عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 29 محرم 1440هـ/9-10-2018م, 01:01 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إنّما يؤمن بآياتنا الّذين إذا ذكّروا بها خرّوا سجّدًا وسبّحوا بحمد ربّهم وهم لا يستكبرون (15) تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربّهم خوفًا وطمعًا وممّا رزقناهم ينفقون (16) فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرّة أعينٍ جزاءً بما كانوا يعملون (17) }
يقول تعالى: {إنّما يؤمن بآياتنا} أي: إنّما يصدّق بها {الّذين إذا ذكّروا بها خرّوا سجّدًا} أي: استمعوا لها وأطاعوها قولًا وفعلًا {وسبّحوا بحمد ربّهم وهم لا يستكبرون} [أي] عن اتّباعها والانقياد لها، كما يفعله الجهلة من الكفرة الفجرة، [وقد] قال اللّه تعالى: {إنّ الّذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين} [غافرٍ:60]). [تفسير ابن كثير: 6/ 362-363]

تفسير قوله تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) :(ثمّ قال [تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} يعني بذلك: قيام اللّيل، وترك النّوم والاضطجاع على الفرش الوطيئة. قال مجاهدٌ والحسن في قوله تعالى]: {تتجافى جنوبهم} يعني بذلك: قيام اللّيل.
وعن أنسٍ، وعكرمة، ومحمّد بن المنكدر، وأبي حازمٍ، وقتادة: هو الصّلاة بين العشاءين. وعن أنسٍ أيضًا: هو انتظار صلاة العتمة. رواه ابن جريرٍ بإسنادٍ جيّدٍ.
وقال الضّحّاك: هو صلاة العشاء في جماعةٍ، وصلاة الغداة في جماعةٍ.
{يدعون ربّهم خوفًا وطمعًا} أي: خوفًا من وبال عقابه، وطمعًا في جزيل ثوابه، {وممّا رزقناهم ينفقون}، فيجمعون بين فعل القربات اللّازمة والمتعدّية، ومقدّم هؤلاء وسيّدهم وفخرهم في الدّنيا والآخرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، كما قال عبد اللّه بن رواحة، رضي اللّه عنه:
وفينا رسول اللّه يتلو كتابه = إذا انشقّ معروفٌ من الصّبح ساطع...
[أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا = به موقناتٌ أنّ ما قال واقع]...
يبيت يجافي جنبه عن فراشه = إذا استثقلت بالمشركين المضاجع...
وقال الإمام أحمد: حدّثنا روحٌ وعفّان قالا حدّثنا حمّاد بن سلمة، أخبرنا عطاء بن السّائب، عن مرّة الهمدانيّ، عن ابن مسعودٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "عجب ربّنا من رجلين: رجلٌ ثار من وطائه ولحافه، ومن بين أهله وحيّه إلى صلاته، [فيقول ربّنا: أيا ملائكتي، انظروا إلى عبدي، ثار من فراشه ووطائه، ومن بين حيّه وأهله إلى صلاته] رغبةً فيما عندي، وشفقةً ممّا عندي. ورجلٌ غزا في سبيل اللّه، عزّ وجلّ، فانهزموا، فعلم ما عليه من الفرار، وما له في الرّجوع، فرجع حتّى أهريق دمه، رغبةً فيما عندي وشفقةً ممّا عندي. فيقول اللّه، عزّ وجلّ للملائكة: انظروا إلى عبدي رجع رغبةً فيما عندي، ورهبةً ممّا عندي، حتّى أهريق دمه".
وهكذا رواه أبو داود في "الجهاد"، عن موسى بن إسماعيل، عن حمّاد بن سلمة، به بنحوه.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرّزّاق، أخبرنا معمر، عن عاصم بن أبي النّجود، عن أبي وائلٍ، عن معاذ بن جبلٍ قال: كنت مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في سفرٍ، فأصبحت يومًا قريبًا منه، ونحن نسير، فقلت: يا نبيّ اللّه، أخبرني بعملٍ يدخلني الجنّة ويباعدني من النّار. قال: "لقد سألت عن عظيمٍ، وإنّه ليسيرٌ على من يسّره اللّه عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئا، وتقيم الصّلاة، وتؤتي الزّكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت". ثمّ قال: "ألا أدلّك على أبواب الخير؟ الصّوم جنّةٌ، والصّدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرّجل في جوف اللّيل". ثمّ قرأ: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع}، حتّى بلغ {يعملون}. ثمّ قال: "ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ " فقلت: بلى، يا رسول اللّه. فقال: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصّلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل اللّه". ثمّ قال: "ألّا أخبرك بملاك ذلك كلّه؟ " فقلت: بلى، يا نبيّ اللّه. فأخذ بلسانه ثمّ قال: "كفّ عليك هذا". فقلت: يا رسول اللّه، وإنّا لمؤاخذون بما نتكلّم به. فقال: ثكلتك أمّك يا معاذ، وهل يكب النّاس في النّار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلّا حصائد ألسنتهم".
