عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 19 ربيع الثاني 1434هـ/1-03-2013م, 07:31 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي تفسير السلف

تفسير السلف

تفسير قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) )

قال محمدُ بنُ عيسى بنِ سَوْرة التِّرْمِذيُّ (ت: 279هـ) : (حدّثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيبٍ أبو مسلمٍ الحرّانيّ، قال: حدّثنا محمّد بن سلمة الحرّانيّ، قال: حدّثنا محمّد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن جدّه قتادة بن النّعمان، قال: كان أهل بيتٍ منّا يقال لهم: بنو أبيرقٍ بشرٌ وبشيرٌ ومبشّرٌ، وكان بشيرٌ رجلاً منافقًا يقول الشّعر يهجو به أصحاب رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم ثمّ ينحله بعض العرب ثمّ يقول: قال فلانٌ كذا وكذا، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم ذلك الشّعر قالوا: واللّه ما يقول هذا الشّعر إلاّ هذا الخبيث، أو كما قال الرّجل، وقالوا: ابن الأبيرق قالها، قال: وكانوا أهل بيت حاجةٍ وفاقةٍ، في الجاهليّة والإسلام، وكان النّاس إنّما طعامهم بالمدينة التّمر والشّعير، وكان الرّجل إذا كان له يسارٌ فقدمت ضافطةٌ من الشّام من الدّرمك، ابتاع الرّجل منها فخصّ بها نفسه، وأمّا العيال فإنّما طعامهم التّمر والشّعير، فقدمت ضافطةٌ من الشّام فابتاع عمّي رفاعة بن زيدٍ حملاً من الدّرمك فجعله في مشربةٍ له، وفي المشربة سلاحٌ ودرعٌ وسيفٌ، فعدي عليه من تحت البيت، فنقبت المشربة، وأخذ الطّعام والسّلاح، فلمّا أصبح أتاني عمّي رفاعة، فقال: يا ابن أخي إنّه قد عدي علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مشربتنا فذهب بطعامنا وسلاحنا. قال: فتحسّسنا في الدّار وسألنا فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرقٍ استوقدوا في هذه اللّيلة، ولا نرى فيما نرى إلاّ على بعض طعامكم، قال: وكان بنو أبيرقٍ قالوا ونحن نسأل في الدّار: واللّه ما نرى صاحبكم إلاّ لبيد بن سهلٍ، رجلٌ منّا له صلاحٌ وإسلامٌ، فلمّا سمع لبيدٌ اخترط سيفه وقال: أنا أسرق؟ فواللّه ليخالطنّكم هذا السّيف أو لتبيّننّ هذه السّرقة، قالوا: إليك عنها أيّها الرّجل فما أنت بصاحبها، فسألنا في الدّار حتّى لم نشكّ أنّهم أصحابها، فقال لي عمّي: يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم فذكرت ذلك له، قال قتادة: فأتيت رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت: إنّ أهل بيتٍ منّا أهل جفاءٍ، عمدوا إلى عمّي رفاعة بن زيدٍ فنقبوا مشربةً له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردّوا علينا سلاحنا، فأمّا الطّعام فلا حاجة لنا فيه، فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: سآمر في ذلك، فلمّا سمع بنو أبيرقٍ أتوا رجلاً منهم يقال له: أسير بن عروة فكلّموه في ذلك، فاجتمع في ذلك ناسٌ من أهل الدّار، فقالوا: يا رسول الله إنّ قتادة بن النّعمان وعمّه عمدا إلى أهل بيتٍ منّا أهل إسلامٍ وصلاحٍ، يرمونهم بالسّرقة من غير بيّنةٍ ولا ثبتٍ، قال قتادة: فأتيت رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم فكلّمته، فقال: عمدت إلى أهل بيتٍ ذكر منهم إسلامٌ وصلاحٌ ترميهم بالسّرقة على غير ثبتٍ وبيّنةٍ قال: فرجعت، ولوددت أنّي خرجت من بعض مالي ولم أكلّم رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم في ذلك، فأتاني عمّي رفاعة فقال: يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: اللّه المستعان، فلم يلبث أن نزل القرآن {إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه ولا تكن للخائنين خصيمًا} بني أبيرقٍ {واستغفر اللّه} أي ممّا قلت لقتادة {إنّ اللّه كان غفورًا رحيمًا} {ولا تجادل عن الّذين يختانون أنفسهم إنّ اللّه لا يحبّ من كان خوّانًا أثيمًا يستخفون من النّاس ولا يستخفون من الله وهو معهم}، إلى قوله: {غفورًا رحيمًا} أي: لو استغفروا اللّه لغفر لهم {ومن يكسب إثمًا فإنّما يكسبه على نفسه}، إلى قوله: {وإثمًا مبينًا} قولهم للبيدٍ {ولولا فضل الله عليك ورحمته}، إلى قوله: {فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا} فلمّا نزل القرآن أتى رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم بالسّلاح فردّه إلى رفاعة، فقال قتادة: لمّا أتيت عمّي بالسّلاح، وكان شيخًا قد عشا، أو عسا، في الجاهليّة، وكنت أرى إسلامه مدخولاً، فلمّا أتيته بالسّلاح قال: يا ابن أخي، هو في سبيل الله، فعرفت أنّ إسلامه كان صحيحًا، فلمّا نزل القرآن لحق بشيرٌ بالمشركين، فنزل على سلافة بنت سعد ابن سميّة فأنزل اللّه {ومن يشاقق الرّسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنّم وساءت مصيرًا إنّ اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك باللّه فقد ضلّ ضلالاً بعيدًا} فلمّا نزل على سلافة رماها حسّان بن ثابتٍ بأبياتٍ من شعرٍ، فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثمّ خرجت به فرمت به في الأبطح، ثمّ قالت: أهديت لي شعر حسّان؟ ما كنت تأتيني بخيرٍ.
هذا حديثٌ غريبٌ لا نعلم أحدًا أسنده غير محمّد بن سلمة الحرّانيّ.
وروى يونس بن بكيرٍ، وغير واحدٍ هذا الحديث عن محمّد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة مرسلاً، لم يذكروا فيه عن أبيه، عن جدّه. وقتادة بن النّعمان هو: أخو أبي سعيدٍ الخدريّ لأمّه، وأبو سعيدٍ الخدريّ: سعد بن مالك بن سنانٍ). [سنن الترمذي: 5/94-97]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه ولا تكن للخائنين خصيمًا (105) واستغفر اللّه إنّ اللّه كان غفورًا رحيمًا}
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه} إنّا أنزلنا إليك يا محمّد الكتاب، يعني القرآن {لتحكم بين النّاس} لتقضي بين النّاس، فتفصل بينهم {بما أراك اللّه} يعني: بما أنزل اللّه إليك من كتابه {ولا تكن للخائنين خصيمًا} يقول: ولا تكن لمن خان مسلمًا أو معاهدًا في نفسه أو ماله، خصيمًا تخاصم عنه، وتدفع عنه من طالبه بحقّه الّذي خانه فيه. {واستغفر اللّه} يقول استغفر الله يا محمّد وسله أن يصفح لك عن عقوبة ذنبك في مخاصمتك عن الخائن من خان مالا لغيره {إنّ اللّه كان غفورًا رحيمًا} يقول: إنّ اللّه لم يزل يصفح عن ذنوب عباده المؤمنين بتركه عقوبتهم عليها، إذا استغفروه منها، رحيمًا بهم، فافعل ذلك أنت يا محمّد، يغفر اللّه لك ما سلف من خصومتك عن هذا الخائن. وقد قيل إنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لم يكن خاصم عن الخائن، ولكنّه همّ بذلك، فأمره اللّه بالاستغفار ممّا همّ به من ذلك.
وذكر أنّ الخائنين الّذين عاتب اللّه جلّ ثناؤه نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم في خصومته عنهم بنو أبيرقٍ.
واختلف أهل التّأويل في خيانته الّتي كانت منه فوصفه اللّه بها، فقال بعضهم: كانت سرقةً سرقها.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، في قول اللّه: {إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه} إلى قوله: {ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة اللّه} فيما بين ذلك في طعمة بن أبيرقٍ ودرعه من حديدٍ الّتي سرق، وقال أصحابه من المؤمنين للنّبيّ: اعذره في النّاس بلسانك. ورموا بالدّرع رجلاً من يهود بريئًا.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ، نحوه.
- حدّثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيبٍ أبو مسلمٍ الحرّانيّ، قال: حدّثنا محمّد بن سلمة، قال: حدّثنا محمّد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن جدّه، قتادة بن النّعمان، قال: كان أهل بيتٍ منّا يقال لهم بنو أبيرقٍ: بشرٌ وبشيرٌ ومبشّرٌ، وكان بشيرٌ رجلاً منافقًا، وكان يقول الشّعر يهجو به أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثمّ ينحله إلى بعض العرب، ثمّ يقول: قال فلانٌ كذا، وقال فلانٌ كذا، فإذا سمع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ذلك الشّعر، قالوا: واللّه ما يقول هذا الشّعر إلاّ هذا الخبيث، فقال:
أوكلّما قال الرّجال قصيدةً = أضموا وقالوا ابن الأبيرق قالها
قال: وكانوا أهل بيت فاقةٍ وحاجةٍ في الجاهليّة والإسلام، وكان النّاس إنّما طعامهم بالمدينة التّمر والشّعير، وكان الرّجل إذا كان له يسارٌ فقدمت ضافطةٌ من الشّام بالدّرمك ابتاع الرّجل منهما، فخصّ به نفسه، فأمّا العيال: فإنّما طعامهم التّمر والشّعير. فقدمت ضافطةٌ من الشّام، فابتاع عمّي رفاعة بن زيدٍ حملاً من الدّرمك، فجعله في مشربةٍ له، وفي المشربة سلاحٌ له: درعان وسيفاهما وما يصلحهما. فعدي عليه من تحت اللّيل، فنقبت المشربة، وأخذ الطّعام والسّلاح.
فلمّا أصبح أتاني عمّي رفاعة فقال: يا ابن أخي تعلم أنّه قد عدي علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مشربتنا، فذهب بسلاحنا وطعامنا. قال: فتجسّسنا في الدّار وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرقٍ استوقدوا في هذه اللّيلة، ولا نرى فيما نراه إلاّ على بعض طعامكم. قال: وقد كان بنو أبيرقٍ قالوا ونحن نسأل في الدّار: واللّه ما نرى صاحبكم إلاّ لبيد بن سهلٍ، رجلٌ منّا له صلاحٌ وإسلامٌ، فلمّا سمع بذلك لبيدٌ اخترط سيفه، ثمّ أتى بني أبيرقٍ فقال: واللّه ليخالطنّكم هذا السّيف أو لتبيّننّ هذه السّرقة. قالوا: إليك عنّا أيّها الرّجل، فواللّه ما أنت بصاحبها. فسألنا في الدّار حتّى لم نشكّ أنّهم أصحابها، فقال عمّي: يا ابن أخي، لو أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فذكرت ذلك له. قال قتادة: فأتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فذكرت ذلك له، فقلت: يا رسول اللّه، إنّ أهل بيتٍ منّا أهل جفاءٍ، عمدوا إلى عمّي رفاعة فنقبوا مشربةً له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردّوا علينا سلاحنا، فأمّا الطّعام فلا حاجة لنا به. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: سأنظر في ذلك فلمّا سمع ذلك بنو أبيرقٍ أتوا رجلا منهم يقال له أسير بن عروة، فكلّموه في ذلك، واجتمع إليه ناسٌ من أهل الدّار، فأتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالوا: يا رسول اللّه، إنّ قتادة بن النّعمان وعمّه عمدوا إلى أهل بيتٍ منّا أهل إسلامٍ وصلاحٍ يرمونهم بالسّرقة عن غير بيّنةٍ ولا ثبتٍ.
قال قتادة: فأتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فكلّمته، فقال: عمدت إلى أهل بيتٍ ذكر منهم إسلامٌ وصلاحٌ ترميهم بالسّرقة على غير بيّنةٍ ولا ثبتٍ قال: فرجعت ولوددت أنّي خرجت من بعض مالي ولم أكلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في ذلك. فأتيت عمّي رفاعة، فقال: يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: اللّه المستعان. فلم نلبث أن نزل القرآن: {إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه ولا تكن للخائنين خصيمًا} يعني: بني أبيرقٍ {واستغفر اللّه} أي ممّا قلت لقتادة {إنّ اللّه كان غفورًا رحيمًا ولا تجادل عن الّذين يختانون أنفسهم} أي بني أبيرقٍ {إنّ اللّه لا يحبّ من كان خوّانًا أثيمًا يستخفون من النّاس} إلى قوله: {ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفورًا رحيمًا} أي أنّهم إن يستغفروا اللّه يغفر لهم {ومن يكسب إثمًا فإنّما يكسبه على نفسه وكان اللّه عليمًا حكيمًا ومن يكسب خطيئةً أو إثمًا ثمّ يرم به بريئًا فقد احتمل بهتانًا} وإثمًا مًبينًا قولهم للبيدٍ {ولولا فضل اللّه عليك ورحمته لهمّت طائفةٌ منهم أن يضلّوك} يعني أسيرًا وأصحابه {وما يضلّون إلاّ أنفسهم وما يضرّونك من شيءٍ وأنزل اللّه عليك الكتاب والحكمة} إلى قوله: {فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا}.
فلمّا نزل القرآن أتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالسّلاح، فردّه إلى رفاعة.
قال قتادة: فلمّا أتيت عمّي بالسّلاح وكان شيخًا قد عسا في الجاهليّة، وكنت أرى إسلامه مدخولا؛ فلمّا أتيته بالسّلاح، قال: يا ابن أخي، هو في سبيل اللّه. قال: فعرفت أنّ إسلامه كان صحيحًا. فلمّا نزل القرآن لحق بشيرٌ بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد بن شهدٍ، فأنزل اللّه فيه {ومن يشاقق} الرّسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين إلى قوله: {ومن يشرك باللّه فقد ضلّ ضلالاً} بعيدًا فلمّا نزل على سلافة رماها حسّان بن ثابتٍ بأبياتٍ من شعرٍ، فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثمّ خرجت فرمته بالأبطح، ثمّ قالت: أهديت إليّ شعر حسّان، ما كنت تأتيني بخيرٍ.
- حدّثنا بشر بن معاذٍ قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه} يقول: بما أنزل اللّه عليك وبيّن لك {ولا تكن للخائنين خصيمًا} فقرأ إلى قوله: {إنّ اللّه لا يحبّ من كان خوّانًا أثيمًا} ذكر لنا أنّ هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طعمة بن أبيرقٍ وفيما همّ به نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من عذره، وبيّن اللّه شأن طعمة بن أبيرقٍ، ووعظ نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم وحذّره أن يكون للخائنين خصيمًا. وكان طعمة بن أبيرقٍ رجلاً من الأنصار، ثمّ أحد بني ظفرٍ، سرق درعًا لعمّه كانت وديعةً عنده، ثمّ قذفها على يهوديٍّ كان يغشاهم، يقال له زيد بن السّمين، فجاء اليهوديّ إلى نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يهتف، فلمّا رأى ذلك قومه بنو ظفرٍ جاءوا إلى نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليعذروا صاحبهم، وكان نبيّ اللّه عليه الصّلاة والسّلام قد همّ بعذره، حتّى أنزل اللّه في شأنه ما أنزل، فقال: {ولا تجادل عن الّذين يختانون أنفسهم} إلى قوله: {ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدّنيا فمن يجادل اللّه عنهم يوم القيامة} يعني بذلك قومه {ومن يكسب خطيئةً أو إثمًا ثمّ يرم به بريئًا فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا} وكان طعمة قذف بها بريئًا. فلمّا بيّن اللّه شأن طعمة نافق ولحق بالمشركين بمكّة، فأنزل اللّه في شأنه: {ومن يشاقق الرّسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنّم وساءت مصيرًا}.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ، قوله: {إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه ولا تكن للخائنين خصيمًا} وذلك أنّ نفرًا من الأنصار غزوا مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في بعض غزواته، فسرقت درعٌ لأحدهم، فأظنّ بها رجلاً من الأنصار، فأتى صاحب الدّرع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: إنّ طعمة بن أبيرقٍ سرق درعي. فأتي به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فلمّا رأى السّارق ذلك، عمد إليها فألقاها في بيت رجلٍ بريءٍ، وقال لنفرٍ من عشيرته: إنّي قد غيّبت الدّرع وألقيتها في بيت فلانٍ، وستوجد عنده. فانطلقوا إلى نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليلاً، فقالوا: يا نبيّ اللّه إنّ صاحبنا بريءٌ، وإنّ سارق الدّرع فلانٌ، وقد أحطنا بذلك علمًا، فاعذر صاحبنا على رءوس النّاس وجادل عنه، فإنّه إن لم يعصمه اللّه بك يهلك. فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فبرّأه وعذره على رءوس النّاس، فأنزل اللّه: {إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه ولا تكن للخائنين خصيمًا}
يقول: احكم بينهم بما أنزل اللّه إليك في الكتاب {واستغفر اللّه إنّ اللّه كان غفورًا رحيمًا ولا تجادل عن الّذين يختانون أنفسهم} الآية، ثمّ قال للّذين أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليلاً: {يستخفون من النّاس ولا يستخفون من اللّه} إلى قوله: {أم من يكون عليهم وكيلاً} يعني الّذين أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلام مستخفين يجادلون عن الخائن ثم قال {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفورًا رّحيمًا} يعنى الذين أتوا رسول رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مستخفين بالكذب. ثمّ قال: {ومن يكسب خطيئةً أو إثمًا ثمّ يرم به بريئًا فقد احتمل بهتانًا} وإثمًا مبينًا يعني: السّارق والّذين يجادلون عن السّارق.
