عرض مشاركة واحدة
  #30  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:09 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (101) إلى الآية (103) ]

{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) }

قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)}

قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله - عزّ وجلّ -: (ولكنّ.. (102)
بكسر النون وتخفيفها.
(الشّياطين.. (102)
بالرفع ابن عامر وحمزة والكسائي). [معاني القراءات وعللها: 1/169]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في كسر النّون مع التخفيف والتشديد من قوله: ولكنّ الشّياطين كفروا [البقرة/ 102]، ولكنّ اللّه قتلهم [الأنفال/ 17]، ولكنّ اللّه رمى [الأنفال/ 17]، ولكنّ النّاس أنفسهم يظلمون [يونس/ 44].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم: ولكنّ الشّياطين كفروا، ولكنّ اللّه قتلهم، ولكنّ اللّه رمى، ولكنّ النّاس أنفسهم يظلمون مشدّدات في ذلك كلّه.
وقرأ نافع وابن عامر ولكنّ البرّ من آمن باللّه [البقرة/ 177] ولكنّ البرّ من اتّقى [البقرة/ 189] خفيفتي النون، ويرفعان (البرّ). وشدّد النون في هذين الموضعين
[الحجة للقراء السبعة: 2/169]
ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائيّ. وقرأ حمزة والكسائيّ: ولكنّ الشّياطين كفروا، ولكنّ اللّه قتلهم، ولكنّ اللّه رمى، ولكنّ النّاس أنفسهم يظلمون خفيفات كلهنّ. وقرأ ابن عامر وحده: ولكنّ الشّياطين بالتخفيف.
وشدّد النون من: ولكنّ اللّه قتلهم، ولكنّ اللّه رمى، ولكنّ النّاس أنفسهم يظلمون، ولم يختلفوا إلّا في هذه الستة الأحرف.
قال أبو علي: اعلم أن لكن حرف لا نعلم شيئا على مثاله في الأسماء والأفعال، فلو كانت اسما لم يخل من أن يكون فاعلا أو فعلا، ولا نعلم أحدا ممن يؤخذ بقوله يذهب إلى أنّ الألفاظ في الحروف زائدة، فكذلك ينبغي أن تكون الألف في هذا الحرف، وهو مثل إنّ في أنّها مثقّلة ثم يخفّف إلا أنّ «إنّ وأنّ» إذا خفّفتا فقد ينصب بهما كما كان ينصب بهما مثقّلتين وإن كان غير الإعمال أكثر. ولم نعلم أحدا حكى النصب في «لكن» إذا خففت فيشبه أن النصب لم يجيء في هذا الحرف مخففا، ليكون ذلك دلالة على أن الأصل في هذه الحروف أن لا تعمل إذا خفّفت لزوال اللفظ الذي به شابه الفعل في التخفيف، وأنّ من خفّف ذلك، فالوجه أن لا يعمله.
ومثل ذلك في أنّه لم يجيء فيه الجزاء؛ وإن كان القياس لا
[الحجة للقراء السبعة: 2/170]
يمنع منه: «كيف»؛ ألا ترى أنّ الخليل وأصحابه لم يحكوا فيه الجزاء؟ وإن كان المعنى لا يمنع ذاك، ليعلم أنّ الجزاء ليس حكمه أن يكون بالأسماء، فكذلك لم يجيء النصب مع التخفيف في هذا الحرف كما جاء في «إنّ، وأنّ، ولعلّ، وليت» وقد لحقتها «ما» كافة كما لحقت «إنّ وأنّ ولعلّ وليت» وذلك في نحو قوله: قل إنّما أنذركم بالوحي [الأنبياء/ 45]، وكأنّما يساقون إلى الموت [الأنفال/ 6] وقول الشاعر:
.... لعلما... أضاءت لك النار الحمار المقيّدا
فممّا جاءت فيه (ما) كافة قول الشاعر:
ولكنّما أهلي بواد أنيسه... ذئاب تبغّى الناس مثنى وموحد
ومما جاءت فيه لكن مخفّفة غير معملة ما أنشده أبو زيد:
[الحجة للقراء السبعة: 2/171]
وما دهري بشتمك فاعلمنه... ولكن أنت مخذول كبير
ومثله قول زهير.