رواه التّرمذيّ والنّسائيّ وابن ماجه في سننهم، من طرقٍ عن معمرٍ، به. وقال التّرمذيّ: حسنٌ صحيحٌ. ورواه ابن جريرٍ من حديث شعبة، عن الحكم قال: سمعت عروة بن النّزّال يحدّث عن معاذ بن جبلٍ؛ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال له: "ألا أدلّك على أبواب الخير: الصّوم جنّةٌ، والصّدقة تكفّر الخطيئة، وقيام العبد في جوف اللّيل"، وتلا هذه الآية: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربّهم خوفًا وطمعًا وممّا رزقناهم ينفقون}.
ورواه أيضًا من حديث الثّوريّ، عن منصور بن المعتمر، عن الحكم، عن ميمون بن أبي شبيبٍ، عن معاذٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بنحوه، ومن حديث الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابتٍ، والحكم عن ميمون بن أبي شبيبٍ، عن معاذٍ مرفوعًا بنحوه. ومن حديث حمّاد بن سلمة، عن عاصم بن أبي النّجود، عن شهرٍ، عن معاذ بن جبلٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، في قوله تعالى: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} قال: "قيام العبد من اللّيل".
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أحمد بن سنان الواسطيّ، حدّثنا يزيد بن هارون، حدّثنا فطر بن خليفة، عن حبيب بن أبي ثابتٍ، والحكم، وحكيم بن جبير، عن ميمون بن أبي شبيبٍ، عن معاذٍ بن جبلٍ قال: كنت مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في غزوة تبوك فقال: "إن شئت أنبأتك بأبواب الخير: الصّوم جنّةٌ، والصّدقة تطفئ الخطيئة، وقيام الرّجل في جوف اللّيل"، ثمّ تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربّهم خوفًا وطمعًا وممّا رزقناهم ينفقون}.
ثمّ قال: حدّثنا أبي، حدّثنا سويد بن سعيدٍ، حدّثنا عليّ بن مسهر، عن عبد الرّحمن بن إسحاق، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إذا جمع اللّه الأوّلين والآخرين يوم القيامة، جاء منادٍ فنادى بصوتٍ يسمع الخلائق: سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم. ثمّ يرجع فينادي: ليقم الّذين كانت {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} الآية، فيقومون وهم قليلٌ".
وقال البزّار: حدّثنا عبد اللّه بن شبيب، حدّثنا الوليد بن عطاء بن الأغرّ، حدّثنا عبد الحميد بن سليمان، حدّثني مصعبٌ، عن زيد بن أسلم، عن أبيه قال: قال بلالٌ لمّا نزلت هذه الآية: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} [الآية]، كنّا نجلس في المجلس، وناسٌ من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يصلّون بعد المغرب إلى العشاء، فنزلت هذه الآية: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع}.
ثمّ قال: لا نعلم روى أسلم عن بلالٍ سواه، وليس له طريقٌ عن بلالٍ غير هذه الطّريق). [تفسير ابن كثير: 6/ 363-365]

تفسير قوله تعالى: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) :(وقوله: {فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرّة أعينٍ جزاءً بما كانوا يعملون} أي: فلا يعلم أحدٌ عظمة ما أخفى اللّه لهم في الجنّات من النّعيم المقيم، واللّذّات الّتي لم يطّلع على مثلها أحدٌ، لمّا أخفوا أعمالهم أخفى اللّه لهم من الثّواب، جزاءً وفاقًا؛ فإنّ الجزاء من جنس العمل.
قال الحسن [البصريّ]: أخفى قومٌ عملهم فأخفى اللّه لهم ما لم تر عينٌ، ولم يخطر على قلب بشرٍ. رواه ابن أبي حاتمٍ.
قال البخاريّ: قوله: {فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرّة أعينٍ} الآية: حدثنا علي بن عبد اللّه، حدّثنا سفيان، عن أبي الزّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "قال اللّه تعالى: أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ". قال أبو هريرة: فاقرؤوا إن شئتم: {فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرّة أعينٍ}.
قال: وحدّثنا سفيان، حدّثنا أبو الزّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال اللّه مثله. قيل لسفيان: روايةً؟ قال: فأيّ شيءٍ؟.
