الموضوع: شرح اسم "الله"
عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 22 شعبان 1438هـ/18-05-2017م, 09:06 PM
جمهرة علوم العقيدة جمهرة علوم العقيدة غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 1,193
افتراضي

شرح ابن القيم (ت:751هـ) [الشرح المطول]

الله:

قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى: ( (اللهُ... هوَ المَأْلُوهُ المَعْبُودُ)([1]) [و](هذا الاسمُ هوَ الجامعُ؛ ولهذا تُضافُ الأسماءُ الحسنَى كلُّها إليهِ فَيُقَالُ: الرحمنُ الرحيمُ العزيزُ الغفَّارُ القَهَّارُ منْ أسماءِ اللهِ، ولا يُقَالُ: اللهُ مِنْ أسماءِ الرحمنِ. قالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ([2]) ).
(واسمُ "اللهِ" دَالٌّ على كونِهِ مَأْلُوهاً مَعْبُوداً، تَأْلَهُهُ الخلائقُ مَحَبَّةً وتعظيماً وخُضُوعاً، وَفَزَعاً إليهِ في الحوائجِ والنوائبِ، وذلكَ مُسْتَلْزِمٌ لكمالِ رُبُوبِيَّتِهِ ورحمتِهِ، المُتَضَمِّنَيْنِ لكمالِ المُلْكِ والحمدِ، وَإِلَهِيَّتُهُ وربوبيَّتُهُ ورحمانيَّتُهُ ومُلْكُهُ مُسْتَلْزِمٌ لجميعِ صفاتِ كمالِهِ؛ إذْ يَسْتَحِيلُ ثُبُوتُ ذلكَ لمنْ لَيْسَ بِحَيٍّ، ولا سَمِيعٍ ولا بَصِيرٍ ولا قَادِرٍ ولا مُتَكَلِّمٍ ولا فَعَّالٍ لما يُرِيدُ ولا حَكِيمٍ في أفعالِهِ). ([3])
[و] (زَعَمَ السُّهَيْلِيُّ وَشَيْخُهُ أبو بَكْرِ بنُ العَرَبِيِّ أنَّ اسْمَ اللهِ غيرُ مُشْتَقٍّ؛ لأنَّ الاشْتِقَاقَ يَسْتَلْزِمُ مَادَّةً يُشْتَقُّ منها، واسْمُهُ تَعَالَى قَدِيمٌ، والقديمُ لا مَادَّةَ لهُ، فَيَسْتَحِيلُ الاشتقاقُ.
ولا رَيْبَ أنَّهُ إنْ أُرِيدَ بالاشتقاقِ هذا المعنَى، وأنَّهُ مُسْتَمَدٌّ منْ أصلٍ آخرَ فَهُوَ بَاطِلٌ، ولكنَّ الذينَ قَالُوا بالاشتقاقِ لم يُرِيدُوا هذا المعنَى، ولا أَلَمَّ بِقُلُوبِهِم، وَإِنَّمَا أَرَادُوا أَنَّهُ دَالٌّ على صِفَةٍ لهُ تَعَالَى، وهيَ الإِلهيَّةُ، كسائرِ أسمائِهِ الحُسْنَى، كالعَلِيمِ والقديرِ والغفورِ والرحيمِ والسميعِ والبصيرِ؛ فإنَّ هذه ِ الأسماءَ مُشْتَقَّةٌ منْ مصادرِهَا بِلا رَيْبٍ، وهي قديمةٌ، والقديمُ لا مادَّةَ لهُ، فما كانَ جَوَابَكُم عنْ هذهِ الأسماءِ فهوَ جوابُ القائِلِينَ باشْتِقَاقِ اسمِهِ "اللهِ".
ثُمَّ الجوابُ عن الجميعِ أنَّنا لا نَعْنِي بالاشتقاقِ إِلاَّ أنَّها مُلاقِيَةٌ لمصادرِهَا في اللفظِ والمعنَى، لا أنَّها مُتَوَلِّدَةٌ منها تَوَلُّدَ الفرعِ منْ أصلِهِ، وَتَسْمِيَةُ النحاةِ للمصدرِ والمُشْتَقِّ منهُ أَصْلاً وَفَرْعاً، ليسَ معناهُ أنَّ أَحَدَهُمَا تَوَلَّدَ من الآخرِ، وإنَّمَا هُوَ باعتبارِ أنَّ أحدَهُما يَتَضَمَّنُ الآخَرَ وزيادةً.
وقولُ سِيبَوَيْهِ: إنَّ الفعلَ أمثلةٌ أُخِذَتْ منْ لفظِ أحداثِ الأسماءِ هوَ بهذا الاعتبارِ, لا أَنَّ العربَ تَكَلَّمُوا بالأسماءِ أَوَّلاً ثُمَّ اشْتَقُّوا منها الأفعالَ؛ فإنَّ التخاطبَ بالأفعالِ ضَرُورِيٌّ كالتخاطبِ بالأسماءِ لا فَرْقَ بينَهُمَا، فالاشتقاقُ هنا ليسَ هوَ اشْتِقَاقَ ماديٍّ، وإنما هوَ اشتقاقُ تلازمٍ. سُمِّيَ المتَضَمِّنُ ( بالكَسْرِ ) مُشْتَقًّا والمُتَضَمَّنُ ( بالفتحِ ) مُشْتَقًّا منهُ، ولا مَحْذُورَ في اشتقاقِ أسماءِ اللهِ تَعَالَى بهذا المعنَى)([4]).
