عرض مشاركة واحدة
  #14  
قديم 3 صفر 1440هـ/13-10-2018م, 10:25 AM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة آل عمران
[من الآية (33) إلى الآية (37) ]

{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)}

قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)}

قوله تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الناس: {ذُرِّيَّةً}، وقرأ زيد بن ثابت: [ذِرِّيَّة] بكسر الذال، و[ذَرِّيَّة] بفتح الذال.
قال أبو الفتح: يحتمل أصل هذا الحرف أربعة ألفاظ:
أحدها: ذرأ، والثاني: ذرر، والثالث: ذرو، والرابع: ذرى.
فأما الهمز، فمن ذرأ الله الخلق.
وأما ذرر، فمن لفظ الذر ومعناه؛ وذلك لما ورد في الخير أن الخلق كان في القديم كالذر.
وأما الواو والياء، فمن ذرَوت الحَب وذَريته، يقالان جمعيًا؛ وذلك لقوله سبحانه: {فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ}، وهذا للطفه وخفته، وتلك حال الذر أيضًا.
فهذه الأصول المنزوع إليها، المقود تصريف هذا الموضع عليها.
فأما {ذُرية} المضمومة، فإن أخذتها من ذرأ؛ فإنها في الأصل فُعِّيلة كمُرِّيق، وأصلها ذُرِّيئة، فألزمت التخفيف أو البدل كنبِيٍّ في أكثر اللغة، وكالخابية، وكالبرية، فيمن أخذها من برأ الله الخلق، وغير ذلك مما أُلزم التخفيف. ومثلها: {كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} فيمن جعله فُعِّيلًا من درأَت؛ وذلك لأنه يدرأ الظلمة عن نفسه بضوئه، وأصله على هذا دُرِّيءٌ فخفف، وقد قرئ به مهموزًا.
وإن أَخذت الذُّرية من الذَّرِّ احتمل خمسة أوجه:
أحدها: أن يكون فُعْلِيَّة كبختية وقمرية.
والآخر: أن تكون منسوبة إلى الذر، إلا أنه غُير أولها؛ لما قد يعرض من التغيير لياءي الإضافة، كقولهم في الإضافة إلى أمس: إمسي، وإلى الأفق: أَفَقِي، وإلى الحرَم: حِرْمي، وإلى جَذِيمة: جُذمِيّ، وإلى عبيدة: عُبدِي، وإلى الدهر: دُهْرِي، وإلى السهل: سُهْلِي.
والثالث: أن تكون ذرية فُعِّيلة كمُرِّيقة؛ إلا أن أصلها ذُرِّيرة على هذا، فلما كثرت
[المحتسب: 1/156]
الراءات أبدلوا الآخرة ياء وأدغموا فيها ياء فُعِّيلة التي قبلها، ونحو منه مما أبدل فيه أحد الأمثال ياء هربًا من تكريرها قولهم: تظنَّيْتُ، وتَسَرَّيْتُ، وتَلعَّيْتُ من اللُّعَاعة وهي يقلة، وقَصَّيتُ أظافري، وتفَضَّيْتُ من الفضة، وكقوله:
تقضِّيَ البازي إذا البازي كسر
هو تَفعُّل من الانقضاض، وأصله تقَضُّض، كما أن أصل تظنيت تظننت، وتسريت تسررت؛ لأنه تفعلت من السُّرِّية فيمن أخذها من السِّر وهو النكاح، أو من السر لأنه في غالب الأمر مكتومة الأمر من صاحبة المنزل. وهذا قول أبي الحسن الكرخي. وأصل تلعيت تلععت، وأصل قصيت أظفاري قصصت، ويمكن أن يكون أُخِذت من أَقاصِيها فلا يكون مبدلًا، وأصل تفضيت تَفَضَّضْتُ، وقالوا: فأبدالوا مع الاثنين في أمللت الكتاب: أمليت، وقال الأسود بن يعفر:
وأقسمت لا أملاه حتى يفارقا
يريد: أَملُّه، فأبدلوا الثاني منها ياء للتكرير، ثم أُبدلت الياء ألفًا؛ فصار أملاه.
وأخبرنا أبو علي قال: قال أحمد بن يحيى عنهم: "لا وَرَبْيِك لا أفعل"، يريد: لا وربك، ونظائره كثيرة. فأصل ذرية على هذا ذُرِّيرة فُعِّيلة كمُرِّيقة، فأُبدلت الراء الأخيرة لما ذكرنا ياء، وأدغمت فيها ياء فُعِّيلة؛ فصارت ذُرِّيَّة.
