عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 30 جمادى الأولى 1435هـ/31-03-2014م, 02:13 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {ألم تر إلى الّذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ حذر الموت فقال لهم اللّه موتوا ثمّ أحياهم إنّ اللّه لذو فضلٍ على النّاس ولكنّ أكثر النّاس لا يشكرون (243) وقاتلوا في سبيل اللّه واعلموا أنّ اللّه سميعٌ عليمٌ (244) من ذا الّذي يقرض اللّه قرضًا حسنًا فيضاعفه له أضعافًا كثيرةً واللّه يقبض ويبسط وإليه ترجعون (245)}
روي عن ابن عبّاسٍ «أنّهم كانوا أربعة آلافٍ» وعنه: «كانوا ثمانية آلافٍ». وقال أبو صالحٍ: «تسعة آلافٍ» وعن ابن عبّاسٍ: «أربعون ألفًا» وقال وهب بن منبّهٍ وأبو مالكٍ: «كانوا بضعةً وثلاثين ألفًا» وروى ابن أبي حاتمٍ عن ابن عبّاسٍ قال: «كانوا أهل قريةٍ يقال لها داوردان». وكذا قال السّدّيّ وأبو صالحٍ وزاد: «من قبل واسطٍ». وقال سعيد بن عبد العزيز: «كانوا من أهل أذرعاتٍ»، وقال ابن جريجٍ عن عطاءٍ قال: «هذا مثلٌ». وقال عليّ بن عاصمٍ: «كانوا من أهل داوردان؛ قريةٌ على فرسخٍ من واسطٍ».
وقال وكيع بن الجرّاح في تفسيره: حدّثنا سفيان عن ميسرة بن حبيبٍ النّهديّ، عن المنهال بن عمرٍو الأسديّ عن سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبّاسٍ: {ألم تر إلى الّذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ حذر الموت} قال: «كانوا أربعة آلافٍ خرجوا فرارًا من الطّاعون قالوا: نأتي أرضًا ليس بها موتٌ حتّى إذا كانوا بموضع كذا وكذا قال اللّه لهم موتوا فماتوا فمرّ عليهم نبيٌّ من الأنبياء فدعا ربّه أن يحييهم فأحياهم، فذلك قوله عزّ وجلّ: {ألم تر إلى الّذين خرجوا من ديارهم وهم ألوفٌ حذر الموت} الآية».
وذكر غير واحدٍ من السّلف أنّ هؤلاء القوم كانوا أهل بلدةٍ في زمان بني إسرائيل استوخموا أرضهم وأصابهم بها وباءٌ شديدٌ فخرجوا فرارًا من الموت إلى البرّيّة، فنزلوا واديًا أفيح، فملأوا ما بين عدوتيه فأرسل اللّه إليهم ملكين أحدهما من أسفل الوادي والآخر من أعلاه فصاحا بهم صيحةً واحدةً فماتوا عن آخرهم موتة رجلٍ واحدٍ فحيزوا إلى حظائر وبني عليهم جدران وقبورٌ وفنوا وتمزّقوا وتفرّقوا فلمّا كان بعد دهرٍ مرّ بهم نبيٌّ من أنبياء بني إسرائيل يقال له: حزقيل فسأل اللّه أن يحييهم على يديه فأجابه إلى ذلك وأمره أن يقول: أيّتها العظام البالية إنّ اللّه يأمرك أن تجتمعي فاجتمع عظام كلّ جسدٍ بعضها إلى بعضٍ، ثمّ أمره فنادى: أيّتها العظام إنّ اللّه يأمرك بأن تكتسي لحمًا وعصبًا وجلدًا. فكان ذلك، وهو يشاهده ثمّ أمره فنادى: أيّتها الأرواح إنّ اللّه يأمرك أن ترجع كلّ روحٍ إلى الجسد الّذي كانت تعمره. فقاموا أحياءً ينظرون قد أحياهم اللّه بعد رقدتهم الطّويلة، وهم يقولون: سبحانك اللّهمّ ربّنا وبحمدك لا إله إلّا أنت.
وكان في إحيائهم عبرةٌ ودليلٌ قاطعٌ على وقوع المعاد الجسمانيّ يوم القيامة ولهذا قال: {إنّ اللّه لذو فضلٍ على النّاس} أي: فيما يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة والدّلالات الدّامغة، {ولكنّ أكثر النّاس لا يشكرون} أي: لا يقومون بشكر ما أنعم اللّه به عليهم في دينهم ودنياهم.
وفي هذه القصّة عبرةٌ ودليلٌ على أنّه لن يغني حذرٌ من قدرٍ وأنّه، لا ملجأ من اللّه إلّا إليه، فإنّ هؤلاء فرّوا من الوباء طلبًا لطول الحياة فعوملوا بنقيض قصدهم وجاءهم الموت سريعًا في آنٍ واحدٍ.
