عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 3 صفر 1440هـ/13-10-2018م, 03:16 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور * فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل * ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور}
هذا مثل لقريش بقوم أنعم الله عليهم وأرسل إليهم الرسل فكفروا وأعرضوا فانتقم الله منهم، أي: فأنتم أيها القوم مثلهم. وسبإ: هنا أراد به القبيل، واختلف، لم سمي القبيل بذلك؟ فقالت فرقة: هو اسم امرأة كانت أم القبيل، وقال الحسن بن أبي الحسن في كتاب الرماني: هو اسم موضع، فسمي القبيل به، وقال الجمهور: هو اسم رجل كان هو أبا للقبيل كلهم، قيل: هو ابن يشجب بن يعرب، وروي في هذا القول حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله فروة بن مسيك عن سبإ، ما هو؟ فقال: "هو اسم رجل منه تناسلت قبائل اليمن".
وقرأ نافع، وعاصم، وأبو جعفر وشيبة، والأعرج: "لسبإ" بهمزة منونة مكسورة، على معنى الحي، وقرأ أبو عمرو، والحسن: "لسبأ" بهمزة مفتوحة غير مصروف، على معنى القبيلة.
وقرأ جمهور القراء: "مساكنهم"; لأن كل أحد له مسكن، وقرأ الكسائي وحده: "في مسكنهم" بكسر الكاف، أي: في موضع سكناهم، وهي قراءة الأعمش، وعلقمة، قال أبو علي: والفتح حسن أيضا، لكن هذا كما قالوا: "مسجد"، وإن كان سيبويه يرى هذا اسم البيت، وليس موضع السجود، قال: هي لغة الناس اليوم، والفتح هي لغة الحجاز، وهي اليوم قليلة، وقرأ حمزة، وحفص: "مسكنهم" بفتح الكاف، على المصدر، وهو اسم جنس يراد به الجمع، وهي قراءة إبراهيم النخعي، وهذا الإفراد هو كما قال الشاعر:
كلوا في بعض بطنكم تخفوا
وكما قال الآخر:
قد عض أعناقهم جلد الجواميس
و"آية" معناها: عبرة وعلامة على فضل الله وقدرته، و"جنتان" ابتداء، وخبره في قوله سبحانه: {عن يمين وشمال}، أو خبر ابتداء تقديره: هي جنتان، وهي جملة بمعنى: هذه حالهم، والبدل من "آية" ضعيف، وقد قاله مكي وغيره، وقرأ ابن أبي عبلة: ["آية جنتين"] بالنصب، وروي أنه كان في ناحية اليمن واد عظيم بين جبلين، وكانت حقتا الوادي عند أول الجبلين جسر عظيم من حجارة من الجبل فارتدع الماء فيه وصار بحيرة عظيمة، وأخذ الماء من جنبتيها فمشى مرتفعا يسقي جنات جنبتي الوادي، قيل: بنته بلقيس، وقيل: بناه حمير أبو القبائل اليمنية كلها، وكانوا بهذه الحال في أرغد نعم، وكانت لهم بعد ذلك قرى ظاهرة متصلة من اليمن إلى الشام، وكانوا أرباب تلك البلاد في ذلك الزمان.
وقوله تعالى: ["كلوا"] فيه حذف، كأنه قال: قيل لهم: كلوا، و["طيبة"] معناه: كريمة التربة، حسنة الهواء، رغدة من النعم، سليمة من الهوام والمضار، هذه عبارات المفسرين، وكان ذلك الوادي - فيما روي عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه - لا يدخله برغوث ولا قملة ولا بعوضة ولا عقرب ولا شيء من الحيوان الضار، وإذا جاء به أحد من سفر سقط عند أول الوادي، وروي أن الماشي بمكتل فوق رأسه بين أشجاره كان يمتلئ مكتله دون أن يمد يدا، وروي أن هذه المقالة من الأمر بالأكل والشرب والتوقيف على طيب البلد والغفران من الرب مع الإيمان هي من قول الأنبياء لهم. وقرأ رويس عن يعقوب: ["بلدة طيبة وربا غفورا"] بالنصب في الكل، وبعث إليهم - فيما روي - ثلاثة عشر نبيا فكفروا بهم وأعرضوا، فبعث الله تعالى على ذلك السد جرادا أعمى توالد فيه وخرقه شيئا بعد شيء، وأرسل سيلا في ذلك الوادي فحمل ذلك السد، فيروى أنه كان من العظم وكثرة الماء بحيث ملأ ما بين الجبلين، وحمل الجنات وكثيرا من الناس ممن لم يمكنه الفرار، ويروى أنه لما خرق السد كان ذلك سبب يبس الجنات فهلكت بهذا الوجه، وروي أنه صرف الماء من موضعه الذي كان فيه أولا فتعطل سقي الجنات.
واختلف الناس في لفظة ["العرم"]، فقال المغيرة بن حكيم، وأبو ميسرة: العرم في لغة اليمن جمع عرمة، وهو كل ما بني أو سنم ليمسك الماء، ويقال ذلك بلغة أهل الحجاز: المسناة. كأنها الجسور والسداد ونحوها، ومن هذا المعنى قول الأعشى:
وفي ذلك للمؤتسي أسوة ... ومأرب عض عليها العرم
رخام بناه لهم حمير ... إذا جاء مواره لم يرم
ومنه قول الآخر:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ ... يبنون من دون سيلها العرما
وقال ابن عباس، وقتادة، والضحاك: اسم وادي ذلك الماء بعينه الذي كان السد يبنى له، وقال ابن عباس رضي الله عنهما أيضا: إن سيل ذلك الوادي أبدا كان يصل إلى مكة وينتفع به، وقال ابن عباس: العرم: الشديد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وكأنه صفة للسيل، من العرامة، والإضافة إلى الصفة مبالغة، وهي كثير في كلام العرب.
وقالت فرقة: العرم: اسم الجرذ، وهذا ضعيف. وقيل: العرم: صفة للمطر الشديد الذي كان عند ذلك السيل.
وقوله تعالى: {وبدلناهم بجنتيهم جنتين} قول فيه تجوز واستعارة; وذلك أن البدل من الخمط والأثل لم يكن جنات، لكن هذا كما تقول لمن جرد ثوبا جيدا وضرب ظهره: "هذا الضرب ثوب صالح لك"، ونحو هذا. وقوله: "ذواتي" تثنية "ذات". و"الخمط": شجر الأراك، قاله ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، وقيل: "الخمط" كل شجر له شوك وثمرته كريهة الطعم بمرارة، أو حمصة، أو نحوه، ومنه: تخمط اللبن: إذا تغير طعمه. و"الأثل" ضرب من الطرفاء، هذا هو الصحيح، وكذا قال أبو حنيفة في كتاب النبات، قال الطبري: وقيل: هو شجر شبيه بالطرفاء، وقيل: إنه السمر. و"السدر" معروف، وله نبق شبيه العناب، لكنه دونه في الطعم بكثير. و"للخمط" ثمر غث هو البرير، و"للأثل" ثمر قليل الغناء غير حسن الطعم.
وقرأ ابن كثير، ونافع: "أكل" بضم الهمزة وسكون الكاف. وقرأ الباقون بضم الهمزة وضم الكاف، وروي أيضا عن أبي عمرو سكون الكاف، وهما بمعنى الجنى والثمرة، ومنه قوله تعالى: {تؤتي أكلها} أي: جناها. وقرأ جمهور القراء بتنوين "أكل" وصفته "خمط" وما بعده، قال أبو علي: البدل هذا لا يحسن; لأن "الخمط" ليس بالأكل، و"الأكل" ليس بالخمط نفسه، والصفة أيضا كذلك; لأن الخمط اسم لا صفة، وأحسن ما فيه عطف البيان، كأنه بين أن "الأكل" هذه الشجرة ومنها، ويحسن قراءة الجمهور أن هذا الاسم قد جاء مجيء الصفة في قول الهذلي:
عقار كماء النيء ليست بخمطة ... ولا خلة يكوي الشروب شهابها
وقرأ أبو عمرو بإضافة "أكل" إلى "خمط" وبضم الكاف، أي: "أكل خمط"، ورجح أبو علي القراءة أبو علي). [المحرر الوجيز: 7/ 172-177]

تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ): (وقوله تعالى: "ذلك" إشارة إلى ما أجراه عليهم، وقوله: {وهل نجازي}، أي: يناقش ويعارض بمثل فعله، قدرا بقدر; لأن جزاء المؤمن إنما هو بتفضل وتضعيف، وأما الذي لا يزاد ولا ينقص فهو الكفور، قاله الحسن بن أبي الحسن، وقال طاوس: هي المناقشة، وكذلك إن كان المؤمن ذا ذنوب فقد يغفر له ولا يجازى، والكافر يجازى ولا بد، وقد قال عليه الصلاة والسلام: "من نوقش الحساب عذب"، وقرأ جمهور القراء: "يجازى" بالياء وفتح الزاي، وقرأ حمزة، والكسائي: "نجازي" بالنون وكسر الزاي "الكفور" بالنصب، وقرأ مسلم بن جندب: "وهل يجزى"، وحكى عنه أبو عمرو الداني أنه قرأ "يجزي" بضم الياء وكسر الزاي. قال الزجاج: يقال: جزيت في الخير، وجازيت في الشر. فترجح هذه قراءة الجمهور).[المحرر الوجيز: 7/ 177-178]

تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ (18) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين * فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور}
هذه الآية وما بعدها وصف لحالهم قبل مجيء السيل، وهي أن الله تبارك وتعالى - مع ما كان منهم - منحهم من الجنتين والنعمة الخاصة بهم، كان قد أصلح لهم البلاد المتصلة بهم وعمرها، وجعلهم أربابها، وقدر فيها السير بأن قرب القرى بعضها من بعض، حتى كان المسافر من مأرب إلى الشام ليبيت في قرية ويقيل في قرية، أخرى، فلا يحتاج إلى حمل زاد، و"القرى": المدن، ويقال للجمع الصغير قرية أيضا، وكلها من: قريت، أي جمعت، والقرى التي بورك فيها هي قرى الشام بإجماع من المفسرين، والقرى الظاهرة هي التي بين الشام ومأرب، وهي الصغار التي هي البوادي. قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي قرى عربية بين المدينة والشام، وقاله الضحاك، واختلف في معنى "ظاهرة"، فقالت فرقة: معناه: مستعلية مرتفعة في الإكام والظراب، وهي أشرف القرى، وقالت فرقة: يظهر بعضها من بعض، فهي أبدا في قبضة عين المسافر، لا يخلو من رؤية شيء منها بهذا الوجه. والذي يظهر لي أن معنى "ظاهرة": خارجة عن المدن، فهي عبارة عن القرى الصغار التي هي في ظواهر المدن، فإنما فصل بهذه الصفة بين القرى الصغار وبين القرى المطلقة التي هي المدن; لأن ظواهر المدن ما خرج عنها في الفيافي والفحوص، ومنه قولهم: نزلنا بظاهر فلانة، أي: خارجا عنها. وقوله: "ظاهرة" نظير تسمية الناس إياها البادية والضاحية، ومن هذا قول الشاعر:
فلو شهدتني من قريش عصابة ... قريش البطاح لا قريش الظواهر
يعني الخارجين عن بطحاء مكة، وفي حديث الاستسقاء: "وجاء أهل الضواحي يشتكون: الغرق الغرق".
وقوله تعالى: {وقدرنا فيها السير}، هو ما ذكرناه من أن المسافر فيها كان يبيت في قرية ويقيل في أخرى على أي طريق سلك، لا يعوزه ذلك. وقوله تعالى: {سيروا فيها} معناه: قلنا لهم. و[آمنين] معناه: من الخوف من الناس المفسدين، وآمنين من الجوع والعطش وآفات المسافر). [المحرر الوجيز: 7/ 178-179]

تفسير قوله تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) }
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (ثم حكى عنهم مقالة قالوها على جهة البطر والأشر، وهي طلب البعد بين الأسفار، والإخبار بأنها بعيدة على القراءات الأخرى، وذلك أن نافعا، وعاصما، وحمزة، والكسائي قرؤوا: "باعد بين أسفارنا" بكسر العين على معنى الطلب أيضا، فهاتان معناهما الأشر بأنهم ملوا النعمة بالقرب، وطلبوا استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير. وفي كتاب الرماني أنهم قالوا: لو كان جني ثمارنا أبعد لكان أشهر وأكثر قيمة، وقرأ ابن السميفع، وسفيان بن حسين، وسعيد بن أبي الحسن - أخو الحسن - وابن الحنفية: "ربنا" بالنصب "بعد بين أسفارنا" بفتح الباء وضم العين، ونصب "بين" أيضا. وقرأ سعيد بن أبي الحسن - من هذه الفرقة -: "بين" بالرفع وإضافته إلى الأسفار، وقرأ ابن عباس، وأبو رجاء، والحسن البصري، وابن الحنفية: أيضا "ربنا" بالرفع "باعد" بفتح العين والدال، وقرأ ابن عباس، وابن الحنفية أيضا، وعمرو بن فايد، ويحيى بن يعمر: "ربنا" بالرفع "بعد" بفتح العين وشدها وفتح الدال. فهذه القراءة معناها الإخبار بأنهم استبعدوا القريب، ورأوا أن ذلك غير مقنع لهم، حتى كأنهم أرادوها متصلة بالدور، وفي هذا تعسف وتسخط على أقدار الله تعالى وإرادته، وقلة شكر على نعمته، بل هي مقابلة النعمة بالتشكي. وفي هذا المعنى ونحوه مما اقترن بكفرهم ظلموا أنفسهم ففرقهم الله تعالى، وخرب بلادهم، وجعلهم أحاديث، ومنه المثل السائر: "تفرقوا أيادي سبأ"، و"أيدي سبأ" ويقال المثل بالوجهين، وهذا هو تمزقهم كل ممزق، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن سبأ أبو عشر قبائل"، فلما جاء السيل على مأرب وهو اسم بلدهم تيامن منهم ستة قبائل، أي: إذ تبددت في بلاد اليمن، وتشاءمت منها أربعة، فالمتيامنة كندة والأزد وأشعر ومذحج وأنمار التي منها بجيلة وخثعم، وطائفة قيل لها: حمير، بقي عليها اسم الأب الأول، والتي تشاءمت لخم وجذام وغسان وخزاعة، نزلت تهامة، ومن هذه المتشائمة أولاد قيلة، وهم الأوس والخزرج، ومنها عاملة وغير ذلك.
ثم أخبر تعالى محمدا عليه الصلاة والسلام وأمته - على جهة التنبيه - أن هذه القصص فيها آيات وعبر لكل مؤمن على الكمال، ومن اتصف بالصبر والشكر فهو المؤمن الذي لا تنقصه خلة جميلة بوجه). [المحرر الوجيز: 7/ 179-180]

رد مع اقتباس