عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 30 جمادى الأولى 1435هـ/31-03-2014م, 01:09 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النّساء أو أكننتم في أنفسكم علم اللّه أنّكم ستذكرونهنّ ولكن لا تواعدوهنّ سرًّا إلا أن تقولوا قولا معروفًا ولا تعزموا عقدة النّكاح حتّى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أنّ اللّه يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أنّ اللّه غفورٌ حليمٌ (235)}
يقول تعالى: {ولا جناح عليكم} أن تعرّضوا بخطبة النّساء في عدّتهنّ من وفاة أزواجهنّ من غير تصريحٍ. قال الثّوريّ وشعبة وجريرٌ وغيرهم، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النّساء} قال: «التّعريض أن تقول: إنّي أريد التّزويج، وإنّي أحبّ امرأةً من أمرها ومن أمرها -يعرّض لها بالقول بالمعروف -»وفي روايةٍ: «وددت أنّ اللّه رزقني امرأةً ونحو هذا. ولا ينصب للخطبة». وفي روايةٍ: «إنّي لا أريد أن أتزوّج غيرك إن شاء اللّه، ولوددت أنّي وجدت امرأةً صالحٍةً، ولا ينصب لها ما دامت في عدّتها». ورواه البخاريّ تعليقًا، فقال: قال لي طلق بن غنّام، عن زائدة، عن منصورٍ، عن مجاهدٍ، عن ابن عبّاسٍ: {ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النّساء} هو أن يقول: «إنّي أريد التّزويج، وإنّ النّساء لمن حاجتي، ولوددت أنّه تيسّر لي امرأةٌ صالحٍةٌ».
وهكذا قال مجاهدٌ، وطاوسٌ، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، والشّعبيّ، والحسن، وقتادة، والزّهريّ، ويزيد بن قسيط، ومقاتل بن حيّان، والقاسم بن محمّدٍ، وغير واحدٍ من السّلف والأئمّة في التّعريض: «أنّه يجوز للمتوفّى عنها زوجها من غير تصريحٍ لها بالخطبة». وهكذا حكم المطلقة المبتوتة يجوز التّعريض لها، كما قال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم لفاطمة بنت قيسٍ، حين طلّقها زوجها أبو عمرو بن حفص: آخر ثلاث تطليقاتٍ. فأمرها أن تعتدّ في بيت ابن أمّ مكتومٍ، وقال لها: «فإذا حللت فآذنيني». فلمّا حلّت خطب عليها أسامة بن زيدٍ مولاه، فزوّجها إيّاه.
فأمّا المطلّقة الرّجعيّة: فلا خلاف في أنّه لا يجوز لغير زوجها التّصريح بخطبتها ولا التّعريض لها، واللّه أعلم.
وقوله: {أو أكننتم في أنفسكم} أي: أضمرتم في أنفسكم خطبتهنّ وهذا كقوله تعالى: {وربّك يعلم ما تكنّ صدورهم وما يعلنون} [القصص:69] وكقوله: {وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم} [المتحنة:1] ولهذا قال: {علم اللّه أنّكم ستذكرونهنّ} أي: في أنفسكم، فرفع الحرج عنكم في ذلك، ثمّ قال: {ولكن لا تواعدوهنّ سرًّا} قال أبو مجلز، وأبو الشّعثاء -جابر بن زيدٍ -والحسن البصريّ، وإبراهيم النّخعيّ وقتادة، والضّحّاك، والرّبيع بن أنسٍ، وسليمان التّيميّ، ومقاتل بن حيّان، والسّدّيّ: «يعني الزّنا». وهو معنى رواية العوفي عن ابن عباس، واختاره ابن جرير.
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {ولكن لا تواعدوهنّ سرًّا} لا تقل لها: «إنّي عاشقٌ، وعاهديني ألّا تتزوّجي غيري، ونحو هذا». وكذا روي عن سعيد بن جبير، والشّعبيّ، وعكرمة، وأبي الضّحى، والضّحّاك، والزّهريّ، ومجاهدٍ، والثّوريّ: «هو أن يأخذ ميثاقها ألّا تتزوّج غيره»، وعن مجاهدٍ: «هو قول الرّجل للمرأة: لا تفوتيني بنفسك، فإنّي ناكحك».