(ولهذا كانَ القولُ الصحيحُ أنَّ (( اللهَ )) أَصْلُهُ (( الإِلَهُ )) كما هوَ قولُ سِيبَوَيْهِ وَجُمْهُورِ أصحابِهِ إلاَّ مَنْ شَذَّ منْهُم وأنَّ اسمَ اللهِ تَعَالَى هوَ الجامعُ لجميعِ معانِي الأسماءِ الحُسْنَى والصِّفَاتِ العُلَى)([5]).

[فصلٌ: في بيانِ مَعْنَى كَلِمَةِ (( اللهُمَّ )) ]:
(لا خِلافَ أنَّ لفظةَ (( اللهُمَّ )) مَعْنَاهَا (( يَا اللهُ ))، وَلِهَذَا لا تُسْتَعْمَلُ إلاَّ في الطلبِ؛ فلا يُقَالُ: اللهُمَّ غَفُورٌ رحيمٌ، بلْ يُقَالُ: اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي.
واخْتَلَفَ النُّحَاةُ في المِيمِ المُشَدَّدَةِ مِنْ آخرِ الاسمِ. فَقَالَ سِيبَوَيْهِ: زِيدَتْ عِوَضاً مِنْ حرفِ النداءِ، ولذلكَ لا يَجُوزُ عِنْدَهُ الجَمْعُ بَيْنَهُمَا في اختيارِ الكلامِ، فلا يُقَالُ: (( يَا اللهُمَّ))، إلاَّ فيما نَدَرَ كقولِ الشاعرِ:

إِنِّي إِذَا مَا حَدَثٌ أَلَمَّا = أَقُولُ يَا اللهُمَّ يَا اللهُمَّا

وَيُسَمَّى ما كانَ منْ هذا الضَّرْبِ عِوَضاً؛ إذْ هوَ في غيرِ مَحَلِّ المحذوفِ، فإنْ كانَ في مَحَلِّهِ سُمِّيَ بَدَلاً كَالألفِ في ( قَامَ ) وَ ( بَاعَ )، فَإِنَّهَا بَدَلٌ عن الواوِ والياءِ،. ولا يَجُوزُ عندَهُ أنْ يُوصَفَ هذا الاسمُ أَيْضاً، فلا يُقَالُ: " اللهُمَّ الرَّحِيمُ ارْحَمْنِي "، وَلا يُبْدَلُ مِنْهُ، والضَّمَّةُ التي على الهاءِ ضَمَّةُ الاسمِ المُنَادَى المُفْرَدِ، وَفُتِحَت المِيمُ لِسُكُونِهَا وسكونِ الميمِ التي قَبْلَهَا. وهذا مِنْ خصائصِ هذا الاسمِ، كما اخْتَصَّ بالتاءِ في القَسَمِ، وبدخولِ حرفِ النداءِ عليهِ معَ لامِ التعريفِ، وبِقَطْعِ همزةِ وَصْلِهِ في النداءِ، وتَفْخِيمِ لامِهِ وُجُوباً غيرَ مَسْبُوقَةٍ بِحَرْفِ إطباقٍ.
هذا مُلَخَّصُ مَذْهَبِ الخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ.
وَقِيلَ: المِيمُ عِوَضٌ عنْ جملةٍ محذوفةٍ، والتقديرُ ( يا اللهُ أُمَّنَا بِخَيْرٍ ) أي: اقْصِدْنَا، ثُمَّ حَذَفَ الجارَّ والمجرورَ، وحَذَفَ المفعولَ، فَتَبْقَى في التقديرِ ( يا الله أُمَّ )، ثمَّ حَذَفَ الهمزةَ لكثرةِ دورانِ هذا الاسمِ في الدعاءِ على أَلْسِنَتِهِم، فَبَقِي " يا اللهُمَّ " وهذا قولُ الفرَّاءِ. وصاحبُ هذا القولِ يُجَوِّزُ دُخُولَ ( يَا ) عَلَيْهِ، وَيَحْتَجُّ بقـولِ الشاعرِ:

* يَا اللهُمَّمَا .. ارْدُدْ عَلَيْنَا شَيْخَنَا مُسَلَّمَا *
وبالبيتِ المُتَقَدِّمِ وَغَيْرِهِمَا.
وَرَدَّ البَصْرِيُّونَ هذا بوجوهٍ:
أحدُهَا: أَنَّ هذهِ تَقَادِيرُ لا دَلِيلَ عليها، ولا يَقْتَضِيهَا القِيَاسُ، فلا يُصَارُ إليها بِغَيْرِ دليلٍ.
الثاني: أنَّ الأصلَ عَدَمُ الحذفِ، فتقديرُ هذهِ المحذوفاتِ الكثيرةِ خلافُ الأصلِ.
الثالثُ: أنَّ الداعيَ بهذا قدْ يَدْعُو بالشَّرِّ على نفسِهِ وعلى غيرِهِ، فلا يَصِحُّ هذا التقديرُ فيهِ.
الرابعُ: أنَّ الاستعمالَ الشائعَ الفصيحَ يَدُلُّ على أنَّ العربَ لم تَجْمَعْ بينَ " يا " و " اللهُمَّ " ولوْ كانَ أصلُهُ مَا ذَكَرَهُ الفرَّاءُ لم يَمْتَنِع الجمعُ، بلْ كانَ استعمالُهُ فَصِيحاً شائعاً، والأمرُ بخلافِهِ.