والرابع: أن تكون فُعُّولة كجُبُّورة وكسبوح وقدوس، وأصله على هذا ذُرُّورة، فأبدلت الراء الأخيرة -لما ذكرنا من اجتماع الأمثال- ياء؛ فصارت ذُرُّويَة، ثم أبدلت الواو لوقوعها ساكنة قبل الياء ياء والضمة قبلها كسرة، وأدغمت في الياء المبدلة من الراء؛ فصارت ذُرِّية كما ترى.
[المحتسب: 1/157]
والخامس: أن تكون فُعْلولة منه؛ كقُرْدودة وحُبْرورة، وأصلها على هذا ذُرُّورة؛ فعُمل فيها ما عمل فيما يليها، فهذا حديث ذرية إذا كانت من ذرر.
وإن كانت من لفظ ذرو أو ذرى احتملت مثالين:
أحدهما: أن يكون فُعُّولة.
والآخر: أن يكون فُعِّيلة.
فإذا كانت فعولة من الواو فأصلها ذُرُّوَّة، كفعولة من غروت غُزُّوَّة، إلا أن الاسم طال وضوعفت في آخره الواو فاستثقلت، فأُبدلت اللام ياء للتخفيف فصار ذُرُّوية، فأبدلت الواو لوقوع الياء بعدها والواو ساكنة ياء والضمة قبلها كسرة كما قلبت هي ياء وأدغمت في الياء؛ فصارت ذُرِّيَّة.
ومثل ذلك مما أبدل لطوله وثِقَل تضعيف الواو أُدْحيَّة، وأصلها أُدحُوَّة؛ لأنها من دحوت، وأَدعيَّة وأصلها أُدعُوَّة؛ لأنها من دعوت، وأُحْجِيَّة وأصلها أُحجوَّة؛ لأنها من حجوت؛ أي: ثَبَتُّ، وأُضحيَّة وأصلها أُضْحُوَّة؛ لأنها من الضحوة، فأبدلت لما ذكرنا؛ فصار جميعها إلى الياء.
وإن كانت ذُرية من الياء -وهي فُعُّولة- فخطبها أيسر؛ لأن أصلها ذروية، ولزمها من إبدال الواو وإدغامها ما لزم فيما قبلها. انقضى أمر ذُرية بضم الذال.
وأما [ذِرِّيَّة] بكسر الذال فتكون من ذرأ الله الخلق، فلا يجوز فيها إلا أن تكون فِعِّيلة، وأصلها ذِرِّيئة، ثم أُلزمت التخفيف أو البدل على ما مضى؛ فصارت ذِرِّيَّة.
فإن أَخذت ذِرِّية من الذر احتتملت أربعة أوجه:
أحدها: أن تكون فِعْليَّة كحِيريِّ دهر.
والآخر: أن تكون منسوبة إلى الذر؛ إلا أنها كسر أولها للتغيير المعتاد مع ياءي الإضافة؛ كقولهم في أمس: إِمسي.
والثالث: أن تكون فِعِّيلة؛ كبِطيخة وجرِّيَّة، وأصلها ذِرِّيرة، ثم غيرت الراء الأخيرة لكثرة الراءات ياء على ما مضى، ثم أُدغمت فيها الياء قبلها؛ فصارت ذِرِّيَّة.
[المحتسب: 1/158]
الرابع: أن تكون فِعْليلَة كحِلتيت وحِبرير، وأصلها على هذا ذِرِّيرَة، ثم فيها ما عمل في الذي يليها.
فإن أَخذت ذِرية من ذرو أو من ذرى لم تكن إلا فِعِّيله ألبتة، وأصلها من الواو ذِريوة، فأبدلت الواو ياء، وأدغمت فيها ياء المد قبلها؛ فصارت ذِرية.
وإن كانت من الياء فلا صنعة فيها، فهي كفِعِّيلة من رميت رِمِّيَّة. انقضت ذِرية بكسر الذال.
وأما ذَرِّيَّة بفتح الذال فتكون من لفظ الذَّر، وتكون من لفظ ذرأ، وتكون من لفظ ذرو، وتكون من لفظ ذرى.
فإذا كانت من لفظ ذرر احتملت أن تكون فَعْلِيَّة كبَرْنِيَّة، وأن تكون فَعُّولَة كخَرُّوبَة، وأن تكون فَعْلُولة كبَعْكُوكَة، وأن تكون فِعِّيلة كسكينة، فتلك أربعة أوجه.