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيدٍ في قوله: {إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه} الآية. قال: كان رجلٌ سرق درعًا من حديدٍ في زمان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وطرحه على يهوديٍّ، فقال اليهوديّ: واللّه ما سرقتها يا أبا القاسم، ولكن طرحت عليّ. وكان للرّجل الّذي سرق جيرانٌ يبرّئونه ويطرحونه على اليهوديّ ويقولون: يا رسول اللّه، إنّ هذا اليهوديّ الخبيث يكفر باللّه وبما جئت به.
قال: حتّى مال عليه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ببعض القول، فعاتبه اللّه عزّ وجلّ في ذلك، فقال: {إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه ولا تكن للخائنين خصيمًا واستغفر اللّه} بما قلت لهذا اليهوديّ {إنّ اللّه كان غفورًا رحيمًا} ثمّ أقبل على جيرانه فقال {ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدّنيا} فقرأ حتّى بلغ: {أمّن يكون عليهم وكيلاً} قال: ثمّ عرض التّوبة فقال: {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفورًا رحيمًا ومن يكسب إثمًا فإنّما يكسبه على نفسه} فما أدخلكم أنتم أيّها النّاس على خطيئة هذا تكلّمون دونه؟ {وكان اللّه عليمًا حكيمًا ومن يكسب خطيئةً أو إثمًا ثمّ يرم به بريئًا} وإن كان مشركًا {فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا} فقرأ حتّى بلغ {لا خير في كثيرٍ من نجواهم إلاّ من أمر بصدقةٍ أو معروفٍ}فقرا حتى بلغ {ومن يشاقق الرّسول من بعد ما تبيّن له الهدى} قال: أبى أن يقبل التّوبة الّتي عرض اللّه له، وخرج إلى المشركين بمكّة، فنقب بيتًا ليسرقه، فهدمه اللّه عليه فقتله؛ فذلك قوله: {ومن يشاقق الرّسول من بعد ما تبيّن له الهدى} فقرأ حتّى بلغ: {وساءت مصيرًا} ويقال: هو طعمة بن أبيرقٍ، وكان نازلاً في بني ظفرٍ.
وقال آخرون: بل الخيانة الّتي وصف اللّه بها من وصفه بقوله: {ولا تكن للخائنين خصيمًا} جحوده وديعةً كان أودعها.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا محمّد بن الحسين، قال: حدّثنا أحمد بن مفضّلٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه ولا تكن للخائنين خصيمًا} قال: أمّا {ما أراك اللّه}: فما أوحى اللّه إليك؛ قال: نزلت في طعمة بن أبيرقٍ، واستودعه رجلٌ من اليهود درعًا، فانطلق بها معه إلى داره، فحفر لها اليهوديّ ثمّ دفنها، فخالف إليها طعمة فاحتفر عنها، فأخذها. فلمّا جاء اليهوديّ يطلب درعه كابره عنها، فانطلق إلى ناسٍ من اليهود من عشيرته، فقال: انطلقوا معي، فإنّي أعرف وضع الدّرع. فلمّا علم بهم طعمة أخذ الدّرع فألقاها في دار أبي مليلٍ الأنصاريّ، فلمّا جاءت اليهود تطلب الدّرع فلمّا تقدر عليها، وقع به طعمة وأناسٌ من قومه، فسبّوه، وقال أتخوّنونني؟ فانطلقوا يطلبونها في داره، فأشرفوا على بيت أبي مليلٍ، فإذا هم بالدّرع، وقال طعمة: أخذها أبو مليلٍ. وجادلت الأنصار دون طعمة وقال لهم: انطلقوا معي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقولوا له ينضح عنّي ويكذّب حجّة اليهوديّ، فإنّي إن أكذّب كذب على أهل المدينة اليهوديّ. فأتاه أناسٌ من الأنصار فقالوا: يا رسول اللّه، جادل عن طعمة وأكذب اليهوديّ. فهمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أن يفعل، فأنزل اللّه عليه: {ولا تكن للخائنين خصيمًا واستغفر اللّه} ممّا أردت {إنّ اللّه كان غفورًا رحيمًا ولا تجادل عن الّذين يختانون أنفسهم إنّ اللّه لا يحبّ من كان خوّانًا أثيمًا} ثمّ ذكر الأنصار ومجادلتهم عنه، فقال: {يستخفون من النّاس ولا يستخفون من اللّه وهو معهم إذ يبيّتون ما لا يرضى من القول} يقول: يقولون ما لا يرضى من القول إلى {ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدّنيا فمن يجادل اللّه عنهم يوم القيامة} ثمّ دعا إلى التّوبة، فقال: {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفورًا رحيمًا} ثمّ ذكر قوله حين قال: أخذها أبو مليلٍ، فقال: {ومن يكسب إثمًا فإنّما يكسبه على نفسه} {ومن يكسب خطيئةً أو إثمًا ثمّ يرم به بريئًا فقد احتمل بهتانًا} وإثمًا مبينًا ثمّ ذكر الأنصار وإتيانهما إيّاه أن ينضح عن صاحبهم ويجادل عنه فقوله: {لهمّت طائفةٌ منهم أن يضلّوك وما يضلّون إلاّ أنفسهم وما يضرّونك من شيءٍ وأنزل اللّه عليك الكتاب والحكمة} يقول: النّبوّة. ثمّ ذكر مناجاتهم فيما يريدون أن يكذبوا عن طعمة، فقال: {لا خير في كثيرٍ من نجواهم} إلاّ من أمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاحٍ بين النّاس فلمّا فضح اللّه طعمة بالمدينة بالقرآن، هرب حتّى أتى مكّة، فكفر بعد إسلامه. ونزل على الحجّاج بن علاط السّلميّ، فنقب بيت الحجّاج فأراد أن يسرقه، فسمع الحجّاج خشخشةً في بيته وقعقعة جلودٍ كانت عنده، فنظر فإذا هو بطعمة، فقال: ضيفي وابن عمّي وأردت أن تسرقني؟. فأخرجه فمات بحرّة بني سليمٍ كافرًا، وأنزل اللّه فيه: {ومن يشاقق} الرّسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى إلى: {وساءت مصيرًا}.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاج، عن ابن جريجٍ، عن عكرمة، قال: استودع رجلٌ من الأنصار طعمة بن أبيرقٍ مشربةً له فيها درعٌ، وخرج فغاب. فلمّا قدم الأنصاريّ فتح مشربته فلم يجد الدّرع، فسأل عنها طعمة بن أبيرقٍ، فرمى بها رجلاً من اليهود يقال له زيد بن السّمين. فتعلّق صاحب الدّرع بطعمة في درعه؛ فلمّا رأى ذلك قومه أتوا النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، فكلّموه ليدرأ عنه فهمّ بذلك، فأنزل اللّه تبارك وتعالى: {إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه ولا تكن للخائنين خصيمًا واستغفر اللّه إنّ اللّه كان غفورًا رحيمًا ولا تجادل عن الّذين يختانون أنفسهم} يعني طعمة بن أبيرقٍ وقومه {ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدّنيا فمن يجادل اللّه عنهم يوم القيامة أمّن يكون عليهم وكيلاً} محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم وقوم طعمة {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر اللّه يجد اللّه غفورًا رحيمًا} محمّدٌ وطعمة وقومه، قال: {ومن يكسب إثمًا فإنّما يكسبه على نفسه} الآية، طعمة {ومن يكسب خطيئةً أو إثمًا ثمّ يرم به بريئًا} يعني: زيد بن السّمين {فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا} طعمة بن أبيرقٍ {ولولا فضل اللّه عليك ورحمته} يا محمّد {لهمّت طائفةٌ منهم أن يضلّوك وما يضلّون إلاّ أنفسهم وما يضرّونك من شيءٍ} قوم طعمة بن أبيرقٍ {وأنزل اللّه عليك الكتاب والحكمة وعلّمك ما لم تكن تعلم وكان فضل اللّه عليك عظيمًا} محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم {لا خير في كثيرٍ من نجواهم إلاّ من أمر بصدقةٍ أو معروفٍ} حتّى تنقضي الآية للنّاس عامّةً
{ومن يشاقق الرّسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين} الآية. قال: لمّا نزل القرآن في طعمة بن أبيرقٍ لحق بقريشٍ ورجع في دينه، ثمّ عدا على مشربةٍ للحجّاج بن علاط البهزيّ ثمّ السّلميّ حليفٍ لبني عبد الدّار، فنقبها، فسقط عليه حجرٌ فلحج. فلمّا أصبح أخرجوه من مكّة، فخرج فلقي ركبًا من بهراء من قضاعة، فعرض لهم، فقال: ابن سبيلٍ منقطعٌ به. فحملوه حتّى إذا جنّ عليه اللّيل عدا عليهم فسرقهم، ثمّ انطلق فرجعوا في طلبه فأدركوه، فقذفوه بالحجارة حتّى مات.