الخامسُ: أنَّهُ لا يَمْتَنِعُ أنْ يَقُولَ الداعِي: ( اللَّهُمَّ أُمَّنَا بِخَيْرٍ )، ولوْ كانَ التقديرُ كمَا ذَكَرَهُ لم يَجُز الجَمْعُ بَيْنَهُمَا؛ لِمَا فِيهِ من الجمعِ بينَ العِوَضِ والمُعَوَّضِ عنهُ.
السادسُ: أنَّ الداعيَ بهـذا الاسـمِ لا يَـخْـطِرُ ذلكَ ببالِهِ، وإنَّمَا تَكُونُ عنايتُهُ مُجَرَّدَةً إلى المطلوبِ بعدَ ذِكْرِ الاسمِ.
السابعُ: أنَّهُ لوْ كانَ التقديرُ ذلكَ لكانَ (( اللَّهُمَّ )) جُمْلَةً تَامَّةً يَحْسُنُ السُّكُوتُ عليها؛ لاشْتِمَالِهَا عَلَى الاسمِ المُنَادَى وفعلِ الطلبِ، وذلكَ باطلٌ.
الثامنُ: أنَّهُ لوْ كانَ التقديرُ ما ذَكَرَهُ لَكُتِبَ فعلُ الأمرِ وحدَهُ، ولم يُوصَلْ بالاسمِ المُنَادَى كَمَا يُقَالُ: ((يَا اللهُ قِهْ)) ([6]) ، وَ((يَا زَيْدُ عِهْ))، وَ((يَا عَمْرُو فِهْ))؛ لأنَّ الفعلَ لا يُوصَلُ بالاسمِ الذي قَبْلَهُ حتَّى يُجْعَلا في الخطِّ كلمةً واحدةً، هذا لا نَظِيرَ لهُ في الخطِّ، وفى الاتفاقِ على وَصْلِ الميمِ باسمِ ((اللهِ)) دَلِيلٌ على أنَّهَا لَيْسَتْ بِفِعْلٍ مُسْتَقِلٍّ.
التاسعُ: أنَّهُ لا يَسُوغُ ولا يَحْسُنُ في الدعاءِ أنْ يَقُولَ العبدُ: اللهُمَّ أُمَّنِي بكذا. بلْ هذا مُسْتَكْرَهُ اللَّفْظِ والمَعْنَى؛ فإنَّهُ لا يُقَالُ: اقْصِدْنِي بكذا إلاَّ لِمَنْ كَانَ يعرِضُ لهُ الغلطُ والنسيانُ، فيقولُ لهُ: اقْصِدْنِي، وَأَمَّا مَنْ كانَ لا يَفْعَلُ إلاَّ بِإِرَادَتِهِ وَلا يَضِلُّ ولا يَنْسَى فلا يُقَالُ لهُ: اقْصِدْ كذَا.
العاشرُ: أنَّهُ يَسُوغُ استعمالُ هذا اللفظِ في موضعٍ لا يكونُ بَعْدَهُ دعاءٌ كقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّعَاءِ: ((اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ وَإِلَيْكَ الْمُشْتَكَى، وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ. وَبِكَ الْمُسْتَغَاثُ، وَعَلَيْكَ التُّكْلانُ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِكَ)). ([7]) وَقَوْلِهِ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَصْبَحْتُ أُشْهِدُكَ وَأُشْهِدُ حَمَلَةَ عَرْشِكَ وَمَلائِكَتَكَ وَجَمِيعَ خَلْقِكَ أَنَّكَ أَنْتَ اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ وَحْدَكَ لا شَرِيكَ لَكَ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ)). ([8]) وقولِهِ تعالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ} الآيَةَ [آل عمران : 26] . وقولِهِ: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)} [ الزمر : 46 ] وقولِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رُكُوعِهِ وسجودِهِ: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي)). ([9]) فهذا كُلُّهُ لا يَسُوغُ فيهِ التقديرُ الذي ذَكَرُوهُ، واللهُ أعلمُ.
وقيلَ: زِيدَت المِيمُ للتَّعْظِيمِ والتَّفْخِيمِ. كَزِيَادَتِهَا في ( زُرْقُم ) لشديدِ الزُّرْقَةِ ( وابْنُم ) في الابنِ؛ وهذا القولُ صحيحٌ مُمْكِنٌ يَحْتَاجُ إلى تَتِمَّةٍ، وقائلُهُ لَحَظَ معنًى صحيحاً لا بُدَّ منْ بيانِهِ؛ وهوَ أنَّ الميمَ تَدُلُّ على الجمعِ وَتَقْتَضِيهِ، وَمَخْرَجَهَا اقْتَضَى ذَلِكَ، وهذا مُطَّرِدٌ على أصلِ مَنْ أَثْبَتَ المُنَاسَبَةَ بينَ اللفظِ والمعنَى، كما هوَ مذهبُ أَسَاطِينِ العَرَبِيَّةِ، وَعَقَدَ لَهُ أَبُو الفَتْحِ بنُ جِنِّي بَاباً في الخصائصِ، وَذَكَرَهُ عنْ سِيبَوَيْهِ، وَاسْتَدَلَّ عليهِ بأنواعٍ منْ تَنَاسُبِ اللفظِ والمعنَى، ثُمَّ قَالَ: وَلَقَدْ مَكَثْتُ بُرْهَةً يَرِدُ عليَّ اللَّفْظُ لا أَعْلَمُ مَوْضُوعَهُ، وآخُذُ مَعْنَاهُ مِنْ قُوَّةِ لفظِهِ، ومناسبةِ تلكَ الحروفِ لذلكَ المعنَى، ثُمَّ أَكْشِفُ فَأَجِدُهُ كَمَا فَهِمْتُهُ أَوْ قَرِيباً مِنْهُ. فَحَكَيْتُ لِشَيْخِ الإسلامِ هذا عن ابنِ جِنِّي فقالَ: وَأَنَا كَثِيراً ما يَجْرِي لِي ذَلِكَ.