وقال قتادة: «هو أن يأخذ عهد المرأة، وهي في عدّتها ألّا تنكح غيره، فنهى اللّه عن ذلك وقدّم فيه، وأحلّ الخطبة والقول بالمعروف». وقال ابن زيدٍ: «{ولكن لا تواعدوهنّ سرًّا} هو أن يتزوّجها في العدّة سرًّا، فإذا حلّت أظهر ذلك».
وقد يحتمل أن تكون الآية عامّةً في جميع ذلك؛ ولهذا قال: {إلا أن تقولوا قولا معروفًا} قال ابن عبّاسٍ، ومجاهدٌ وسعيد بن جبيرٍ، والسّدّيّ، والثّوريّ، وابن زيدٍ: «يعني به: ما تقدّم من إباحة التّعريض. كقوله: إنّي فيك لراغبٌ. ونحو ذلك».
وقال محمّد بن سيرين: «قلت لعبيدة: ما معنى قوله: {إلا أن تقولوا قولا معروفًا}؟ قال: يقول لوليّها: لا تسبقني بها، يعني: لا تزوّجها حتّى تعلمني». رواه ابن أبي حاتمٍ.
وقوله: {ولا تعزموا عقدة النّكاح حتّى يبلغ الكتاب أجله} يعني: ولا تعقدوا العقد بالنّكاح حتّى تنقضي العدّة. قال ابن عبّاسٍ، ومجاهدٌ، والشّعبيّ، وقتادة، والرّبيع بن أنسٍ، وأبو مالكٍ، وزيد بن أسلم، ومقاتل بن حيّان، والزّهريّ، وعطاءٌ الخراسانيّ، والسّدّيّ، والثّوريّ، والضّحّاك: «{حتّى يبلغ الكتاب أجله} يعني: حتّى تنقضي العدّة».
وقد أجمع العلماء على أنّه لا يصحّ العقد في مدّة العدّة. واختلفوا فيمن تزوّج امرأةً في عدّتها فدخل بها، فإنّه يفرّق بينهما، وهل تحرم عليه أبدًا؟ على قولين: الجمهور على أنّها لا تحرم عليه، بل له أن يخطبها إذا انقضت عدّتها. وذهب الإمام مالكٌ إلى أنّها تحرم عليه على التّأبيد. واحتجّ في ذلك بما رواه عن ابن شهابٍ، وسليمان بن يسارٍ: أنّ عمر، رضي اللّه عنه، قال: «أيّما امرأةٍ نكحت في عدّتها، فإنّ زوجها الّذي تزوّجها لم يدخل بها، فرّق بينهما، ثمّ اعتدّت بقيّة عدّتها من زوجها الأوّل، ثمّ كان الآخر خاطبًا من الخطّاب، وإن كان دخل بها فرّق بينهما، ثمّ اعتدّت بقيّة عدّتها من الأوّل ثمّ اعتدّت من الآخر، ثمّ لم ينكحها أبدًا».
قالوا: ومأخذ هذا: أنّ الزّوج لمّا استعجل ما أجّل اللّه، عوقب بنقيض قصده، فحرمت عليه على التّأبيد، كالقاتل يحرم الميراث. وقد روى الشّافعيّ هذا الأثر عن مالكٍ. قال البيهقيّ: «وذهب إليه في القديم ورجع عنه في الجديد، لقول عليٍّ: إنّها تحلّ له».
قلت: ثمّ هو منقطعٌ عن عمر. وقد روى الثّوريّ، عن أشعث، عن الشعبي، عن مسروق: «أنّ عمر رجع عن ذلك وجعل لها مهرها، وجعلهما يجتمعان».
وقوله: {واعلموا أنّ اللّه يعلم ما في أنفسكم فاحذروه} توعّدهم على ما يقع في ضمائرهم من أمور النّساء، وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشّرّ، ثمّ لم يؤيسهم من رحمته، ولم يقنطهم من عائدته، فقال: {واعلموا أنّ اللّه غفورٌ حليمٌ}). [تفسير ابن كثير: 1/ 638-641]

تفسير قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {لا جناح عليكم إن طلّقتم النّساء ما لم تمسّوهنّ أو تفرضوا لهنّ فريضةً ومتّعوهنّ على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعًا بالمعروف حقًّا على المحسنين (236)}
أباح تبارك وتعالى طلاق المرأة بعد العقد عليها وقبل الدّخول بها. قال ابن عبّاسٍ، وطاوسٌ، وإبراهيم، والحسن البصريّ: «المسّ: النّكاح. بل ويجوز أن يطلّقها قبل الدّخول بها، والفرض لها إن كانت مفوّضةً، وإن كان في هذا انكسارٌ لقلبها؛ ولهذا أمر تعالى بإمتاعها، وهو تعويضها عمّا فاتها بشيءٍ تعطاه من زوجها بحسب حاله، على الموسع قدره وعلى المقتر قدره».
وقال سفيان الثّوريّ، عن إسماعيل بن أمّيّة، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: «متعة الطّلاق أعلاه الخادم، ودون ذلك الورق، ودون ذلك الكسوة».
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: «إن كان موسرًا متّعها بخادمٍ، أو شبه ذلك، وإن كان معسرًا أمتعها بثلاثة أثوابٍ».
وقال الشّعبيّ: «أوسط ذلك: درعٌ وخمارٌ وملحفةٌ وجلبابٌ». قال: «وكان شريحٌ يمتّع بخمسمائةٍ». وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمر، عن أيّوب، عن ابن سيرين قال: «كان يمتع بالخادم، أو بالنّفقة، أو بالكسوة»، قال: «ومتّع الحسن بن عليٍّ بعشرة آلافٍ» ويروى أنّ المرأة قالت: متاعٌ قليلٌ من حبيبٍ مفارق.
وذهب أبو حنيفة، رحمه اللّه، «إلى أنّه متى تنازع الزّوجان في مقدار المتعة وجب لها عليه نصف مهر مثلها». وقال الشّافعيّ في الجديد: «لا يجبر الزّوج على قدرٍ معلومٍ، إلّا على أقلّ ما يقع عليه اسم المتعة، وأحبّ ذلك إليّ أن يكون أقلّه ما تجزئ فيه الصّلاة». وقال في القديم: «لا أعرف في المتعة قدرًا إلّا أنّي أستحسن ثلاثين درهمًا؛ لما روي عن ابن عمر، رضي اللّه عنهما».
وقد اختلف العلماء أيضًا: هل تجب المتعة لكلّ مطلّقةٍ، أو إنّما تجب المتعة لغير المدخول بها الّتي لم يفرض لها؟ على أقوالٍ:
أحدها: أنّه تجب المتعة لكلّ مطلّقةٍ، لعموم قوله تعالى: {وللمطلّقات متاعٌ بالمعروف حقًّا على المتّقين} [البقرة:241] ولقوله تعالى: {يا أيّها النّبيّ قل لأزواجك إن كنتنّ تردن الحياة الدّنيا وزينتها فتعالين أمتّعكنّ وأسرّحكنّ سراحًا جميلا} [الأحزاب:28] وقد كن مفروضا لهن ومدخولا بهن، وهذا قول سعيد بن جبير، وأبي العالية، والحسن البصريّ. وهو أحد قولي الشّافعيّ، ومنهم من جعله الجديد الصّحيح، فاللّه أعلم.
والقول الثّاني: أنّها تجب للمطلّقة إذا طلّقت قبل المسيس، وإن كانت مفروضًا لها لقوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثمّ طلّقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ فما لكم عليهنّ من عدّةٍ تعتدّونها فمتّعوهنّ وسرّحوهنّ سراحًا جميلا} [الأحزاب:49] قال شعبة وغيره، عن قتادة، عن سعيد بن المسيّب قال: «نسخت هذه الآية الّتي في الأحزاب الآية الّتي في البقرة».