قال ابن جريجٍ: فهذه الآيات كلّها فيه نزلت إلى قوله: {إنّ اللّه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} أنزلت في طعمة بن أبيرقٍ، يقولون: إنّه رمى بالدّرع في دار أبي مليل بن عبد اللّه الخزرجيّ، فلمّا نزل القرآن لحق بقريشٍ، فكان من أمره ما كان.
- حدّثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذٍ، حدّثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضّحّاك، يقول في قوله: {لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه} يقول: بما أنزل عليك وأراكه في كتابه. ونزلت هذه الآية في رجلٍ من الأنصار استودع درعًا فجحد صاحبها، فخوّنه رجالٌ من أصحاب نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فغضب له قومه، وأتوا نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وقالوا: خوّنوا صاحبنا وهو أمينٌ مسلمٌ، فاعذره يا نبيّ اللّه وازجر عنه. فقام نبيّ اللّه فعذره وكذّب عنه وهو يرى أنّه بريءٌ وأنّه مكذوبٌ عليه، فأنزل اللّه بيان ذلك فقال: {إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه} إلى قوله: {أم من يكون عليهم وكيلاً} فبيّن اللّه خيانته. فلحق بالمشركين من أهل مكّة، وارتدّ عن الإسلام، فنزل فيه: {ومن يشاقق الرّسول من بعد ما تبيّن له الهدى} إلى قوله: {وساءت مصيرًا}
قال أبو جعفرٍ: وأولى التّأويلين في ذلك بما دلّ عليه ظاهر الآية قول من قال: كانت خيانته الّتي وصفه اللّه بها في هذه الآية جحوده ما أودع، لأنّ ذلك هو المعروف من معاني الخيانات في كلام العرب؛ وتوجيه تأويل القرآن إلى الأشهر من معاني كلام العرب ما وجد إليه سبيلٌ أولى من غيره). [جامع البيان: 7/457-470]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه ولا تكن للخائنين خصيمًا (105)
قوله تعالى: إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ
- حدّثنا عليّ بن الحسين، ثنا أبو عميرٍ، ثنا مهديّ بن إبراهيم الرّمليّ عن مالك بن أنسٍ، عن ربيعة قال: إنّ اللّه تبارك وتعالى أنزل القرآن وترك فيه موضعًا للسّنّة، وسنّ الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم السّنّة وترك فيها موضعًا للرّأي
قوله تعالى: لتحكم بين النّاس.
- حدّثنا عليّ بن الحسين، ثنا أبو الطّاهر، ثنا ابن وهبٍ قال: قال لي مالكٌ: الحكم الّذي يحكم به بين النّاس على وجهين، فالّذي يحكم بالقرآن والسّنّة الماضية فذلك الحكم الواجب والصّواب، الحكم الّذي يجتهد فيه العالم نفسه فيما لم يأت فيه شيءٌ فلعلّه أن يوفّق، قال: وثالثٌ متكلّفٌ لما لا يعلم فما أشبه ذلك أن لا يوفّق
قوله تعالى: بما أراك الله.
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبي، ثنا عمرٌو النّاقد، ثنا شبابة بن سوّارٍ، عن أبي بكرٍ الهذليّ، عن عكرمة عن ابن عبّاسٍ قال: إيّاكم والرّأي، قال اللّه تعالى لنبيّه احكم بينهم بما أراك اللّه ولم يقل: بما رأيت
- أخبرنا محمد سعد بن عطيّة العوفيّ فيما كتب إليّ، ثنا أبي ثنا عمّي، حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ قوله: بما أراك اللّه يقول: بما أنزل اللّه إليك من الكتاب.
- حدّثنا أبو سعيدٍ الأشجّ، ثنا ابن فضيلٍ بن مرزوقٍ عن عطيّة لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه قال: النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أراه اللّه كتابه.
والوجه الثّاني:
- حدّثنا عليّ بن الحسين، ثنا عليّ بن زنجة، ثنا عليّ بن الحسن بن شقيقٍ، عن الحسين، عن مطرٍ في قوله: لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه قال: بالبيّنات والشّهود.
قوله تعالى: ولا تكن للخائنين خصيمًا.
- أخبرنا هاشم بن القاسم الحرّانيّ فيما كتب إليّ، ثنا محمّد بن سلمة عن محمّد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن جدّه قتادة بن النعمان قال: أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقلت: يا رسول اللّه، إنّ أهل بيتٍ منّا أهل خفاءٍ عمدوا إلى عمّي رفاعة بن زيدٍ فنقبوا مشربةً. له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردّوا لنا سلاحنا، فأمّا الطّعام فلا حاجة لنا به، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: سأنظر في ذلك، فلما سمعوا بذلك بنوا بيرق وأتوا رجالا منهم يقال له: أسير ابن عروة، فكلّموه في ذلك واجتمع إليه ناسٌ من أهل الدّار، فأتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقالوا: يا رسول اللّه، إنّ قتادة بن النّعمان وعمّه رفاعة بن زيدٍ عمدوا إلى أهل بيتٍ منّا أهل إسلامٍ وصلاحٍ يرمونهم.
قال قتادة: فأتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فكلّمته، فقال: عمدت إلى أهل بيتٍ ذكر منهم إسلامٌ وصلاحٌ ترميهم بالسّرقة على غير ثبتٍ ولا بيّنةٍ.
قال: فرجعت ولوددت أنّي خرجت من بعض مالي ولم أكلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في ذلك، فأتاني رفاعة فقال: يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته ما قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: اللّه المستعان، فلم نلبث أن نزل القرآن، فلمّا نزل القرآن أتوا رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم بالسّلاح فردّه على عمّي، فأنزل اللّه تعالى: إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه ولا تكن للخائنين خصيمًا. أي بني أبيرقٍ). [تفسير القرآن العظيم: 3/1058-1060]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (واستغفر اللّه إنّ اللّه كان غفورًا رحيمًا (106)
قوله تعالى: واستغفر اللّه.
- وبه عن قتادة بن النّعمان قال: فلم يلبث أن نزل القرآن واستغفر اللّه أي: ممّا قلت لقتادة.
- حدّثنا أبي، ثنا عمران بن موسى الطّرسوسيّ، ثنا عبد الصّمد بن يزيد قال: سمعت الفضيل يقول: قولة العبد: استغفر اللّه، قال: تفسيرها أقلني). [تفسير القرآن العظيم: 3/1060]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (ثنا إبراهيم قال ثنا آدم قال ثنا ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق إلى قوله لهمت طائفة منهم أن يضلوك فيما بين ذلك في ابن بيرق سرق درعا من حديد فرمى به يهوديا بريئا فقال أصحابه للنبي صلى الله عليه وسلم اعذره في الناس بلسانك). [تفسير مجاهد: 173]
قال أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد ابن الأثير الجزري (ت: 606هـ) : ( (ت) قتادة بن النعمان - رضي الله عنه - قال كان أهل بيتٍ منّا يقال لهم: بنو أبيرق: بشرٌ، وبشيرٌ، ومبشّرٌ، وكان بشير رجلاً منافقاً، يقول الشّعر يهجو به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ينحله بعض العرب، ثم يقول: قال فلان كذا وكذا، قال فلان كذا وكذا، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشّعر، قالوا: والله، ما يقول هذا الشّعر إلا هذا الخبيث - أو كما قال الرجل - وقالوا: ابن الأبيرق قالها: وكانوا أهل بيت حاجةٍ وفاقةٍ في الجاهلية والإسلام، وكان النّاس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشّعير، وكان الرجل إذا كان له يسارٌ فقدمت ضافطةٌ من الدّرمك، ابتاع الرجل منها، فخصّ بها نفسه، وأما العيال: فإنما طعامهم التمر والشعير.