ثُمَّ ذَكَرَ لِي فَصْلاً عَظِيمَ النفعِ في التناسبِ بينَ اللفظِ والمعنَى، ومناسبةِ الحركاتِ لِمَعْنَى اللفظِ، وأنَّهُم في الغالبِ يَجْعَلُونَ الضمَّةَ التي هيَ أَقْوَى الحركاتِ لِلْمَعْنَى الأَقْوَى، والفتحةَ خفيفةً لِلْمَعْنَى الخَفِيفِ، والمتوسطةَ للمتوسطِ؛ فيقولونَ: ( عَزَّ يَعَــزُّ ) بِفَتْحِ العينِ , إذا صَلُبَ، ( وَأَرْضٌ عَزَازٌ ) صَلْبةٌ.
ويقولونَ: ( عَزَّ يَعِــزُّ ) بِكَسْرِهَا إذا امْتَنَعَ، والمُمْتَنِعُ فوقَ الصُّلبِ، فقدْ يَكُونُ الشيءُ صُلْباً ولا يَمْتَنِعُ على كاسرِهِ، ثُمَّ يَقُولُونَ: (عَزَّهُ يَعُـزُّهُ) إذا غَلَبَهُ: قالَ اللهُ تَعَالَى في قِصَّةِ دَاوُدَ:
{وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)} [ص: 23] والغَلَبَةُ أَقْوَى من الامتناعِ؛ إذْ قدْ يَكُونُ الشيءُ مُمْتَنِعاً في نفسِهِ مُتَحَصِّناً عنْ عَدُوِّهِ، ولا يَغْلِبُ غَيْرَهُ.
فالغالبُ أَقْوَى من المُمْتَنِعِ؛ فَأَعْطَوْهُ أَقْوَى الحَرَكَاتِ، وَالصُّلْبُ أَضْعَفُ مِن المُمْتَنِعِ فَأَعْطَوْهُ أَضْعَفَ الحَرَكَاتِ، وَالمُمْتَنِعُ المُتَوَسِّطُ بَيْنَ المَرْتَبَتَيْنِ فَأَعْطَوْهُ حَرَكَةَ الوَسَطِ.
وَنَظِيرُ هذا قَوْلُهُم: ( ذِبْحٌ ) بكسرِ أَوَّلـِهِ لِلْمَحَلِّ المَذْبُوحِ، و ( ذَبْحٌ ) بفتحِهِ لنفسِ الفعلِ، ولا رَيْبَ أنَّ الجسمَ أَقْوَى من العَرَضِ، فَأَعْطَوا الحَرَكَةَ القَوِيَّةَ للقَوِيِّ، والضعيفةَ للضعيفِ، وهوَ مِثْلُ قَوْلِهِم: ( نِهْبٌ ) و ( نَهْبٌ ) بالكسرِ للمنهوبِ وبالفتحِ للفعلِ، وكقولِهِم: ( مِلْءٌ ) و ( مَلْءٌ ) بالكسرِ لِمَا يَمْلأُ الشَّيْءَ، وبالفَتْحِ للمَصْدَرِ الذي هوَ الفِعْلُ، وكقولِهِم: ( حِمْلٌ ) و ( حَمْلٌ ) فبالكسرِ لِمَا كَانَ قَوِيًّا مُثْقِلاً لحاملِهِ على ظهرِهِ أوْ رَأْسِهِ أَوْ غَيْرِهِمَا منْ أَعْضَائِهِ، والحَمْلُ بالفتحِ لِمَا كَانَ خَفِيفاً غَيْرَ مُثْقِلٍ لِحَامِلِهِ كَحَمْلِ الحيوانِ، وَحَمْلُ الشجرةِ بهِ أَشْبَهُ فَفَتَحُوهُ.
وتَأَمَّلْ هذا في ((الحِبِّ)) و((الحُبِّ))، فَجَعَلُوا المَكْسُورَ الأوَّلَ لِنَفْسِ المحبوبِ ومضمومَهُ للمصدرِ؛ إِيذَاناً بِخِفَّةِ المحبوبِ على قلوبِهِم، ولُطْفِ موقعِهِ منْ أنفسِهِم، وحلاوتِهِ عندَهُم، وثِقَلِ حَمْلِ الحُبِّ وَلُزُومِهِ كما يُلْزِمُ الغَرِيمُ غَرِيمَهُ. ولهذا يُسَمَّى غُرْماً، ولهذا كَثُرَ وَصْفُهُم لِتَحَمُّلِهِ بالشدَّةِ والصعوبةِ، وَإِخْبَارُهُم بِأَنَّ أعظمَ المخلوقاتِ وَأَشَدَّهَا من الصخرِ والحديدِ ونحوِهِمَا لوْ حَمَلَهُ لَذَابَ منْ حملِهِ، ولمْ يَسْتَقِلَّ بهِ كما هوَ كثيرٌ في أشعارِ المُتَقَدِّمِينَ والمُتَأَخِّرِينَ وَكَلامِهِم، فكانَ الأحسنُ أنْ يُعْطُوا المصدرَ هنا الحركةَ القويَّةَ، والمحبوبَ الحركةَ التي هيَ أَخَفُّ مِنْهَا.
