عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 3 صفر 1440هـ/13-10-2018م, 04:08 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {لقد كان لسبإٍ في مسكنهم آيةٌ جنّتان عن يمينٍ وشمالٍ كلوا من رزق ربّكم واشكروا له بلدةٌ طيّبةٌ وربٌّ غفورٌ (15) فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدّلناهم بجنّتيهم جنّتين ذواتي أكلٍ خمطٍ وأثلٍ وشيءٍ من سدرٍ قليلٍ (16) ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلّا الكفور (17) }
كانت سبأٌ ملوك اليمن وأهلها، وكانت التّبابعة منهم، وبلقيس -صاحبة سليمان-منهم، وكانوا في نعمةٍ وغبطةٍ في بلادهم، وعيشهم واتّساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم. وبعث اللّه إليهم الرّسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه، ويشكروه بتوحيده وعبادته، فكانوا كذلك ما شاء اللّه ثمّ أعرضوا عمّا أمروا به، فعوقبوا بإرسال السّيل والتّفرّق في البلاد أيدي سبأٍ، شذر مذر، كما يأتي تفصيله وبيانه قريبًا إن شاء اللّه تعالى وبه الثّقة.
قال الإمام أحمد، رحمه اللّه: حدّثنا أبو عبد الرّحمن، حدّثنا ابن لهيعة، عن عبد اللّه بن هبيرة، عن عبد الرّحمن بن وعلة قال: سمعت ابن عبّاسٍ يقول: أنّ رجلًا سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن سبأٍ: ما هو؟ رجلٌ أم امرأةٌ أم أرضٌ؟ قال: "بل هو رجلٌ، ولد عشرة، فسكن اليمن منهم ستّةٌ، وبالشّام منهم أربعةٌ، فأمّا اليمانيّون: فمذحج، وكندة، والأزد، والأشعريّون، وأنمارٌ، وحمير. وأمّا الشّاميّة فلخم، وجذام، وعاملة، وغسّان.
ورواه عبد، عن الحسن بن موسى، عن ابن لهيعة، به. وهذا إسنادٌ حسنٌ، ولم يخرّجوه، [وقد روي من طرقٍ متعدّدةٍ]. وقد رواه الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ في كتاب "القصد والأمم، بمعرفة أصول أنساب العرب والعجم"، من حديث ابن لهيعة، عن علقمة بن وعلة، عن ابن عبّاسٍ فذكر نحوه. وقد روي نحوه من وجهٍ آخر.
وقال [الإمام] أحمد أيضًا وعبد بن حميدٍ: حدّثنا يزيد بن هارون، حدّثنا أبو جناب يحيى بن أبي حيّة الكلبيّ، عن يحيى بن هانئ بن عروة، عن فروة بن مسيك قال: أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت: يا رسول اللّه، أقاتل بمقبل قومي مدبرهم؟ قال: "نعم، فقاتل بمقبل قومك مدبرهم". فلمّا ولّيت دعاني فقال: "لا تقاتلهم حتّى تدعوهم إلى الإسلام". فقلت: يا رسول اللّه، أرأيت سبأً؛ أوادٍ هو، أو رجلٌ، أو ما هو؟ قال: " [لا]، بل رجلٌ من العرب، ولد له عشرةٌ فتيامن ستّةٌ وتشاءم أربعةٌ، تيامن الأزد، والأشعريّون، وحمير، وكندة، ومذحج، وأنمار الّذين يقال لهم: بجيلة وخثعم. وتشاءم لخمٌ، وجذامٌ، وعاملة، وغسّان".
وهذا أيضًا إسنادٌ جيّدٌ وإن كان فيه أبو جناب الكلبيّ، وقد تكلّموا فيه. لكن رواه ابن جريرٍ عن أبي كريب، عن العنقزي، عن أسباط بن نصرٍ، عن يحيى بن هانئٍ المراديّ، عن عمّه أو عن أبيه -يشكّ أسباطٌ-قال: قدم فروة بن مسيك على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فذكره.