فقدمت ضافطةٌ من الشام، فابتاع عمّي رفاعة بن زيد حملاً من الدّرمك، فجعله في مشربةٍ له، وفي المشربة سلاحٌ: درعٌ وسيف، فعدي عليه من تحت البيت فنقبت المشربة، وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتاني عمّي رفاعة، فقال: يا بن أخي، إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه، فنقبت مشربتنا، وذهب بطعامنا وسلاحنا، قال: فتحسّسنا في الدار، وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم، قال: وكان بنو أبيرق قالوا - ونحن نسأل في الدّار -: والله ما نري صاحبكم إلا لبيد بن سهلٍ - رجل منّا له صلاحٌ وإسلامٌ - فلمّا سمع لبيدٌ اخترط سيفه: وقال: أنا أسرق؟ فوالله ليخالطنّكم هذا السيف، أو لتبّيننّ هذه السرقة، قالوا: إليك عنا أيها الرجل، فما أنت بصاحبها، فسألنا في الدار، حتى لم نشكّ أنهم أصحابها، فقال لي عمي: يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له؟ قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن أهل بيت منّا، أهل جفاءٍ عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقّبوا مشربة له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردّوا علينا سلاحنا، فأمّا الطعام فلا حاجة لنا فيه. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: سآمر في ذلك، فلما سمع بنو أبيرق أتوا رجلاً منهم، يقال له: أسيد بن عروة فكلّموه في ذلك، واجتمع في ذلك أناسٌ من أهل الدار، فقالوا: يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمّه عمداً إلى أهل بيت منّا أهل إسلامٍ وصلاحٍ يرمونهم بالسرقة من غير بيّنةٍ ولا ثبتٍ.
قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلّمته، فقال: عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلامٌ وصلاحٌ، ترميهم بالسرقة من غير ثبتٍ ولا بينة؟ قال: فرجعت، ولوددت أنّي خرجت من بعض مالي، ولم أكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فأتاني عمي رفاعة، فقال: يا ابن أخي، ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الله المستعان، فلم نلبث أن نزل القرآن {إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه ولا تكن للخائنين خصيماً} بني أبيرق {واستغفر الله} مما قلت لقتادة {إنّ الله كان غفوراً رحيماً. ولا تجادل عن الّذين يختانون أنفسهم إنّ الله لا يحبّ من كان خوّاناً أثيماً. يستخفون من النّاس ولا يستخفون من اللّه وهو معهم إذ يبيّتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطاً. هاأنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدّنيا فمن يجادل اللّه عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً. ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر الله يجد اللّه غفوراً رحيماً} أي: لو استغفروا الله لغفر لهم {ومن يكسب إثماً فإنّما يكسبه على نفسه وكان الله عليماً حكيماً. ومن يكسب خطيئةً أو إثماً ثمّ يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً} قولهم للبيدٍ {ولولا فضل اللّه عليك ورحمته لهمّت طائفةٌ منهم أن يضلّوك وما يضلّون إلّا أنفسهم وما يضرّونك من شيءٍ وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلّمك ما لم تكن تعلم وكان فضل اللّه عليك عظيماً. لا خير في كثيرٍ من نجواهم إلا من أمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاحٍ بين النّاس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً} [النساء: 105- 114]، فلمّا نزل القرآن أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح، فردّه إلى رفاعة، قال قتادة: لما أتيت عمّي بالسلاح - وكان شيخاً قد عسا، أو عشا - الشك من أبي عيسى - في الجاهلية، وكنت أرى إسلامه مدخولاً، فلما أتيته قال لي: يا ابن أخي، هو في سبيل الله - فعرفت أنّ إسلامه كان صحيحاً - فلما نزل القرآن لحق بشيرٌ بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد بن سميّة، فأنزل الله {ومن يشاقق الرّسول من بعد ما تبيّن له الهدى ويتّبع غير سبيل المؤمنين نولّه ما تولّى ونصله جهنّم وساءت مصيراً. إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضلّ ضلالاً بعيداً} [النساء: 115، 116]، فلمّا نزل على سلافة، رماها حسّان بن ثابتٍ بأبياتٍ من شعرٍ، فأخذت رحله فوضعته على رأسها، ثم خرجت به فرمت به في الأبطح، ثم قالت: أهديت إليّ شعر حسّان، ما كنت تأتيني بخير. أخرجه الترمذي.
[شرح الغريب]
(ينحله) النحلة: الهبة والعطية.
(فاقة) الفاقة: الحاجة والفقر.
(ضافطة) بضاد معجمة: ناس يجلبون الدقيق والزيت، ونحوهما. وقيل: هم الذين يكرون من منزل إلى منزل.
(الدرمك) الدقيق الحواري.
(مشربة) بضم الراء وفتحها: الغرفة.
(عدي عليه) أي: سرق ماله، وهو من العدوان، أي: الظلم.
(عسا أو عشا) عسا بالسين غير المعجمة، أي: كبر وأسن، وبالمعجمة، أي: قلّ بصره وضعف.
(مدخولاً) الدّخل: العيب والغش، يعني: أن إيمانه متزلزل فيه نفاق). [جامع الأصول: 2/105-109]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (أخرج الترمذي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن قتادة بن النعمان قال: كان أهل بيت منا يقال لهم: بنو أبيرق: بشر وبشير ومبشر وكان بشير رجلا منافقا يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ينحله بعض العرب ثم يقول: قال فلان كذا وكذا قال فلان كذا وكذا وإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث فقال: أو كلما قال الرجال قصيدة أضحوا فقالوا: ابن الأبيرق قالها، وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام من الرزمك ابتاع الرجل منها فخص بها بنفسه وأما العيال فإنما طعامهم الشعير فقدمت ضافطة الشام فابتاع عمي رفاعة بن زر جملا من الرزمك فجعله في مشربة له وفي المشربة سلاح له درعان وسيفاهما وما يصلحهما فعدا عدي من تحت الليل فنقب المشربة وأخذ الطعام والسلاح فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي تعلم أنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا فذهب بطعامنا وسلاحنا قال: فتجسسنا في الدار وسألنا فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق قد استوقدوا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم، قال: وقد كان بنو أبيرق قالوا - ونحن نسأل في الدار - والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل رجلا منا له صلاح وإسلام فلما سمع ذلك لبيد اخترط سيفه ثم أتى بني أبيرق وقال: أنا أسرق فوالله ليخالطنكم هذا السيف أو لتتبين هذه السرقة، قالوا: إليك عنا أيها الرجل - فوالله - ما أنت بصاحبها فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال لي عمي: يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له وأخذوا سلاحه وطعامه فليردوا علينا سلاحنا فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سأنظر في ذلك فلما سمع ذلك بنو أبيرق أتوا رجلا منهم يقال له أسير بن عروة فكلموه في ذلك واجتمع إليه ناس من أهل الدار فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير
بينة ولا ثبت، قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته، فقال: عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت قال قتادة: فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك فأتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي ما صنعت فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الله المستعان، فلم نلبث أن نزل القرآن {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما} لبني أبيرق {واستغفر الله} أي مما قلت لقتادة {إن الله كان غفورا رحيما ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} إلى قوله {ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما} أي أنهم لو استغفروا الله لغفر لهم {ومن يكسب إثما} إلى قوله {فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا} قولهم للبيد {ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك} يعني أسير بن عروة وأصحابه إلى قوله {فسيؤتيه أجرا عظيما}، فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة، قال قتادة: فلما أتيت عمي بالسلاح - وكان شيخا قد عسا في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولا - فلما أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخي هو في سبيل الله فعرفت أن إسلامه كان صحيحا فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد فأنزل الله (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى) (النساء الآية 115) إلى قوله (ضلالا بعيد) فلما نزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت فرمت به في الأبطح ثم قالت أهديت لي شعر حسان ما كنت تأتيني بخير.