وقد روى البخاريّ في صحيحه، عن سهل بن سعدٍ، وأبي أسيد أنّهما قالا: «تزوّج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أميمة بنت شراحيل، فلمّا أدخلت عليه بسط يده إليها فكأنّما كرهت ذلك، فأمر أبا أسيدٍ أن يجهّزها ويكسوها ثوبين رازقيّين» .
والقول الثّالث: أنّ المتعة إنّما تجب للمطلّقة إذا لم يدخل بها، ولم يفرض لها، فإن كان قد دخل بها وجب لها مهر مثلها إذا كانت مفوّضةً، وإن كان قد فرض لها وطلّقها قبل الدّخول، وجب لها عليه شطره، فإن دخل بها استقرّ الجميع، وكان ذلك عوضًا لها عن المتعة، وإنّما المصابة الّتي لم يفرض لها ولم يدخل بها فهذه الّتي دلّت هذه الآية الكريمة على وجوب متعتها. وهذا قول ابن عمر، ومجاهدٍ. ومن العلماء: من استحبّها لكلّ مطلّقةٍ ممّن عدا المفوّضة المفارقة قبل الدّخول: وهذا ليس بمنكورٍ وعليه تحمل آية التّخيير في الأحزاب؛ ولهذا قال تعالى: {وللمطلّقات متاعٌ بالمعروف حقًّا على المتّقين} [البقرة:241].
ومن العلماء من يقول: إنّها مستحبّةٌ مطلقًا. قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا كثير بن شهابٍ القزوينيّ، حدّثنا محمّد بن سعيد بن سابقٍ، حدّثنا عمرو -يعني ابن أبي قيسٍ -عن أبي إسحاق، عن الشّعبيّ قال: «ذكروا له المتعة، أيحبس فيها؟ فقرأ: {على الموسع قدره وعلى المقتر قدره}» قال الشّعبيّ: «واللّه ما رأيت أحدًا حبس فيها، واللّه لو كانت واجبةً لحبس فيها القضاة» ). [تفسير ابن كثير: 1/ 641-642]

تفسير قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإن طلّقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ وقد فرضتم لهنّ فريضةً فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الّذي بيده عقدة النّكاح وأن تعفوا أقرب للتّقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إنّ اللّه بما تعملون بصيرٌ (237)}
وهذه الآية الكريمة ممّا يدلّ على اختصاص المتعة بما دلّت عليه الآية الأولى حيث إنّما أوجب في هذه الآية نصف المهر المفروض، وإذا طلّق الزّوج قبل الدّخول، فإنّه لو كان ثمّ واجبٌ آخر من متعةٍ لبيّنها لا سيّما وقد قرنها بما قبلها من اختصاص المتعة بتلك الحالة واللّه أعلم.
وتشطير الصّداق -والحالة هذه -أمرٌ مجمعٌ عليه بين العلماء، لا خلاف بينهم في ذلك، فإنّه متى كان قد سمّى لها صداقًا ثمّ فارقها قبل دخوله بها، فإنّه يجب لها نصف ما سمّى من الصّداق، إلّا أنّ عند الثّلاثة أنّه يجب جميع الصّداق إذا خلا بها الزّوج، وإن لم يدخل بها، وهو مذهب الشّافعيّ في القديم، وبه حكم الخلفاء الرّاشدون، لكن قال الشّافعيّ: أخبرنا مسلم بن خالدٍ، أخبرنا ابن جريجٍ، عن ليث بن أبي سليمٍ، عن طاوسٍ، عن ابن عبّاسٍ أنّه قال-في الرّجل يتزوّج المرأة فيخلو بها ولا يمسّها ثمّ يطلّقها -: «ليس لها إلّا نصف الصّداق؛ لأنّ اللّه يقول:{وإن طلّقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ وقد فرضتم لهنّ فريضةً فنصف ما فرضتم}» قال الشّافعيّ: «هذا أقوى وهو ظاهر الكتاب».