أما فَعْلِيَّة فأمرها واضح.
وأما فَعُّولَة فأصلها ذَرُّورة، فاجتمعت الراءات فأبدلت الآخرة ياء على ما قدمنا ذكره من تظنيت وتقضيت، فصارت ذَرُّوية، فلما اجتمعت الواو والياء وسكن الأول منهما قلبت الواو ياء، وأُدغمت الياء في الياء؛ فصارت ذَرِّية.
وأما فَعْلُولة فأصلها أيضًا ذَرُّورَة، فعُمل فيها من البدل والإدغام ما عمل في فَعُّولة.
وأما فَعِّيلة فأصلها ذَرِّيرَة، فأبدلت الراء الأخيرة لما ذكرنا ياء، وأدغمت فيها ياء المد قبلها؛ فصارت ذَرِّية.
فإذا كانت من لفظ ذرأ احتملت أن تكون فَعِّيلة كسكينة، وأن تكون فَعُّولة كخَرُّوبة.
فإذا كانت فَعِّيلة فأصلها ذَرِّيئة، فألزمت الهمزة التخفيف ألبتة أو البدل فقلبت ياء، ثم أدغمت فيها الياء قبلها؛ فصارت ذَرِّية.
وأما إذا كانت فَعُّولة فأصلها ذَرُّوءة، فأبدلت الهمزة ياء فصارت ذَرُّويَة، ثم أبدلت الواو ياء للياء بعدها، وأدغمت الياء المبدلة في الياء الثانية؛ فصارت ذَرِّيَّة.
ولا يجوز على هذا أن تكون همزة ذَرُّوءَة خففت؛ لأنه لو كان كذلك لقلبت واوًا لوقوع الواو قبلها، ثم أدغمت واو فَعُّولة فيها فصارت ذَرُّوَّة، كما أنك لو خففت مقروءة لقلت: مَقْرُوَّة، وهذا واضح.
[المحتسب: 1/159]
وأما فَعِّلية -أعني: ذَرِّيئة- فإنك إن أبدلتها أو خففتها استوى فيها اللفظان، فقلت: ذَرِّيَّة، كما تقول في تخفيف جِرِّيئة وأبدالها جِرِّيَّة، وهذا واضح.
وإذا كانت من لفظ الذَّرْوِ فإنها فَعِّيلة، وأصلها ذَرِّيوَة، فقلبت الواو لسكون الياء قبلها، وأدغمت الياء الأولى فيها؛ فصارت ذَرِّيَّة. ولا تحتمل وهي من الواو أن تكون فَعُّولة؛ لأنه كان يجب على هذا أن تكون ذَرُّوَّة، والحمل على أُدْحِيَّة جائز، إلا أنه ليس بالظاهر، وليس كذلك أُدْعِيَّة وأدحية وأضحية؛ لأنه قد أُمن أن يكون في الكلام أُفْعِيل؛ لأنه لم يأتِ عنهم، فلا بد إذن من أن يكون أصلها أُدْحُوَّة وأدعوة وأضحوة، فغيرت إلى الياء تخفيفًا استحسانًا لا وجوبًا، وليس كذلك ذَرِّية لو كانت من الذَّرْو؛ لأنه ليس واجبًا أن تكون فَعُّولة؛ بل قد يجوز أن تكون فَعِّيلة، فافهم ذلك.
وأما إذا كانت من ذرى، فإنها تحتمل أن تكون فَعُّولة وفَعِّيلة، فأصل فَعُّولة ذَرُّويَة، فأبدلت الواو للياء بعدها، وأدغمت الأولى في الثانية؛ فصارت ذَرِّيَّة.
وأصل فَعِّيلة ذَرِّية هكذا وكما ترى؛ لأنك أدغمت الياء الأولى في الثانية فصارت ذَرِّية، ومثلها من قَضَيْتُ قَضِيَّة، ومن رميت رمية. انتهى القول في ذُرية وذِرية وذَرية، ودعانا إلى إشباع القول عليها أن لم يتقدم أحد ببسطها، وحسبنا الله). [المحتسب: 1/160]

قوله تعالى: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله: (فتقبّل منّي إنّك... (35)
فتح الياء من (منّي) نافع وأبو عمرو). [معاني القراءات وعللها: 1/256]

قوله تعالى: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (واللّه أعلم بما وضعت... (36).
قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويعقوب: (بما وضعت) بضم التاء، وقرأ الباقون: (بما وضعت)، مثل: فعلت قال أبو منصور: من قرأ (بما وضعت) فهو قول أم مريم وفعلها.
ومن قرأ (بما وضعت) فهو إخبار الله - عزّ وجلّ - عن فعلها). [معاني القراءات وعللها: 1/251]
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله: (وإنّي أعيذها... (36)
فتح الياء من (إنّي أعيذها) نافع وحده). [معاني القراءات وعللها: 1/257]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (29- وقوله تعالى: {والله أعلم بما وضعت} [36].
قرأ عاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر {بما وضعت}.
وقرأ الباقون {وضعت} بإسكان التاء على معنى أن الله خبر بما وضعت هي، ومن ضم التاء أراد: مريم خبَّرت عن نفسها). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/111]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في ضمّ التاء وتسكين العين، وفتح العين وتسكين
[الحجة للقراء السبعة: 3/31]
التاء في قوله تعالى: بما وضعت [آل عمران/ 36].
فقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر بما وضعت بضم التاء وإسكان العين.
وروى حفص عن عاصم والمفضّل عن عاصم: (بما وضعت) بالإسكان.
وقرأ الباقون: (وضعت) بالإسكان مثل حفص.
قال أبو علي: من قرأ: والله أعلم بما وضعت [آل عمران/ 36] جعله من كلام أمّ مريم. وإسكان التاء أجود في قوله: والله أعلم بما وضعت لأنّها قد قالت: رب إني وضعتها أنثى [آل عمران/ 36] فليست تحتاج بعد هذا أن تقول: والله أعلم بما وضعت.
ووجهه: أنّه كقول القائل في الشيء: ربّ قد كان كذا وكذا. وأنت أعلم، ليس يريد إعلام الله سبحانه ذلك، ولكنّه كالتسبيح والخضوع والاستسلام له، وليس يريد بذلك إخبارا.
ومن قرأ: والله أعلم بما وضعت جعل ذلك من قول الله تعالى، والمعنى: أنّ الله- سبحانه- قد علم ما قالته، قالته هي أو لم تقله. وممّا يقوّي قول من أسكن التاء، قوله: والله أعلم بما وضعت
[الحجة للقراء السبعة: 3/32]
ولو كان من قول أمّ مريم لكان: وأنت أعلم بما وضعت، لأنّها تخاطب الله سبحانه.
وقال بعض المتأوّلين: كانوا لا يحررون الإناث والله أعلم بما وضعت على جهة النّدم، وأنّها فعلت ما لا يجوز، فلذلك قالت:
وليس الذكر كالأنثى [آل عمران/ 36] لأنّ الذكر يتصرف في الخدمة والأنثى خلافه، وكانت الأحبار يكفلون المحررين، فاقترعوا على مريم بأقلامهم، فغلب عليها زكريا). [الحجة للقراء السبعة: 3/33]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({قالت رب إنّي وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت}
قرأ ابن عامر وأبو بكر {والله أعلم بما وضعت} بضم التّاء جعلوها من كلام أم مريم وحجتهم أنّها قالت {رب إنّي وضعتها أنثى} كانت كأنّها أخبرت الله بأمر هو أعلم به منها فتداركت ذلك بقولها {والله أعلم بما وضعت} كما قال عز وجل {قالت الأعراب آمنا} قال الله جلّ وعز {قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السّماوات وما في الأرض} وهي مع ذلك إذا قرئت بالضّمّ لم يكن فيها تقديم وتأخير
وقرأ الباقون والله أعلم {بما وضعت} بسكون التّاء وحجتهم أنّها {قالت رب إنّي وضعتها أنثى} فكيف تقول بعدها {والله أعلم بما وضعت} أنا والمعنى الواضح هو أنّها {قالت رب إنّي وضعتها أنثى}
[حجة القراءات: 160]
فقال الله جلّ وعز {والله أعلم بما وضعت} هي منها وفي القراءة تقديم وتأخير معناها قالت رب إنّي وضعتها أنثى وليس الذّكر كالأنثى فقال الله جلّ وعز {والله أعلم بما وضعت} وحجّة أخرى لو كان كله كلامها لكانت رب إنّي وضعتها أنثى وأنت أعلم بما وضعت). [حجة القراءات: 161]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (17- قوله: {بما وضعت} قرأه أبو بكر وابن عامر بضم التاء، وإسكان العين، وقرأ الباقون بفتح العين، وإسكان التاء.
