عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 10 جمادى الآخرة 1435هـ/10-04-2014م, 05:42 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {هو الّذي أنزل عليك الكتاب منه آياتٌ محكماتٌ هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهاتٌ فأمّا الّذين في قلوبهم زيغٌ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا اللّه والرّاسخون في العلم يقولون آمنّا به كلٌّ من عند ربّنا وما يذّكّر إلا أولو الألباب (7) ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنّك أنت الوهّاب (8) ربّنا إنّك جامع النّاس ليومٍ لا ريب فيه إنّ اللّه لا يخلف الميعاد (9)}
يخبر تعالى أنّ في القرآن آياتٌ محكماتٌ هنّ أمّ الكتاب، أي: بيّناتٌ واضحات الدّلالة، لا التباس فيها على أحدٍ من النّاس، ومنه آياتٌ أخر فيها اشتباهٌ في الدّلالة على كثيرٍ من النّاس أو بعضهم، فمن ردّ ما اشتبه عليه إلى الواضح منه، وحكّم محكمه على متشابهه عنده، فقد اهتدى. ومن عكس انعكس؛ ولهذا قال تعالى: {هو الّذي أنزل عليك الكتاب منه آياتٌ محكماتٌ هنّ أمّ الكتاب} أي: أصله الّذي يرجع إليه عند الاشتباه {وأخر متشابهاتٌ} أي: تحتمل دلالتها موافقة المحكم، وقد تحتمل شيئًا آخر من حيث اللّفظ والتّركيب، لا من حيث المراد.
وقد اختلفوا في المحكم والمتشابه، فروي عن السّلف عباراتٌ كثيرةٌ، فقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ أنّه قال: «المحكمات ناسخه، وحلاله وحرامه، وحدوده وفرائضه، وما يؤمر به ويعمل به».
وكذا روي عن عكرمة، ومجاهدٍ، وقتادة، والضّحّاك، ومقاتل بن حيّان، والرّبيع بن أنسٍ، والسّدّي أنّهم قالوا: «المحكم الّذي يعمل به». وعن ابن عبّاسٍ أيضًا أنّه قال: «المحكمات في قوله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرّم ربّكم عليكم ألا تشركوا به شيئًا} [الأنعام: 151] والآيتان بعدها، وقوله تعالى: {وقضى ربّك ألا تعبدوا إلا إيّاه} [الإسراء: 23] إلى ثلاث آياتٍ بعدها». رواه ابن أبي حاتمٍ، وحكاه عن سعيد بن جبير ثمّ قال: حدّثنا أبي، حدّثنا سليمان بن حربٍ، حدّثنا حمّاد بن زيد، عن إسحاق بن سويد أنّ يحيى بن يعمر وأبا فاختة تراجعا في هذه الآية: {هنّ أمّ الكتاب} فقال أبو فاختة: «فواتح السّور». وقال يحيى بن يعمر: «الفرائض، والأمر والنّهي، والحلال والحرام».
وقال ابن لهيعة، عن عطاء بن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ: {هنّ أمّ الكتاب} يقول: «أصل الكتاب، وإنّما سمّاهنّ أمّ الكتاب؛ لأنّهنّ مكتوباتٌ في جميع الكتب». وقال مقاتل بن حيّان: «لأنّه ليس من أهل دينٍ إلّا يرضى بهنّ».
وقيل في المتشابهات: «إنّهنّ المنسوخة، والمقدّم منه والمؤخّر، والأمثال فيه والأقسام، وما يؤمن به ولا يعمل به». رواه عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ. وقيل: «هي الحروف المقطّعة في أوائل السّور»، قاله مقاتل بن حيّان.
وعن مجاهدٍ: «المتشابهات يصدّق بعضهنّ بعضًا. وهذا إنّما هو في تفسير قوله: {كتابًا متشابهًا مثاني} [الزّمر: 23] هناك ذكروا: أنّ المتشابه هو الكلام الّذي يكون في سياقٍ واحدٍ، والمثاني هو الكلام في شيئين متقابلين كصفة الجنّة وصفة النّار، وذكر حال الأبرار ثمّ حال الفجّار، ونحو ذلك فأمّا هاهنا فالمتشابه هو الّذي يقابل المحكم».
