف:

كانت العربُ أُمّةً أُميَّةً، لا تقرأ ولا تكتب، وأوَّل كتاب باللسان العربي هو القرآن ، ولم يكن للعرب قبل ذلك كتاب معروف بلسانهم، وكانت الكتابة فيهم قليلة جداً، وإنما يكتبون ما يحتاجون إليه من الرسائل والعهود والمواثيق في صحائف متفرقة لا تبلغ أن تكون كتاباً.
وقد اشتهرت بعض صحائفهم، ولها ذكر في أشعارهم، كصحيفة المتلمس، وصحيفة لقيط، والصحيفة الظالمة التي قاطعت فيها بطونُ قريش بني هاشم.
قال المتلمّس في خبر صحيفته:
مَنْ مُبلِغُ الشّعراءِ عن أخَوَيْهِمُ ... خَبَراً، فَتَصْدُقَهُم بذاكَ الأنفُسُ
أودى الذي عَلِقَ الصّحيفَةَ منهما ... ونَجَا حِذارَ حِبائِهِ المُتَلَمّس
ويقصد بالذي عَلِقَ الصحيفة طرفةَ بن العبد البكري؛ فإنَّه ظنَّ أن الملك عمرو بن هند قد كتب له فيها إلى عامل البحرين أن يُجِيزَه ويُحْسِنَ إليه، فإذا هي أَمْرٌ بقَتْلِه وصَلْبِه، وفيها يقول:
أبا منذرٍ كانت غُروراً صحيفتي ... ولم أُعْطِكم في الطَّوْعِ مالي ولا عِرْضي

وقال الممزّق العَبدي يخاطب الملك عمرو بن هند:
أكلفتني أدواء قوم تركتهم ... وإلا تداركني من البحر أغرق
فإن يُتْهِموا أُنجِدْ خِلافاً عليهم ... وإن يُعْمِنوا مُستحقِبي الحربِ أُعْرِق
فلا أنا مولاهم ولا في صحيفةٍ ... كَفَلْتُ عليهم والكفالة تعتق
(يُتهموا): أي يحلّوا بأرض تهامة، و(أُنجد): أي أرحل إلى نجد، و(يُعمنوا) يحلّوا بأرض عُمان، و(أُعرِق) أرحل إلى العِرَاق.

وقال لقيط بن معمر الإيادي في أبيات له بعث بها في صحيفة إلى قومه ينذرهم غزو كسرى:
سلام فى الصّحيفة من لقيط ... إلى مَن بالجزيرةِ من إِيادِ
بأنّ الّليث كسرى قد أتاكم ... فلا يَشْغَلكم سَوْقُ النِّقَادِ
النِّقَاد: صِغَار الغنم.

و"الصحيفة" تُجمع على صُحُف وصَحَائف إذا كانت متفرقة غير مضمومة، فإذا ضُمَّت سُميت مُصحفاً؛ فإذا تعدَّدَتْ أجزاء الكتاب سمّيت تلك الأجزاء "مصاحف".
ولذلك كانت العرب تسمّى كُتُبَ أهلِ الكتابِ "مصاحف"، كما قال امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفانِ ... ورسمٍ عَفَتْ آياتُه منذُ أزْمانِ
أتت حِجج بعدي عليها فأصبحت ... كَخَطِّ زَبورٍ في مَصاحفِ رُهبان
وقال أبو مصعب الزهري راوية الموطأ: حدثنا مالك، عن زيد بن أسلم، أنه قال: (جاء كعب الأحبار إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقام بين يديه، فاستخرج من تحت يده مُصْحَفاً، قد تشرَّمَت حواشيه، فقال: يا أمير المؤمنين، في هذه التوراة فأقرؤها؟
فقال عمر: "إن كنت تعلم أنها التوراة التي أُنزلَت على موسى، يومَ طور سَيناء، فاقرأها آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ، وإلا فلا" فراجعه كعب، فلم يزده على ذلك).

وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، عن أم سلمة ابنة أبي أمية بن المغيرة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي أمنا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذى، ولا نسمع شيئا نكرهه)
ثمّ ذكرت خبر احتيال قريش بهداياها إلى النجاشي ليسلّمهم إليها في خبر طويل، وفيه أن النجاشي دعا أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله.
وفيه أن جعفر بن أبي طالب كلَّمَه وقرأ عليه سورة مريم، قالت: (فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مَصَاحِفَهم حين سمعوا ما تلا عليهم). رواه الإمام أحمد في مسنده بإسناد أقلّ درجاته الحسن، رجاله ثقات رجال الصحيحين غير محمد بن إسحاق وقد صرّح بالتحديث، ومن أهل العلم من يصححه أحاديثه في السير.
ومصاحفهم إنما هي كتبهم التي جمعوا صحائفها وضموا بعضها إلى بعض.