18- وحجة من ضم التاء أنه جعله من كلام أمر مريم، لاتصال كلامهما بما بعد ذلك، وما قبله في قولها: {رب إني وضعتها أنثى} وقولها: {وليس الذكر كالأنثى}، وقولها: {وإني سميتها مريم}، وقولها: {وإني أعيذها بك} فكله من كلام أم مريم، فحمل وسط الكلام على أوله وعلى آخره، وذلك حسن في المطابقة والمجانسة، كما تقول: ربي قد أذنبت وأنتم أعلم بذلك، على طريق التسليم والخضوع، وفي القراءة بضم التاء معنى التعظيم لله، والخضوع والتنزيه له، أن يخفى عليه شيء، كأن أم مريم لما قالت رب إني وضعتها أنثى، أرادت أن تعظم الله، وتنزهه عن أن يخفى عليه شيء فقالت: والله أعلم بما وضعت، لا يحتاج إلى أن تخبره بذلك، ولم تقل ذلك على طريق الإخبار، لأن علم الله بكل شيء قد تقرر في أنفس المؤمنين، وإنما قالته على طريق التعظيم، والتنزيه لله، وذكره بما هو أهله.
19- وحجة من قرأ بإسكان التاء أنه جعله من الله جل ذكره، والمعنى: أن الله أعلمنا عن طريق التثبت لنا، وقال: والله أعلم بما وضعت أم مريم، قالته أو لم تقله، ويقوي ذلك أنه لو كان من قول أم مريم لكان وجه الكلام: وأنت أعلم بما وضعت، لأنها نادته في أول الكلام في قولها: {رب إني وضعتها}،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/340]
والمنادي مخاطب، فلما قال: والله أعلم، كان الإخبار عن نفسه أولى، فقال: وضعت، وبه قرأ ابن عباس والحسن وغيرهما). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/341]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (10- {بِمَا وَضَعَتْ} [آية/ 36]:-
بسكون العين وضم التاء، قرأها ابن عامر وعاصم ياش- ويعقوب.
والوجه أن ذلك من كلام أم مريم، وهو يجري مجرى قول القائل: يا رب قد كان كذا وكذا وأنت أعلم، يريد الخضوع والاستسلام، ويظهر أنه لا يقول ذلك على سبيل الإعلام، فإن الله سبحانه أعلم.
ويجوز أن يكون المراد: والله أعلم بما وضعت أيصلح لخدمة بيت المقدس وإن كانت أنثى أم لا يصلح لذلك؟ فإنهم كانوا لا يجعلون لهذا الشأن إلا الذكور.
وقرأ الباقون {بِمَا وَضَعَتْ} بفتح العين وإسكان التاء، على أنه قول الله تعالى؛ لأن أم مريم {قَالَتْ: رَبّ إنّي وَضَعْتُها أُنْثى}، فقال الله تعالى والله أعلم بذلك، ولكن تحت ذلك أمر هو بالغه، ويؤيد هذه القراءة أنه لو كان من قول أم مريم وكانت التاء مضمومةً لكان: وأنت أعلم بما وضعت؛ لأنها خاطبت الله تعالى). [الموضح: 368]

قوله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (وكفّلها زكريّا... (37).
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب (وكفلها) خفيف (زكريّاء) ممدود مرفوع، وقرأ أبو بكر عن عاصم: (وكفّلها) الفاء مشدد.
و (زكريّاء) ممدود مهموز أيضًا.
وقرأ حمزة والكساني وحفص: (وكفّلها) مشددا (زكريّاء) مقصورا في
[معاني القراءات وعللها: 1/251]
كل القرآن.
قال أبو منصور: من شدد (وكفّلها) جعل (زكريّا) مفعولاً ثانيًا، والمفعول الأول مريم، ومن خفف الفاء جعل (زكريّا) في موضع الرفع؛ لأنه فاعل.
وفي (زكريا) ثلاث لغات: القصر حتى لا يستبين في الألف نصب ولا رفع ولا خفض.
واللغة الثانية: مد الألف فتنصب وترفع ولا تخفض ولا تنون؛ لأنه اسم لا ينصرف، وبهاتين اللغتين نزل القرآن.
وأما اللغة الثالثة فلا تجوز القراءة بها، وهو قولك: (هذا زكريٌّ قد جاء)، فيجوز لإشباهه المنسوب من أسماء العرب.