وأحسن ما قيل فيه الّذي قدّمناه، وهو الّذي نصّ عليه محمّد بن إسحاق بن يسارٍ، رحمه اللّه، حيث قال: « {منه آياتٌ محكماتٌ هنّ أمّ الكتاب} فيهنّ حجّة الرّبّ، وعصمة العباد، ودفع الخصوم والباطل، ليس لهنّ تصريفٌ ولا تحريفٌ عمّا وضعن عليه».
قال: «والمتشابهات في الصّدق، لهنّ تصريفٌ وتحريفٌ وتأويلٌ، ابتلى اللّه فيهنّ العباد، كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألّا يصرفن إلى الباطل، ولا يحرّفن عن الحق».
ولهذا قال تعالى: {فأمّا الّذين في قلوبهم زيغٌ} أي: ضلالٌ وخروجٌ عن الحقّ إلى الباطل {فيتّبعون ما تشابه منه} أي: إنّما يأخذون منه بالمتشابه الّذي يمكنهم أن يحرّفوه إلى مقاصدهم الفاسدة، وينزلوه عليها، لاحتمال لفظه لما يصرفونه فأمّا المحكم فلا نصيب لهم فيه؛ لأنّه دامغٌ لهم وحجّةٌ عليهم، ولهذا قال: {ابتغاء الفتنة} أي: الإضلال لأتباعهم، إيهامًا لهم أنّهم يحتجّون على بدعتهم بالقرآن، وهذا حجّةٌ عليهم لا لهم، كما لو احتجّ النّصارى بأنّ القرآن قد نطق بأنّ عيسى هو روح اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم، وتركوا الاحتجاج بقوله تعالى {إن هو إلا عبدٌ أنعمنا عليه} [الزّخرف: 59] وبقوله: {إنّ مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من ترابٍ ثمّ قال له كن فيكون} [آل عمران: 59] وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرّحة بأنّه خلقٌ من مخلوقات اللّه، وعبدٌ، ورسولٌ من رسل اللّه.
وقوله: {وابتغاء تأويله} أي: تحريفه على ما يريدون وقال مقاتلٌ والسّدّيّ: «يبتغون أن يعلموا ما يكون وما عواقب الأشياء من القرآن».
وقد قال الإمام أحمد: حدّثنا إسماعيل، حدّثنا أيّوب عن عبد اللّه بن أبي مليكة، عن عائشة قالت: «قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {هو الّذي أنزل عليك الكتاب منه آياتٌ محكماتٌ هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهاتٌ فأمّاالّذين في قلوبهم زيغٌ} إلى قوله: {أولو الألباب} فقال: «فإذا رأيتم الّذين يجادلون فيه فهم الّذين عنى الله فاحذروهم». هكذا وقع هذا الحديث في مسند الإمام أحمد، رحمه اللّه، من رواية ابن أبي مليكة، عن عائشة، ليس بينهما أحدٌ. وهكذا رواه ابن ماجه من طريق إسماعيل بن عليّة وعبد الوهّاب الثّقفيّ، كلاهما عن أيّوب، عن عبد اللّه بن عبيد اللّه بن أبي مليكة، عنها.
ورواه محمّد بن يحيى العبديّ في مسنده عن عبد الوهّاب الثّقفيّ، عن أيّوب، به. وكذا رواه عبد الرّزّاق، عن معمر عن أيّوب. وكذا رواه غير واحدٍ عن أيّوب. وقد رواه ابن حبّان في صحيحه، من حديث أيّوب، به.
وتابع أيّوب أبو عامرٍ الخزّاز وغيره عن ابن أبي مليكة، فرواه التّرمذيّ عن بندار، عن أبي داود الطّيالسيّ، عن أبي عامرٍ الخزّاز، فذكره. وهكذا رواه سعيد بن منصورٍ في سننه، عن حمّاد بن يحيى الأبحّ، عن عبد اللّه بن أبي مليكة، عن عائشة. ورواه ابن جريرٍ، من حديث روح بن القاسم ونافع بن عمر الجمحيّ، كلاهما عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، به. وقال نافعٌ في روايته عن ابن أبي مليكة: حدثتني عائشة، فذكره.