ورواه مسلمٌ والتّرمذيّ من حديث سفيان بن عيينة، به. وقال التّرمذيّ: حسنٌ صحيحٌ.
ثمّ قال البخاريّ: حدّثنا إسحاق بن نصرٍ، حدّثنا أبو أسامة، عن الأعمش، حدّثنا أبو صالحٍ، عن أبي هريرة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "يقول اللّه تعالى: أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ، ذخرًا من بله ما أطلعتم عليه"، ثمّ قرأ: {فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرّة أعينٍ جزاءً بما كانوا يعملون}.
قال أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالحٍ، قرأ أبو هريرة: "قرّات أعينٍ". انفرد به البخاريّ من هذا الوجه.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرّزّاق، حدّثنا معمر، عن همّام بن منبّه قال: هذا ما حدّثنا أبو هريرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إن الله تعالى قال: أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ".
أخرجاه في الصّحيحين من رواية عبد الرّزّاق. ورواه التّرمذيّ في التّفسير، وابن جريرٍ، من حديث عبد الرّحيم بن سليمان، عن محمّد بن عمرٍو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بمثله. ثمّ قال التّرمذيّ: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وقال حمّاد بن سلمة، عن ثابتٍ، عن أبي رافعٍ، عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، قال حمّادٌ: أحسبه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: "من يدخل الجنّة ينعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه، في الجنّة ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر".
رواه مسلمٌ من حديث حمّاد بن سلمة، به.
وروى الإمام أحمد: حدّثنا هارون، حدّثنا ابن وهبٍ، حدّثني أبو صخرٍ، أنّ أبا حازمٍ حدّثه قال: سمعت سهل بن سعدٍ السّاعديّ، رضي اللّه عنه، يقول: شهدت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مجلسا وصف فيه الجنّة، حتّى انتهى، ثمّ قال في آخر حديثه: "فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ"، ثمّ قرأ هذه الآية: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع [يدعون ربّهم خوفًا وطمعًا]}، إلى قوله: {يعملون}.
وأخرجه مسلمٌ في صحيحه عن هارون بن معروفٍ، وهارون بن سعيدٍ، كلاهما عن ابن وهبٍ، به.
وقال ابن جريرٍ: حدّثني العبّاس بن أبي طالبٍ، حدّثنا معلّى بن أسدٍ، حدّثنا سلّام بن أبي مطيعٍ، عن قتادة، عن عقبة بن عبد الغافر، عن أبي سعيدٍ الخدريّ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، يروي عن ربّه، عزّ وجلّ، قال: "أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ". لم يخرّجوه.
وقال مسلمٌ أيضًا في صحيحه: حدّثنا ابن أبي عمر وغيره، حدّثنا سفيان، حدّثنا مطرّف بن طريف وعبد الملك بن سعيدٍ، سمعا الشّعبيّ يخبر عن المغيرة بن شعبة قال: سمعته على المنبر -يرفعه إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم -قال: "سأل موسى، عليه السّلام ربّه عزّ وجلّ: ما أدنى أهل الجنّة منزلةً؟ قال: هو رجلٌ يجيء بعدما أدخل أهل الجنّة الجنّة، فيقال له: ادخل الجنّة. فيقول: أي ربّ، كيف وقد نزل النّاس منازلهم، وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل ملك ملكٍ من ملوك الدّنيا؟ فيقول: رضيت ربّ. فيقول: لك ذلك، ومثله، ومثله، ومثله، ومثله، فقال في الخامسة: رضيت ربّ. فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت نفسك ولذّت عينك. فيقول: رضيت ربّ. قال: ربّ، فأعلاهم منزلةً؟ قال: أولئك الّذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها، فلم تر عينٌ، ولم تسمع أذنٌ، ولم يخطر على قلب بشرٍ"، قال: ومصداقه من كتاب اللّه: {فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرّة أعينٍ جزاءً بما كانوا يعملون}.
ورواه التّرمذيّ عن ابن أبي عمر، وقال: حسنٌ صحيحٌ، قال: ورواه بعضهم عن الشّعبيّ، عن المغيرة ولم يرفعه، والمرفوع أصح.
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا جعفر بن منيرٍ المدائنيّ، حدّثنا أبو بدرٍ شجاع بن الوليد، حدّثنا زياد بن خيثمة، عن محمّد بن جحادة، عن عامر بن عبد الواحد قال: بلغني أنّ الرّجل من أهل الجنّة يمكث في مكانه سبعين سنةً، ثمّ يلتفت فإذا هو بامرأةٍ أحسن ممّا كان فيه، فتقول له: قد أنى لك أن يكون لنا منك نصيبٌ؟ فيقول: من أنت؟ فتقول: أنا من المزيد. فيمكث معها سبعين سنةً، ثمّ يلتفت فإذا هو بامرأةٍ أحسن ممّا كان فيه، فتقول له: قد أنى لك أن يكون لنا منك نصيبٌ، فيقول: من أنت؟ فتقول: أنا الّتي قال اللّه: {فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرّة أعينٍ}.
