الموضوع: مِن
عرض مشاركة واحدة
  #13  
قديم 27 ذو الحجة 1438هـ/18-09-2017م, 05:09 PM
جمهرة علوم اللغة جمهرة علوم اللغة غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Apr 2017
المشاركات: 2,897
افتراضي

قال الحسن بن قاسم بن عبد الله بن عليّ المرادي المصري المالكي (ت: 749هـ): ("مِنْ"
حرف جر، يكون زائداً، وغير زائد.
فغير الزائد له أربعة عشر معنى:
الأول: ابتداء الغاية، في المكان اتفاقاً، نحو {من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى}. وكذا فيما نزل منزلة المكان، نحو: "من" فلان إلى فلان. وفي الزمان عند الكوفيين، كقوله تعالى: {من أول يوم}. وصححه ابن مالك، لكثرة شواهده.
وتأويل البصريين ما ورد من ذلك تعسف. ونقل ابن يعيش عن المبرد، وابن درستويه، موافقة الكوفيين.
وتأول البصريون "من" أول يوم على تقدير: "من" تأسيس أول يوم. فإن قلت: فما يصنعون بنحو قوله {لله الأمر من قبل، ومن بعد}؟ قلت: ذكر ابن أبي الربيع في شرح الإيضاح أن محل الخلاف إنما هو في الموضع الذي يصلح فيه دخول "منذ". وهذا لا يصح فيه دخول "منذ"، فلا يقع خلاف في صحة وقوع "من" هنا.
الثاني: التبعيض، نحو {منهم من كلم الله}. وعلامتها جواز الاستغناء عنها ب بعض. ومجيئها للتبعيض كثير.
الثالث: بيان الجنس، نحو {فاجتنبوا الرجس، من الأوثان}، {ويلبسون ثياباً خضراً، من سندس}. قالوا: وعلامتها؟ أن يحسن جعل الذي مكانها، لأن المعنى: فاجتنبوا الرجس، الذي هو وثن. ومجيئها لبيان الجنس مشهور، في كتب المعربين. وقال به قوم، من المتقدمين والمتأخرين، وأنكره أكثر المغاربة، وقالوا: هي في قوله تعالى "من" الأوثان لابتداء الغاية وانتهائها، لأن الرجس ليس هو ذاتها ف "من" في الآية ك "من"، في نحو: أخذته "من" التابوت. وأما قوله "من" سندس ففي موضع الصفة، فهي للتبعيض.
الرابع: التعليل، نحو {يجعلون أصابعهم في آذانهم، من الصواعق}، {من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل}، {لما يهبط من خشية الله}.
الخامس: البدل، نحو {أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة} أي: بدل الآخرة، و {لجعلنا منكم ملائكة}، أي: بدلكم.

وقال الراجز:
جارية، لم تأكل المرققا ... ولم تذق، من القبول، الفستقا
أي: بدل البقول. هكذا روي البقول "بالباء" الموحدة. الجوهري: وأظنه النقول "بالنون".
السادس: المجاوزة. فتكون بمعنى "عن"، كقوله تعالى: {أطعمهم من جوع}، أي: "عن" جوع. وقوله تعالى: {فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله}، أي: "عن" ذكر الله. وقول العرب: حدثته "من" فلان، أي: "عن" فلان. ومثله ابن مالك بنحو: عدت "منه"، وأتيت "منه"، وبرئت "منه"، وشبعت "منه"، ورويت "منه". قال: ولهذا المعنى صاحبت أفعل التفضيل؛ فإن القائل: زيد أفضل "من" عمرو، كأنه قال: جاوز زيد عمراً في الفضل أو الانحطاط.
قلت: اختلف في معنى "من" المصاحبة ل أفعل التفضيل.
فقال المبرد، وجماعة: هي لابتداء الغاية، ولا تفيد معنى التبعيض. وصححه ابن عصفور. وذهب سيبويه إلى أنها لابتداء الغاية، ولا تخلو من التبعيض. وقد بسطت الكلام على هذه المسألة، في غير هذا الكتاب.
السابع: الانتهاء. مثله ابن مالك بقوله: قربت "منه". فإنه مساو لقولك: تقربت إليه. وقد أشار سيبويه إلى أن من معاني "من" الانتهاء. فقال: وتقول: رأيته "من" ذلك الموضع، تجعله غاية رؤيتك، كما جعلته غاية حين أردت الابتداء. وتقول: رأيت الهلال "من" داري "من" خلل السحاب. ف "من" الأولى لابتداء الغاية، والثانية لانتهاء الغاية. قال ابن السراج: وهذا يخلط معنى "من" بمعنى "إلى"، والجيد أن تكون "من" الثانية لابتداء الغاية في الظهور، أو بدلاً من الأولى. قال: وحقيقة هذه المسألة أنك إذا قلت: رأيت الهلال "من" داري "من" خلل السحاب، ف "من" للهلال، والهلال غاية لرؤيتك. فلذلك جعل سيبويه "من" غاية في قولك: رأيته "من" ذلك الموضع. انتهى.
وكون "من" لانتهاء الغاية هو قول الكوفيين. ورد المغاربة هذا المعنى، وتأولوا ما استدل به مثبتوه.
الثامن: أن تكون للغاية، نحو: أخذت "من" الصندوق. ذكره بعض المتأخرين، وحمل عليه كلام سيبويه المتقدم. قال: معناه أنه محل لابتداء الغاية وانتهائها معاً. فعلى هذا تكون "من" في أكثر المواضع لابتداء الغاية فقط، وفي بعضها لابتدائها وانتهائها معاً.
التاسع: الاستعلاء، نحو {ونصرناه من القوم} أي: "على" القوم. كذا قال الأخفش. والأحسن أن يضمن الفعل معنى فعل آخر، أي: منعناه بالنصر "من" القوم.
العاشر: الفصل، نحو {والله يعلم المفسد من المصلح}، و{حتى يميز الخبيث من الطيب}. وتعرف بدخولها على ثاني المتضادين. وقد تدخل على ثاني المتباينين من غير تضاد، نحو: لا يعرف زيداً "من" عمرو.
الحادي عشر: موافقة "الباء"، نحو: {ينظرون من طرف خفي}. قال الأخفش: قال يونس: أي: بطرف خفي. كما تقول العرب: ضربته "من" السيف، أي: بالسيف. وهذا قول كوفي. ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية.
الثاني عشر: أن تكون بمعنى "في". ذكر ذلك بعضهم، في قوله تعالى: {ماذا خلقوا من الأرض}، أي: "في" الأرض. ولا حجة "في" ذلك، لاحتمال الآية غير هذا. وكونها بمعنى "في" منقول عن الكوفيين. ومن حجتهم قول الشاعر:
عسى سائل، ذو حاجة، إن منعته ... من اليوم، سؤلاً، أن ييسر في غد
ويحتمل أن تكون "من" فيه للتبعيض، على حذف مضاف، أي: "من" مسؤولات اليوم.
الثالث عشر: أن تكون لموافقة "رب". قاله السيرافي، وأنشد عليه:
وإنا لمما نضرب الكبش، ضربة ... على رأسه، تلقي اللسان من الفم
الرابع عشر: أن تكون للقسم. ولا تدخل إلا على الرب، فيقال: "من" ربي لأفعلن. بكسر "الميم" وضمها. وسيأتي بيان ذلك.
ولم يثبت أكثر النحويين ل "من" جميع هذه المعاني. وتأولوا كثيراً من ذلك على التضمين، أو غيره. وقد ذهب المبرد، وابن السراج، والأخفش الأصغر، وطائفة من الحذاق، والسهيلي، إلى أنها لا تكون إلا لابتداء الغاية، وأن سائر المعاني التي ذكروها راجع إلى هذا المعنى؛ ألا ترى أن التبعيض من أشهر معانيها، وهو راجع إلى ابتداء الغاية. فإنك إذا قلت: أكلت "من" الرغيف، إنما أوقعت الأكل على أول أجزائه، فانفصل. فمآل معنى الكلام إلى ابتداء الغاية. وإلى هذا ذهب الزمخشري؛ قال في مفصله ف من لابتداء الغاية، كقولك: سرت "من" البصرة. وكونها مبعضة في نحو: أخذت "من" الدراهم، ومبينة في نحو: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان}، ومزيدة في نحو: ما جاءني "من" أحد راجع إلى هذا. انتهى.

وأما الزائدة فلها حالتان:
الأولى: أن يكون دخولها في الكلام كخروجها. وتسمى الزائدة لتوكيد الاستغراق. وهي الداخلة على الأسماء، الموضوعة للعموم، وهي كل نكرة مختصة بالنفي، نحو: ما قام "من" أحد. فهي مزيدة هنا، لمجرد التوكيد، لأن ما قام "من" أحد وما قام أحد سيان في إفهام العموم، دون احتمال.
والثانية: أن تكون زائدة لتفيد التنصيص على العموم. وتسمى الزائدة، لاستغراق الجنس، وهي الداخلة على نكرة لا تختص بالنفي، نحو: ما في الدار "من" رجل. فهذه تفيد التنصيص على العموم، لأن ما في الدار رجل محتمل لنفي الجنس، على سبيل العموم، ولنفي واحد "من" هذا الجنس، دون ما فوق الواحد. ولذلك يجوز أن يقال: ما قام رجل "بل" رجلان. فلما زيدت "من" صار نصاً في العموم، ولم يبق فيه احتمال. وقيل: إنها في نحو ما جاءني "من" رجل، زائدة على حد زيادتها في: ما جاءني "من" أحد، لأنك إذا قلت: ما جاءني "من" رجل، فإنما أدخلت "من" على النكرة، عند إرادة الاستغراق، فصار رجل لما أردت به الاستغراق مثل أحد.
واعلم أن "من" لا تزاد عند سيبويه، وجمهور البصريين، إلا بشرطين:
الأول: أن يكون ما قبلها غير موجب. ونعني بغير الموجب النفي، نحو: {ما لكم من إله غيره}، والنهي نحو: لا يقم "من" أحد، والاستفهام، نحو {هل من خالق غير الله}. ولا يحفظ ذلك في جميع أدوات الاستفهام، إنما يحفظ في هل. وأجاز بعضهم زيادتها في الشرط، نحو: إن قام "من" رجل فأكرمه.
والثاني: أن يكون مجرورها نكرة، كما مثل.
وذهب الكوفيون إلى أنها تزاد، بشرط واحد، وهو تنكير مجرورها. قلت: نقل بعضهم هذا المذهب عن الكوفيين، وليس هو مذهب جميعهم، لأن الكسائي وهشاماً يريان زيادتها، بلا شرط. وهو مذهب أبي الحسن الأخفش. وإليه ذهب ابن مالك؛ قال لثبوت السماع بذلك، نظماً ونثراً. فمن النثر قوله تعالى: {ولقد جاءك من نبأ المرسلين}، وقوله {يحلون فيها من أساور}، وقوله {ويكفر عنكم من سيئاتكم}، وقوله {يغفر لكم من ذنوبكم}. ومن النظم قول عمر بن أبي ربيعة:
وينمي، لها، حبها عندنا ... فما قال من كاشح لم يضر
وذكر غير ذلك من الشواهد، التي ظاهرها الزيادة. وتأول المانعون هذه الآيات، ونحوها، بما هو مشهور.
وقال ابن يعيش اشترط سيبويه، لزيادتها، ثلاث شرائط:
أحدها: أن تكون مع النكرة.
والثاني: أن تكون عامة.
والثالث: أن تكون في غير الواجب.
وفي اشتراط كون النكرة عامة نظر، لأنها قد تزاد مع النكرة، التي ليست من ألفاظ العموم، كما تقدم، والظاهر أن مراده أن تكون النكرة مراداً بها العموم. فإن "من" لا تزاد مع نكرة، يراد بها نفي واحد من الجنس. قال ابن أبي الربيع: ومن الناس من قال: إنها تزاد بهذه الشروط الثلاثة، في غير باب التمييز. وأما في التمييز فتزاد، بغير هذه الشروط، نحو: لله درك "من" رجل. وادعى القائل بهذا أنه مذهب سيبويه.

ولزيادة "من" مواضع:
الأول: المبتدأ، نحو {ما لكم من إله غيره}.
الثاني: الفاعل، نحو {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث}.
الثالث: المفعول به، نحو {وما أرسلنا من رسول، إلا بلسان قومه}.
الرابع: الحال، نحو قراءة زيد بن ثابت، وأبي الدرداء. وأبي جعفر [ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء] بضم "النون"، وفتح "التاء". وحسن ذلك انسحاب النفي عليه، من جهة المعنى. ذكر هذا ابن مالك.
وأجاز في شرح التسهيل أن تزاد "من" عوضاً. فتقول: عرفت "ممن" عجبت، أي: عرفت "من" عجبت "منه". فحذف ما بعد "من"، وزيد الحرف قبلها عوضاً. وهذا لم يرد به سماع. وإنما أجازه، قياساً على ما ورد في "عن" و"على" و"الباء". وقد تأول بعضهم، ما ورد من ذلك، على غير الزيادة.
وقد كنت نظمت ل "من" اثني عشرؤ معنى، في هذين البيتين:
أتتنا من لتبيين، وبعض ... وتعليل، وبدء، وانتهاء
وإبدال، وزائدة، وفصل ... ومعنى عن، وفي، وعلى، وباء).
[الجنى الداني:308 - 321]


رد مع اقتباس