وقد روى هذا الحديث البخاريّ، رحمه اللّه، عند تفسير هذه الآية، ومسلمٌ في كتاب القدر من صحيحه، وأبو داود في السّنّة من سننه، ثلاثتهم، عن القعنبيّ، عن يزيد بن إبراهيم التّستريّ، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمّدٍ، عن عائشة، رضي اللّه عنها، قالت: «تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {هو الّذي أنزل عليك الكتاب منه آياتٌ محكماتٌ هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهاتٌ} إلى قوله: {وما يذّكّر إلا أولو الألباب} قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «فإذا رأيت الّذين يتّبعون ما تشابه منه فأولئك الّذين سمّى الله فاحذروهم» لفظ البخاريّ.
وكذا رواه التّرمذيّ أيضًا، عن بندارٍ، عن أبي داود الطّيالسيّ، عن يزيد بن إبراهيم التّستريّ، به. وقال: حسنٌ صحيحٌ. وذكر أنّ يزيد بن إبراهيم التّستريّ تفرّد بذكر القاسم في هذا الإسناد، وقد رواه غير واحدٍ عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، ولم يذكروا القاسم. كذا قال.
ورواه ابن المنذر في تفسيره من طريقين عن النّعمان بن محمّد بن الفضل السّدوسيّ -ولقبه عارمٌ-حدّثنا حمّاد بن زيدٍ، حدّثنا أيّوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، به.
وقد رواه ابن أبي حاتمٍ فقال: حدّثنا أبي، حدّثنا أبو الوليد الطّيالسيّ، حدّثنا يزيد بن إبراهيم التّستريّ وحمّاد بن سلمة، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمّدٍ، عن عائشة قالت: «سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن قول اللّه عزّ وجلّ: {فأمّا الّذين في قلوبهم زيغٌ فيتّبعون ما تشابه منه} فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إذا رأيتم الّذين يتّبعون ما تشابه منه فأولئك الّذين سمّى الله، فاحذروهم».
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا عليّ بن سهلٍ حدّثنا الوليد بن مسلمٍ، عن حمّاد بن سلمة، عن عبد الرّحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة قالت: نزع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بهذه الآية: {فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة} فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «قد حذّركم الله، فإذا رأيتموهم فاعرفوهم». ورواه ابن مردويه من طريقٍ أخرى، عن القاسم، عن عائشة به.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا أبو كاملٍ، حدّثنا حمّادٌ، عن أبي غالبٍ قال: سمعت أبا أمامة يحدّث، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في قوله: {فأمّاالّذين في قلوبهم زيغٌ فيتّبعون ما تشابه منه} قال: «هم الخوارج»، وفي قوله: {يوم تبيضّ وجوهٌ وتسودّ وجوهٌ}. [آل عمران: 106] قال: «هم الخوارج». وقد رواه ابن مردويه من غير وجهٍ، عن أبي غالبٍ، عن أبي أمامة مرفوعا، فذكره.
وهذا الحديث أقلّ أقسامه أن يكون موقوفًا من كلام الصّحابيّ، ومعناه صحيحٌ؛ فإنّ أوّل بدعةٍ وقعت في الإسلام فتنة الخوارج، وكان مبدؤهم بسبب الدّنيا حين قسم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم غنائم حنين، فكأنّهم رأوا في عقولهم الفاسدة أنّه لم يعدل في القسمة، ففاجؤوه بهذه المقالة، فقال قائلهم -وهو ذو الخويصرة-بقر اللّه خاصرته-اعدل فإنّك لم تعدل، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني». فلمّا قفا الرّجل استأذن عمر بن الخطّاب -وفي روايةٍ: خالد بن الوليد-ولا بعد في الجمع -رسول اللّه في قتله، فقال: «دعه فإنّه يخرج من ضئضئ هذا-أي: من جنسه -قومٌ يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من الرّميّة، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإنّ في قتلهم أجرًا لمن قتلهم».