قال البيهقيّ وليث بن أبي سليمٍ وإن كان غير محتجٍّ به، فقد روّيناه من حديث ابن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ فهو يقوله.
وقوله: {إلا أن يعفون} أي: النّساء عمّا وجب لها على زوجها من النّصف، فلا يجب لها عليه شيءٌ.
قال السّدّيّ، عن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {إلا أن يعفون} قال: «إلّا أن تعفو الثّيّب فتدع حقّها». قال الإمام أبو محمّد بن أبي حاتمٍ، رحمه اللّه: وروي عن شريحٍ، وسعيد بن المسيّب، وعكرمة، ومجاهدٍ، والشّعبيّ، والحسن، ونافعٍ، وقتادة، وجابر بن زيدٍ، وعطاءٍ الخراسانيّ، والضّحّاك، والزّهريّ، ومقاتل بن حيّان، وابن سيرين، والرّبيع بن أنسٍ، والسّدّيّ، نحو ذلك. قال: «وخالفهم محمّد بن كعبٍ القرظيّ فقال: {إلا أن يعفون} يعني: الرّجال، وهو قولٌ شاذٌّ لم يتابع عليه». انتهى كلامه.
وقوله: {أو يعفو الّذي بيده عقدة النّكاح} قال ابن أبي حاتمٍ: ذكر عن ابن لهيعة، حدّثني عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدّه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «وليّ عقدة النّكاح الزّوج».
وهكذا أسنده ابن مردويه من حديث عبد اللّه بن لهيعة، به. وقد أسنده ابن جريرٍ، عن ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيبٍ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فذكره ولم يقل: عن أبيه، عن جدّه فاللّه أعلم.
ثمّ قال ابن أبي حاتمٍ، رحمه اللّه: وحدّثنا يونس بن حبيبٍ، حدّثنا أبو داود، حدّثنا جريرٌ، يعني ابن حازمٍ، عن عيسى -يعني ابن عاصمٍ -قال: سمعت شريحًا يقول: «سألني عليّ بن طالب عن الّذي بيده عقدة النّكاح. فقلت له: هو وليّ المرأة. فقال عليٌّ: لا بل هو الزّوج». ثمّ قال: وفي إحدى الرّوايات عن ابن عبّاسٍ، وجبير بن مطعمٍ، وسعيد بن المسيّب، وشريحٍ -في أحد قوليه -وسعيد بن جبيرٍ، ومجاهدٍ، والشّعبيّ، وعكرمة، ونافعٍ، ومحمّد بن سيرين، والضّحّاك، ومحمّد بن كعبٍ القرظيّ، وجابر بن زيدٍ، وأبي مجلز، والرّبيع بن أنسٍ، وإياس بن معاوية، ومكحولٍ، ومقاتل بن حيّان: «أنّه الزّوج».
قلت: وهذا هو الجديد من قولي الشّافعيّ، ومذهب أبي حنيفة. وأصحابه، والثّوريّ، وابن شبرمة، والأوزاعيّ، واختاره ابن جريرٍ. ومأخذ هذا القول: أنّ الّذي بيده عقدة النّكاح حقيقةً الزّوج، فإنّ بيده عقدها وإبرامها ونقضها وانهدامها، وكما أنّه لا يجوز للوليّ أن يهب شيئًا من مال المولية للغير، فكذلك في الصّداق.