طريقٌ أخرى لهذا الحديث: قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا ابن وهبٍ، حدّثني ابن لهيعة، عن توبة بن نمر، عن عبد العزيز بن يحيى أنّه أخبره قال: كنا عند عبيدة بن عبد الرّحمن بأفريقيّة فقال يومًا: ما أظنّ قومًا بأرضٍ إلّا وهم من أهلها. فقال عليّ بن رباحٍ: كلّا قد حدّثني فلانٌ أنّ فروة بن مسيك الغطيفي قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فقال: يا رسول اللّه، إنّ سبأً قومٌ كان لهم عزٌّ في الجاهليّة، وإنّي أخشى أن يرتدّوا عن الإسلام، أفأقاتلهم؟ فقال: "ما أمرت فيهم بشيءٍ بعد". فأنزلت هذه الآية: {لقد كان لسبإٍ في مسكنهم آيةٌ} الآيات، فقال له رجلٌ: يا رسول اللّه، ما سبأٌ؟ فذكر مثل هذا الحديث الّذي قبله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن سبأٍ: ما هو؟ أبلدٌ، أم رجلٌ، أم امرأةٌ؟ قال: "بل رجلٌ، ولد له عشرة فسكن اليمن منهم ستّةٌ، والشّام أربعةٌ، أمّا اليمانيّون: فمذحج، وكندة، والأزد، والأشعريّون، وأنمار، وحمير غير ما حلّها. وأمّا الشّام: فلخم، وجذام، وغسّان، وعاملة".
فيه غرابةٌ من حيث ذكر [نزول] الآية بالمدينة، والسّورة مكّيّةٌ كلّها، واللّه أعلم.
طريقٌ أخرى: قال ابن جريرٍ: حدّثنا أبو كريب، حدّثنا أبو أسامة، حدّثني الحسن بن الحكم، حدّثنا أبو سبرة النّخعي، عن فروة بن مسيك الغطيفي قال: قال رجلٌ: يا رسول اللّه، أخبرني عن سبأٍ: ما هو؟ أرضٌ، أم امرأةٌ؟ قال: "ليس بأرضٍ ولا امرأةٍ، ولكنّه رجلٌ ولد له عشرةٌ من الولد، فتيامن ستّةٌ وتشاءم أربعةٌ، فأمّا الّذين تشاءموا: فلخمٌ وجذامٌ وعاملة وغسّان، وأمّا الّذين تيامنوا: فكندة، والأشعريّون، والأزد، ومذحج، وحمير، وأنمار". فقال رجلٌ: ما أنمار؟ قال: "الّذين منهم خثعم وبجيلة".
ورواه التّرمذيّ في جامعه، عن أبي كريب وعبد بن حميدٍ قالا حدّثنا أبو أسامة، فذكره أبسط من هذا، ثمّ قال: هذا حديثٌ حسنٌ غريبٌ.
وقال أبو عمر بن عبد البرّ: حدّثنا عبد الوارث بن سفيان، حدّثنا قاسم بن أصبغ، حدّثنا أحمد بن زهيرٍ، حدّثنا عبد الوهّاب بن نجدة الحوطيّ، حدّثنا ابن كثيرٍ -هو عثمان بن كثيرٍ-عن اللّيث بن سعدٍ، عن موسى بن عليٍّ، عن يزيد بن حصينٍ، عن تميمٍ الدّاريّ؛ أنّ رجلًا أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فسأله عن سبأٍ، فذكر مثله، فقوي هذا الحديث وحسّن.
قال علماء النّسب، منهم محمّد بن إسحاق: اسم سبأٍ: عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
وإنّما سمّي سبأً لأنّه أوّل من سبأ في العرب، وكان يقال له: الرّائش؛ لأنّه أوّل من غنم في الغزو فأعطى قومه، فسمّي الرّائش، والعرب تسمّي المال: ريشًا ورياشًا. وذكروا أنّه بشّر برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في زمانه المتقدّم، وقال في ذلك شعرًا:
سيملك بعدنا ملكًا عظيمًا = نبيّ لا يرخّص في الحرام...
ويملك بعده منهم ملوك = يدينوه العباد بغير ذامٍ...
ويملك بعدهم منّا ملوك = يصير الملك فينا باقتسام...
ويملك بعد قحطان نبي = تقي خبتة خير الأنام...
وسمي أحمدًا يا ليت أنّي = أعمّر بعد مبعثه بعامٍ...
فأعضده وأحبوه بنصري = بكل مدجّج وبكل رامٍ...
متى يظهر فكونوا ناصريه = ومن يلقاه يبلغه سلامي...
ذكر ذلك الهمدانيّ في كتاب "الإكليل".
واختلفوا في قحطان على ثلاثة أقوالٍ:
أحدها: أنّه من سلالة إرم بن سام بن نوحٍ، واختلفوا في كيفيّة اتّصال نسبه به على ثلاث طرائق.
والثّاني: أنّه من سلالة عابر، وهو هودٌ، عليه الصّلاة والسّلام، واختلفوا في كيفيّة اتّصال نسبه به على ثلاث طرائق أيضًا.
والثّالث: أنّه من سلالة إسماعيل بن إبراهيم الخليل، عليهما السّلام، واختلفوا في كيفيّة اتّصال نسبه به على ثلاث طرائق أيضًا. وقد ذكر ذلك مستقصًى الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ النّمري، رحمه اللّه، في كتابه [المسمّى]: "الإنباه على ذكر أصول القبائل الرّواة".
ومعنى قوله عليه السّلام: "كان رجلًا من العرب" يعني: العرب العاربة الّذين كانوا قبل الخليل، عليه السّلام، من سلالة سام بن نوحٍ. وعلى القول الثّالث: كان من سلالة الخليل، عليه السّلام، وليس هذا بالمشهور عندهم، واللّه أعلم. ولكن في صحيح البخاريّ: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم مرّ بنفرٍ من "أسلم" ينتضلون، فقال: "ارموا بني إسماعيل، فإنّ أباكم كان راميًا". فأسلم قبيلةٌ من الأنصار، والأنصار أوسها وخزرجها من غسّان من عرب اليمن من سبأٍ، نزلوا بيثرب لمّا تفرّقت سبأٌ في البلاد، حين بعث اللّه عليهم سيل العرم، ونزلت طائفةٌ منهم بالشّام، وإنّما قيل لهم: غسّان بماءٍ نزلوا عليه قيل: باليمن. وقيل: إنّه قريبٌ من المشلّل، كما قال حسّان بن ثابتٍ:
إمّا سألت فإنّا معشرٌ نجبٌ = الأزد نسبتنا، والماء غسّان
ومعنى قوله: "ولد له عشرةٌ من العرب" أي: كان من نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع إليهم أصول القبائل من عرب اليمن، لا أنّهم ولدوا من صلبه، بل منهم من بينه وبينه الأبوان والثّلاثة والأقلّ والأكثر، كما هو مقرّرٌ مبينٌ في مواضعه من كتب النّسب.
ومعنى قوله: "فتيامن منهم ستّةٌ، وتشاءم منهم أربعةٌ" أي: بعد ما أرسل اللّه عليهم سيل العرم، منهم من أقام ببلادهم، ومنهم من نزح عنها إلى غيرها، وكان من أمر السّدّ أنّه كان الماء يأتيهم من بين جبلين وتجتمع إليه أيضًا سيول أمطارهم وأوديتهم، فعمد ملوكهم الأقادم، فبنوا بينهما سدًا عظيمًا محكمًا حتّى ارتفع الماء، وحكم على حافات ذينك الجبلين، فغرسوا الأشجار واستغلّوا الثّمار في غاية ما يكون من الكثرة والحسن، كما ذكر غير واحدٍ من السّلف، منهم قتادة: أنّ المرأة كانت تمشي تحت الأشجار وعلى رأسها مكتلٌ أو زنبيلٌ، وهو الّذي تخترف فيه الثّمار، فيتساقط من الأشجار في ذلك ما يملؤه من غير أنّ يحتاج إلى كلفةٍ ولا قطّاف، لكثرته ونضجه واستوائه، وكان هذا السّدّ بمأرب: بلدةٌ بينها وبين صنعاء ثلاث مراحل، ويعرف بسدّ مأرب.
وذكر آخرون أنّه لم يكن ببلدهم شيءٌ من الذّباب ولا البعوض ولا البراغيث، ولا شيءٌ من الهوامّ، وذلك لاعتدال الهواء وصحّة المزاج وعناية اللّه بهم، ليوحّدوه ويعبدوه، كما قال تعالى: {لقد كان لسبإٍ في مسكنهم آيةٌ}، ثمّ فسّرها بقوله: {جنّتان عن يمينٍ وشمالٍ} أي: من ناحيتي الجبلين والبلدة بين ذلك، {كلوا من رزق ربّكم واشكروا له بلدةٌ طيّبةٌ وربٌّ غفورٌ} أي: غفورٌ لكم إن استمررتم على التّوحيد). [تفسير ابن كثير: 6/ 503-507]

تفسير قوله تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {فأعرضوا} أي: عن توحيد اللّه وعبادته وشكره على ما أنعم به عليهم، وعدلوا إلى عبادة الشّمس، كما قال هدهد سليمان: {وجئتك من سبإٍ بنبإٍ يقينٍ. إنّي وجدت امرأةً تملكهم وأوتيت من كلّ شيءٍ ولها عرشٌ عظيمٌ. وجدتها وقومها يسجدون للشّمس من دون اللّه وزيّن لهم الشّيطان أعمالهم فصدّهم عن السّبيل فهم لا يهتدون} [النّمل: 22، 24].
وقال محمّد بن إسحاق، عن وهب بن منبّه: بعث اللّه إليهم ثلاثة عشر نبيًّا.
وقال السّدّي: أرسل اللّه إليهم اثني عشر ألف نبيٍّ، واللّه أعلم.
وقوله: {فأرسلنا عليهم سيل العرم}: قيل: المراد بالعرم المياه. وقيل: الوادي. وقيل: الجرذ. وقيل: الماء الغزير. فيكون من باب إضافة الاسم إلى صفته، مثل: "مسجد الجامع". و"سعيد كرز" حكى ذلك السّهيليّ.
وذكر غير واحدٍ منهم ابن عبّاسٍ، ووهب بن منبّهٍ، وقتادة، والضّحّاك؛ أنّ اللّه، عزّ وجلّ، لمّا أراد عقوبتهم بإرسال العرم عليهم، بعث على السّدّ دابّةً من الأرض، يقال لها: "الجرذ" نقبته -قال وهب بن منبّهٍ: وقد كانوا يجدون في كتبهم أنّ سبب خراب هذا السّدّ هو الجرذ فكانوا يرصدون عنده السّنانير برهةً من الزّمان، فلمّا جاء القدر غلبت الفأر السّنانير، وولجت إلى السّدّ فنقبته، فانهار عليهم.
وقال قتادة وغيره: الجرذ: هو الخلد، نقبت أسافله حتّى إذا ضعف ووهى، وجاءت أيّام السّيول، صدم الماء البناء فسقط، فانساب الماء في أسفل الوادي، وخرّب ما بين يديه من الأبنية والأشجار وغير ذلك، ونضب الماء عن الأشجار الّتي في الجبلين عن يمينٍ وشمالٍ، فيبست وتحطّمت، وتبدّلت تلك الأشجار المثمرة الأنيقة النّضرة، كما قال اللّه وتعالى: {وبدّلناهم بجنّتيهم جنّتين ذواتي أكلٍ خمطٍ}.
قال ابن عبّاسٍ، ومجاهدٌ، وعكرمة، وعطاءٌ الخراساني، والحسن، وقتادة، والسّدّي: وهو الأراك، وأكلة البرير.
{وأثل}: قال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: هو الطّرفاء.
وقال غيره: هو شجرٌ يشبه الطّرفاء. وقيل: هو السّمر. فاللّه أعلم.
وقوله: {وشيءٍ من سدرٍ قليلٍ}: لمّا كان أجود هذه الأشجار المبدل بها هو السّدر قال: {وشيءٍ من سدرٍ قليلٍ}، فهذا الّذي صار أمر تينك الجنّتين إليه، بعد الثّمار النّضيجة والمناظر الحسنة، والظّلال العميقة والأنهار الجارية، تبدّلت إلى شجر الأراك والطّرفاء والسّدر ذي الشّوك الكثير والثّمر القليل. وذلك بسبب كفرهم وشركهم باللّه، وتكذيبهم الحقّ وعدولهم عنه إلى الباطل؛ ولهذا قال: {ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور} أي: عاقبناهم بكفرهم.
قال مجاهدٌ: ولا يعاقب إلّا الكفور.
وقال الحسن البصريّ: صدق اللّه العظيم. لا يعاقب بمثل فعله إلّا الكفور. وقال طاوسٌ: لا يناقش إلّا الكفور.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عليّ بن الحسين، حدّثنا أبو عمر بن النّحّاس الرّمليّ، حدّثنا حجّاج بن محمّدٍ، حدّثنا أبو البيداء، عن هشام بن صالحٍ التّغلبيّ، عن ابن خيرة -وكان من أصحاب عليٍّ، رضي اللّه عنه-قال: جزاء المعصية الوهن في العبادة، والضّيق في المعيشة، والتّعسّر في اللّذّة. قيل: وما التّعسّر في اللّذّة؟ قال: لا يصادف لذّةً حلالًا إلّا جاءه من ينغّصه إيّاها). [تفسير ابن كثير: 6/ 507-508]

تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ (18) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {وجعلنا بينهم وبين القرى الّتي باركنا فيها قرًى ظاهرةً وقدّرنا فيها السّير سيروا فيها ليالي وأيّامًا آمنين (18) فقالوا ربّنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزّقناهم كلّ ممزّقٍ إنّ في ذلك لآياتٍ لكلّ صبّارٍ شكورٍ (19) }
يذكر تعالى ما كانوا فيه من الغبطة والنّعمة، والعيش الهنيّ الرّغيد، والبلاد الرّخيّة، والأماكن الآمنة، والقرى المتواصلة المتقاربة، بعضها من بعضٍ، مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها، بحيث إنّ مسافرهم لا يحتاج إلى حمل زادٍ ولا ماءٍ، بل حيث نزل وجد ماءً وثمرًا، ويقيل في قريةٍ ويبيت في أخرى، بمقدار ما يحتاجون إليه في سيرهم؛ ولهذا قال تعالى: {وجعلنا بينهم وبين القرى الّتي باركنا فيها}، قال وهب بن منبّهٍ: هي قرًى بصنعاء. وكذا قال أبو مالكٍ.
وقال مجاهدٌ، والحسن، وسعيد بن جبيرٍ، ومالكٌ عن زيد بن أسلم، وقتادة، والضّحّاك، والسّدّي، وابن زيدٍ وغيرهم: يعني: قرى الشّام. يعنون أنّهم كانوا يسيرون من اليمن إلى الشّام في قرًى ظاهرةٍ متواصلةٍ.
وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: القرى الّتي باركنا فيها: بيت المقدس.
وقال العوفيّ، عنه أيضًا: هي قرًى عربيّةٌ بين المدينة والشّام.
{قرًى ظاهرةً} أي: بيّنةً واضحةً، يعرفها المسافرون، يقيلون في واحدةٍ، ويبيتون في أخرى؛ ولهذا قال: {وقدّرنا فيها السّير} أي: جعلناها بحسب ما يحتاج المسافرون إليه، {سيروا فيها ليالي وأيّامًا آمنين} أي: الأمن حاصلٌ لهم في سيرهم ليلًا ونهارًا). [تفسير ابن كثير: 6/ 508-509]

تفسير قوله تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({فقالوا ربّنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم}، وقرأ آخرون: "بعّد بين أسفارنا "، وذلك أنّهم بطروا هذه النّعمة -كما قاله ابن عبّاسٍ، ومجاهدٌ، والحسن، وغير واحدٍ- وأحبّوا مفاوز ومهامه يحتاجون في قطعها إلى الزّاد والرّواحل والسّير في الحرور والمخاوف، كما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يخرج اللّه لهم ممّا تنبت الأرض، من بقلها وقثّائها وفومها وعدسها وبصلها، مع أنّهم كانوا في عيشٍ رغيدٍ في منّ وسلوى وما يشتهون من مآكل ومشارب وملابس مرتفعةٍ؛ ولهذا قال لهم: {أتستبدلون الّذي هو أدنى بالّذي هو خيرٌ اهبطوا مصرًا فإنّ لكم ما سألتم وضربت عليهم الذّلّة والمسكنة وباءوا بغضبٍ من اللّه} [البقرة: 61]، وقال تعالى: {وكم أهلكنا من قريةٍ بطرت معيشتها} [القصص: 58]، وقال تعالى: {وضرب اللّه مثلا قريةً كانت آمنةً مطمئنّةً يأتيها رزقها رغدًا من كلّ مكانٍ فكفرت بأنعم اللّه فأذاقها اللّه لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون} [النّحل: 112]. وقال في حقّ هؤلاء: {وظلموا أنفسهم} أي: بكفرهم، {فجعلناهم أحاديث ومزّقناهم كلّ ممزّقٍ} أي: جعلناهم حديثًا للنّاس، وسمرًا يتحدّثون به من خبرهم، وكيف مكر اللّه بهم، وفرّق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء تفرّقوا في البلاد هاهنا وهاهنا؛ ولهذا تقول العرب في القوم إذا تفرّقوا: "تفرّقوا أيدي سبأٍ" "وأيادي سبأٍ" و "تفرّقوا شذر مذر".
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو سعيدٍ بن يحيى بن سعيدٍ القطّان، حدّثنا إبراهيم بن حبيب بن الشّهيد، سمعت أبي يقول: سمعت عكرمة يحدّث بحديث أهل سبأٍ، قال: {لقد كان لسبإٍ في مسكنهم آيةٌ جنّتان [عن يمينٍ وشمالٍ]} إلى قوله: {فأرسلنا عليهم سيل العرم} وكانت فيهم كهنةٌ، وكانت الشّياطين يسترقون السّمع، فأخبروا الكهنة بشيءٍ من أخبار السّماء، فكان فيهم رجلٌ كاهنٌ شريفٌ كثير المال، وإنّه خبّر أنّ زوال أمرهم قد دنا، وأنّ العذاب قد أظلّهم. فلم يدر كيف يصنع؛ لأنّه كان له مالٌ كثيرٌ من عقارٍ، فقال لرجلٍ من بنيه -وهو أعزّهم أخوالًا-: إذا كان غدًا وأمرتك بأمرٍ فلا تفعل، فإذا انتهرتك فانتهرني، فإذا تناولتك فالطمني. فقال: يا أبت، لا تفعل، إنّ هذا أمرٌ عظيمٌ، وأمرٌ شديدٌ، قال: يا بنيّ، قد حدث أمرٌ لا بدّ منه. فلم يزل به حتّى وافاه على ذلك. فلمّا أصبحوا واجتمع النّاس، قال: يا بنيّ، افعل كذا وكذا. فأبى، فانتهره أبوه، فأجابه، فلم يزل ذلك بينهما حتّى تناوله أبوه، فوثب على أبيه فلطمه، فقال: ابني يلطمني؟ عليّ بالشّفرة. قالوا: وما تصنع بالشّفرة؟ قال: أذبحه. قالوا: تذبح ابنك. الطمه أو اصنع ما بدا لك. قال: فأبى، قال: فأرسلوا إلى أخواله فأعلموهم ذلك، فجاء أخواله فقالوا: خذ منّا ما بدا لك. فأبى إلّا أن يذبحه. قالوا: فلتموتنّ قبل أن تذبحه. قال: فإذا كان الحديث هكذا فإنّي لا أرى أن أقيم ببلدٍ يحال بيني وبين ولدي فيه، اشتروا منّي دوري، اشتروا منّي أرضي، فلم يزل حتّى باع دوره وأرضيه وعقاره، فلمّا صار الثّمن في يده وأحرزه، قال: أي قوم، إنّ العذاب قد أظلّكم، وزوال أمركم قد دنا، فمن أراد منكم دارًا جديدًا، وجملًا شديدًا، وسفرًا بعيدًا، فليلحق بعمّان. ومن أراد منكم الخمر والخمير والعصير -وكلمةً، قال إبراهيم: لم أحفظها-فليلحق ببصرى، ومن أراد الرّاسخات في الوحل، المطعمات في المحل، المقيمات في الضّحل، فليلحق بيثرب ذات نخلٍ. فأطاعه قومه فخرج أهل عمان إلى عمان. وخرجت غسّان إلى بصرى. وخرجت الأوس والخزرج وبنو عثمان إلى يثرب ذات النّخل. قال: فأتوا على بطن مرٍّ فقال بنو عثمان: هذا مكانٌ صالحٌ، لا نبغي به بدلًا. فأقاموا به، فسمّوا لذلك خزاعة، لأنّهم انخزعوا من أصحابهم، واستقامت الأوس والخزرج حتّى نزلوا المدينة، وتوجّه أهل عمان إلى عمان، وتوجّهت غسّان إلى بصرى.
هذا أثرٌ غريبٌ عجيبٌ، وهذا الكاهن هو عمرو بن عامرٍ أحد رؤساء اليمن وكبراء سبأٍ وكهّانهم.
وقد ذكر محمّد بن إسحاق بن يسارٍ في أوّل السّيرة ما كان من أمر عمرو بن عامرٍ الّذي كان أوّل من خرج من بلاد اليمن، بسبب استشعاره بإرسال العرم فقال: وكان سبب خروج عمرو بن عامرٍ من اليمن -فيما حدّثني أبو زيدٍ الأنصاريّ-: أنّه رأى جرذًا يحفر في سدّ مأرب، الّذي كان يحبس عنهم الماء فيصرفونه حيث شاؤوا من أرضهم. فعلم أنّه لا بقاء للسّدّ على ذلك، فاعتزم على النّقلة عن اليمن فكاد قومه، فأمر أصغر أولاده إذا أغلظ له ولطمه أن يقوم إليه فيلطمه، ففعل ابنه ما أمره به، فقال عمرٌو: لا أقيم ببلدٍ لطم وجهي فيها أصغر ولدي. وعرض أمواله، فقال أشرافٌ من أشراف اليمن: اغتنموا غضبة عمرٍو. فاشتروا منه أمواله، وانتقل هو في ولده وولد ولده. وقالت الأزد: لا نتخلّف عن عمرو بن عامرٍ. فباعوا أموالهم، وخرجوا معه فساروا حتّى نزلوا بلاد "عكّ" مجتازين يرتادون البلدان، فحاربتهم عكّ، وكانت حربهم سجالا. ففي ذلك يقول عبّاس بن مرداس السّلميّ:
وعك بن عدنان الذين تغلّبوا = بغسّان، حتّى طرّدوا كلّ مطرد...
وهذا البيت من قصيدةٍ له.
قال: ثمّ ارتحلوا عنهم فتفرّقوا في البلاد، فنزل آل جفنة بن عمرو بن عامرٍ الشّام، ونزلت الأوس والخزرج يثرب، ونزلت خزاعة مرّا. ونزلت أزد السّراة السّراة، ونزلت أزد عمان عمان، ثمّ أرسل اللّه على السّدّ السّيل فهدمه، وفي ذلك أنزل اللّه عزّ وجلّ هذه الآيات.
وقد ذكر السّدّيّ قصّة عمرو بن عامرٍ بنحوٍ ممّا ذكر محمّد بن إسحاق، إلّا أنّه قال: "فأمر ابن أخيه"، مكان "ابنه"، إلى قوله: "فباع ماله وارتحل بأهله، فتفرّقوا". رواه ابن أبي حاتمٍ.
وقال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن حميدٍ، أخبرنا [سلمة]، عن ابن إسحاق قال: يزعمون أنّ عمرو بن عامرٍ -وهو عمّ القوم-كان كاهنًا، فرأى في كهانته أنّ قومه سيمزّقون ويباعد بين أسفارهم. فقال لهم: إنّي قد علمت أنّكم ستمزّقون، فمن كان منكم ذا همٍّ بعيدٍ وجملٍ شديدٍ، ومزاد جديد -فليلحق بكاسٍ أو كرود. قال: فكانت وادعة بن عمرٍو. ومن كان منكم ذا همّ مدن، وأمرٍ دعن، فليلحق بأرض شن. فكانت عوف بن عمرٍو، وهم الّذين يقال لهم: بارق. ومن كان منكم يريد عيشًا آنيًا، وحرمًا آمنًا، فليلحق بالأرزين. فكانت خزاعة. ومن كان منكم يريد الرّاسيات في الوحل، المطعمات في المحل، فليلحق بيثرب ذات النّخل. فكانت الأوس والخزرج، وهما هذان الحيّان من الأنصار. ومن كان منكم يريد خمرًا وخميرا، وذهبًا وحريرًا، وملكًا وتأميرًا، فليلحق بكوثي وبصرى، فكانت غسان بنو جفنة ملوك الشّام. ومن كان منهم بالعراق. قال ابن إسحاق: وقد سمعت بعض أهل العلم يقول: إنّما قالت هذه المقالة طريفة امرأة عمرو بن عامرٍ، وكانت كاهنةً، فرأت في كهانتها ذلك، فاللّه أعلم أيّ ذلك كان.
وقال سعيدٌ، عن قتادة، عن الشّعبيّ: أمّا غسّان فلحقوا بالشّام، وأمّا الأنصار فلحقوا بيثرب، وأمّا خزاعة فلحقوا بتهامة، وأمّا الأزد فلحقوا بعمان، فمزّقهم اللّه كلّ ممزّقٍ. رواه ابن أبي حاتمٍ وابن جريرٍ.
ثمّ قال محمّد بن إسحاق: حدّثني أبو عبيدة قال: قال الأعشى -أعشى بني قيس بن ثعلبة-واسمه: ميمون بن قيس:
وفي ذاك للمؤتسي أسوةٌ = ومأرب عفّى عليها العرم...
رخام بنته لهم حمير = إذا جاء مواره لم يرم...
فأروى الزّروع وأعنابها = على سعة ماؤهم إذ قسم...
فصاروا أيادي ما يقدرو = ن منه على شرب طفل فطم
وقوله تعالى: {إنّ في ذلك لآياتٍ لكلّ صبّارٍ شكورٍ} أي: إنّ في هذا الّذي حلّ بهؤلاء من النّقمة والعذاب، وتبديل النّعمة وتحويل العافية، عقوبة على ما ارتكبوه من الكفر والآثام -لعبرةً ودلالةً لكلّ عبدٍ صبّارٍ على المصائب، شكورٍ على النّعم.
قال الإمام أحمد: حدّثنا عبد الرّحمن وعبد الرّزّاق المعنيّ، قالا أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن العيزار بن حريث عن عمر بن سعدٍ، عن أبيه -هو سعد بن أبي وقّاصٍ، رضي اللّه عنه-قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "عجبت من قضاء اللّه تعالى للمؤمن، إن أصابه خيرٌ حمد ربّه وشكر، وإن أصابته مصيبةٌ حمد ربّه وصبر، يؤجر المؤمن في كلّ شيءٍ، حتّى في اللّقمة يرفعها إلى في امرأته".
وقد رواه النّسائيّ في "اليوم واللّيلة"، من حديث أبي إسحاق السّبيعي، به -وهو حديثٌ عزيزٌ-من رواية عمر بن سعدٍ، عن أبيه. ولكن له شاهدٌ في الصّحيحين من حديث أبي هريرة: "عجبًا للمؤمن لا يقضي اللّه له قضاءً إلّا كان خيرًا، إن أصابته سرّاء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاء صبر فكان خيرًا له. وليس ذلك لأحدٍ إلّا للمؤمن".
قال عبدٌ: حدّثنا يونس، عن شيبان، عن قتادة {إنّ في ذلك لآياتٍ لكلّ صبّارٍ شكورٍ} قال: كان مطرّفٌ يقول: نعم العبد الصّبّار الشّكور، الّذي إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر). [تفسير ابن كثير: 6/ 509-512]

رد مع اقتباس