عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 14 ذو القعدة 1439هـ/26-07-2018م, 05:19 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)}
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {وقضينا إلى بني إسرائيل} الآية، قال الطبري: معنى "قضينا" فرغنا، وحكي عن غيره أنه قال: "قضينا" هنا بمعنى: أخبرنا، وحكي عن آخرين أنهم قالوا: "قضينا" معناه: في أم الكتاب.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وإنما يلبس في هذا المكان تعدية "قضينا" بـ "إلى"، وتلخيص الكلام عندي أن هذا الأمر هو مما قضاه الله تعالى في أم الكتاب على بني إسرائيل وألزمهم إياه، ثم أخبرهم به في التوراة على لسان موسى، فلما أراد هنا الإعلام بالأمرين جميعا في إيجاز جعل "قضينا" دالة على النفوذ في أم الكتاب، وقرن بها "إلى" دالة على إنزال الخير بذلك إلى بني إسرائيل والمعنى المقصود مفهوم خلال هذه الألفاظ، ولهذا فسر ابن عباس رضي الله عنهما مرة بأن قال: وقضينا إلى بني إسرائيل معناه: أعلمناهم، وقال مرة: معناه: قضينا عليهم و"الكتاب" هنا التوراة; لأن القسم في قوله تبارك وتعالى: "لتفسدن" غير متوجه مع أن يجعل "الكتاب" هو اللوح المحفوظ. وقرأ سعيد بن جبير، وأبو العالية الرياحي: "في الكتب" على الجمع، قال أبو حاتم: قراءة الناس على الإفراد. وقرأ الجمهور: "لتفسدن" بضم التاء وكسر السين، وقرأ عيسى الثقفي "لتفسدن" بفتح التاء وضم السين والدال، وقرأ ابن عباس، ونصر بن عاصم، وجابر بن زيد: "لتفسدن" بضم التاء وفتح السين وضم الدال. وقوله تعالى: "ولتعلن" أي: لتتكبرن عن طاعة الآمرين بطاعة الله، وتطلبون في الأرض العلو والفساد، وتظلمون من قدرتم على ظلمهم، ونحو هذا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
ومقتضى هذه الآيات أن الله تعالى أعلم بني إسرائيل في التوراة أنه سيقع منهم عصيان وطغيان وكفر لنعم الله تعالى عندهم في الرسل والكتب وغير ذلك، وأنه سيرسل عليهم أمة تغلبهم وتقتلهم وتذلهم، ثم يرحمهم بعد ذلك ويجعل لهم الكرة ويردهم إلى حالهم الأولى من الظهور، فيقع منهم المعاصي وكفر النعم، والظلم والقتل، والكفر بالله من بعضهم، فيبعث الله عليهم أمة أخرى تخرب ديارهم وتقتلهم
[المحرر الوجيز: 5/440]
وتجليهم جلاء مبرحا، وأعطى الوجود بعد ذلك هذا الأمر كله، وقيل: كان بين المرتين: آخر الأولى وأول الثانية مائتا سنة وعشر سنين ملكا مؤبدا بأنبياء، وقيل: سبعون سنة). [المحرر الوجيز: 5/441]

تفسير قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)}
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا}
الضمير في قوله: {أولاهما} عائد على قوله: {مرتين} وعبر عن الشر بـ (الوعد) لأنه قد صرح بذكر المعاقبة، وإذا لم يجئ (الوعد) مطلقا فجائز أن يقع في الشر.
وقرأ علي بن أبي طالب، والحسن بن أبي الحسن: "عبيدا"، واختلف الناس في العبيد المبعوثين وفي صورة الحال اختلافا شديدا متباعدا. عيونه أن بني إسرائيل عصوا وقتلوا زكرياء عليه السلام فغزاهم سنحاريب ملك بابل، كذا قال ابن إسحاق، وابن جبير. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: غزاهم جالوت من أهل الجزيرة، وروي عن عبد الله بن الزبير أنه قال في حديث طويل: غزاهم آخرا ملك اسمه خردوش، وتولى قتلهم على دم يحيى بن زكريا قائد لخردوش اسمه هورزاذان، وكف عن بني إسرائيل وسكن برعاية دم يحيى بن زكريا عليهما السلام، وقيل: غزاهم أولا صخابين ملك رومة، وقيل: بختنصر، وروي أنه دخل قبل في جيش من الفرس وهو خامل يسير في مطبخ الملك، فاطلع من جور بني إسرائيل على ما لم تعلمه الفرس؛ لأنه كان يداخلهم، فلما انصرف الجيش ذكر ذلك للملك الأعظم، فلما كان بعد مدة جعله الملك رئيس جيش وبعثه، فخرب بيت المقدس وقتلهم وجلاهم، ثم انصرف فوجد الملك قد مات فملك موضعه، واستمرت حاله حتى ملك الأرض بعد ذلك.
وقالت فرقة: إنما غزاهم بختنصر في المرة الأخيرة حين عصوا وقتلوا يحيى بن
[المحرر الوجيز: 5/441]
زكريا عليهما السلام، وصورة قتله أن الملك أراد أن يتزوج بنت امرأته، فنهاه يحيى عليه السلام عن ذلك، فعز ذلك على امرأته، فزينت بنتها وجعلتها تسقي الملك الخمر، وقالت لها: إذا راودك الملك عن نفسك فتمنعي حتى يعطيك الملك ما تتمني، فإذا قال لك: تمني علي ما أردت، فقولي له: رأس يحيى بن زكريا، ففعلت الجارية ذلك، فردها الملك مرتين، وأجابها في الثالثة، فجيء بالرأس في طست ولسانه يتكلم ويقول: لا تحل لك، وجرى دم يحيى عليه السلام فلم ينقطع، فجعل الملك عليه التراب حتى ساوى سور المدينة والدم ينبعث، فلما غزاهم الملك الذي بعث الله عليهم -بحسب الخلاف فيه- قتل منهم على الدم حتى سكن بعد قتل سبعين ألفا. هذا مقتضى هذا الخبر، وفي بعض رواياته زيادة ونقص، فروت فرقة أن أشعياء وعظهم وذكرهم الله ونعمه في مقام طويل نصه الطبري، وذكر أشعياء في آخره محمدا صلى الله عليه وسلم وبشر به، فابتدره بنو إسرائيل ففر منهم، فلقي شجرة فتفلقت له حتى دخلها فالتأمت عليه، فعرض الشيطان عليهم هدبة من ثوبه، فأخذوا منشارا فنشروا الشجرة وقطعوه في وسطها فقتلوه، فحينئذ بعث الله عليهم في المرة الأخيرة.
وذكر الزهراوي عن قتادة قصصا أن زكريا هو صاحب الشجرة، وأنهم قالوا لما حملت مريم قالوا: ضيع بنت سيدنا حتى زنت، فطلبوه فهرب منهم حتى دخل في الشجرة فنشروه. وروت فرقة أن بختنصر كان حفيد سنحاريب الملك الأول، وروت فرقة أن الذي غزاهم آخرا هو سابور ذو الأكتاف. وقال أيضا ابن عباس رضي الله عنهما: سلط الله عليهم حين عادوا ثلاثة أملاك من فارس: سندابادان وشهريازان وآخر. وقال مجاهد: إنما جاءهم في الأولى عسكر من فارس فجاس خلال الديار وتقلب، ولكن لم يكن قتال ولا قتل في بني إسرائيل ثم انصرفت عنهم الجيوش، وظهروا وأمدوا بالأموال والبنين حتى عصوا وطغوا، فجاءهم في المرة الثانية من قتلهم وغلبهم على بيضتهم وأهلكهم آخر الدهر.
وقوله تعالى: {فجاسوا خلال الديار}، وهي المنازل والمساكن، وقوله تعالى: {وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة} يرد على قول مجاهد: إنه لم يكن في المرة
[المحرر الوجيز: 5/442]
الأولى غلبة ولا قتال، وهل يدخل المسجد إلا بعد غلبة وقتال؟ وقد قال مؤرخ. جاسوا خلال الأزقة، وقد ذكر الطبري في هذه الآية قصصا طويلا، منه ما يخص الآيات، وأكثره لا يخص، وهذه المعاني ليست بالثابتة فلذلك اختصرتها.
وقوله تعالى: "بعثنا" يحتمل أن يكون الله بعث إلى ملك تلك الأمة رسولا يأمره بغزو بني إسرائيل فتكون البعثة بأمر، ويحتمل أن يكون عبر بالبعث عما ألقي في نفس الملك الذي غزاهم. وقرأ الناس: "فجاسوا" بالجيم، وقرأ أبو السمال: "فحاسوا" بالحاء، وهما بمعنى الغلبة والدخول قسرا، ومنه الحواس، وقيل لأبي السمال: إنما القراءة "جاسوا" بالجيم، فقال: جاسوا وحاسوا واحد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
فهذا يدل على تخير لا على رواية، ولهذا لا تجوز الصلاة بقراءته وقراءة نظرائه، وقرأ الجمهور: "خلال"، وقرأ الحسن بن أبي الحسن: "خلل"، ونصبه في الوجهين على الظرف). [المحرر الوجيز: 5/443]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)}
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {ثم رددنا لكم الكرة عليهم} الآية عبارة عما قال الله لبني إسرائيل في التوراة، وجعل "رددنا" موضع "نرد" إذ وقت إخبارهم لم يقع الأمر بعد، لكنه لما كان وعد الله في غاية الثقة أنه يقع عبر عن مستقبله بالماضي، وهذه الكرة هي بعد الجلوة الأولى كما وصفنا، فغلبت بنو إسرائيل على بيت المقدس وملكوا فيه، وحسنت حالهم برهة من الدهر، وأعطاهم الله الأموال والأولاد، وجعلهم إذا نفروا إلى أمر أكثر الناس، قال الطبري: وصيرناكم أكثر عدد نافر منهم. قال قتادة: كانوا أكثر نفيرا في زمن داود عليه السلام، و"نفيرا" يحتمل أن يكون جمع نفر، ككلب وكليب، وعبد وعبيد، ويحتمل أن يكون فعيلا بمعنى فاعل، أي: وجعلناكم أكثر نافرا.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وعندي أن النفير اسم للجمع الذي ينفر، سمي بالمصدر، وقد قال تبع الحميري:
فأكرم بقحطان من والد ... وبالحميريين أكرم نفيرا
[المحرر الوجيز: 5/443]
وقالوا: "لا في العير ولا في النفير"، يريدون جمع قريش الخارج من مكة إلى بدر). [المحرر الوجيز: 5/444]

تفسير قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)}
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (فلما قال الله تعالى لهم: إني سأفعل بكم هكذا عقب ذلك بوصيتهم في قوله سبحانه: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم} والمعنى: إنكم بعملكم تؤخذون، لا يكون ذلك ظلما ولا تشرعا إليكم، ووعد الآخرة معناه: من المرتين المذكورتين، وقوله تعالى: {ليسوءوا وجوهكم}، اللام لام أمر، وقيل: المعنى بعثناهم ليسوؤوا، فهي لام "كي" كلها، والضمير للعباد أولي البأس الشديد، وقرأ الجمهور: "ليسوءوا" بالياء، جمع وهمزة بين واوين، وقرأ عاصم -في رواية أبي بكر -، وابن عامر: "ليسوء" بالياء وهمزة مفتوحة على الإفراد، وقرأ الكسائي -وهي مروية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لنسوء" بنون العظمة، وقرأ أبي بن كعب: "لنسوأن" بنون خفيفة، وهي لام الأمر، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ليسوأن"، بفتح اللام وهي لام القسم- والفاعل الله عز وجل، وفي مصحف أبي بن كعب: "ليسيء" بياء مضمومة بغير واو، وفي مصحف أنس: "ليسوء وجهكم" على
[المحرر الوجيز: 5/444]
الإفراد، وخص بالذكر الوجوه لأنها المواضع الدالة على ما بالإنسان من خير أو شر. و"المسجد": مسجد بيت المقدس. و"تبر" معناه: أفسد وأهلك بغشم، وقوله: {ما علوا} أي: ما تغلبوا عليه من الأقطار وملكوه من البلاد، وقيل: "ما" ظرفية، والمعنى: مدة علوهم وغلبتهم على البلاد. و"تبر" تحريره: رد الشيء فتاتا كتبر الذهب والحرير ونحوه، وهو تفتيته). [المحرر الوجيز: 5/445]

تفسير قوله تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)}
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذابا أليما ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا}
يقول الله تعالى لبقية بني إسرائيل عسى ربكم إن أطعتم في أنفسكم واستقمتم أن يرحمكم و"عسى" ترج في حقهم، وهذه العدة ليست برجوع دولة، وإنما هي بأن يرحم المطيع منهم، وكان من الطاعة اتباعهم لعيسى عليه السلام، ولمحمد صلى الله عليه وسلم، فلم يفعلوا، وعادوا إلى الكفر والمعصية، فعاد عقاب الله تعالى، فضرب عليهم الذل وقتلهم، وأذلهم بيد كل أمة، وهنا قال ابن عباس رضي الله عنهما: سلط عليهم ثلاثة ملوك.
و "الحصير" فعيل من الحصر، فهي بمعنى السجن، أي: تحصرهم، وبنحو هذا فسر مجاهد وقتادة وغيرهما، ويقال: الحصير أيضا من الحصر للملك، ومنه قول لبيد:
ومقامة غلب الرقاب كأنهم ... جن لدى باب الحصير قيام
[المحرر الوجيز: 5/445]
ويقال لجنبي الإنسان: حصيران لأنهما يحصرانه، ومنه قول الطرماح:
قليلا تتلى حاجة ثم عوليت ... على كل معروش الحصيرين بادن
وقال الحسن: "الحصير" في الآية أراد به ما يفترش ويبسط كالحصير المعروف عند الناس.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وذلك الحصير مأخوذ من الحصر). [المحرر الوجيز: 5/446]

رد مع اقتباس