عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 6 صفر 1440هـ/16-10-2018م, 03:41 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {يس (1) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يس (1) والقرآن الحكيم (2) إنّك لمن المرسلين (3) على صراطٍ مستقيمٍ (4) تنزيل العزيز الرّحيم (5) لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم فهم غافلون (6) لقد حقّ القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون (7) }
قد تقدّم الكلام على الحروف المقطّعة في أوّل "سورة البقرة"، وروي عن ابن عبّاسٍ وعكرمة، والضّحّاك، والحسن وسفيان بن عيينة أنّ "يس" بمعنى: يا إنسان.
وقال سعيد بن جبيرٍ: هو كذلك في لغة الحبشة.
وقال مالكٌ، عن زيد بن أسلم: هو اسمٌ من أسماء اللّه تعالى). [تفسير ابن كثير: 6/ 563]

تفسير قوله تعالى: {وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) :({والقرآن الحكيم} أي: المحكم الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه). [تفسير ابن كثير: 6/ 563]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إنّك} يا محمّد {لمن المرسلين * على صراطٍ مستقيمٍ} أي: على منهجٍ ودينٍ قويمٍ، وشرعٍ مستقيمٍ). [تفسير ابن كثير: 6/ 563]

تفسير قوله تعالى: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({تنزيل العزيز الرّحيم} أي: هذا الصّراط والمنهج والدّين الّذي جئت به منزل من ربّ العزّة، الرّحيم بعباده المؤمنين، كما قال تعالى: {وإنّك لتهدي إلى صراطٍ مستقيمٍ * صراط اللّه الّذي له ما في السّموات وما في الأرض ألا إلى اللّه تصير الأمور} [الشّورى:52، 53]). [تفسير ابن كثير: 6/ 563]

تفسير قوله تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله تعالى: {لتنذر قومًا ما أنذر آباؤهم فهم غافلون} يعني بهم: العرب؛ فإنّه ما أتاهم من نذيرٍ من قبله. وذكرهم وحدهم لا ينفي من عداهم [كما زعمه بعض النّصارى]، كما أنّ ذكر بعض الأفراد لا ينفي العموم. وقد تقدّم ذكر الآيات والأحاديث المتواترة في عموم بعثته، صلوات اللّه وسلامه عليه، عند قوله تعالى: {قل يا أيّها النّاس إنّي رسول اللّه إليكم جميعًا} [الأعراف: 158]). [تفسير ابن كثير: 6/ 563]

تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (قوله: {لقد حقّ القول على أكثرهم}: قال ابن جريرٍ: لقد وجب العذاب على أكثرهم بأنّ [اللّه قد] حتّم عليهم في أمّ الكتاب أنّهم لا يؤمنون، {فهم لا يؤمنون} باللّه، ولا يصدّقون رسله). [تفسير ابن كثير: 6/ 563]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إنّا جعلنا في أعناقهم أغلالًا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون (8) وجعلنا من بين أيديهم سدًّا ومن خلفهم سدًّا فأغشيناهم فهم لا يبصرون (9) وسواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (10) إنّما تنذر من اتّبع الذّكر وخشي الرّحمن بالغيب فبشّره بمغفرةٍ وأجرٍ كريمٍ (11) إنّا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدّموا وآثارهم وكلّ شيءٍ أحصيناه في إمامٍ مبينٍ (12) }
يقول تعالى: إنّا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشّقاء نسبتهم إلى الوصول إلى الهدى كنسبة من جعل في عنقه غلٌّ، فجمع يديه مع عنقه تحت ذقنه، فارتفع رأسه، فصار مقمحا؛ ولهذا قال: {فهم مقمحون} والمقمح: هو الرّافع رأسه، كما قالت أمّ زرع في كلامها: "وأشرب فأتقمّح" أي: أشرب فأروى، وأرفع رأسي تهنيئًا وتروّيا. واكتفى بذكر الغلّ في العنق عن ذكر اليدين، وإن كانتا مرادتين، كما قال الشّاعر:
فما أدري إذا يمّمت أرضًا = أريد الخير أيّهما يليني...
أالخير الّذي أنا أبتغيه = أم الشّرّ الّذي لا يأتليني...
فاكتفى بذكر الخير عن ذكر الشّرّ لمّا دلّ السّياق والكلام عليه، وكذا هذا، لمّا كان الغلّ إنّما يعرف فيما جمع اليدين مع العنق، اكتفى بذكر العنق عن اليدين.
قال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ في قوله: {إنّا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون} قال: هو كقول اللّه تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك} [الإسراء:29] يعني بذلك: أنّ أيديهم موثقةٌ إلى أعناقهم، لا يستطيعون أن يبسطوها بخيرٍ.
وقال مجاهدٌ: {فهم مقمحون} قال: رافعو رؤوسهم، وأيديهم موضوعةٌ على أفواههم، فهم مغلولون عن كلّ خيرٍ). [تفسير ابن كثير: 6/ 563-564]

تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {وجعلنا من بين أيديهم سدًّا}: قال مجاهدٌ: عن الحقّ، {ومن خلفهم سدًّا} قال مجاهدٌ: عن الحقّ، فهم يتردّدون. وقال قتادة: في الضّلالات.
وقوله: {فأغشيناهم} أي: أغشينا أبصارهم عن الحقّ، {فهم لا يبصرون} أي: لا ينتفعون بخيرٍ ولا يهتدون إليه.
قال ابن جريرٍ: وروي عن ابن عبّاسٍ أنّه كان يقرأ: "فأعشيناهم" بالعين المهملة، من العشا وهو داءٌ في العين.
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم: جعل اللّه هذا السّدّ بينهم وبين الإسلام والإيمان، فهم لا يخلصون إليه، وقرأ: {إنّ الّذين حقّت عليهم كلمة ربّك لا يؤمنون ولو جاءتهم كلّ آيةٍ حتّى يروا العذاب الأليم} [يونس: 96، 97] ثمّ قال: من منعه اللّه لا يستطيع.
وقال عكرمة: قال أبو جهلٍ: لئن رأيت محمّدًا لأفعلنّ ولأفعلنّ، فأنزلت: {إنّا جعلنا في أعناقهم أغلالا} إلى قوله: {[فهم] لا يبصرون}، قال: وكانوا يقولون: هذا محمّدٌ. فيقول: أين هو أين هو؟ لا يبصره. رواه ابن جريرٍ.
وقال محمّد بن إسحاق: حدّثني يزيد بن زيادٍ، عن محمّد بن كعبٍ قال: قال أبو جهلٍ وهم جلوسٌ: إنّ محمّدًا يزعم أنّكم إن تابعتموه كنتم ملوكًا، فإذا متّم بعثتم بعد موتكم، وكانت لكم جنانٌ خيرٌ من جنان الأردن وأنّكم إن خالفتموه كان لكم منه ذبحٌ، ثمّ بعثتم بعد موتكم وكانت لكم نارٌ تعذّبون بها. وخرج [عليهم] رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عند ذلك، وفي يده حفنةٌ من ترابٍ، وقد أخذ اللّه على أعينهم دونه، فجعل يذرّها على رؤوسهم، ويقرأ: {يس * والقرآن الحكيم} حتّى انتهى إلى قوله: {وجعلنا من بين أيديهم سدًّا ومن خلفهم سدًّا فأغشيناهم فهم لا يبصرون}، وانطلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لحاجته، وباتوا رصداء على بابه، حتّى خرج عليهم بعد ذلك خارجٌ من الدّار، فقال: ما لكم؟ قالوا: ننتظر محمّدًا. قال قد خرج عليكم، فما بقي منكم من رجلٍ إلّا [قد] وضع على رأسه ترابًا، ثمّ ذهب لحاجته. فجعل كلّ رجلٍ منهم ينفض ما على رأسه من التّراب. قال: وقد بلغ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قول أبي جهلٍ فقال: "وأنا أقول ذلك: إنّ لهم منّي لذبحًا، وإنّه أحدهم"). [تفسير ابن كثير: 6/ 564-565]

تفسير قوله تعالى: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {وسواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} أي: قد ختم اللّه عليهم بالضّلالة، فما يفيد فيهم الإنذار ولا يتأثّرون به.
وقد تقدّم نظيرها في أوّل سورة البقرة، وكما قال تعالى: {إنّ الّذين حقّت عليهم كلمة ربّك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كلّ آيةٍ حتّى يروا العذاب الأليم} [يونس:96، 97]). [تفسير ابن كثير: 6/ 565]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إنّما تنذر من اتّبع الذّكر} أي: إنّما ينتفع بإنذارك المؤمنون الّذين يتّبعون الذّكر، وهو القرآن العظيم، {وخشي الرّحمن} أي: حيث لا يراه أحدٌ إلّا اللّه، يعلم أنّ اللّه مطّلعٌ عليه، وعالمٌ بما يفعله، {فبشّره بمغفرةٍ} أي: لذنوبه، {وأجرٍ كريمٍ} أي: كبيرٍ واسعٍ حسنٍ جميلٍ، كما قال: {إنّ الّذين يخشون ربّهم بالغيب لهم مغفرةٌ وأجرٌ كبيرٌ} [الملك: 12]). [تفسير ابن كثير: 6/ 565]