وأخرج ابن سعد عن محمود بن لبيد قال: عدا بشير بن الحارث على علية رفاعة بن زيد عم قتادة بن النعمان الظفري فنقبها من ظهرها وأخذ طعاما له ودرعين بأداتهما فأتى قتادة بن النعمان النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فدعا بشيرا فسأله فأنكر ورمى بذلك لبيد بن سهل رجلا من أهل الدار ذا حسب ونسب فنزل القرآن بتكذيب بشير وبراءة لبيد بن سهل قوله {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} إلى قوله {ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما} يعني بشير بن أبيرق {ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا} يعني لبيد بن سهل حين رماه بنو أبيرق بالسرقة فلما نزل القرآن في بشير وعثر عليه هرب إلى مكة مرتدا كافر فنزل على سلافة بنت سعد بن الشهيد فجعل يقع في النّبيّ صلى الله عليه وسلم وفي المسلمين فنزل القرآن فيه وهجاه حسان بن ثابت حتى رجع وكان ذلك في شهر ربيع سنة أربع من الهجرة.
وأخرج ابن سعد من وجه آخر عن محمود بن لبيد قال: كان أسير بن عروة رجلا منطيقا ظريفا بليغا حلوا فسمع بما قال قتادة بن النعمان في بني أبيرق للنبي صلى الله عليه وسلم حين اتهمهم بنقب علية عمه وأخذ طعامه والدرعين فأتى أسير رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعة جمعهم من قومه فقال: إن قتادة وعمه عمدوا إلى أهل بيت منا أهل حسب ونسب وصلاح يؤنبونهم بالقبيح ويقولون لهم ما لا ينبغي بغير ثبت ولا بينة فوضع لهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء ثم انصرف فأقبل بعد ذلك قتادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكلمه فجبهه رسول الله صلى الله عليه وسلم جبها شديدا منكرا وقال: بئسما صنعت وبئسما مشيت فيه، فقام قتادة وهو يقول: لوددت أني خرجت من أهلي ومالي وأني لم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من أمرهم وما أنا بعائد في شيء من ذلك، فأنزل الله على نبيه في شأنهم {إنا أنزلنا إليك الكتاب} إلى قوله {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} يعني أسير بن عروة وأصحابه {إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد في قوله {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} إلى قوله {ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله} فيما بين ذلك في طعمة بن أبيرق درعه من حديد التي سرق وقال أصحابه من المؤمنين للنبي صلى الله عليه وسلم: اعذره في الناس بلسانك ورموا بالدرع رجلا من يهود بريئا.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة قال: ذكر لنا أن هذه الآيات أنزلت في شأن طعمة بن أبيرق وفيما هم به النّبيّ صلى الله عليه وسلم من عذره فبين الله شأن طعمة بن أبيرق ووعظ نبيه صلى الله عليه وسلم وحذره أن يكون للخائنين خصيما وكان طعمة بن أبيرق رجلا من الأنصار ثم أحد بني ظفر سرق درعا لعمه كانت وديعة عندهم ثم قدمها على يهودي كان يغشاهم يقال له زيد بن السمين فجاء اليهودي إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم يهتف فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر جاءوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم قد هم بعذره حتى أنزل الله في شأنه ما أنزل فقال {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} إلى قوله {يرم به بريئا} وكان طعمة قذف بها برئيا فلما بين الله شأن طعمة نافق ولحق بالمشركين فأنزل الله في شأنه (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين) (النساء الآية 114) الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال: إن نفرا من الأنصار غزوا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته فسرقت درع لأحدهم فأظن بها رجلا من الأنصار فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن طعمة بن أبيرق سرق درعي، فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء وقال لنفر من عشيرته: إني غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عنده فانطلقوا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا نبي الله إن صاحبنا بريء وإن سارق الدرع فلان وقد أحطنا بذلك علما فأعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه فإنه إن لا يعصمه الله بك يهلك فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس فأنزل الله {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} يقول: بما أنزل الله إليك إلى قوله {خوانا أثيما} ثم قال للذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلا {يستخفون من الناس} إلى قوله {وكيلا} يعني الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين يجادلون عن الخائنين ثم قال {ومن يكسب خطيئة} الآية، يعني السارق والذين جادلوا عن السارق.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال: كان رجل سرق درعا من حديد في زمان النّبيّ صلى الله عليه وسلم طرحه على يهودي فقال اليهودي: والله ما سرقتها يا أبا القاسم ولكن طرحت علي، وكان الرجل الذي سرق له جيران يبرئونه ويطرحونه على اليهودي ويقولون: يا رسول الله إن هذا اليهودي خبيث يكفر بالله وبما جئت به حتى مال عليه النّبيّ صلى الله عليه وسلم ببعض القول فعاتبه الله في ذلك فقال {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما واستغفر الله} بما قلت لهذا اليهودي {إن الله كان غفورا رحيما} ثم أقبل على جيرانه فقال {ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم} إلى قوله {وكيلا} ثم عرض التوبة فقال {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه} فما أدخلكم أنتم أيها الناس على خطيئة هذا تكلمون دونه {ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا} وإن كان مشركا {فقد احتمل بهتانا} إلى قوله {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى} قال: أبى أن يقبل التوبة التي عرض الله له وخرج إلى المشركين بمكة فنقب بيتا يسرقه فهدمه الله عليه فقتله.
وأخرج ابن المنذر عن الحسن أن رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم اختان درعا من حديد فلما خشي أن توجد عنده ألقاها في بيت جار له من اليهود وقال: تزعمون إني اختنت الدرع - فوالله - لقد انبئت أنها عند اليهودي فرفع ذلك إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وجاء أصحابه يعذرونه فكأن النّبيّ صلى الله عليه وسلم عذره حين لم يجد عليه بينة ووجدوا الدرع في بيت اليهودي وأبى الله إلا العدل فأنزل الله على نبيه {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق} إلى قوله {أم من يكون عليهم وكيلا} فعرض الله بالتوبة لو قبلها إلى قوله {ثم يرم به بريئا} اليهودي ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {ولولا فضل الله عليك ورحمته} إلى قوله {وكان فضل الله عليك عظيما} فأبرئ اليهودي وأخبر بصاحب الدرع قال: قد افتضحت الآن في المسلمين وعلموا أني صاحب الدرع ما لي إقامة ببلد فتراغم فلحق بالمشركين فأنزل الله (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى) (النساء الآية 114) إلى قوله (ضلالا بعيد).
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدي في قوله {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} قال: بما أوحى الله إليك نزلت في طعمة بن أبيرق استودعه رجل من اليهود درعا فانطلق بها إلى داره فحفر لها اليهودي ثم دفنها فخالف إليها طعمة فاحتفر عنها فأخذها فلما جاء اليهودي يطلب درعه كافره عنها فانطلق إلى أناس من اليهود من عشيرته فقال: انطلقوا معي فإني أعرف موضع الدرع فلما علم به طعمة أخذ الدرع فألقاها في بيت أبي مليك الأنصاري فلما جاءت اليهود تطلب الدرع فلم تقدر عليها وقع به طعمة وأناس من قومه فسبوه
قال: أتخونوني، فانطلقوا يطلبونها في داره فأشرفوا على دار أبي مليك فإذا هم بالدرع وقال طعمة: أخذها أبو مليك وجادلت الأنصار دون طعمة وقال لهم: انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا له ينضح عني ويكذب حجة اليهودي فإني إن أكذب كذب على أهل المدينة اليهودي فأتاه أناس من الأنصار فقالوا: يا رسول الله جادل عن طعمة وأكذب اليهودي، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل فأنزل الله عليه {ولا تكن للخائنين خصيما} إلى قوله {أثيما} ثم ذكر الأنصار ومجادلتهم عنه فقال {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله} إلى قوله {وكيلا} ثم دعا إلى التوبة فقال {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه} إلى قوله {رحيما} ثم ذكر قوله حين قال أخذها أبو مليك فقال {ومن يكسب إثما} إلى قوله {مبينا} ثم ذكر الأنصار وأتيانها إياه أن ينضح عن صاحبهم ويجادل عنه فقال: {لهمت طائفة منهم أن يضلوك} ثم ذكر مناجاتهم فيما يريدون أن يكذبوا عن طعمة فقال: (لا خير في كثير من نجواهم) (النساء الآية 115) فلما فضح الله طعمة بالقرآن بالمدينة هرب حتى أتى مكة فكفر بعد إسلامه ونزل على الحجاج بن علاط السلمي فنقب بيت الحجاج فأراد أن يسرقه فسمع الحجاج خشخشته في بيته وقعقعة جلود كانت عنده فنظر فإذا هو بطعمة فقال: ضيفي، وابن عمي فأردت أن تسرقني فأخرجه فمات بحرة بني سليم كافرا وأنزل الله فيه (ومن يشاقق الرسول) (النساء الآية 115) إلى (وساءت مصيرا).