وقال ابن لهيعة: حدّثني عطاء بن دينارٍ، عن سعيد بن جبير قال: تدخل عليهم الملائكة في مقدار كلّ يومٍ من أيّام الدّنيا ثلاث مرّاتٍ، معهم التّحف من اللّه من جنّات عدنٍ ما ليس في جنّاتهم، وذلك قوله: {فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرّة أعينٍ}، ويخبرون أنّ اللّه عنهم راضٍ.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا سهل بن موسى الرّازيّ، حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، عن صفوان بن عمرٍو، عن أبي اليمان الهوزنيّ -أو غيره -قال: الجنّة مائة درجةٍ، أوّلها درجة فضّةٍ وأرضها فضّةٌ، ومساكنها فضّةٌ، [وآنيتها فضّةٌ] وترابها المسك. والثّانية ذهبٌ، وأرضها ذهبٌ، ومساكنها ذهبٌ، وآنيتها ذهبٌ، وترابها المسك. والثّالثة لؤلؤٌ، وأرضها لؤلؤٌ، ومساكنها اللّؤلؤ، وآنيتها اللّؤلؤ، وترابها المسك. وسبعٌ وتسعون بعد ذلك، ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ. ثمّ تلا هذه الآية: {فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرّة أعينٍ جزاءً بما كانوا يعملون}
وقال ابن جريرٍ: حدّثني يعقوب بن إبراهيم، حدّثنا معتمر بن سليمان، عن الحكم بن أبان، عن الغطريف، عن جابر بن زيدٍ، عن ابن عبّاسٍ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، عن الرّوح الأمين قال: "يؤتى بحسنات العبد وسيّئاته، ينقص بعضها من بعضٍ، فإن بقيت حسنةٌ [واحدةٌ] وسّع اللّه له في الجنّة"، قال: فدخلت على "يزداد" فحدّث بمثل هذا الحديث، قال: فقلت: فأين ذهبت الحسنة؟ قال: {أولئك الّذين نتقبّل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيّئاتهم في أصحاب الجنّة وعد الصّدق الّذي كانوا يوعدون} [الأحقاف: 16]. قلت: قوله تعالى: {فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرّة أعينٍ}، قال: العبد يعمل سرًّا أسرّه إلى اللّه، لم يعلم به النّاس، فأسرّ اللّه له يوم القيامة قرّة أعين). [تفسير ابن كثير: 6/ 365-368]

تفسير قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({أفمن كان مؤمنًا كمن كان فاسقًا لا يستوون (18) أمّا الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات فلهم جنّات المأوى نزلًا بما كانوا يعملون (19) وأمّا الّذين فسقوا فمأواهم النّار كلّما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وقيل لهم ذوقوا عذاب النّار الّذي كنتم به تكذّبون (20) ولنذيقنّهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلّهم يرجعون (21) ومن أظلم ممّن ذكّر بآيات ربّه ثمّ أعرض عنها إنّا من المجرمين منتقمون (22)}
يخبر تعالى عن عدله [وكرمه] أنّه لا يساوي في حكمه يوم القيامة من كان مؤمنًا بآياته متبعًا لرسله، بمن كان فاسقًا، أي: خارجًا عن طاعة ربّه مكذّبًا لرسله إليه، كما قال تعالى: {أم حسب الّذين اجترحوا السّيّئات أن نجعلهم كالّذين آمنوا وعملوا الصّالحات سواءً محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} [الجاثية: 21]، وقال تعالى: {أم نجعل الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتّقين كالفجّار} [ص: 28]، وقال تعالى: {لا يستوي أصحاب النّار وأصحاب الجنّة أصحاب الجنّة هم الفائزون} [الحشر: 20]؛ ولهذا قال تعالى هاهنا: {أفمن كان مؤمنًا كمن كان فاسقًا لا يستوون} أي: عند اللّه يوم القيامة.
وقد ذكر عطاء بن يسار والسّدّيّ وغيرهما: أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالبٍ، وعقبة بن أبي معيط؛ ولهذا فصّل حكمهم فقال: {أمّا الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات} أي: صدّقت قلوبهم بآيات اللّه وعملوا بمقتضاها، وهي الصّالحات {فلهم جنّات المأوى} أي: الّتي فيها المساكن والدّور والغرف العالية {نزلًا} أي: ضيافةً وكرامةً {بما كانوا يعملون. وأمّا الّذين فسقوا} أي: خرجوا عن الطّاعة، {فمأواهم النّار كلّما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} كقوله: {كلّما أرادوا أن يخرجوا منها من غمٍّ أعيدوا فيها} الآية [الحجّ: 22].
قال الفضيل بن عياضٍ: واللّه إنّ الأيدي لموثقةٌ، وإنّ الأرجل لمقيّدةٌ، وإنّ اللّهب ليرفعهم والملائكة تقمعهم.
{وقيل لهم ذوقوا عذاب النّار الّذي كنتم به تكذّبون} أي: يقال لهم ذلك تقريعًا وتوبيخًا). [تفسير ابن كثير: 6/ 369]

تفسير قوله تعالى: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {ولنذيقنّهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلّهم يرجعون [لعلّهم يرجعون]} قال ابن عبّاسٍ: يعني بالعذاب الأدنى مصائب الدّنيا وأسقامها وآفاتها، وما يحلّ بأهلها ممّا يبتلي اللّه به عباده ليتوبوا إليه. وروي مثله عن أبيّ بن كعبٍ، وأبي العالية، والحسن، وإبراهيم النّخعي، والضّحّاك، وعلقمة، وعطيّة، ومجاهدٍ، وقتادة، وعبد الكريم الجزري، وخصيف.
وقال ابن عبّاسٍ -في روايةٍ عنه -: يعني به إقامة الحدود عليهم.
وقال البراء بن عازبٍ، ومجاهدٌ، وأبو عبيدة: يعني به عذاب القبر.
وقال النّسائيّ: أخبرنا عمرو بن عليٍّ، أخبرنا عبد الرّحمن بن مهديٍّ، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص وأبي عبيدة، عن عبد اللّه: {ولنذيقنّهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر} قال: سنون أصابتهم.
وقال عبد اللّه بن الإمام أحمد: حدّثني عبد اللّه بن عمر القواريري، حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، عن شعبة، عن قتادة، عن عزرة، عن الحسن العرني، عن يحيى بن الجزّار، عن ابن أبي ليلى عن أبيّ بن كعبٍ في هذه الآية: {ولنذيقنّهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر} قال: المصيبات والدّخان قد مضيا، والبطشة واللّزام.
ورواه مسلمٌ من حديث شعبة، به موقوفًا نحوه. وعند البخاريّ عن ابن مسعودٍ، نحوه.
وقال عبد اللّه بن مسعودٍ أيضًا، في روايةٍ عنه: العذاب الأدنى: ما أصابهم من القتل والسّبي يوم بدرٍ. وكذا قال مالكٌ، عن زيد بن أسلم.
قال السّدّي وغيره: لم يبق بيتٌ بمكّة إلّا دخله الحزن على قتيلٍ لهم أو أسيرٍ، فأصيبوا أو غرموا، ومنهم من جمع له الأمران). [تفسير ابن كثير: 6/ 369-370]

تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {ومن أظلم ممّن ذكّر بآيات ربّه ثمّ أعرض عنها} أي: لا أظلم ممّن ذكّره اللّه بآياته وبيّنها له ووضّحها، ثمّ بعد ذلك تركها وجحدها وأعرض عنها وتناساها، كأنّه لا يعرفها.
قال قتادة، رحمه اللّه: إيّاكم والإعراض عن ذكر اللّه، فإنّ من أعرض عن ذكره فقد اغترّ أكبر الغرّة، وأعوز أشدّ العوز، وعظّم من أعظم الذّنوب.
ولهذا قال تعالى متهدّدًا لمن فعل ذلك: {إنّا من المجرمين منتقمون} أي: سأنتقم ممّن فعل ذلك أشدّ الانتقام.
وقال ابن جريرٍ: حدّثني عمران بن بكّارٍ الكلاعي، حدّثنا محمّد بن المبارك، حدّثنا إسماعيل بن عيّاشٍ، حدّثنا عبد العزيز بن عبيد اللّه، عن عبادة بن نسيّ، عن جنادة بن أبي أميّة عن معاذ بن جبلٍ قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "ثلاثٌ من فعلهنّ فقد أجرم، من عقد لواءً في غير حقٍّ، أو عقّ والديه، أو مشى مع ظالمٍ ينصره، فقد أجرم، يقول اللّه تعالى: {إنّا من المجرمين منتقمون}
ورواه ابن أبي حاتمٍ، من حديث إسماعيل بن عيّاشٍ، به، وهذا حديثٌ غريبٌ جدًّا). [تفسير ابن كثير: 6/ 370-371]

رد مع اقتباس