ومن هذا القبيل الحديث الصّحيح الّذي رواه الإمام أحمد: حدّثنا إسحاق بن عيسى أخبرنا مالكٌ وعبد الرّزّاق أخبرنا معمرٌ كلاهما عن الزّهريّ عن عبد الحميد بن عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم بن الخطّاب عن عبد اللّه بن الحارث بن نوفلٍ عن عبد اللّه بن عباس: «أن عمر بن الخطّاب خرج إلى الشّام حتّى إذا كان بسرغٍ لقيه أمراء الأجناد: أبو عبيدة بن الجرّاح وأصحابه فأخبروه أنّ الوباء قد وقع بالشّام فذكر الحديث فجاءه عبد الرّحمن بن عوفٍ وكان متغيّبًا لبعض حاجته فقال: إنّ عندي من هذا علمًا، سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «إذا كان بأرضٍ وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارًا منه، وإذا سمعتم به بأرضٍ فلا تقدموا عليه» فحمد اللّه عمر ثمّ انصرف». وأخرجاه في الصّحيحين من حديث الزّهريّ به.
طريقٌ أخرى لبعضه: قال أحمد: حدّثنا حجّاجٌ ويزيد العمّي قالا أخبرنا ابن أبي ذئبٍ عن الزّهريّ عن سالمٍ عن عبد اللّه بن عامر بن ربيعة: أنّ عبد الرّحمن بن عوفٍ أخبر عمر، وهو في الشّام عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: «أنّ هذا السّقم عذّب به الأمم قبلكم فإذا سمعتم به في أرضٍ فلا تدخلوها وإذا وقع بأرضٍ وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارًا منه» قال: فرجع عمر من الشّام».
وأخرجاه في الصّحيحين من حديث مالكٍ عن الزّهريّ بنحوه). [تفسير ابن كثير: 1/ 660-662]


تفسير قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {وقاتلوا في سبيل اللّه واعلموا أنّ اللّه سميعٌ عليمٌ} أي: كما أنّ الحذر لا يغني من القدر كذلك الفرار من الجهاد وتجنّبه لا يقرّب أجلًا ولا يباعده، بل الأجل المحتوم والرّزق المقسوم مقدّرٌ مقنّنٌ لا يزاد فيه ولا ينقص منه كما قال تعالى: {الّذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين} [آل عمران:168] وقال تعالى: {وقالوا ربّنا لم كتبت علينا القتال لولا أخّرتنا إلى أجلٍ قريبٍ قل متاع الدّنيا قليلٌ والآخرة خيرٌ لمن اتّقى ولا تظلمون فتيلا * أينما تكونوا يدرككّم الموت ولو كنتم في بروجٍ مشيّدةٍ} [النّساء:77، 78] وروّينا عن أمير الجيوش ومقدّم العساكر وحامي حوزة الإسلام وسيف اللّه المسلول على أعدائه أبي سليمان خالد بن الوليد رضي اللّه عنه، أنّه قال:-وهو في سياق الموت: «لقد شهدت كذا وكذا موقفًا وما من عضوٍ من أعضائي إلّا وفيه رميةٌ أو طعنةٌ أو ضربةٌ وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت العير!! فلا نامت أعين الجبناء» يعني: أنّه يتألّم لكونه ما مات قتيلًا في الحرب ويتأسّف على ذلك ويتألّم أن يموت على فراشه). [تفسير ابن كثير: 1/ 662]

تفسير قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {من ذا الّذي يقرض اللّه قرضًا حسنًا فيضاعفه له أضعافًا كثيرةً} يحثّ تعالى عباده على الإنفاق في سبيله، وقد كرّر تعالى هذه الآية في كتابه العزيز في غير موضعٍ. وفي حديث النّزول أنّه يقول تعالى [من يقرض غير عديمٍ ولا ظلومٍ] وقد قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا الحسن بن عرفة حدّثنا خلف بن خليفة عن حميدٍ الأعرج عن عبد اللّه بن الحارث عن عبد اللّه بن مسعودٍ قال: «لمّا نزلت: {من ذا الّذي يقرض اللّه قرضًا حسنًا فيضاعفه له} قال أبو الدّحداح الأنصاريّ: يا رسول اللّه وإنّ اللّه ليريد منّا القرض؟ قال: «نعم يا أبا الدّحداح» قال: أرني يدك يا رسول اللّه. قال: فناوله يده قال: فإنّي قد أقرضت ربّي حائطي. قال: وحائطٌ له فيه ستّمائة نخلةٍ وأمّ الدّحداح فيه وعيالها. قال: فجاء أبو الدّحداح فناداها: يا أمّ الدّحداح. قالت: لبّيك قال: اخرجي فقد أقرضته ربّي عزّ وجلّ». وقد رواه ابن مردويه من حديث عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر مرفوعًا بنحوه.
وقوله: {قرضًا حسنًا} روي عن عمر وغيره من السّلف: «هو النّفقة في سبيل اللّه». وقيل: هو النّفقة على العيال.
وقيل: هو التّسبيح والتّقديس وقوله: {فيضاعفه له أضعافًا كثيرةً} كما قال: {مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه كمثل حبّةٍ أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلةٍ مائة حبّةٍ} الآية [البقرة:261]. وسيأتي الكلام عليها.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا يزيد أخبرنا مبارك بن فضالة عن عليّ بن زيدٍ عن أبي عثمان النّهديّ، قال: «أتيت أبا هريرة فقلت له: إنّه بلغني أنّك تقول: إنّ الحسنة تضاعف ألف ألف حسنةٍ. فقال: وما أعجبك من ذلك؟ لقد سمعته من النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «إنّ اللّه يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنةٍ».
هذا حديثٌ غريبٌ، وعليّ بن زيد بن جدعان عنده مناكير، لكن رواه ابن أبي حاتمٍ من وجهٍ آخر فقال: حدّثنا أبو خلّادٍ سليمان بن خلّادٍ المؤدّب، حدّثنا يونس بن محمّدٍ المؤدّب، حدّثنا محمّد بن عقبة الرّباعيّ عن زيادٍ الجصّاص عن أبي عثمان النّهديّ، قال: «لم يكن أحدٌ أكثر مجالسةً لأبي هريرة منّي فقدم قبلي حاجًّا قال: وقدمت بعده فإذا أهل البصرة يأثرون عنه أنّه قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: «إن اللّه يضاعف الحسنة ألف ألف حسنةٍ» فقلت: ويحكم، واللّه ما كان أحدٌ أكثر مجالسةً لأبي هريرة منّي، فما سمعت هذا الحديث. قال: فتحمّلت أريد أنّ ألحقه فوجدته قد انطلق حاجًّا فانطلقت إلى الحجّ أن ألقاه في هذا الحديث، فلقيته لهذا فقلت: يا أبا هريرة ما حديثٌ سمعت أهل البصرة يأثرون عنك؟ قال: ما هو؟ قلت: زعموا أنّك تقول: إنّ اللّه يضاعف الحسنة ألف ألف حسنةٍ. قال: يا أبا عثمان وما تعجب من ذا واللّه يقول: {من ذا الّذي يقرض اللّه قرضًا حسنًا فيضاعفه له أضعافًا كثيرةً} ويقول: {فما متاع الحياة الدّنيا في الآخرة إلا قليلٌ} [التّوبة:38] والّذي نفسي بيده لقد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «إنّ اللّه يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنةٍ».
وفي معنى هذا الحديث ما رواه التّرمذيّ وغيره من طريق عمرو بن دينارٍ عن سالمٍ عن عبد اللّه بن عمر بن الخطّاب أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «من دخل سوقًا من الأسواق فقال: لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيءٍ قديرٌ كتب اللّه له ألف ألف حسنةٍ ومحا عنه ألف ألف سيّئةٍ» الحديث.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم بن بسّامٍ حدّثنا أبو إسماعيل المؤدّب، عن عيسى بن المسيب عن نافعٍ عن ابن عمر قال: «لمّا نزلت {مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه كمثل حبّةٍ أنبتت سبع سنابل} [البقرة:261] إلى آخرها فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «ربّ زد أمّتي» فنزلت: {من ذا الّذي يقرض اللّه قرضًا حسنًا فيضاعفه له أضعافًا كثيرةً} قال: «ربّ زد أمّتي». فنزل: {إنّما يوفّى الصّابرون أجرهم بغير حسابٍ} [الزّمر:10]».
وروى ابن أبي حاتمٍ أيضًا عن كعب الأحبار: «أنّه جاءه رجلٌ فقال: إنّي سمعت رجلًا يقول: من قرأ: {قل هو اللّه أحدٌ} [الإخلاص:1] مرّةً واحدةً بنى اللّه له عشرة آلاف ألف غرفةٍ من درٍّ وياقوتٍ في الجنّة أفأصدق بذلك؟ قال: نعم، أو عجبت من ذلك؟ قال: نعم وعشرين ألف ألفٍ وثلاثين ألف ألفٍ وما يحصي ذلك إلّا اللّه ثمّ قرأ {من ذا الّذي يقرض اللّه قرضًا حسنًا فيضاعفه له أضعافًا كثيرةً} فالكثير من اللّه لا يحصى».
وقوله: {واللّه يقبض ويبسط} أي: أنفقوا ولا تبالوا فاللّه هو الرّزّاق يضيّق على من يشاء من عباده في الرّزق ويوسّعه على آخرين، له الحكمة البالغة في ذلك {وإليه ترجعون} أي: يوم القيامة). [تفسير ابن كثير: 1/ 662-664]


رد مع اقتباس