وأخرج سنيد، وابن جرير، وابن المنذر عن عكرمة قال: استودع رجل من الأنصار طعمة بن أبيرق مشربة له فيها درع فغاب فلما قدم الأنصاري فتح مشربته فلم يجد الدرع فسأل عنها طعمة بن أبيرق فرمى بها رجلا من اليهود يقال له زيد بن السمين فتعلق صاحب الدرع بطعمة في درعه فلما رأى ذلك قومه أتوا النّبيّ صلى الله عليه وسلم فكلموه ليدرأ عنه فهم بذلك فأنزل الله {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس} إلى قوله {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} يعني طعمة بن أبيرق وقومه {ها أنتم هؤلاء جادلتم} إلى قوله {يكون عليهم وكيلا} محمد صلى الله عليه وسلم وقوم طعمة {ثم يرم به بريئا} يعني زيد بن السمين {فقد احتمل بهتانا} طعمة بن أبيرق {ولولا فضل الله عليك ورحمته} لمحمد صلى الله عليه وسلم {لهمت طائفة} قوم طعمة (لا خير في كثير) (النساء الآية 114) الآية للناس عامة (ومن يشاقق الرسول) (النساء الآية 115) قال: لما أنزل القرآن في طعمة بن أبيرق لحق بقريش ورجع في دينه ثم عدا على مشربة للحجاج بن علاط البهري فنقبها فسقط عليه حجر فلحج فلما أصبح أخرجوه من مكة فخرج فلقي ركبا من قضاعة فعرض لهم فقال: ابن سبيل منقطع به، فحملوه حتى إذا جن عليه الليل عدا عليهم فسرقهم ثم انطلق فرجعوا في طلبه فأدركوه فقذفوه بالحجارة حتى مات، فهذه الآيات كلها فيه نزلت إلى قوله (إن الله لا يغفر أن يشرك به) (النساء الآية 115).
وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار استودع درعا فجحدها صاحبها فلحق به رجال من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم فغضب له قومه وأتوا نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: خونوا صاحبنا وهو أمين مسلم فأعذره يا نبي الله وازجر عنه فقام النّبيّ صلى الله عليه وسلم فعذره وكذب عنه وهو يرى أنه بريء وأنه مكذوب عليه فأنزل الله بيان ذلك فقال {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله} إلى قوله {أم من يكون عليهم وكيلا} فبين خيانته فلحق بالمشركين من أهل مكة وارتد عن الإسلام فنزل فيه (ومن يشاقق الرسول) (النساء الآية 115) إلى قوله (وساءت مصيرا)، واخرج ابن أبي حاتم عن عطية العوفي أن رجلا يقال له طعمة بن أبيرق سرق درعا على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم فرفع ذلك إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فألقاها في بيت رجل ثم قال لأصحاب له: انطلقوا فاعذروني عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم فإن الدرع قد وجد في بيت فلان، فانطلقوا يعذرونه عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأنزل الله {ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا} قال: بهتانه قذفه الرجل). [الدر المنثور: 4/676–687]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إياكم والرأي فإن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {لتحكم بين الناس بما أراك الله} ولم يقل بما رأيت.
وأخرج ابن المنذر عن عمرو بن دينار أن رجلا قال لعمر {بما أراك الله} قال: مه إنما هذه للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عطية العوفي {لتحكم بين الناس بما أراك الله} قال: الذي أراه في كتابه.
وأخرج ابن أبي حاتم من طريق مالك بن أنس عن ربيعة قال: إن الله أنزل القرآن وترك فيه موضعا للسنة وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم السنة وترك فيها موضعا للرأي
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن وهب قال: قال لي مالك: الحكم الذي يحكم به بين الناس على وجهين فالذي يحكم بالقرآن والسنة الماضية فذلك الحكم الواجب والصواب والحكم يجتهد فيه العالم نفسه فيما لم يأت فيه شيء فلعله أن يوفق، قال: وثالث التكلف لما لا يعلم فما أشبه ذلك أن لا يوفق.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة {لتحكم بين الناس بما أراك الله} قال: بما بين الله لك.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مطر {لتحكم بين الناس بما أراك الله} قال: بالبينات والشهود). [الدر المنثور: 4/688-689]

تفسير قوله تعالى: (وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) )
قالَ عَبْدُ اللهِ بنُ وَهْبٍ المَصْرِيُّ (ت: 197 هـ): (وأخبرني سعيد بن عبد الرحمن، عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة أخبره أن ابن أبيرق الظفري كان سرق درعا من رجلٍ، فأخذ فرمى بها غيره فأغضبهم ذلك، وقالوا: أراد أن يعر أحسابنا، فكلموا رسول الله أن يقوم بعذره، فلما رجعوا من عند رسول الله أنزل الله على رسوله فأخبره خبره، فنزلت: {ولا تجادل عن الذين يختاتون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما}، وما ذكر معها في ذلك الشأن، ثم قال: {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما (110) ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما (111) ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبينا}، فلو أنه تاب لقبل منه إن شاء الله؛ وكان قد دعي ولكنه حمى أنفه فخرج إلى قريش فلبث فيهم، فعثروا عليه قد سرق بعض ثياب الكعبة فقدموه فقتلوه.
وحدثني الليث بن سعد بهذا الحديث، وقال: سرق درعا من رجلٍ يهوديٍ فأخذ بها فرمي بها غيره). [الجامع في علوم القرآن: 1/94]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ولا تجادل عن الّذين يختانون أنفسهم إنّ اللّه لا يحبّ من كان خوّانًا أثيمًا}
يعني بذلك جلّ ثناؤه: {ولا تجادل} يا محمّد فتخاصم {عن الّذين يختانون أنفسهم} يعني: يخونون أنفسهم، يجعلونها خونةً بخيانتهم ما خانوا من أموال من خانوه ماله وهم بنو أبيرقٍ، يقول: لا تخاصم عنهم من يطالبهم بحقوقهم، وما خانوه فيه من أموالهم {إنّ اللّه لا يحبّ من كان خوّانًا أثيمًا} يقول: إنّ اللّه لا يحبّ من كان من صفته خيانة النّاس في أموالهم، وركوب الإثم في ذلك وغيره ممّا حرّمه اللّه عليه.
وبنحو الّذي قلنا في ذلك قال أهل التّأويل، وقد تقدّم ذكر الرّواية عنهم.
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا معمرٌ، عن قتادة: {ولا تجادل عن الّذين، يختانون أنفسهم} قال: اختان رجلٌ عمًّا له درعًا، فقذف بها يهوديًّا كان يغشاهم، فجادل عمّ الرّجل قومه، فكان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عذره، ثمّ لحق بأرض الشّرك، فنزلت فيه: {ومن يشاقق الرّسول من بعد ما تبيّن له الهدى} الآية). [جامع البيان: 7/470-471]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (ولا تجادل عن الّذين يختانون أنفسهم إنّ اللّه لا يحبّ من كان خوّانًا أثيمًا (107)
قوله تعالى: ولا تجادل عن الّذين يختانون أنفسهم.
- أخبرنا هاشم بن القاسم الحرّانيّ فيما كتب إليّ، ثنا محمّد بن سلمة عن محمّد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاريّ، عن أبيه، عن جدّه قتادة ابن النّعمان قال: فلمّا أنزل القرآن ولا تجادل عن الّذين يختانون أنفسهم
يعني: بني أبيرقٍ.
قوله تعالى: إنّ اللّه لا يحبّ من كان خوانا أثيما.