ومِنْ هذا قولُهُم: (قَبْضٌ) بسكونِ وسطِهِ للفعلِ، و ( قَبَضٌ ) بِتَحْرِيكِهِ للمقبوضِ، والحركةُ أَقْوَى من السكونِ. والمقبوضُ أَقْوَى من المصدرِ، ونَظِيرُهُ ( سَبْقٌ ) بالسكونِ للفعلِ، و ( سَبَقٌ ) بالفتحِ للمالِ المأخوذِ في هذا العقدِ.
وتَأَمَّلْ قَوْلَهُم: ( دَارَ دَوَرَاناً، وَفَارَت القُدُرُ فَوَرَاناً، وَغَلَتْ غَلَيَاناً ) كَيْفَ تَابَعُوا بينَ الحركاتِ في هذهِ المصادرِ لِتَتَابُعِ حَرَكَةِ المُسَمَّى فَطَابَقَ اللَّفْظُ المَعْنَى.
وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُم: ( حَجَرٌ، وَهَوَاءٌ ) كيفَ وَضَعُوا للمَعْنَى الثَّقِيلِ الشديدِ هذهِ الحروفَ الشديدةَ، وَوَضَعُوا للمعنَى الخَفِيفِ هذهِ الحروفَ الهوائيَّةَ التي هيَ منْ أَخَفِّ الحُرُوفِ.
وهذا أَكْثَرُ منْ أَنْ يُحَاطَ بهِ، وإنْ مَدَّ اللهُ فِي العُمُرِ وَضَعْتُ فيهِ كِتَاباً مُسْتَقِلاًّ إنْ شاءَ اللهُ تَعَالَى.
ومثلُ هذهِ المعانِي تَسْتَدْعِي لَطَافَةَ ذِهْنٍ، وَرِقَّةَ طَبْعٍ، ولا تَتَأَتَّى معَ غِلَظِ القلوبِ، والرِّضَى بأوائلِ مسائلِ النحوِ والتصريفِ دونَ تَأَمُّلِهَا وتَدَبُّرِهَا، والنظرِ إلى حكمةِ الواضعِ، ومطالعةِ ما في هذهِ اللغةِ الباهرةِ من الأسرارِ التي تَدِقُّ على أكثرِ العقولِ.
وهذا بابٌ يُنَبِّهُ الفاضلَ على ما وَرَاءَهُ {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]
وانْظُرْ إلى تَسْمِيَتِهِم الغَلِيظَ الجافِيَ بِـ ( العُتُلِّ ) وَ ( الجَعْظَرِيِّ ) وَ ( الجَوَّاظِ )!! كَيْفَ تَجِدُ هذهِ الألفاظَ تُنَادِي عَلَى ما تَحْتَهَا من المعانِي؟!!
وانْظُرْ إلى تَسْمِيَتِهِم الطويلَ ( بالعَشَنَّقِ )!!، وتَأَمَّل اقْتِضَاءَ هَذِهِ الحُرُوفِ وَمُنَاسَبَتَهَا لِمَعْنَى الطويلِ، وَتَسْمِيَتِهِم القصيرَ ( بالبُحْتُرِ ) وَمُوَالاتِهِم منْ بينِ ثلاثِ فَتَحاتٍ في اسمِ الطويلِ، وهوَ ( العَشَنَّقُ )، وإِتْيَانِهِم بِضَمَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا سُكُونٌ في ( البُحْتُرِ )، كَيْفَ يَقْتَضِي اللفظُ الأوَّلُ انْفِتَاحَ الفمِ وَانْفِرَاجَ آلاتِ النطقِ وامْتِدَادَهَا، وعَدَمَ رُكُوبِ بَعْضِهَا بَعْضاً، وفي اسمِ ( البُحْتُرِ ) الأَمْرُ بالضِّدِّ.
وتَأَمَّلْ قَوْلَهُم: ((طَالَ الشيءُ فَهُوَ طَوِيلٌ، وكَبُرَ فَهُوَ كَبِيرٌ))، فإنْ زادَ طولُهُ قَالُوا: ((طُوَالاً وكُبَاراً))، فَأَتَوْا بالألفِ التي هيَ أكثرُ مَدًّا وأطولُ من الياءِ في المعنَى الأطولِ، فإنْ زادَ كِبَرُ الشيءِ وثِقَلُ موقعِهِ من النفوسِ ثَقَّلُوا اسْمَهُ فَقَالُوا " كُبَّاراً " بِشَدِّ الباءِ.