قال والوجه الثّاني: حدّثنا أبي، حدّثنا ابن أبي مريم، حدّثنا محمّد بن مسلمٍ، حدّثنا عمرو بن دينارٍ، عن ابن عبّاسٍ -في الّذي ذكر اللّه بيده عقدة النّكاح -قال: «ذلك أبوها أو أخوها، أو من لا تنكح إلّا بإذنه»، وروي عن علقمة، والحسن، وعطاءٍ، وطاوسٍ، والزّهريّ، وربيعة، وزيد بن أسلم، وإبراهيم النّخعيّ، وعكرمة في أحد قوليه، ومحمّد بن سيرين -في أحد قوليه: «أنّه الوليّ». وهذا مذهب مالكٍ، وقول الشّافعيّ في القديم؛ ومأخذه أنّ الوليّ هو الّذي أكسبها إيّاه، فله التّصرّف فيه بخلاف سائر مالها.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا سعيد بن الرّبيع الرّازيّ، حدّثنا سفيان، عن عمرو بن دينارٍ، عن عكرمة قال: «أذن اللّه في العفو وأمر به، فأيّ امرأةٍ عفت جاز عفوها، فإن شحّت وضنّت عفا وليّها وجاز عفوه».
وهذا يقتضي صحّة عفو الوليّ، وإن كانت رشيدةً، وهو مرويٌّ عن شريحٍ. لكن أنكر عليه الشّعبيّ، فرجع عن ذلك، وصار إلى أنّه الزّوج وكان يباهل عليه.
وقوله: {وأن تعفوا أقرب للتّقوى} قال ابن جريرٍ: «قال بعضهم: خوطب به الرّجال، والنّساء». حدّثني يونس، أخبرنا ابن وهبٍ، سمعت ابن جريجٍ يحدّث عن عطاء بن أبي رباحٍ، عن ابن عبّاسٍ: {وأن تعفوا أقرب للتّقوى} قال: «أقربهما للتّقوى الّذي يعفو».
وكذا روي عن الشّعبيّ وغيره، وقال مجاهدٌ، والضّحّاك، ومقاتل بن حيّان، والرّبيع بن أنسٍ، والثّوريّ: «الفضل هاهنا أن تعفو المرأة عن شطرها، أو إتمام الرّجل الصّداق لها. ولهذا قال: {ولا تنسوا الفضل بينكم} أي: الإحسان»، قاله سعيدٌ. وقال الضّحّاك، وقتادة، والسّدّيّ، وأبو وائلٍ: المعروف، يعني: لا تهملوه بل استعملوه بينكم.
وقد قال أبو بكر بن مردويه: حدّثنا محمّد بن أحمد بن إبراهيم، حدّثنا موسى بن إسحاق، حدّثنا عقبة بن مكرمٍ، حدّثنا يونس بن بكيرٍ، حدّثنا عبيد اللّه بن الوليد الوصّافيّ، عن عبد اللّه بن عبيدٍ، عن عليّ بن أبي طالبٍ، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «ليأتينّ على النّاس زمانٌ عضوض، يعضّ المؤمن على ما في يديه وينسى الفضل»، وقد قال اللّه تعالى: {ولا تنسوا الفضل بينكم} شرارٌ يبايعون كلّ مضطرٍّ، وقد نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن بيع المضطرّ، وعن بيع الغرر، فإن كان عندك خيرٌ فعد به على أخيك، ولا تزده هلاكًا إلى هلاكه، فإنّ المسلم أخو المسلم لا يحزنه ولا يحرمه".
وقال سفيان، عن أبي هارون قال: رأيت عون بن عبد اللّه في مجلس القرظيّ، فكان عونٌ يحدّثنا ولحيته ترش من البكاء ويقول: «صحبت الأغنياء فكنت من أكثرهم همًّا، حين رأيتهم أحسن ثيابًا، وأطيب ريحًا، وأحسن مركبًا منّي. وجالست الفقراء فاسترحت بهم»، وقال: {ولا تنسوا الفضل بينكم} إذا أتاه السّائل وليس عنده شيءٌ فليدع له: رواه ابن أبي حاتمٍ.
{إنّ اللّه بما تعملون بصيرٌ} أي: لا يخفى عليه شيءٌ من أموركم وأحوالكم، وسيجزي كل عامل بعمله). [تفسير ابن كثير: 1/ 642-645]


رد مع اقتباس