- أخبرنا أبو محمّد بن بنت الشّافعيّ فيما كتب إليّ، عن أبيه أو عمّه عن سفيان بن عيينة إنّ اللّه لا يحبّ
قال: لا يقرّب). [تفسير القرآن العظيم: 3/1060-1061]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (واخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله {ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم} قال: اختان رجل من الأنصار عما له درعا فقذف بها يهوديا كان يغشاهم فجادل الرجل قومه فكأن النبي صلى الله عليه وسلم عذره ثم لحق بدار الشرك فنزلت فيه (ومن يشاقق الرسول) (النساء الآية 114) الآية). [الدر المنثور: 4/688]

تفسير قوله تعالى: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {يستخفون من النّاس ولا يستخفون من اللّه وهو معهم إذ يبيّتون ما لا يرضى من القول وكان اللّه بما يعملون محيطًا}
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {يستخفون من النّاس} يستخفي هؤلاء الّذين يختانون أنفسهم ما أوتوا من الخيانة، وركبوا من العار والمعصية من النّاس الّذي لا يقدرون لهم على شيءٍ إلاّ ذكرهم بقبيح ما أوتوا من فعلهم وشنيع ما ركبوا من جرمهم إذا اطّلعوا عليه حياءً منهم، وحذرًا من قبيح الأحدوثة {ولا يستخفون من اللّه} الّذي هو مطّلعٌ عليهم، لا يخفى عليه شيءٌ من أعمالهم، وبيده العقاب والنّكال وتعجيل العذاب، وهو أحقّ أن يستحيا منه من غيره، وأولى أن يعظّم بأن لا يراهم حيث يكرهون أن يراهم أحدٌ من خلقه {وهو معهم} يعني: واللّه شاهدهم {إذ يبيّتون ما لا يرضى من القول} يقول حين يسوّون ليلا ما لا يرضى من القول فيغيّرونه عن وجهه، ويكذبون فيه. وقد بيّنّا معنى التّبييت في غير هذا الموضع، وأنّه كلّ كلامٍ أو أمرٍ أصلح ليلاً. وقد حكي عن بعض الطّائيّين أنّ التّبييت في لغتهم التّبديل، وأنشد للأسود بن عامر بن جوينٍ الطّائيّ في معاتبة رجلٍ:.
وبيّت قولي عبد المليك = قاتلك اللّه عبدًا كنودا
بمعنى: بدّلت قولي
وروي عن أبي رزينٍ أنّه كان يقول في معنى قوله: {يبيّتون}: يؤلّفون.
- حدّثنا محمّد بن بشّارٍ، قال: حدّثنا عبد الرّحمن، قال: حدّثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي رزينٍ: {إذ يبيّتون ما لا يرضى من القول} قال: يؤلّفون ما لا يرضى من القول.
- حدّثنا أحمد بن سنانٍ الواسطيّ، قال: حدّثنا أبو يحيى الحمّانيّ، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي رزينٍ، بنحوه.
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا الثّوريّ، عن الأعمش، عن أبي رزينٍ، مثله.
قال أبو جعفرٍ: وهذا القول شبيه المعنى بالّذي قلناه، وذلك أنّ التّأليف هو التّسوية والتّغيير عمّا هو به وتحويله عن معناه إلى غيره.
وقد قيل: عنى بقوله: {يستخفون من النّاس ولا يستخفون من اللّه} الرّهط الّذين مشوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في مسألة المدافعة عن ابن أبيرقٍ والجدال عنه على ما ذكرنا قبل فيما مضى عن ابن عبّاسٍ وغيره. {وكان اللّه بما يعملون محيطًا} يعني جلّ ثناؤه: وكان اللّه بما يعمل هؤلاء المستخفون من النّاس فيما أوتوا من جرمهم حياءً منهم من تبييتهم ما لا يرضى من القول وغيره من أفعالهم محيطًا محصيًا، لا يخفى عليه شيءٌ منه، حافظًا لذلك عليهم، حتّى يجازيهم عليه جزاءهم). [جامع البيان: 7/471-473]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (يستخفون من النّاس ولا يستخفون من اللّه وهو معهم إذ يبيّتون ما لا يرضى من القول وكان اللّه بما يعملون محيطًا (108)
قوله تعالى: يستخفون من النّاس ولا يستخفون من اللّه وهو معهم
- حدّثنا عليّ بن الحسين، ثنا عبد اللّه بن محمّد بن إسحاق الأذرميّ ثنا إسحاق الأزرق، عن شريكٍ، عن أبي إسحاق وهو السّبيعيّ عن أبي الأحوص، عن عبد اللّه قال: من صلّى صلاةً عند النّاس لا يصلّي مثلها إذا خلا، فهي استهانةٌ، استهان بها وبه، ثمّ تلا هذه الآية: يستخفون من النّاس ولا يستخفون من اللّه وهو معهم إذ يبيّتون ما لا يرضى من القول وكان اللّه بما يعملون محيطًا.
- حدّثنا عليّ بن الحسين، ثنا عبد اللّه بن محمّدٍ الأذرميّ، ثنا إسحاق عن شريكٍ، عن الهجريّ عن أبي الأحوص، عن عبد اللّه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم مثله.
- أخبرنا محمّد بن سعدٍ العوفيّ فيما كتب إليّ حدّثني أبي، حدّثني عمّي، حدّثني أبي عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ: ثمّ قال للّذين أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ليلا مستخفين بالكذب يستخفون من النّاس ولا يستخفون من اللّه وهو معهم.
قوله تعالى: إذ يبيّتون ما لا يرضى من القول.
- حدّثنا أحمد بن سنانٍ، ثنا أبو يحيى الحمّانيّ، عن سفيان، عن الأعشى، عن أبي رزينٍ إذ يبيّتون ما لا يرضى من القول
قال: إذ يؤلفون مالا يرضى من القول. وروي عن السّدّيّ مثل ذلك.
قوله تعالى: وكان اللّه بما يعملون محيطًا.
- قرأت على محمّد بن الفضيل، ثنا محمّد بن عليٍّ، ثنا محمّد بن مزاحمٍ، عن بكير بن مزاحم، عن مقاتل بن حيّان قوله: بما يعملون محيطًا
يقول: أحاط علمه بأعمالهم. ومنهم من يقول: أنزلت في المنافقين.
- أخبرنا أبو بدرٍ عبّاد بن الوليد الغبريّ فيما كتب إليّ قال: سمعت أبا سعيدٍ الحدّاد أحمد بن داود يقول: إذ يبيّتون ما لا يرضى من القول وكان اللّه بما يعملون محيطًا
قال: قد أحاط اللّه بكلّ شيءٍ علمًا، ولم يقل مع كلّ شيءٍ). [تفسير القرآن العظيم: 3/1061-1062]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأخرج عبد، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود موقوفا ومرفوعا قال: من صلى صلاة عند الناس لا يصلي مثلها إذا خلا فهي استهانة استهان بها ربه ثم تلا هذه الآية {يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم}.
وأخرج عبد بن حميد عن حذيفة مثله وزاد: ولا يستحيي أن يكون الناس أعظم عنده من الله.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي رزين {إذ يبيتون} قال: إذ يؤلفون ما لا يرضى من القول). [الدر المنثور: 4/689-690]

تفسير قوله تعالى: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) )
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدّنيا فمن يجادل اللّه عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً}.
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدّنيا} ها أنتم الّذين جادلتم يا معشر من جادل عن بني أبيرقٍ في الحياة الدّنيا، والهاء والميم في قوله: {عنهم} من ذكر الخائنين {فمن يجادل اللّه عنهم} يقول: فمن ذا يخاصم اللّه عنهم يوم القيامة: أي يوم يقوم النّاس من قبورهم لمحشرهم، فيدافع عنهم ما اللّه فاعلٌ بهم، ومعاقبهم به. وإنّما يعني بذلك أنّكم أيّها المدافعون عن هؤلاء الخائنين أنفسهم، وإن دافعتم عنهم في عاجل الدّنيا، فإنّهم سيصيرون في آجل الآخرة إلى من لا يدافع عنهم عنده أحدٌ فيما يحلّ بهم من أليم العذاب ونكال العقاب.
وأمّا قوله: {أمّن يكون عليهم وكيلاً} فإنّه يعني: ومن ذا الّذي يكون على هؤلاء الخائنين وكيلاً يوم القيامة: أي ومن يتوكّل لهم في خصومة ربّهم عنهم يوم القيامة. وقد بيّنّا معنى الوكالة فيما مضى وأنّها القيام بأمر من توكل له). [جامع البيان: 7/473-474]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدّنيا فمن يجادل اللّه عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلًا (109)
قوله تعالى: ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدّنيا فمن يجادل اللّه عنهم يوم القيامة
- أخبرنا محمّد بن سعدٍ فيما كتب إليّ، حدّثني أبي، حدّثنا عمّي ثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ قوله: ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدّنيا فمن يجادل اللّه عنهم يوم القيامة
يعني: الّذين أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مستخفين يجادلون عن الخائن). [تفسير القرآن العظيم: 3/1062]


رد مع اقتباس