ولوْ أَطْلَقْنَا عِنَانَ القَلَمِ في ذلكَ لطالَ مداهُ، وَاسْتَعْصَى على الضبطِ، فَلْنَرْجِعْ إلى ما جَرَى الكلامُ بِسَبَبِهِ فنقولُ: المِيمُ حَرْفٌ شَفَهِيٌّ يَجْمَعُ الناطِقُ بهِ شَفَتَيْهِ، فَوَضَعَتْهُ العَرَبُ عَلَماً عَلَى الجَمْعِ، فقالُوا للوَاحِدِ: ((أَنْتَ)) فإذا جَاوَزَهُ إِلَى الجَمْعِ قالُوا: ((أَنْتُمْ))، وَقَالُوا للواحِدِ الغائبِ: ((هوَ)) . فإذا جَاوَزُوهُ إِلَى الجَمْعِ قالُوا: ((همْ))، وكذلكَ في المُتَّصِلِ يَقُولُونَ: ضَرَبْتَ، وَضَرَبْتُمْ، وَإِيَّاكَ، وَإِيَّاكُمْ، وَإِيَّاهُ، وَإِيَّاهُمْ، وَنَظَائِرُهُ نَحْوُ: بهِ وبِهِم، ويقولونَ للشيءِ الأزرقِ: أَزْرَقُ، فإذا اشْتَدَّتْ زُرْقَتُهُ وَاجْتَمَعَتْ وَاسْتَحْكَمَتْ قَالُوا: ( زُرْقُمٌ )، وَيَقُولُونَ للكبيرِ الاسْتِ ( سُتْهُمْ ).
وتَأَمَّل الألفاظَ التي فيها الميمُ كَيْفَ تَجدُ الجَمْعَ مَعْقُوداً بها:
- مثلَ: " لَمَّ الشَّيءَ يَلُمُّهُ " إِذَا جَمَعَهُ.
- ومنهُ: " لَمَّ اللهُ شَعَثَهُ " أيْ: جَمَعَ مَا تَفَرَّقَ مِنْ أُمُورِهِ.
- ومنهُ: قولُهُم: " دَارٌ لَمُومَةٌ " أيْ: تَلُمُّ الناسَ وَتَجْمَعُهُم
- ومنهُ: " الأكلُ اللَّمُّ " جَاءَ في تَفْسِيرِهَا يَأْكُلُ نَصِيبَهُ وَنَصِيبَ صَاحِبِهِ، وَأَصْلُهُ مِن "اللَّمِّ" وَهُوَ الجَمْعُ كما يُقَالُ: لَفَّهُ يَلُفُّهُ.
- ومنهُ: " أَلَمَّ بالشَّيْءِ " إذا قَارَبَ الاجْتِمَاعَ بِهِ والوصولَ بهِ.
- ومنهُ: " اللَّمَمُ " وهوَ مُقَارَبَةُ الاجْتِمَاعِ بالكبائرِ.
- ومنهُ: " اللَّمَّةُ " وهِيَ النازلةُ التي تُصِيبُ العبدَ.
- ومنهُ : " اللِّمَّةُ " وهي الشَّعْرُ الذي قَد اجْتَمَعَ وَتَقَلَّصَ حَتَّى جَاوَزَ شَحْمَةَ الأُذُنِ.
- وَمنهُ: " لَمَّ الشَّيْءَ " وَمَا تَصَرَّفْ مِنْهَا.
- ومنهُ: " بَدْرٌ الْتِّمِّ " إذا كَمُلَ وَاجْتَمَعَ نُورُهُ.
- ومنهُ: " التَّوْأَمُ " للوَلَدَيْنِ المُجْتَمِعَيْنِ فِي بَطْنٍ.
- ومنهُ: " الأمُّ "، وأمُّ الشَّيْءِ أَصْلُهُ الذي تَفَرَّعَ منهُ، فهوَ الجامعُ لهُ، وبهِ سُمِّيَتْ مَكَّةُ أُمَّ القُرَى، والفاتحةُ أمَّ القرآنِ، واللَّوْحُ المحفوظُ أمَّ الكِتَابِ؛ قالَ الجَوْهَرِيُّ: أمُّ الشيءِ أَصْلُهُ، وَمَكَّةُ أُمُّ القُرَى، وأمُّ مَثْوَاكَ: صَاحِبَةُ مَنْزِلِكَ، يَعْنِي: الَّتِي تَأْوِي إِلَيْهَا وَتَجْتَمِعُ مَعَهَا، وأمُّ الدِّماغِ الجلدةُ التي تَجْمَعُ الدماغَ، وَيُقَالُ لها: أمُّ الرأسِ، وقولُهُ تعالَى في الآياتِ المُحْكَمَاتِ: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [ آل عمران : 7 ].
- والأُمَّةُ الجماعةُ المُتَسَاوِيَةُ في الخِلْقةِ أو الزمانِ، قالَ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38]، وقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَوْلا أَنَّ الْكِلابَ أُمَّةٌ مِنَ الأُمَمِ لأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا)) ([10]) .
- ومنهُ: الإمامُ الذي يَجْتَمِعُ المُقْتَدُونَ بهِ على اتِّبَاعِهِ.
- ومنهُ: أَمَّ الشيءَ يَؤُمُّهُ إذا جَمَعَ قَصْدَهُ وَهَمَّهُ إِلَيْهِ.
- ومنهُ: " رَمَّ الشَّيْءَ يَرُمُّهُ " إِذَا أَصْلَحَهُ وَجَمَعَ مُتَفَرِّقَهُ.
- قِيلَ: وَمِنْهُ سُمِّيَ الرُّمَّانُ لاجْتِمَاعِ حَبِّهِ وَتَضَامِّهِ.
- وَمِنْهُ: " ضَمَّ الشَّيءَ يَضُمُّهُ " إذا جَمَعَهُ.
- ومنهُ: هَمُّ الإنسانِ وَهُمُومُهُ، وهِيَ إِرَادَتُهُ وَعَزَائِمُهُ التي تَجْتَمِعُ في قَلْبِهِ.
- ومِنْهُ": قَوْلُهُم للأَسْوَدِ: " أَحَمُّ " وَالفَحْمَةِ السَّوْدَاءِ " حُمَمَةٌ " و " حَمَّمَ رَأْسُهُ " إذا اسْوَدَّ بعدَ حَلْقِهِ كُلِّهِ؛ هذا لأنَّ السوادَ لَوْنٌ جامعٌ للبصرِ لا يَدَعُهُ يَتَفَرَّقُ. ولهذا يُجْعَلُ على عَيْنَي الضَّعِيفِ البصرِ لِوَجَعٍ أوْ غيرِهِ شيءٌ أَسْوَدُ منْ شعرٍ أوْ خِرْقَةٍ لِيَجْمَعَ عَلَيْهِ بَصَرَهُ فَتَقْوَى القُوَّةُ البَاصِرَةُ، وهذا بابٌ طويلٌ فَلْنَقْتَصِرْ مِنْهُ على هذا القدرِ.
وإذا عُلِمَ هذا منْ شأنِ الميمِ فَهُم أَلْحَقُوهَا في آخرِ هذا الاسمِ الذي يُسْأَلُ بهِ اللهُ سُبْحَانَهُ في كلِّ حاجةٍ وكلِّ حالٍ إِيذَاناً بِجَمِيعِ أسمائِهِ وصفاتِهِ.
فإذا قالَ السائلُ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ " كَأَنَّهُ قالَ: أَدْعُو اللهَ الذي لَهُ الأسماءُ الحسنَى والصِّفَاتُ العُلَى بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَأَتَى بالميمِ المُؤْذِنَةِ بالجمعِ في آخرِ هذا الاسمِ إِيذَاناً بسؤالِهِ تعالَى بِأَسْمَائِهِ كُلِّهَا، كما قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديثِ الصحيحِ: ((مَا أَصَابَ عَبْداً قَطُّ هَمٌّ وَلا حَزَنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلاءَ حَزَنِي، وَذَهَابَ هَمِّي وَغَمِّي إِلاَّ أَذْهَبَ اللهُ هَمَّهُ وَغَمَّهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحاً)).
قالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلا نَتَعَلَّمُهُنَّ؟ قَالَ: ((بَلَى, يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ)) ([11]).
فَالدَّاعِي مندوبٌ إلى أنْ يسألَ اللهَ تعالَى بأسمائِهِ وصفاتِهِ كما في الاسمِ الأعظمِ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الحَمْدَ، لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْحَنَّانُ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ)) ([12]).
وهذهِ الكلماتُ تَتَضَمَّنُ الأسماءَ الحُسْنَى كَمَا ذُكِرَ في غيرِ هذا الموضعِ.
والدعاءُ ثلاثةُ أقسامٍ:
أحدُهَا: أنْ تَسْأَلَ اللهَ تَعَالَى بأسمائِهِ وصفاتِهِ. وهذا أحدُ التَّأْوِيلَيْنِ فِي قولِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}[الأعراف: 180].
والثاني: أنْ تَسْأَلَهُ بِحَاجَتِكَ وَفَقْرِكَ، وَذُلِّكَ فتقولُ: أَنَا الْعَبْدُ الْفَقِيرُ الْمِسْكِينُ الْبَائِسُ الذَّلِيلُ الْمُسْتَجِيرُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
والثالثُ: أنْ تَسْأَلَ حَاجَتَكَ وَلا تَذْكُرَ وَاحِداً من الأَمْرَيْنِ.
فالأوَّلُ أكملُ من الثاني، والثاني أَكْمَلُ من الثالثِ؛ فإذا جَمَعَ الدعاءُ الأمورَ الثلاثةَ كانَ أَكْمَلَ، وهذهِ عامَّةُ أَدْعِيَةِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي الدعاءِ الذي عَلَّمَهُ صِدِّيقَ الأُمَّةِ([13]) ذَكَرَ الأقسامَ الثلاثةَ، فإنَّهُ قالَ في أوَّلِهِ: ((ظَلَمْتُ نَفْسِي كَثِيراً)) وهذا حالُ السائلِ، ثُمَّ قالَ: ((وَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ)) وهذا حالُ المسئولِ، ثُمَّ قالَ: ((فَاغْفِرْ لِي)) فَذَكَرَ حَاجَتَهُ، وَخَتَمَ الدُّعَاءَ بِاسْمَيْنِ مِن الأسماءِ الحُسْنَى تُنَاسِبُ المَطْلُوبَ وَتَقْتَضِيهِ.
وهذا القولُ الذي اخْتَرْنَاهُ قدْ جَاءَ عنْ غيرِ واحدٍ من السلفِ:
قال الحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: " اللَّهُمَّ: مَجْمَعُ الدعاءَ ".
وقالَ أبو رَجَاءٍ العُطَارِدِيُّ: إنَّ الميمَ في قولِهِ " اللَّهُمَّ " فيها تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسماً منْ أسماءِ اللهِ تَعَالَى.
وقالَ النَّضْرُ بنُ شُمَيْلٍ: " مَنْ قالَ: " اللَّهُمَّ " فقدْ دَعَا اللهَ بِجَمِيعِ أسمائِهِ".
وقدْ وَجَّهَ طائفةٌ هذا القولَ بأنَّ الميمَ هنا بِمَنْـزِلَةِ الواوِ الدالَّةِ على الجمعِ؛ فإنَّهَا مِنْ مَخْرَجِهَا، فكأنَّ الداعيَ بِهَا يَقُولُ: يا اللهُ الذي اجْتَمَعَتْ لهُ الأسماءُ الحسنى والصِّفَاتُ العُلْيَا، ولذلكَ شُدِّدَتْ لِتَكُونَ عِوَضاً عنْ علامةِ الجمعِ، وهيَ الواوُ والنونُ في " مسلمونَ " ونحوِهِ.
وعلى الطريقةِ التي ذَكَرْنَاهَا أَنَّ نفسَ الميمِ دالَّةٌ على الجمعِ لا يَحْتَاجُ إلى هذا.
يَبْقَى أنْ يُقَالَ: فَهَلاَّ جَمَعُوا بَيْنَ " يَا " وَبَيْنَ هذهِ الميمِ على المذهبِ الصحيحِ؟.
فالجوابُ: أنَّ القياسَ يَقْتَضِي عَدَمَ دخولِ حرفِ النداءِ على هذا الاسمِ لمكانِ الألفِ واللامِ منهُ، وإنَّمَا احْتَمَلُوا ذلكَ فيهِ لكثرةِ استعمالِهِم دُعَاءَهُ واضطرارِهِم إليهِ، واستغاثَتِهِم بهِ؛ فإمَّا أنْ يَحْذِفُوا الألفَ واللامَ منهُ، وذلكَ لا يَسُوغُ لِلُزُومِهِمَا لَهُ.
وإمَا أنْ يَتَوَصَّلُوا إليهِ بـ " أيٍّ " وذلكَ لا يَسُوغُ؛ لأنَّها لا يُتَوَصَّلُ بها إلاَّ إلى نداءِ اسمِ الجنسِ المُحَلَّى بالألفِ واللامِ، كالرجلِ، والرسولِ، والنبيِّ، وأمَّا في الأعلامِ فَلا.
فَخَالَفُوا قِيَاسَهُم في هذا الاسمِ لمكانِ الحاجةِ، فلمَّا أَدْخَلُوا الميمَ المُشَدَّدَةَ في آخرِهِ عِوَضاً عنْ جميعِ الاسمِ جَعَلُوهَا عِوَضاً عنْ حرفِ النداءِ،فلم يَجْمَعُوا بَيْنَهُمَا،واللهُ أعلمُ)([14]) ). [المرتبع الأسنى: ؟؟]


([1]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (1/32).
([2]) طَرِيقُ الهِجرتَيَنِ (45).
([3]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (1/56).
([4]) بَدَائِعُ الفوائدِ (1/22، 23).
([5]) بَدَائِعُ الفوائدِ (2/249).
([6]) (قِهْ) فِعْلُ دُعاءٍ مِن (وَقَى)، وكذلكَ (عِهْ) و (فِهْ) فعلُ أمرٍ من الفعلِ الماضِي (وَعَى) و (وَفَى).
([7]) رواهُ الطَّبَرانِيُّ في الأوسطِ (4/233) الحديثُ (3418) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنه، وليس فـيه قـولُه: "بِكَ المُستغاثُ وعَلَيْكَ التُّكْلانُ".
([8]) رواهُ التِّرْمِذِيُّ في كتابِ الدَّعَوَاتِ / بابُ (79) الحديثُ (3501) وأبو داودَ في كتـابِ الأدبِ / بابُ ما يقـولُ إذا أصبحَ (5068) والنَّسَائِيُّ في كتابِ عملِ اليومِ والليلةِ / بابُ ذكرِ ما كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ يقولُه إذا أصبحَ، من حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رضيَ اللهُ عنه، وفيه بَقِيَّةُ بنُ الوليدِ وقد عَنْعَنَ.
([9]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (23703) والبُخَارِيُّ في كتابِ الأذانِ / بابُ الدعاءِ في الركوعِ (794) ومسلمٌ في كتابِ الصلاةِ / بابُ ما يُقالُ في الركوعِ والسجودِ (1085) والنَّسَائِيُّ في كتابِ التطبيقِ / بابُ نوعٍ آخَرَ مِن الذِّكرِ في الركوعِ (1046) وأبو داودَ في كتابِ الصلاةِ / بابُ الدعاءِ في الركوعِ والسجودِ (870) وابْنُ مَاجَهْ في كتابِ إقامةِ الصلاةِ / بابُ التسبيحِ في الركوعِ والسجودِ (889).
([10]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (20039) وأبو داودَ في كتابِ الصيدِ / بابٌ في اتخاذِ الكَلْبِ للصَّيْدِ وغيرِهِ (2842) والتِّرْمِذِيُّ في كتابِ الصيدِ / بابُ ما جاءَ في قتلِ الكلابِ (1486) والنَّسَائِيُّ في كتابِ الصيدِ والذبائحِ / بابُ صِفةِ الكِلابِ التي أُمِرَ بقَتْلِهَا (4291) وابْنُ مَاجَهْ في كتابِ الصيدِ / بابُ النهيِ عن اقتناءِ الكَلْبِ إلا كَلْبَ صَيْدٍ أو حرثٍ أو ماشيةٍ (3205) كلُّهُم من حديثِ الحسنِ البَصْرِيِّ، عن عبدِ اللهِ بنِ مُغَفَّلٍ المُزَنِيِّ رضيَ اللهُ عنه مرفوعًا.
([11]) سَبَقَ تَخْرِيجُه صفحة 97.
([12]) سَبَقَ تَخْرِيجُه ص 110.
([13]) سَبَقَ تَخْرِيجُه ص 43.
([14]) جلاءُ الأفهامِ (68-76).


رد مع اقتباس