ولم أقف على خبر صحيح في أوّل من سمَّى القرآن المكتوب مُصحفاً؛ إلا أنَّ تسميته بهذا الاسم جارية على الأصل في تسمية الصحفِ المجموعة إلى بعضها بين دفتين مصحفاً، ولأجل أنَّ المسلمين لم يكن لهم كتاب غيره اشتهرت تسميته بالمصحف حتى جُعلت علماً عليه.
وهذا نظير أسماء القرآن الأخرى كالكتاب والذكر والفرقان؛ فإنها إذا أطلقت انصرفت إلى القرآن لأجل العهد الذهني في التعريف، وإذا وردت في سياق يراد به غيرها تقيدت به.
وبقي استعمال المصحف للصحف المضمومة بين دفتين بعد ذلك بزمن، حتى قال الجاحظ في كتاب "البيان والتبيين" : (كانت العادة في كتاب الحيوان أن أجعل في كل مصحف من مصاحفها عشر ورقات من مقطّعات الأعراب، ونوادر الأشعار)ا.هـ.

وقد قيل إن تسمية ما كتب من القرآن بالمصحف كانت معروفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وروي في ذلك أحاديث وآثار لكنها معلولة، ومنها:
1: حديث محمد بن إسحق عن نافع عن ابن عمر: (سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم ينهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض العدو). رواه الإمام أحمد والبخاري في خلق أفعال العباد بهذا اللفظ.
وقد رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو).
ومالك أثبت من ابن إسحاق.
وقد روى هذا الحديث عن نافع كلّ من: الليث بن سعد وعبيد الله العمري وأيوب السختياني وجويرية بن أسماء وعبد الله بن دينار، كلهم رووه بلفظ "القرآن" وتفرد محمد بن إسحاق بلفظ "المصحف" فدلّ ذلك على أنه أخطأ في الرواية.

2: وحديث مرزوق بن أبي الهذيل قال: حدثني الزهري قال: حدثني أبو عبد الله الأغر، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، ومصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، يلحقه من بعد موته» رواه ابن ماجه وابن خزيمة.
ومداره على مرزوق بن أبي الهذيل الثقفي قال فيه البخاري: (تعرف وتنكر).
فهو مما لا يحتجّ به إذا تفرّد.
وله شاهد رواه ابن خزيمة والبزار والبيهقي في شعب الإيمان من حديث محمد بن عبيد الله العرزمي عن قتادة عن أنس، لكنه مما لا يفرح به فالعرزمي متروك الحديث.
وأعلّ بأنّ المحفوظ في هذا الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه ما رواه العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، مرفوعاً: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له). رواه مسلم.
وله علَّة في متنه وهي أنَّ صحف القرآن لم تكُن قد أُصحفت في مُصحف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من غير خلاف بين أهل العلم.

3: وحديث عنبسة بن عبد الرحمن الكوفي، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطوا أعينكم حظها من العبادة» ، قيل: يا رسول الله، ما حظها من العبادة؟، قال: «النظر في المصحف، والتفكر فيه، والاعتبار عند عجائبه» رواه أبو الشيخ في العظمة والبيهقي في شعب الإيمان، وهو ضعيف جداً، بل حكم عليه الألباني بأنه موضوع، من أجل عنبسة الكوفي قال فيه أبو حاتم الرازي: كان يضع الحديث.

وقد روي في منشأ تسمية المصحف آثار واهية لا تصحّ:
منها ما ذكره السيوطي في الإتقان عن ابن أشته أنه أخرج في كتاب المصاحف من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب أنه قال: لما جمعوا القرآن فكتبوه في الورق قال: أبو بكر التمسوا له اسما فقال بعضهم السفر وقال بعضهم: المصحف فإن الحبشة يسمونه المصحف وكان أبو بكر أول من جمع كتاب الله وسماه المصحف).
وقال السيوطي في موضع آخر: ومن غريب ما ورد في أول من جمعه ما أخرجه ابن أشته في كتاب المصاحف من طريق كهمس عن ابن بريدة قال: "أول من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حذيفة، أقسم لا يرتدي برداء حتى يجمعه ثم ائتمروا ما يسمونه. فقال بعضهم: سموه السفر. قال: ذلك اسم تسميه اليهود، فكرهوه، فقال: رأيت مثله بالحبشة يسمى المصحف، فاجتمع رأيهم على أن يسموه المصحف".
إسناده منقطع أيضا وهو محمول على أنه كان أحد الجامعين بأمر أبي بكر).
قلت: لا يصحّ هذا المحمل لأنَّ سالماً قُتل يوم اليمامة قبل الأمر بجمع القرآن.
وقال الزركشي: ذكر المظفري في تاريخه لما جمع أبو بكر القرآن قال سموه فقال بعضهم:
سموه إنجيلا فكرهوه وقال بعضهم سموه السفر فكرهوه من يهود فقال ابن مسعود رأيت للحبشة كتابا يدعونه المصحف فسموه به).
وهذه الأخبار واهية من جهة الإسناد لا يُعوَّل عليها). [جمع القرآن:81 - 87]


رد مع اقتباس