ومعنى قوله: (وكفلها زكريّاء) أي: ضمن القيام بأمرها وتربيتها.
ومن قرأ (وكفّلها زكريّا) فالمعنى: (وكفّلها اللّه زكريّا) ). [معاني القراءات وعللها: 1/252]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (30- وقوله تعالى: {وكفلها زكريا} [37].
قرأ أهل الكوفة: {وكفلها} مشددة.
وقرأ الباقون مخففة.
وقرأ حمزة والكسائي وحفص: {زكريا} مقصورًا.
وقرأ الباقون ممدودًا، غير أن من شدد (كفلها) نصب زكريا، ومن خففها رفع، قال أبو عمرو: الاختيار التخفيف لقوله: {أيهم يكفل مريم} ولم يقل يكفل وقال أبو عبيدة: يقال: كفل يكفل، وكفل يكفل، وكفل يكفل.
فأما (زكريا) فالقصر والمد فيه لغتان، وفيه لغة ثالثة (زُكريٌّ) على وزن بُخْتِيٍّ، فمن مد زكرياء ثناه: زكرياآن، ومن قصر قال: زكرييان، وإن شئت حذفت ياء فقلت: زكريان). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/111]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في تشديد الفاء وتخفيفها من قوله عزّ وجلّ: وكفلها زكريا [آل عمران/ 37] ومدّ (زكرياء) وقصره ورفعه ونصبه.
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: (وكفلها) مفتوحة الفاء خفيفة، و (زكرياء) رفع ممدود.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر (وكفّلها) مشدّدة و (زكرياء) نصب وكان يمدّ (زكرياء) في كلّ القرآن، وكذلك كلّ من تقدّم ذكره، هذه رواية أبي بكر.
وروى حفص عن عاصم: (وكفّلها) مشددا و زكريّا قصرا في كل القرآن.
[الحجة للقراء السبعة: 3/33]
وكان حمزة والكسائي يشددان (كفّلها)، ويقصران (زكريّا) في كل القرآن.
قال أبو علي: حجة من خفّف (كفّلها) قوله تعالى: أيهم يكفل مريم [آل عمران/ 44] و (زكرياء) مرتفع لأنّ الكفالة مسندة إليه، فأمّا من قال: وكفلها زكرياء فشدّد الفاء، فإنّ كفلت يتعدى إلى مفعول واحد، فإذا ضاعفت العين تعدى إلى مفعولين نحو:
غرم زيد مالا، وغرّمت زيدا مالا، وفاعل كفّلها فيمن شدّد الضمير العائد إلى ربّها من قوله: فتقبلها ربها بقبول حسن [آل عمران/ 37] وزكرياء الذي كان فاعلا قبل تضعيف العين صار مفعولا ثانيا بعد تضعيف العين.
وأمّا زكرياء: فالقول في همزته أنّها لا تخلو من أن تكون للتأنيث أو للإلحاق أو منقلبة، فلا يجوز أن تكون للإلحاق لأنّه ليس شيء في الأصول على وزنه فيكون هذا ملحقا به. ولا يجوز أن تكون منقلبة لأنّ الانقلاب لا يخلو من أن يكون من نفس الحرف أو من حرف للإلحاق، فلا يجوز أن يكون من نفس الحرف لأنّ الياء والواو لا يكونان أصلا فيما كان على أربعة أحرف، ولا يجوز أن يكون منقلبا من حرف الإلحاق لأنّه ليس في الأصول شيء يكون هذا ملحقا به! فإذا بطل هذان، ثبت أنّه للتأنيث، وكذلك القول فيمن قصر. فقال: زكريا. ونظير القصر والمدّ في هذا الاسم قولهم: الهيجا والهيجاء، قال:
[الحجة للقراء السبعة: 3/34]
وأربد فارس الهيجا إذا ما... تقعّرت المشاجر بالفئام
وقال:
إذا كانت الهيجاء وانشقّت العصا... فحسبك والضّحّاك عضب مهنّد
لمّا أعربت الكلمة وافقت العربية. وقد حذفوا ألف التأنيث من الكلمة فقالوا: هو يمشي الجيضّ والجيضّى، فعلى هذا قالوا: زكرياء وزكريّ، فمن قال: زكريّ صرف، والقول فيه أنّه حذف الياءين اللتين كانتا في (زكرياء) و (زكريا) وألحق الكلمة ياءي النسب، يدلك على ذلك صرف الاسم، ولو كانت الياءان في زكري الياءين اللتين كانتا في (زكرياء) و (زكريّا)، لوجب أن لا ينصرف الاسم للعجمة والتعريف كما أنّ إبراهيم ونحوه من
[الحجة للقراء السبعة: 3/35]
الأعجمية لا ينصرف، فانصراف الاسم يدلّ على أنّ الياءين للنسب، فانصرف الاسم وإن كان لو لم تلحق الياءان لم ينصرف بالعجمة والتعريف، يدلّك على ذلك أنّ ما كان على وزن مفاعل لا ينصرف فإذا ألحقته ياءي النسب انصرف كقوله:
مدائنيّ ومعافريّ.