لقد باليت مظعن أمّ أوفى... ولكن أمّ أوفى لا تبالي
وقول الآخر:
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا... ولكن على أقدامنا تقطر الدّما
ولا يدلّ نحو ما أنشده أبو زيد من قول عمران:
ولكنّا الغداة بنو سبيل... على شرف نيسّر لانحدار
وكذلك الحذف في إنّ في نحو قوله: قالوا إنّا معكم [البقرة/ 14] وقوله: إنّي أنا ربّك [طه/ 12] لولا أنّ الحرف المحذوف مراد لم يوصل بضمير المنصوب، ألا ترى أنّ (إنّ) إذا خفّفت، دخلت الأفعال، وفي دخولها على
[الحجة للقراء السبعة: 2/172]
الأفعال، دلالة على إخراجها من الإعمال، وعلى ذلك جاء التنزيل في نحو: إن كاد ليضلّنا [الفرقان/ 42] وإن كنّا عن عبادتكم لغافلين [يونس/ 29] ونحو هذا مما كثر مجيئه في التنزيل. فأمّا إنشاد من أنشد:
فلو أنك في يوم الرّخاء سألتني... فراقك لم أبخل وأنت صديق
فهو قليل، وقياسه قياس من أعملها مخففة في المظهر، وإن كان ذلك في المضمر أقبح لأنّ المضمر كثيرا ما يردّ معه الشيء إلى أصله نحو قوله: أنشده أبو زيد:
فلا بك ما أسال ولا أغاما والأصل في هذه الحروف إذا خفّفت أن لا تعمل لزوال المعنى الذي به كان يعمل، ولذلك لم تعمل (لكن) مخففة.
فإن قلت: إنّ لكنّ لا تشبه الأفعال، ألا ترى أنه ليس شيء على مثاله في الأسماء ولا في غيره؟.
فإنّ فيه ما يشبه الفعل إذا نزّلته منفصلا كقولهم: «أراك منتفخا».
وقد جاء حذف ضمير القصة والحديث معها في نحو
[الحجة للقراء السبعة: 2/173]
قول أميّة:
ولكنّ من لا يلق أمرا ينوبه... بعدّته ينزل به وهو أعزل
كما جاء في قوله:
فلو أنّ حقّ اليوم منكم إقامة فلولا أنّ الضمير معه مراد لما دخل على الجزاء، كما أنّه لو لم يكن مرادا مع ليت، لم تدخل على الفعل، في نحو ما أنشده أبو زيد:
فليت دفعت الهمّ عني ساعة... فبتنا على ما خيّلت ناعمي بال
[الحجة للقراء السبعة: 2/174]
فأما ما أنشده أبو زيد من قول الشاعر:
ندمت على لسان كان منّي... فليت بأنّه في جوف عكم
فيحتمل أمرين: أحدهما أن تكون الباء زائدة، ويكون (أنّ) مع الجارّ في موضع نصب، ويكون ما جرى من صلة (أنّ) قد سدّ مسدّ خبر ليت. كما أنّها في ظننت أنّ زيدا منطلق، كذلك.
ويحتمل أن تكون الهاء مرادة ودخلت الباء على المبتدأ، كما دخلت في قولهم: بحسبك أن تفعل ذلك، ولا يمتنع هذا من حيث امتنع الابتداء بأنّ لمكان الباء، ألا ترى أنّ (أنّ) قد وقعت بعد لولا في نحو: لولا أنّك منطلق، ولم يجر، ذلك [في الامتناع]. مجرى: أنّك منطلق بلغني.
لأن المعنى الذي له لم يبتدأ بالمفتوحة مع لولا معدوم.
فأمّا ما أنشده من قول الشاعر:
[الحجة للقراء السبعة: 2/175]
فقلت ادع أخرى وارفع الصوت دعوة... لعلّ أبي المغوار منك قريب
ولعلّ أبي المغوار منك قريب. فينبغي أن يكون على إضمار القصة والحديث كأنه خفّف لعلّ. وأعملها كما يخفف أنّ ويعمل، فمن فتح اللّام وجرّ الاسم فقال: لعلّ أبي المغوار، فاللّام لام الجرّ إلّا أنّه فتحها مع المظهر كما يفتح مع المضمر.
وزعم أبو الحسن أنه سمع فتح اللام مع المظهر من يونس وأبي عبيدة وخلف الأحمر.
وزعم أنه سمع ذلك أيضا من العرب، فيكون الجرّ في أبي المغوار على هذه اللغة. ومن قال:
لعلّ أبي المغوار منك قريب حذف لام لعلّ وأضمر القصة أو الحديث. وكسر اللام مع المظهر على اللغة التي هي أشيع، والتقدير: لعلّ لأبي المغوار منك جواب قريب، أي لعلّ نصره لا يبعد عليك، ولا يتأخّر عنك.
فإن قلت: إنه حذف اللام لاجتماع اللامين، كما حذف من (إنّا معكم) ونحو ذلك، كان قولا.
[الحجة للقراء السبعة: 2/176]
وحكى أبو عمر أنّ يونس لم يكن يرى (لكن) الخفيفة من حروف العطف. ويقوّي هذا القول أنّ أخوات لكن ممّا حذف منهنّ لم يخرج بالتخفيف عن ما كان عليه قبل التخفيف. ألا ترى أنّ: (إنّ) و (أنّ) و (كأنّ) كذلك؛ ومثلها (لعلّ).
فالقياس في (لكن) أن يكون في التخفيف على ما عليه أخواتها، ولا تخرج بالتخفيف عما كانت عليه، كما لم تخرج أخواتها عنه.
ويقوي ذلك أن معناها مخففة كمعناها مشدّدة، فإذا وافق حال التخفيف حال التشديد في اللفظ والمعنى، وجب أن تكون في التخفيف مثلها في التشديد.
فإن قلت: لم لا تكون مثل حتّى التي تكون لمعان مختلفة مع أنّ اللفظ واحد.
قيل: إنّ (حتّى) وإن كانت على لفظة واحدة، فإن المعاني التي تدلّ عليها مختلفة. ألا ترى أن العطف فيها غير الجرّ ووقوع الابتداء كما يقع الابتداء بعد إذا نحو: خرجت فإذا زيد، غير الجرّ والعطف. وكذلك الواو إذا كانت عاطفة معناها غير الجارّة. وكذلك إذا كانت في نحو: جاء البرد والطيالسة.
[الحجة للقراء السبعة: 2/177]
وكذلك (ما) إذا كانت زائدة أو نافية أو كافّة، أو عوضا من الفعل في نحو: إمّا لا. وكذلك اللّام في: (لتفعلنّ)، وفي (لعمرو منطلق) وليس كذلك (لكن) لأنها إذا كانت مشددة كان معناها كمعناها إذا كانت مخففة؛ فإذا كان كذلك وجب أن لا تخرج بعد التخفيف عما كانت عليه قبل. كما أنّ سائر أخواتها كذلك.
فإن قلت: أليس قوم قد ذهبوا إلى أنّ (ليس) من حروف العطف، ويحملون قوله:
إنّما يجزي الفتى ليس الجمل فيمن أنشده بليس، فمعناها عاطفة كمعناها غير عاطفة في النفي.
قيل: إنها في هذا البيت يستقيم أن تكون نافية ويكون خبرها مضمرا. فكأنّ التقدير: إنّما يجزي الفتى ليس الجمل الذي يجزي. فحذف الخبر.
فليس لا تثبت حرف عطف من هذا البيت الذي استدلّوا
[الحجة للقراء السبعة: 2/178]
به على ذلك، وكذلك يجوز أن يقول يونس في نحو: ما مررت برجل صالح لكن طالح. إنّه يجرّه بباء يضمرها دلّت المتقدّمة لها عليها. كما حكى سيبويه عنه نحو هذا. ويضمر القصة في (لكن) وإن كانت مخففة. كما أضمروا في أن وإن في نحو: أما إن يغفر الله لك، وإذا قال: ما مررت برجل صالح لكن طالح، كان على قوله: ولكن هو طالح، فإنّه يقول:
لمّا خفّفته صارت من حروف الابتداء، كما صارت (إنّ) كذلك، ولذلك وقع بعدها الفعل، فكذلك صار (لكن) من حروف الابتداء، كما كان قوله:
ولكن على أقدامنا تقطر الدما وقوله:
ولكن أمّ أوفى لا تبالي على ذلك.
فأمّا تشديد لكنّ إذا دخلت عليها الواو- وتخفيفها معها، فالقياس لا يوجب دخول التثقيل فيها- كما أنّ انتفاء دخولها لا يوجب التخفيف. ومن شدّد مع دخول الواو كان كمن خفّف مع دخولها. ألا ترى أنّ الواو لا توجب تغييرا فيما بعدها في المعنى، وإذا كان كلّ واحد منهما لا ينافي الآخر في المساغ
[الحجة للقراء السبعة: 2/179]
والجواز كانوا كلّهم قد أحسن فيما أخذ به لتساوي الأمرين في ذلك كله في القياس. ولم يكن في دخول الواو عليها معنى يوجب التشديد. كما لم يكن في انتفاء دخولها عليها معنى يوجب التخفيف). [الحجة للقراء السبعة: 2/180]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الحسن وابن عباس والضحاك بن مزاحم وعبد الرحمن بن أَبزَى: [وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ] بكسر اللام.
قيل: أراد [بالملِكين] داود وسليمان عليهما السلام.
قال أبو الفتح: إن قيل: كيف أطلق الله سبحانه على داود وسليمان اسم الملِك؛ وإنما هما عبدان له تعالى كسائر عبيده من الأنبياء وغيرهم؟
[المحتسب: 1/100]
قيل: جاز ذلك لأنه أَطلق عليهما اللفظ الذي يُعتاد حينئذ فيهما، ويطلقه الناس عليهما، فخوطب الإنسان على ذلك باللفظ الذي يعتاده أهل الوقت إذ ذاك، ونظيره قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}؛ وإنما هو في النار الذليل المهان؛ لكنه خوطب بما يخاطب به في الدنيا، وفيه مع هذا ضرب من التبكيت له، والإذكار بسوء أفعاله، وقد مضى نحو هذا). [المحتسب: 1/101]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الحسن وقتادة: [بَيْنَ الْمَرِ وَزَوْجِهِ] بفتح الميم وكسر الراء خفيفة من غير همز.
وقراءة الزهري: [الْمَرِّ] بفتح الميم وتشديد الراء.
وقراءة ابن أبي إسحاق: [الْمُرْء] بضم الميم وسكون الراء والهمز.
وقراءة الأشهب: [الْمِرْء] بكسر الميم والهمز.
قال أبو الفتح: أما قراءة الحسن وقتادة: [بينَ الْمَرِ] بفتح الميم وخفة الراء من غير همز فواضح الطريق؛ وذلك أنه على التخفيف القياسي؛ كقولك في الخبء: هذا الْخَبُ، ورأيت الْخَبَ، ومررت بالْخَبِ، تخذف الهمزة وتلقى حركتها على الباء قبلها. وتقول في الجزء: هذا الْجُزُ، ورأيت الْجُزَ، ومررت بالْجُزِ، وعليه القراءة: [الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ].
وأما قراءة الزهري: [الْمَرِّ] بتشديد الراء فقياسه: أن يكون أراد تخفيف المرء على قراءة الحسن وقتادة، إلا أنه نوى الوقف بعد التخفيف؛ فصار [الْمَر] ثم ثقل للوقوف على قول من قال: هذه خالدّ، وهو يجعلّ، ومررت بفرجّ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف فأقر التثقيل بحاله، كما جاء عنهم قوله:
[المحتسب: 1/101]
بِبازلٍ وجناء أو عَيْهَلِّ ... كأن مهواها على الكَلْكَلِّ
يريد: العيهل والكلكل، وكبيت الكتاب:
ضخما يحب الخُلق الأضخمَّا
فيمن فتح الهمزة، يريد: الأضخم، فثقل ثم أطلق.
وفي هذا شذوذان؛ أحدهما: التثقيل في الوقف، والآخر: إجراء الوصل مجرى الوقف؛ لأنه من باب ضرورة الشعر.
وأما قراءة ابن أبي إسحاق: الْمُرْء بضم الميم والهمز فلغة فيه، وكذلك من قرأ: الْمِرء بكسر الميم، ومنهم من يضم الميم في الرفع ويفتحها في النصب ويكسرها في الجر فيقول: هذا الْمُرء، ورأيت الْمَرء، ومررت بالْمِرء؛ وسبب صنعة هذه اللغة: أنه قد أُلِف الإتباع في هذا الاسم في نحو قولك: هذا امرؤٌ، ورأيت امرأً، ومررت بامرئٍ، فيتُبع حركة الراء حركة الهمزة، فلما أن تحركت الميم وسكنت الراء لم يمكن الإتباع في الساكن فنُقل الإتباع من الراء إلى الميم؛ لأنها متحركة، فجرى على الميم لمجاورتها الراء ما كان يجري على الراء، كما يقول ناس في الوقف: هذا بكُر، ومررت ببكِر؛ لما جفا عليهم اجتماع الساكنين في الوقف وشحوا على حركة الإعراب أن يستهلكها الوقوف عليها نقلوها إلى الكاف، وكما قال من قال في صُوَّم: صُيَّم، وفي قُوَّم:
[المحتسب: 1/102]
قُيَّم، لما جاورت العين اللام أجراها في الاعتلال مجرى عات وعُتي وجاث وجُثي، وقد ذكرنا في تفسير ديوان المتنبي ما في هذا الحرف؛ أعني: المرء والمرأة من اللغات). [المحتسب: 1/103]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الأعمش: [وَمَا هُمْ بِضَارِّي بِهِ مِنْ أَحَدٍ].
قال أبو الفتح: هذا من أبعد الشاذ؛ أعني: حذف النون هاهنا، وأمثل ما يقال فيه: أن يكون أراد: وما هم بضارِّي أحدٍ، ثم فصَل بين المضاف والمضاف إليه بحرف الجر.
وفيه شيء آخر وهو أن هناك أيضًا "مِن" في من أحد، غير أنه أجرى الجار مجرى جزء من المجرور؛ فكأنه قال: وما هم بضاري به أحد، وفيه ما ذكرنا). [المحتسب: 1/103]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وما كفر سليمان ولكن الشّياطين كفروا}
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائيّ {ولكن} خفيفة {الشّياطين} رفع وكذلك {ولكن الله قتلهم} {ولكن الله رمى} وحجتهم أن العرب تجعل إعراب ما بعد لكن كإعراب ما قبلها في الجحد فتقول ما قام عمرو ولكن أخوك وتصير لكن نسقا إذا كان ما قبلها جحد
وقرأ الباقون {ولكن} بالتّشديد {الشّياطين} نصب وحجتهم في ذلك أن دخول الواو في {ولكن} يؤذن باستئناف الخبر بعدها وأن العرب تؤثر تشديدها ونصب الأسماء بعدها وفي التّنزيل {ولكن الظّالمين بآيات الله يجحدون}
[حجة القراءات: 108]
{ولكن أكثرهم لا يعلمون} {ولكن أكثركم للحق كارهون} أنّها بالتّشديد للواو الّتي في أولها ثمّ أجمعوا على تخفيف لكن الراسخون و{لكن الله يشهد} لما لم يكن في أولها واو
أعلم أن لكن كله تحقيق ولكن بالتّخفيف كلمة استدراك بعد نفي تقول ما جاء عمرو ولكن زيد خرج). [حجة القراءات: 109]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (58- قوله: {ولكن الشياطين} ونظائره، قرأ نافع وابن عامر: {ولكن البر} في الموضعين في هذه السورة بكسر النون، ورفع «البر» مخففًا، وقرأ الباقون بتشديد النون ونصب «البر» وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر: {ولكن الشياطين}، و{لكن الله قتلهم}، و{لكن الله رمى} في الأنفال «17» بتخفيف النون وكسرها ورفع ما بعدها، وقرأ حمزة والكسائي: {ولكن الناس} في يونس «44» بتخفيف النون وكسرها، ورفع «الناس» وقرأ الباقون بتشديد النون في الأربعة وفتحها، ونصب ما بعدها.
59- وحجة من خفف النون، ورفع ما بعد «لكن»، أن «لكن» حرف إذا شددت نونه كانت من أخوات «إن» تنصب الاسم وترفع الخبر، إذا كان «هو» الاسم وإذا خففت نونه كان حرف عطف، لا عمل له، وربما أتى خفيفًا كأن يرتفع ما بعده بالابتداء والخبر، ويجوز أن تعمل «أن» مخففة، كما يعمل الفعل محذوفًا نحو: لم يك زيد قائمًا، ولا يحسن أن تعمل «لكن» مخففة لاختلاف مواقعها، إذ لم تلزم موضعا واحدًا، بل تكون عاطفة، وتكون للاستدراك، مخففة ومشددة، وتعمل عمل «إن» إذا شددت، فلما لم تلزم ولم تعمل مخففة رجع الكلام بعدها إلى أصله، وهو الابتداء والخبر، لأن «إن» وأخواتها إنما يدخلن على الابتداء والخبر، وأيضًا فإنها لما غيرت بالتخفيف، وكانت تُحدث في الكلام معنى الاستدراك فارقت «أن» الخفيفة
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/256]
لأنها لا تحدث في الكلام معنى غير التأكيد، فلم تعمل عمل «أن» الخفيفة.
60- وحجة من شدد النون ونصب بها ما بعد «لكن» أنه أجرى الكلام على أصله، فأعمل «لكن» لأنها من أخوات «إن» فشددها على أصلها، وحاول في ذلك معنى التأكيد، الذي فيه معنى الاستدراك). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/257]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (38- {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [آية/ 102]:-
بتشديد {لكِنّ} ونصب ما بعده، وكذلك {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ} {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} {وَلَكِنَّ الله قَتَلَهُمْ} {وَلَكِنَّ الله رَمَى} جميعًا في الأنفال {وَلَكِنَّ النَّاسَ} في يونس، قرأها ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ويعقوب في الستة جميعًا، ونافع أيضًا إلا في حرفين بالتخفيف والرفع فيما بعده «البر» و«البر» وحمزة والكسائي بتشديد هذين الحرفين وتخفيف البواقي بخلاف نافع، وابن عامر بتشديد ما في يونس وتخفيف البواقي.
ووجه قراءة هؤلاء في تشديد {لكِنَّ} ونصب الاسم الذي بعده، هو أن {لكِنَّ} من أخوات إن، فهي تنصب الاسم وترفع الخبر لشبهها بالفعل بانفتاح آخرها كما ينفتح آخر الفعل الماضي، فلذلك عملت إن وأخواتها في المبتدأ والخبر، فنصبت المبتدأ على أنه اسمها ورفعت الخبر على أنه خبرها
[الموضح: 293]
على العكس من باب كان، فقوله {الشَيَاطين} نصب؛ لأنه اسم {لكِنّ}، وقوله {كَفَرُوا} في موضع رفعٍ، لأنه خبرها.
وأما قراءة من قرأ بتخفيف {لكِنْ} ورفع الاسم بعده، فوجهها أن {لكِنْ} مخففة من {لكِنّ} المشددة، ولما خففت زال شبه الفعل عنها بسكون آخرها فبطل عملها الذي استحقته بمشابهة الفعل وصار ما بعدها مرفوعًا بالابتداء، وقد يجوز في إن الذي هو الأصل في الباب الإعمال بعد التخفيف، ولا يجوز ذلك في {لكِنْ} تنبيهًا على أن الأصل في هذه الحروف ترك الإعمال بعد التخفيف، وإنما خفف من خفف البعض، وشدد البعض أخذًا باللغتين). [الموضح: 294]

قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة قتادة وابن بُريدة وأبي السمال: [لَمثْوَبَةٌ].
قال أبو الفتح: قد ذكرنا شذوذ صحتها عن القياس فيما مضى). [المحتسب: 1/103]

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس