عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 29 جمادى الأولى 1435هـ/30-03-2014م, 06:09 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيءٌ فاتّباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسانٍ ذلك تخفيفٌ من ربّكم ورحمةٌ فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليمٌ (178) ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب لعلّكم تتّقون (179) كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصيّة للوالدين والأقربين بالمعروف حقًّا على المتّقين (180)}
كتب معناه فرض وأثبت، والكتب مستعمل في الأمور المخلدات الدائمة كثيرا، وقيل إن كتب في مثل هذا إخبار عما كتب في اللوح المحفوظ وسبق به القضاء، وصورة فرض القصاص هو أن القاتل فرض عليه إذا أراد الولي القتل الاستسلام لأمر الله والانقياد لقصاصه المشروع، وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قتل قاتل وليه وترك التعدي على غيره كما كانت العرب تتعدى وتقتل بقتيلها الرجل من قوم قاتله، وأن الحكام وأولي الأمر فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود، وليس القصاص بلزام إنما اللزام أن لا يتجاوز القصاص إلى اعتداء، فأما إذا وقع الرضى بدون القصاص من دية أو عفو فذاك مباح، فالآية معلمة أن القصاص هو الغاية عند التشاح، والقصاص مأخوذ من قص الأثر فكأن القاتل سلك طريقا من القتل فقص أثره فيها ومشى على سبيله في ذلك، والقتلى جمع قتيل، لفظ مؤنث تأنيث الجماعة وهو مما يدخل على الناس كرها فلذلك جاء على هذا البناء كجرحى وزمنى وحمقى وصرعى وغرقى.
واختلف في سبب هذه الآية، فقال الشعبي: «إن العرب كان أهل العزة منهم والمنعة إذا قتل منهم عبد قتلوا به حرا، وإذا قتلت امرأة قتلوا بها ذكرا، فنزلت الآية في ذلك ليعلم الله تعالى بالسوية ويذهب أمر الجاهلية»، وحكي أن قوما من العرب تقاتلوا قتال عمية ثم قال بعضهم: نقتل بعبيدنا أحرارا، فنزلت الآية،
وقيل: نزلت بسبب قتال وقع بين قبيلتين من الأنصار، وقيل: من غيرهم فقتل هؤلاء من هؤلاء رجالا وعبيدا ونساء، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلح بينهم ويقاصهم بعضهم ببعض بالديات على استواء الأحرار بالأحرار والنساء بالنساء والعبيد بالعبيد، وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت مقتضية أن لا يقتل الرجل بالمرأة ولا المرأة بالرجل ولا يدخل صنف على صنف ثم نسخت بآية المائدة أن النفس بالنفس.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: هكذا روي، وآية المائدة إنما هي إخبار عما كتب على بني إسرائيل، فلا يترتب النسخ إلا بما تلقي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن حكمنا في شرعنا مثل حكمهم، وروي عن ابن عباس فيما ذكر أبو عبيد وعن غيره أن هذه الآية محكمة وفيها إجمال فسرته آية المائدة، وأن قوله هنا الحرّ بالحرّ يعم الرجال والنساء، وقاله مجاهد.
وقال مالك رحمه الله: «أحسن ما سمعت في هذه الآية أنه يراد بها الجنس الذكر والأنثى فيه سواء، وأعيد ذكر الأنثى تأكيدا وتهمما بإذهاب أمر الجاهلية»، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعن الحسن بن أبي الحسن أن الآية نزلت مبينة حكم المذكورين ليدل ذلك على الفرق بينهم وبين أن يقتل حر عبدا أو عبد حرا أو ذكر أنثى أو أنثى ذكرا، وقالا: إنه إذا قتل رجل امرأة فإن أراد أولياؤها قتلوا صاحبهم ووفوا أولياءه نصف الدية منه وإن أرادوا استحيوه وأخذوا منه دية المرأة، وإذا قتلت المرأة رجلا فإن أراد أولياؤه قتلوا وأخذوا نصف الدية وإلا أخذوا دية صاحبهم واستحيوها، وإذا قتل الحر العبد فإن أراد سيد العبد قتل وأعطى دية الحر إلا قيمة العبد وإن شاء استحيا وأخذ قيمة العبد، هذا مذكور عن علي رضي الله عنه وعن الحسن، وقد أنكر ذلك عنهما أيضا، وأجمعت الأمة على قتل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل، والجمهور لا يرون الرجوع بشيء، وفرقة ترى الاتباع بفضل الديات، قال مالك والشافعي: «وكذلك القصاص بينهما فيما دون النفس»، وقال أبو حنيفة: «لا قصاص بينهما فيما دون النفس وإنما هو في النفس بالنفس»، وقال النخعي وقتادة وسعيد بن المسيب والشعبي والثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن وأبو يوسف: «يقتل الحر بالعبد»، وقال مالك رحمه الله وجمهور من العلماء: «لا يقتل الحر بالعبد»، ودليلهم إجماع الأمة على أن العبد لا يقاوم الحر فيما دون النفس، فالنفس مقيسة على ذلك، وأيضا فالإجماع فيمن قتل عبدا خطأ أنه ليس عليه إلا القيمة، فكما لم يشبه الحر في الخطأ لم يشبهه في العمد، وأيضا فإن العبد سلعة من السلع يباع ويشترى، وإذا قتل الرجل ابنه فإن قصد إلى قتله مثل أن يضجعه ويذبحه أو يصبره مما لا عذر له فيه ولا شبهة في ادعاء الخطأ فإنه يقتل به قولا واحدا في مذهب مالك، وإن قتله على حد ما يرمي أو يضرب فيقتله ففيه في المذهب قولان: يقتل به، ولا يقتل وتغلظ الدية.
وقوله تعالى: {فمن عفي له من أخيه شيءٌ} فيه أربع تأويلات:
أحدها أن من يراد بها القاتل وعفي يتضمن عافيا هو ولي الدم والأخ هو المقتول، ويصح أن يكون هو الولي على هذا التأويل، وهي أخوة الإسلام، وشيءٌ هو الدم الذي يعفى عنه ويرجع إلى أخذ الدية، هذا قول ابن عباس وجماعة من العلماء، والعفو في هذا القول على بابه والضميران راجعان على من في كل تأويل.
والتأويل الثاني وهو قول مالك: ان من يراد بها الولي، وعفي بمعنى يسر لا على بابها في العفو، والأخ يراد به القاتل، وشيءٌ هي الدية، والأخوة على هذا أخوة الإسلام، ويحتمل أن يراد بالأخ على هذا التأويل المقتول أي يسر له من قبل أخيه المقتول وبسببه، فتكون الأخوة أخوة قرابة وإسلام، وعلى هذا التأويل قال مالك رحمه الله: «إن الولي إذا جنح إلى العفو على أخذ الدية فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه فمرة تيسر ومرة لا تيسر»، وغير مالك يقول: إذا رضي الأولياء بالدية فلا خيار للقاتل بل تلزمه، وقد روي أيضا هذا القول عن مالك ورجحه كثير من أصحابه.
والتأويل الثالث أن هذه الألفاظ في المعينين الذين نزلت فيهم الآية كلها وتساقطوا الديات فيما بينهم مقاصة حسبما ذكرناه آنفا، فمعنى الآية فمن فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من تلك الديات، ويكون عفي بمعنى فضل من قولهم عفا الشيء إذا كثر أي أفضلت الحال له أو الحساب أو القدر.
والتأويل الرابع هو على قول علي رضي الله عنه والحسن بن أبي الحسن في الفضل بين دية المرأة والرجل والحر والعبد، أي من كان له ذلك الفضل فاتباع بالمعروف، وعفي في هذا الموضع أيضا بمعنى أفضل، وكأن الآية من أولها بينت الحكم إذا لم تتداخل الأنواع ثم الحكم إذا تداخلت، وشيءٌ في هذه الآية مفعول لم يسم فاعله، وجاز ذلك وعفي لا يتعدى الماضي الذي بنيت منه من حيث يقدر شيءٌ تقدير المصدر، كأن الكلام: عفي له من أخيه عفو، وشيءٌ اسم عام لهذا وغيره، أو من حيث تقدر عفي بمعنى ترك فتعمل عملها، والأول أجود، وله نظائر في كتاب الله، منها قوله تعالى: {ولا تضرّونه شيئاً} [هود: 57]، قال الأخفش: «التقدير لا تضرونه ضرا»، ومن ذلك قول أبي خراش:
فعاديت شيئا والدّريس كأنّما ....... يزعزعه ورد من الموم مردم
وقوله تعالى: {فاتّباعٌ} رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره فالواجب والحكم اتباع، وهذا سبيل الواجبات كقوله تعالى: {فإمساكٌ بمعروفٍ} [البقرة: 229]، وأما المندوب إليه فيأتي منصوبا كقوله تعالى: {فضرب الرّقاب} [محمد: 4]، وهذه الآية حض من الله تعالى على حسن الاقتضاء من الطالب وحسن القضاء من المؤدي، وقرأ ابن أبي عبلة «فاتباعا» بالنصب.
وقوله تعالى: {ذلك تخفيفٌ من ربّكم} إشارة إلى ما شرعه لهذه الأمة من أخذ الدية، وكانت بنو إسرائيل لا دية عندهم إنما هو القصاص فقط، والاعتداء المتوعد عليه في هذه الآية هو أن يأخذ الرجل دية وليه ثم يقتل القاتل بعد سقوط الدم واختلف في العذاب الأليم الذي يلحقه: فقال فريق من العلماء منهم مالك: «هو كمن قتل ابتداء إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه، وعذابه في الآخرة»، وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم: «عذابه أن يقتل البتة ولا يمكن الحاكم الولي من العفو»، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نقسم أن لا يعفى عن رجل عفا عن الدم وأخذ الدية ثم عدا فقتل»، وقال الحسن: «عذابه أن يرد الدية فقط ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة»، وقال عمر بن عبد العزيز:«أمره إلى الإمام يصنع فيه ما رأى»). [المحرر الوجيز: 1/ 422-427]


تفسير قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) }
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {ولكم في القصاص حياةٌ} نحوه قول العرب في مثل: القتل أوقى للقتل، ويروى: أبقى، بباء وقاف، ويروى أنفى بنون وفاء، والمعنى أن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم به ازدجر من يريد قتل أحد مخافة أن يقتص منه فحييا بذلك معا، وهذا الترتيب مما سبق لهما في الأزل، وأيضا فكانت العرب إذا قتل الرجل الآخر حمي قبيلاهما وتقاتلوا وكان ذلك داعية إلى موت العدد الكثير، فلما شرع الله القصاص قنع الكل به ووقف عنده وتركوا الاقتتال، فلهم في ذلك حياة، وخص أولي الألباب بالذكر تنبيها عليهم، لأنهم العارفون القابلون للأوامر والنواهي، وغيرهم تبع لهم، وتتّقون معناه القتل فتسلمون من القصاص ثم يكون ذلك داعية لأنواع التقوى في غير ذلك فإن الله تعالى يثيب على الطاعة بالطاعة، وقرأ أبو الجوزاء أوس بن عبد الله الربعي {ولكم في القصص} أي في كتاب الله الذي شرع فيه القصاص وحكمه، ويحتمل أن يكون مصدرا كالقصاص، أي إنه قص أثر القاتل قصصا فقتل كما قتل). [المحرر الوجيز: 1/ 427-428]


رد مع اقتباس