وقد جرت تاء التأنيث هذا المجرى، فقالوا: صياقل، فلم يصرفوا، وألحقوا التاء فقالوا: صياقلة، فاتفق تاء التأنيث، وياء النسب في هذا كما اتفقا في روميّ، وروم، وشعيرة، وشعير، ولحقت الاسم الياءان وإن لم يكن فيه معنى نسب إلى شيء كما لم يكن في كرسيّ وقمريّ وثمان معنى نسب إلى شيء، وهذا نظير لحاق تاء التأنيث ما لم يكن فيه معنى تأنيث: كغرفة وظلمة ونحو ذلك، ويدل على أنّ الياءين في زكريّ ليستا اللتين كانتا في (زكرياء) أنّ ياءي النسب لا تلحقان قبل ألف التأنيث وإن كانتا قد لحقتا قبل التاء من بصرية لأنّ التاء بمنزلة اسم مضموم إلى اسم، والألف ليست كذلك. ألا ترى أنّك تكسر عليها الاسم والتاء ليست كذلك؟). [الحجة للقراء السبعة: 3/36]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (قال: وكلهم [فتح الراء من: المحراب] [آل عمران/ 37 و 39]: إلا ابن عامر فإنه أمالها.
قال أبو علي: قد أطلق أبو بكر القول في إمالة ابن عامر الألف من محراب. ولم يخصّ به الجرّ من غيره. وقال غيره:
إنّما يميله في الجر. وحجة من لم يمل أنّ «راب» من محراب
[الحجة للقراء السبعة: 3/39]
بمنزلة راء وراءة ونحو ذلك. فكما لا تمال الراء من هذا النحو كذلك ينبغي أن لا تمال من المحراب في الجرّ ولا في الرفع.
ألا ترى أنّه لا تمال رادة من قولهم: ريح رادة وراشد؟. والراء من «راب» بمنزلة الراء من راشد. فإن قلت: فهلّا جازت إمالتها للكسرة التي في الميم كما جازت الإمالة في مقلات للكسرة.
قيل إنّ من أمال مقلاتا، إنّما أماله لأنّه قدّر الكسرة كأنّها على القاف، لأنّها تليها، والقاف إذا تحركت بالكسر حسنت إمالة الألف بعدها. نحو: ققاف وغلاب. ولو قدّرت الكسرة على الحاء من محراب كما قدّرتها على القاف من مقلات لم تحسن الإمالة، ألا ترى أنّ «حراب» بمنزلة فراش، وفراس؟.
وقد قال: إنّهم لا يميلون فراشا، فكذلك المحراب، يريد سيبويه، بقوله: لا يميلون، لا يميله الأكثر. وحجة من أمال الألف من «محراب» أنّ سيبويه قد زعم أنّهم قالوا: عمران، ولم يميلوا برقان يعني: أنّهم لم يجعلوا الراء كالمستعلي في منع الإمالة، فعلى هذا يجوز أن تمال الألف في «محراب» في
[الحجة للقراء السبعة: 3/40]
الرفع، وزعم أيضا أنّهم قالوا: ذا فراش، هذا جراب، لما كانت الكسرة أولا والألف زائدة. قال: والنصب فيه كلّه حسن). [الحجة للقراء السبعة: 3/41] (م)
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وكفلها زكريّا}
قرأ عاصم وحمزة والكسائيّ وكفلها بالتّشديد زكريّا مقصورا
وقرأ أبو بكر (زكريّاء) بالنّصب أي (وكفلها الله زكريّاء) أي ضمها إليه
وحجتهم أن الكلام تقدم بإسناد الأفعال إلى الله وهو قوله قبلها {فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا} فكذلك أيضا وكفلها ليكون معطوفًا على ما تقدمه من أفعال الله
وقرأ الباقون {وكفلها} بالتّخفيف (زكريّاء) بالمدّ والرّفع قال أبو عبيد كفلها أي ضمنها ومعناه في هذا ضمن القيام بأمرها وحجتهم قوله {إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم} ولم يقل يكفل فالكفالة مسندة إليهم وكذلك في هذا الموضع وأما زكريّاء وزكريا فإنّهما لغتان بالمدّ والقصر والقصر أشبه بما جاء في القرآن وفي غيره من أسماء الأنبياء كموسى وعيسى وانشا ويهودا وليس فيها
[حجة القراءات: 161]
شيء ممدود فكذلك زكريّا هو بمنزلة نظائره). [حجة القراءات: 162]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (20- قوله: {كفلها زكريا} قرأه الكوفيون بالتشديد، وخفف الباقون، وقرأ حفص وحمزة والكسائي {زكريا} بغير مد، ولا همز، ومده الباقون وهمزوه.