تفسير قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) :(ثمّ قال تعالى: {إنّا نحن نحيي الموتى} أي: يوم القيامة، وفيه إشارةٌ إلى أنّ اللّه تعالى يحيي قلب من يشاء من الكفّار الّذين قد ماتت قلوبهم بالضّلالة، فيهديهم بعد ذلك إلى الحقّ، كما قال تعالى بعد ذكر قسوة القلوب: {اعلموا أنّ اللّه يحيي الأرض بعد موتها قد بيّنّا لكم الآيات لعلّكم تعقلون} [الحديد: 17].
وقوله: {ونكتب ما قدّموا} أي: من الأعمال.
وفي قوله: {وآثارهم} قولان:
أحدهما: نكتب أعمالهم الّتي باشروها بأنفسهم، وآثارهم الّتي أثروها من بعدهم، فنجزيهم على ذلك أيضًا، إن خيرًا فخيرٌ، وإنّ شرًّا فشرٌّ، كقوله صلّى اللّه عليه وسلّم: "من سنّ في الإسلام سنّةً حسنةً، كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومن سنّ في الإسلام سنّةً سيّئةً، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئًا".
رواه مسلمٌ، من رواية شعبة، عن عون بن أبي جحيفة، عن المنذر بن جريرٍ، عن أبيه جرير بن عبد اللّه البجليّ، رضي اللّه عنه، وفيه قصّة مجتابي النّمّار المضريّين. ورواه ابن أبي حاتمٍ عن أبيه، عن يحيى بن سليمان الجعفيّ، عن أبي المحيّاة يحيى بن يعلى، عن عبد الملك بن عميرٍ، عن جرير بن عبد اللّه، فذكر الحديث بطوله، ثمّ تلا هذه الآية: {ونكتب ما قدّموا وآثارهم}.
وقد رواه مسلمٌ من رواية أبي عوانة، عن عبد الملك بن عميرٍ، عن المنذر بن جريرٍ، عن أبيه، فذكره.
وهكذا الحديث الآخر الّذي في صحيح مسلمٍ عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلّا من ثلاثٍ: من علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له، أو صدقةٍ جاريةٍ من بعده".
وقال سفيان الثّوريّ، عن أبي سعيدٍ قال: سمعت مجاهدًا يقول في قوله: {إنّا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدّموا وآثارهم} قال: ما أورثوا من الضّلالة.
وقال ابن لهيعة، عن عطاء بن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ في قوله: {ونكتب ما قدّموا وآثارهم} يعني: ما أثروا. يقول: ما سنّوا من سنّةٍ، فعمل بها قومٌ من بعد موتهم، فإن كان خيرًا فله مثل أجورهم، لا ينقص من أجر من عمله شيئًا، وإن كانت شرًّا فعليه مثل أوزارهم، ولا ينقص من أوزار من عمله شيئًا. ذكرهما ابن أبي حاتمٍ.
وهذا القول هو اختيار البغويّ.
والقول الثّاني: أنّ المراد بذلك آثار خطاهم إلى الطّاعة أو المعصية.
قال ابن أبي نجيح وغيره، عن مجاهدٍ: {ما قدّموا}: أعمالهم. {وآثارهم} قال: خطاهم بأرجلهم. وكذا قال الحسن وقتادة: {وآثارهم} يعني: خطاهم. قال قتادة: لو كان اللّه تعالى مغفلا شيئًا من شأنك يا بن آدم، أغفل ما تعفي الرّياح من هذه الآثار، ولكن أحصى على ابن آدم أثره وعمله كلّه، حتّى أحصى هذا الأثر فيما هو من طاعة اللّه أو من معصيته، فمن استطاع منكم أن يكتب أثره في طاعة اللّه، فليفعل.
وقد وردت في هذا المعنى أحاديث:
الحديث الأوّل: قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الصّمد، حدّثنا أبي، حدّثنا الجريري، عن أبي نضرة، عن جابر بن عبد اللّه قال: خلت البقاع حول المسجد، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال لهم: "إنّه بلغني أنّكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد". قالوا: نعم، يا رسول اللّه، قد أردنا ذلك. فقال: "يا بني سلمة، دياركم تكتب آثاركم، دياركم تكتب آثاركم".
وهكذا رواه مسلمٌ، من حديث سعيدٍ الجريريّ وكهمس بن الحسن، كلاهما عن أبي نضرة -واسمه: المنذر بن مالك بن قطعة العبدي-عن جابرٍ.
الحديث الثّاني: قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا محمّد بن الوزير الواسطيّ، حدّثنا إسحاق الأزرق، عن سفيان الثّوريّ، عن أبي سفيان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيدٍ الخدريّ قال: كانت بنو سلمة في ناحيةٍ من المدينة، فأرادوا أن ينتقلوا إلى قريبٍ من المسجد، فنزلت: {إنّا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدّموا وآثارهم} فقال لهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ آثاركم تكتب". فلم ينتقلوا.
انفرد بإخراجه التّرمذيّ عند تفسير هذه الآية الكريمة، عن محمّد بن الوزير، به. ثمّ قال: "حسنٌ غريبٌ من حديث الثّوريّ".
ورواه ابن جريرٍ، عن سليمان بن عمر بن خالدٍ الرّقيّ، عن ابن المبارك، عن سفيان الثّوريّ، عن طريفٍ -وهو ابن شهابٍ أبو سفيان السّعديّ-عن أبي نضرة، به.
وقد روي من غير طريق الثّوريّ، فقال الحافظ أبو بكرٍ البزّار:
حدّثنا عبّاد بن زيادٍ السّاجي، حدّثنا عثمان بن عمر، حدّثنا شعبة، عن سعيدٍ الجريري، عن أبي نضرة، عن أبي سعيدٍ قال: إنّ بني سلمة شكوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعد منازلهم من المسجد، فنزلت: {ونكتب ما قدّموا وآثارهم}، فأقاموا في مكانهم.
وحدّثنا ابن المثنّى، حدّثنا عبد الأعلى، حدّثنا الجريريّ، عن أبي نضرة، عن أبي سعيدٍ، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، بنحوه.
وفيه غرابةٌ من حيث ذكر نزول هذه الآية، والسّورة بكمالها مكّيّةٌ، فاللّه أعلم.
الحديث الثّالث: قال ابن جريرٍ:
حدّثنا نصر بن عليٍّ الجهضمي، حدّثنا أبو أحمد الزّبيريّ، حدّثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: كانت منازل الأنصار متباعدةً من المسجد، فأرادوا أن ينتقلوا إلى المسجد، فنزلت: {ونكتب ما قدّموا وآثارهم} فقالوا: نثبت مكاننا. هكذا رواه وليس فيه شيءٌ مرفوعٌ.
ورواه الطّبرانيّ عن عبد اللّه بن محمّد بن سعيد بن أبي مريم، عن محمّد بن يوسف الفريابيّ، عن إسرائيل، عن سماك، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: كانت الأنصار بعيدةً منازلهم من المسجد، فأرادوا أن يتحوّلوا إلى المسجد، فنزلت: {ونكتب ما قدّموا وآثارهم} فثبتوا في منازلهم.
الحديث الرّابع: قال الإمام أحمد: حدّثنا حسنٌ، حدّثنا ابن لهيعة، حدّثني حييّ بن عبد اللّه، عن أبي عبد الرّحمن الحبلي، عن عبد اللّه بن عمرٍو قال: توفّي رجلٌ بالمدينة، فصلّى عليه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وقال: "يا ليته مات في غير مولده". فقال رجلٌ من النّاس ولم يا رسول اللّه؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إنّ الرّجل إذا توفّي في غير مولده، قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنّة".
ورواه النّسائيّ عن يونس بن عبد الأعلى، وابن ماجه عن حرملة، كلاهما عن ابن وهبٍ، عن حييّ بن عبد اللّه، به.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن حميدٍ، حدّثنا أبو تميلة، حدّثنا الحسين، عن ثابتٍ قال: مشيت مع أنسٍ فأسرعت المشي، فأخذ بيدي فمشينا رويدًا، فلمّا قضينا الصّلاة قال أنسٌ: مشيت مع زيد بن ثابتٍ فأسرعت المشي، فقال: يا أنس، أما شعرت أنّ الآثار تكتب؟ أما شعرت أنّ الآثار تكتب؟.
وهذا القول لا تنافي بينه وبين الأوّل، بل في هذا تنبيهٌ ودلالةٌ على ذلك بطريق الأولى والأحرى، فإنّه إذا كانت هذه الآثار تكتب، فلأن تكتب تلك الّتي فيها قدوة بهم من خيرٍ أو شرٍّ بطريق الأولى، واللّه أعلم.
وقوله: {وكلّ شيءٍ أحصيناه في إمامٍ مبينٍ} أي: جميع الكائنات مكتوبٌ في كتابٍ مسطورٍ مضبوطٍ في لوحٍ محفوظٍ، والإمام المبين هاهنا هو أمّ الكتاب. قاله مجاهدٌ، وقتادة، وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، وكذا في قوله تعالى: {يوم ندعوا كلّ أناسٍ بإمامهم} [الإسراء: 71] أي: بكتاب أعمالهم الشّاهد عليهم بما عملوه من خيرٍ وشر، كما قال تعالى: {ووضع الكتاب وجيء بالنّبيّين والشّهداء} [الزّمر: 69]، وقال تعالى: {ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين ممّا فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرًا ولا يظلم ربّك أحدًا} [الكهف: 49] ). [تفسير ابن كثير: 6/ 565-568]

رد مع اقتباس