ثمّ كان ظهورهم أيّام عليّ بن أبي طالبٍ، وقتلهم بالنّهروان، ثمّ تشعّبت منهم شعوبٌ وقبائل وآراءٌ وأهواءٌ ومقالاتٌ ونحلٌ كثيرةٌ منتشرةٌ، ثمّ نبعت القدريّة، ثمّ المعتزلة، ثمّ الجهميّة، وغير ذلك من البدع الّتي أخبر عنها الصّادق المصدوق في قوله: «وستفترق هذه الأمّة على ثلاثٍ وسبعين فرقةً، كلّها في النّار إلّا واحدةً» قالوا: من هم يا رسول اللّه؟ قال: «من كان على ما أنا عليه وأصحابي» أخرجه الحاكم في مستدركه بهذه الزّيادة.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدّثنا أبو موسى، حدّثنا عمرو بن عاصمٍ، حدّثنا المعتمر، عن أبيه، عن قتادة، عن الحسن عن جندب بن عبد اللّه أنّه بلغه، عن حذيفة -أو سمعه منه-يحدّث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه ذكر: «إنّ في أمّتي قومًا يقرؤون القرآن ينثرونه نثر الدّقل، يتأوّلونه على غير تأويله». لم يخرّجوه.
وقوله: {وما يعلم تأويله إلا اللّه} اختلف القرّاء في الوقف هاهنا، فقيل: على الجلالة، كما تقدّم عن ابن عبّاسٍ أنّه قال: «التّفسير على أربعة أنحاءٍ: فتفسيرٌ لا يعذر أحدٌ في فهمه، وتفسيرٌ تعرفه العرب من لغاتها، وتفسيرٌ يعلمه الرّاسخون في العلم، وتفسيرٌ لا يعلمه إلّا اللّه عزّ وجلّ». ويروى هذا القول عن عائشة، وعروة، وأبي الشّعثاء، وأبي نهيك، وغيرهم.
وقد قال الحافظ أبو القاسم في المعجم الكبير: حدّثنا هاشم بن مرثدٍ حدّثنا محمّد بن إسماعيل بن عيّاشٍ، حدّثني أبي، حدّثني ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيدٍ، عن أبي مالكٍ الأشعريّ أنّه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «لا أخاف على أمّتي إلّا ثلاث خلالٍ: أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتتلوا، وأن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله، {وما يعلم تأويله إلا اللّه والرّاسخون في العلم يقولون آمنّا به كلٌّ من عند ربّنا وما يذّكّر إلا أولو الألباب} الآية، وأن يزداد علمهم فيضيّعوه ولا يبالون عليه» غريبٌ جدًّا وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: حدّثنا محمّد بن أحمد بن إبراهيم، أخبرنا أحمد بن عمرٍو، أخبرنا هشام بن عمّارٍ، أخبرنا ابن أبي حاتمٍ عن أبيه، عن عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن ابن العاص، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إنّ القرآن لم ينزل ليكذّب بعضه بعضًا، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه منه فآمنوا به».
وقال عبد الرّزّاق: أنبأنا معمر، عن ابن طاوسٍ، عن أبيه قال: كان ابن عبّاسٍ يقرأ: «{وما يعلم تأويله إلّا اللّه} ويقول الرّاسخون: آمنّا به» وكذا رواه ابن جريرٍ، عن عمر بن عبد العزيز، ومالك بن أنسٍ: «أنّهم يؤمنون به ولا يعلمون تأويله». وحكى ابن جريرٍ أنّ في قراءة عبد اللّه بن مسعودٍ: "إن تأويله إلّا عند اللّه والرّاسخون في العلم يقولون آمنّا به". وكذا عن أبيّ بن كعبٍ. واختار ابن جريرٍ هذا القول.
ومنهم من يقف على قوله: {والرّاسخون في العلم} وتبعهم كثيرٌ من المفسّرين وأهل الأصول، وقالوا: الخطاب بما لا يفهم بعيدٌ.
وقد روى ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ، عن ابن عباس أنّه قال: «أنا من الرّاسخين الّذين يعلمون تأويله». وقال ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: «والرّاسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنّا به». وكذا قال الرّبيع بن أنسٍ.
وقال محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن جعفر بن الزّبير:«{وما يعلم تأويله} الّذي أراد ما أراد {إلا اللّه والرّاسخون في العلم يقولون آمنّا به} ثمّ ردّوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المحكمة الّتي لا تأويل لأحدٍ فيها إلّا تأويلٌ واحدٌ، فاتّسق بقولهم الكتاب، وصدّق بعضه بعضًا، فنفذت الحجّة، وظهر به العذر، وزاح به الباطل، ودفع به الكفر».
وفي الحديث أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم دعا لابن عبّاسٍ فقال: «اللّهمّ فقّهه في الدّين وعلّمه التّأويل».
ومن العلماء من فصّل في هذا المقام، فقال: التّأويل يطلق ويراد به في القرآن معنيان، أحدهما: التّأويل بمعنى حقيقة الشّيء، وما يؤول أمره إليه، ومنه قوله تعالى: {ورفع أبويه على العرش وخرّوا له سجّدًا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربّي حقًّا} [يوسف: 100] وقوله: {هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله} [الأعراف: 53] أي: حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد، فإن أريد بالتّأويل هذا، فالوقف على الجلالة؛ لأنّ حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه على الجليّة إلّا اللّه عزّ وجلّ، ويكون قوله: {والرّاسخون في العلم} مبتدأً و {يقولون آمنّا به} خبره. وأمّا إن أريد بالتّأويل المعنى الآخر وهو التّفسير والتّعبير والبيان عن الشّيء كقوله تعالى: {نبّئنا بتأويله} [يوسف: 36] أي: بتفسيره، فإنّ أريد به هذا المعنى، فالوقف على: {والرّاسخون في العلم} لأنّهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علمًا بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، وعلى هذا فيكون قوله: {يقولون آمنّا به} حالًا منهم، وساغ هذا، وهو أن يكون من المعطوف دون المعطوف عليه، كقوله: {للفقراء المهاجرين الّذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم} إلى قوله: {والّذين جاءوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الّذين سبقونا بالإيمان} الآية [الحشر: 8-10]، وكقوله تعالى: {وجاء ربّك والملك صفًّا صفًّا} [الفجر: 22] أي: وجاءت الملائكة صفوفًا صفوفًا.
وقوله إخبارًا عنهم أنّهم {يقولون آمنّا به} أي: بالمتشابه {كلٌّ من عند ربّنا} أي: الجميع من المحكم والمتشابه حقٌّ وصدقٌ، وكلّ واحدٍ منهما يصدّق الآخر ويشهد له؛ لأنّ الجميع من عند اللّه وليس شيءٌ من عند اللّه بمختلفٍ ولا متضادٍّ لقوله: {أفلا يتدبّرون القرآن ولو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا} [النّساء: 82] ولهذا قال تعالى: {وما يذّكّر إلا أولو الألباب} أي: إنّما يفهم ويعقل ويتدبّر المعاني على وجهها أولو العقول السّليمة والفهوم المستقيمة.
وقد قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا محمّد بن عوفٍ الحمصيّ، حدّثنا نعيم بن حمّادٍ، حدّثنا فيّاضٌ الرّقّيّ، حدّثنا عبد اللّه بن يزيد -وكان قد أدرك أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: أنسًا، وأبا أمامة، وأبا الدّرداء، رضي اللّه عنهم، قال: حدّثنا أبو الدّرداء، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سئل عن الرّاسخين في العلم، فقال: «من برّت يمينه، وصدق لسانه، واستقام قلبه، ومن أعفّ بطنه وفرجه، فذلك من الرّاسخين في العلم».
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرّزّاق، حدّثنا معمر، عن الزهري، عن عمر بن شعيبٍ عن أبيه، عن جدّه قال: سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قومًا يتدارءون فقال: «إنّما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب اللّه بعضه ببعضٍ، وإنّما أنزل كتاب اللّه ليصدّق بعضه بعضًا، فلا تكذّبوا بعضه ببعضٍ، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه».
و قد تقدّم رواية ابن مردويه لهذا الحديث، من طريق هشام بن عمّارٍ، عن ابن أبي حازمٍ عن أبيه، عن عمرو بن شعيبٍ، به.
وقد قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن عليّ بن المثنّى الموصليّ في مسنده، حدّثنا زهير بن حربٍ، حدّثنا أنس بن عياضٍ، عن أبي حازمٍ، عن أبي سلمة قال: لا أعلمه إلّا عن أبي هريرة، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «نزل القرآن على سبعة أحرفٍ، والمراء في القرآن كفرٌ -ثلاثًا-ما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردّوه إلى عالمه». وهذا إسنادٌ صحيحٌ، ولكن فيه علّةٌ بسبب قول الرّاوي: «لا أعلمه إلّا عن أبي هريرة».
وقال ابن المنذر في تفسيره: أخبرنا محمّد بن عبد اللّه بن عبد الحكم، أخبرنا ابن وهبٍ قال: أخبرني نافع بن يزيد قال: يقال: «الرّاسخون في العلم المتواضعون للّه، المتذلّلون للّه في مرضاته، لا يتعاطون من فوقهم، ولا يحقّرون من دونهم. ولهذا قال تعالى: {وما يذّكّر إلا أولو الألباب} أي: إنّما يفهم ويعقل ويتدبّر المعاني على وجهها أولو العقول السّليمة أو الفهوم المستقيمة»). [تفسير القرآن العظيم: 2/ 6-13]

تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (ثمّ قال تعالى عنهم مخبرًا أنّهم دعوا ربّهم قائلين: {ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} أي: لا تملها عن الهدى بعد إذ أقمتها عليه ولا تجعلنا كالّذين في قلوبهم زيغٌ، الّذين يتّبعون ما تشابه من القرآن ولكن ثبّتنا على صراطك المستقيم، ودينك القويم {وهب لنا من لدنك} أي: من عندك {رحمةً} تثبّت بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا، وتزيدنا بها إيمانًا وإيقانًا {إنّك أنت الوهّاب}
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عمرو بن عبد اللّه الأودي -وقال ابن جريرٍ: حدّثنا أبو كريب -قالا جميعًا: حدّثنا وكيع، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أمّ سلمة، رضي اللّه عنها، أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان يقول: «يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك» ثمّ قرأ: {ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنّك أنت الوهّاب}» رواه ابن مردويه من طريق محمّد بن بكّار، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشبٍ، عن أمّ سلمة، وهي أسماء بنت يزيد بن السّكن، سمعها تحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه: «اللّهمّ مقلّب القلوب، ثبّت قلبي على دينك» قالت: قلت: يا رسول اللّه، وإنّ القلب ليتقلّب ؟ قال: «نعم، ما خلق اللّه من بني آدم من بشرٍ إلّا أنّ قلبه بين أصبعين من أصابع اللّه عزّ وجلّ، فإن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه». فنسأل اللّه ربّنا ألّا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمةً، إنّه هو الوهّاب.
وهكذا رواه ابن جريرٍ من حديث أسد بن موسى، عن عبد الحميد بن بهرام، به مثله. ورواه أيضًا عن المثنّى، عن الحجّاج بن منهال، عن عبد الحميد بن بهرام، به مثله، وزاد: «قلت يا رسول الله، ألا تعلّمني دعوةً أدعو بها لنفسي؟ قال: «بلى قولي: اللّهمّ ربّ النّبيّ محمّدٍ، اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن».
ثمّ قال ابن مردويه: حدّثنا سليمان بن أحمد، حدّثنا محمّد بن هارون بن بكارٍ الدّمشقيّ، أخبرنا العبّاس بن الوليد الخلّال، أخبرنا يزيد بن يحيى بن عبيد اللّه، أخبرنا سعيد بن بشيرٍ، عن قتادة، عن أبي حسّان الأعرج عن عائشة، رضي اللّه عنها، قالت: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كثيرًا ما يدعو: «يا مقلّب القلوب، ثبّت قلبي على دينك»، قلت: يا رسول اللّه، ما أكثر ما تدعو بهذا الدّعاء. فقال: «ليس من قلبٍ إلّا وهو بين أصبعين من أصابع الرّحمن، إذا شاء أن يقيمه أقامه، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه، أما تسمعين قوله: {ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنّك أنت الوهّاب}». غريبٌ من هذا الوجه، ولكنّ أصله ثابتٌ في الصّحيحين، وغيرهما من طرقٍ كثيرةٍ بدون زيادة ذكر هذه الآية الكريمة.
وقد روى أبو داود والنّسائيّ وابن مردويه، من حديث أبي عبد الرحمن المقري -زاد النّسائيّ وابن حبّان: وعبد اللّه بن وهبٍ، كلاهما عن سعيد بن أبي أيّوب حدّثني عبد اللّه بن الوليد التّجيبي، عن سعيد بن المسيّب، عن عائشة، رضي اللّه عنها، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان إذا استيقظ من اللّيل قال: «لا إله إلّا أنت سبحانك، اللّهمّ إنّي أستغفرك لذنبي، وأسألك رحمةً، اللّهمّ زدني علمًا، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمةً إنّك أنت الوهّاب» لفظ ابن مردويه.
وقال عبد الرّزّاق، عن مالكٍ، عن أبي عبيدٍ -مولى سليمان بن عبد الملك-عن عبادة بن نسيّ، أنّه أخبره، أنّه سمع قيس بن الحارث يقول: أخبرني أبو عبد اللّه الصنابحي: «أنّه صلّى وراء أبي بكرٍ الصّدّيق المغرب، فقرأ أبو بكرٍ في الرّكعتين الأوليين بأمّ القرآن وسورتين من قصار المفصّل، وقرأ في الرّكعة الثّالثة، قال: فدنوت منه حتّى إنّ ثيابي لتكاد تمسّ ثيابه، فسمعته يقرأ بأمّ القرآن وهذه الآية: {ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنّك أنت الوهّاب} ».
قال أبو عبيدٍ: وأخبرني عبادة بن نسيّ: أنّه كان عند عمر بن عبد العزيز في خلافته، فقال عمر لقيسٍ: «كيف أخبرتني عن أبي عبد اللّه الصّنابحيّ فأخبره بما سمع أبا عبد اللّه ثانيًا. قال عمر: فما تركناها منذ سمعناها منه، وإن كنت قبل ذلك لعلى غير ذلك. فقال له رجلٌ: على أيّ شيءٍ كان أمير المؤمنين قبل ذلك؟ قال: كنت أقرأ {قل هو اللّه أحدٌ} [الإخلاص: 1]» وقد روى هذا الأثر الوليد بن مسلمٍ، عن مالكٍ والأوزاعيّ، كلاهما عن أبي عبيدٍ، به. ورواه الوليد أيضًا، عن ابن جابرٍ، عن يحيى بن يحيى الغسّانيّ، عن محمود بن لبيدٍ، عن الصّنابحي: «أنّه صلّى خلف أبي بكرٍ، رضي اللّه عنه، المغرب فقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب وسورةٍ قصيرةٍ، يجهر بالقراءة، فلمّا قام إلى الثّالثة ابتدأ القراءة فدنوت منه حتّى إنّ ثيابي لتمسّ ثيابه، فقرأ هذه الآية: {ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمةً إنّك أنت الوهّاب} ). [تفسير القرآن العظيم: 2/ 13-15]

تفسير قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {ربّنا إنّك جامع النّاس ليومٍ لا ريب فيه إنّ اللّه لا يخلف الميعاد} أي: يقولون في دعائهم: إنّك -يا ربّنا-ستجمع بين خلقك يوم معادهم، وتفصل بينهم وتحكم فيهم فيما اختلفوا فيه، وتجزي كلًّا بعمله، وما كان عليه في الدنيا من خير وشر). [تفسير القرآن العظيم: 2/ 15]


رد مع اقتباس