21- وحجة من شدد أنه أضاف الفعل إلى الله جل وعز في قوله: {فتقبلها ربها وأنبتها}، فأخبر عن نفسه تعالى بما فعل بها، كذلك يجري {كفلها} على ذلك، يخبر عن نفسه بأنه كفلها زكريا أي ألزمه كفالتها، وقدّر ذلك عليه، ويسره له، فيكون {زكريا} المفعول الثاني لـ {كفلها}، لأنه بالتشديد، يتعدى إلى مفعولين، ويقوي التشديد أن في مصحف أبي «وأكفلها»، والهمزة كالتشديد في التعدي.
22- وحجة من خفف أنه أسند الفعل إلى زكريا، فأخبر الله عنه أنه هو الذي تولى كفالتها، والقيام بها، بدلالة قوله: {إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم} «44» فأخبر عنهم أنهم تنازعوا في كفالتها، وتشاجروا في الدين، حتى رموا بأقلامهم التي كانوا يكتبون بها الوحي، واستهموا بها على كفالة مريم، فخرج قلم زكريا بإذن الله وقدرته، فكفلها زكريا، فالفعل مسند إليه، فيجب تخفيف {كفلها} لذلك، وهو الاختيار، لأن التشديد يرجع إلى
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/341]
التخفيف، لأن الله إذا كفلها زكريا كفلها زكريا بأمر الله له، ولأن زكريا إذا كفلها فعن مشيئة الله وقدرته وإرادته، فعلى ذلك فالقراءتان متداخلتان، فأما مد {زكريا} وقصره فلغتان للعرب مشهورتان، وهمزة {زكريا} للتأنيث، وكذلك الألف للتأنيث، في قراءة من قصره، وقرأ أبو بكر بنصب {زكريا} لأنه يقرأ {وكفلها} بالتشديد، فتعدّى الفعل إلى مفعولين: إلى المضمر وإلى زكريا، فينصبه، ولا يلزم ذلك من قرأ بالتخفيف، لأن الفعل مع التخفيف إنما يتعدى إلى مفعول واحد، وهو الضمير العائد على مريم، وزكريا مع التخفيف فاعل، ومع التشديد مفعول به). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/342]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (11- {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آية/ 37]:-
بتخفيف {كَفَلَها} ومد {ذَكَرِّيَا} ورفعها، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب.
وذلك أن زكريا فاعل {كَفَلَها} فهو يرتفع بفعله، وكفل يتعدى إلى مفعول واحدٍ.
[الموضح: 368]
وقرأ عاصم ياش- {وَكَفَّلَهَا} بالتشديد {زَكَرِيّاءَ} بالمد والنصب؛ لأنه ضاعف كفل فتعدى إلى مفعولين، فالضمير المؤنث في «كفلها» مفعول أول و«زكرياءَ» مفعول ثانٍ، وفاعل كفل على هذا هو الضمير المستكن العائد إلى الرب تعالى من قوله تعالى {فَتَقَبَّلَها رَبُّها}.
وقرأ حمزة والكسائي و- ص- عن عاصم {وَكَفَّلَها} بالتشديد {زَكَرِيّا} مقصورٌ.
وهذا على ما قدمناه آنفًا من كون الفعل متعديًا الى مفعولين و{زكريّا} في موضع نصب على أنه مفعول ثانٍ، وإن كان لا يتبين فيه الإعراب؛ لأن في آخره ألفًا مقصورة. و{زكريا} فيه لغتان المد والقصر، والألف منه في كلتا اللغتين للتأنيث). [الموضح: 369]

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس