عرض مشاركة واحدة
  #42  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:39 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (145) إلى الآية (148) ]

{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)}


قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)}

قوله تعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)}

قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)}

قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (مولّيها... (148).
قرأ ابن عامر وحده: (هو مولّاها). وقرأ الباقون: (هو مولّيها).
من قرأ: (هو مولّيها) فمعناه: مستقبلها، كأنه قال: هو موليها وجهه.
وقال أحمد بن يحيى: التولية ها هنا: إقبال.
وقال الزجاج: قال قوم:
[معاني القراءات وعللها: 1/181]
هو موليها: إن الله يولي أهل كل ملة القبلة التي يريد.
قال: ومن قرأ: (هو مولّاها) فالمعنى: لكل إنسان قبلة ولّاه الله إياها، وهي قراءة ابن عباس وأبي جعفر محمد بن علي، والقراءتان جيدتان، وموليها أكثر وأفصح). [معاني القراءات وعللها: 1/182]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في فتح اللام وكسرها من قوله جل وعز: هو مولّيها [البقرة/ 148].
فقرأ ابن عامر وحده: هو مولاها بفتح اللام.
وقرأ الباقون بكسر اللام.
قال أبو علي: قال تعالى: فلنولّينّك قبلةً ترضاها [البقرة/ 144] يقال: ولّيتك القبلة إذا صيّرتك تستقبلها
[الحجة للقراء السبعة: 2/230]
بوجهك. وليس هذا المعنى في فعلت منه، ألا ترى أنك إذا قلت: وليت الحائط، ووليت الدار، لم يكن في فعلت منه دلالة على أنك واجهته. كما أن في قولك: ولّيتك القبلة، وولّيتك المسجد الحرام دلالة على أن المراد واجهته، ففعّلت في هذه الكلمة ليس بمنقول من فعلت الذي هو وليت، فيكون على حدّ قولك: فرح وفرّحته، ولكنّ هذا المعنى الذي هو المواجهة عارض في فعّلت، ولم يكن في فعلت. وإذا كان كذلك كان فيه دلالة على أن النقل لم يكن من فعلت، كما كان قولهم: ألقيت متاعك بعضه على بعض، لم يكن النقل فيه من لقي متاعك بعضه بعضاً، ولكنّ ألقيت كقولك:
أسقطت، ولو كان منه زاد مفعول آخر في الكلام، ولم يحتج في تعديته إلى المفعول إلى حرف الجر وإلحاقه المفعول الثاني في قولك: ألقيت بعض متاعك على بعض، كما لم يحتج إليه في:
ضرب زيد عمراً، وأضربته إياه، ونحو ذلك، فكذلك: ولّيتك قبلة، من قولك: وليت كألقيت، من قولك: لقيت وقال تعالى: فلنولّينّك قبلةً ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام [البقرة/ 144].
فهذا على المواجهة له، ولا يجوز على غير المواجهة مع العلم أو غلبة الظن التي تنزّل منزلة العلم في تحري القبلة، وقد جاءت هذه الكلمة مستعملة على خلاف المقابلة والمواجهة وذلك في نحو قوله جل وعز: ثمّ تولّيتم إلّا قليلًا منكم وأنتم معرضون [البقرة/ 83]
[الحجة للقراء السبعة: 2/231]
، ثمّ تولّيتم من بعد ذلك فلولا فضل اللّه عليكم ورحمته [البقرة/ 64]. عبس وتولّى أن جاءه الأعمى [عبس/ 1] أي: أعرض عنه، وقال تعالى:
وتولّى عنهم وقال: يا أسفى على يوسف [يوسف/ 84] فأعرض عن من تولّى عن ذكرنا [النجم/ 29] فهذا مع دخول الزيادة الفعل وفي غير الزيادة قوله: ثمّ ولّيتم مدبرين [التوبة/ 25] والحال مؤكّدة لأن في وليتم دلالة على أنهم مدبرون، فهذا على نحوين: أما ما لحق التاء أوله، فإنه يجوز أن يكون من باب: تحوّب وتأثّم إذا ترك الحوب والإثم، وكذلك إذا ترك الجهة التي هي المقابلة، ويجوز أن تكون الكلمة استعملت على الشيء وعلى خلافه، كالحروف المروية في الأضداد. فأما قوله تعالى: وإن يقاتلوكم يولّوكم الأدبار [آل عمران/ 111] وقوله: ولئن نصروهم ليولّنّ الأدبار ثمّ لا ينصرون [الحشر/ 12] وقوله: سيهزم الجمع ويولّون الدّبر [القمر/ 45] فهذا منقول من فعل، تقول: داري تلي داره، ووليت داري داره، وإذا نقلته إلى فعّل قلت: وليت مآخيره، وولّاني مآخيره، ووليت ميامنه. وولّاني ميامنه، فهو مثل: فرح وفرّحته،
وليس مثل: لقي وألقيته، وقوله تعالى: ليولّنّ الأدبار [الحشر/ 12] ويولّون الدّبر [القمر/ 45] المفعول الثاني الزائد في نقل «فعل» إلى «فعّل» محذوف فيه، ولو لم يحذف كان كقوله: يولّوكم الأدبار [آل عمران/ 111]
[الحجة للقراء السبعة: 2/232]
وقوله تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعضٍ [التوبة/ 71] المعنى فيه: أن بعضهم يوالي بعضاً، ولا يبرأ بعضهم من بعض، كما يبرءون ممن خالفهم وشاقّهم، ولكنهم يد واحدة في النصرة والموالاة، فهم أهل كلمة واحدة لا يفترقون فرقة مباينة ومشاقّة، ومن ثمّ قالوا في خلاف الولاية:
العداوة، ألا ترى أنّ العداوة من عدا الشيء: إذا جاوزه فمن ثمّ كانت خلاف الولاية.
فأمّا قوله عزّ وجلّ وإن تلووا أو تعرضوا [النساء/ 135] فيمن قرأ تلووا فمعناه والله أعلم: الإقبال عليهنّ والمقاربة لهنّ في العدل في قسمهنّ، ألا ترى أنه قد عودل بالإعراض في قوله تعالى: أو تعرضوا فكأنّ قوله تعالى: (إن تلوا) كقوله: إن أقبلتم عليهنّ، ولم تعرضوا عنهنّ.
فإن قلت: فهل يجوز أن يكون في تلووا دلالة على المواجهة فتجعل قوله: فلنولّينّك منقولًا من هذا، فمن ثمّ اقتضى المواجهة، وتستدلّ على ذلك بمعادلته لخلافه الذي هو الإعراض؟
فالقول: إن ذلك في هذه الكلمة ليس بالظاهر، ولا في الكلمة دلالة على هذه المخصوصة التي جاءت في قوله:
فلنولّينّك قبلةً ترضاها [البقرة/ 144] وإذا لم تكن عليها دلالة، لم تصرفها عن الموضع الذي جاءت فيه، فلم تنفذها إلى سواها.
[الحجة للقراء السبعة: 2/233]
فأما قوله عز وجل: أولى لك فأولى [القيامة/ 34] فقد كتبناه في «كتاب الشعر» وقوله: يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللّه ورسوله ولا تولّوا عنه وأنتم تسمعون [الأنفال/ 20] فالضمير في عنه إذا جعلته للرسول، احتمل أمرين: لا تولّوا عنه:
لا تنفضّوا عنه كما قال تعالى: انفضّوا إليها وتركوك قائماً [الجمعة/ 11] وقال سبحانه: وإذا كانوا معه على أمرٍ جامعٍ لم يذهبوا حتّى يستأذنوه [النور/ 62] وقال عز اسمه: قد يعلم اللّه الّذين يتسلّلون منكم لواذاً [النور/ 63] وعلى هذا المعنى قوله تعالى: بعد أن تولّوا مدبرين [الأنبياء/ 57] أي: بعد أن تتفرقوا عنها. ويكون:
لا تولّوا عنه لا تعرضوا عن أمره: وتلقّوه بالطاعة والقبول، كما قال: فليحذر الّذين يخالفون عن أمره [النور/ 63] وزعموا أن بعضهم قرأ: ولا تولّوا عنه واللفظتان تكونان بمعنى واحد، قال تعالى: ولّى مدبراً ولم يعقّب [القصص/ 31] وقال: ثمّ ولّيتم مدبرين [التوبة/ 25] وقال: فأعرض عن من تولّى عن ذكرنا [النجم/ 29] وقال فتولّوا عنه مدبرين [الصافات/ 90]. وقوله: واللّه وليّ المؤمنين [آل عمران/ 68] أي ناصرهم، ومثله في أنّ المعنى فيه النّصرة قوله: فإنّ اللّه هو مولاه [التحريم/ 4] أي ناصره. وكذلك قوله: ذلك بأنّ اللّه مولى الّذين آمنوا، وأنّ الكافرين لا مولى لهم [محمد/ 11]
[الحجة للقراء السبعة: 2/234]
أي: لا ناصر لهم؛ ومعنى المولى من النّصرة؛ من ولي عليه: إذا اتصل به ولم ينفصل عنه. وعلى هذا قوله تعالى: إنّ اللّه معنا [التوبة/ 40] أي: ناصرنا، وكذلك قوله: فاذهبا
بآياتنا إنّا معكم
[الشعراء/ 15] في موضع آخر إنّني معكما [طه/ 46] وعلى هذا المعنى قولهم:
صحبك الله.
وروينا عن ابن سلّام عن يونس قال: المولى: له في كلام العرب مواضع منها: المولى من الدّين، وهو الوليّ، وذلك قوله: ذلك بأنّ اللّه مولى الّذين آمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم [محمد/ 11] أي: لا وليّ. ومنه قوله: فإنّ اللّه هو مولاه [التحريم/ 4]، ومنه
قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «من كنت مولاه فعليّ مولاه»
أي: وليّه.
وقوله: «مزينة وجهينة وأسلم وغفار موالي الله ورسوله»
قال العجّاج:
الحمد لله الذي أعطى الظّفر موالي الحقّ إن المولى شكر أي: أولياء الحقّ.
[الحجة للقراء السبعة: 2/235]
ومنها العصبة، وبنو العمّ هم الموالي، قال تعالى: وإنّي خفت الموالي من ورائي [مريم/ 5] أي العصبة. وقال الزّبرقان:
ومن الموالي موليان فمنهما... معطي الجزيل وباذل النّصر
ومن الموالي ضبّ جندلة... لحز المروءة
ظاهر الغمر الغمر: العداوة.
وقال آخر:
ومولى كداء البطن لو كان قادراً... على الدّهر أفنى الدّهر أهلي وماليا
وقال آخر:
ومولى قد رعيت الغيب منه... ولو كنت المغيّب ما رعاني
وقال اللهبيّ الفضل بن عباس لبني أمية:
مهلا بني عمّنا مهلًا موالينا... امشوا رويدا كما كنتم تكونونا
الله يعلم أنا لا نحبّكم... ولا نلومكم أن لا تحبّونا
[الحجة للقراء السبعة: 2/236]
وكان الزّبرقان بن بدر تكثّر في مواليه وبني عمّه فقال رجل من بني تميم:
ومولى كمولى الزبرقان ادّملته... كما ادّمل العظم المهيض من الكسر
ومن انضمّ إليك فعزّ بعزّك، وامتنع بمنعتك أو بعتق، وبهذا سمّي المعتقون: موالي. قال الراعي:
جزى الله مولانا غنياً ملامة... شرار موالي عامر في العزائم
نبيع غنيّاً رغبة عن دمائها... بأموالها بيع البكار المقاحم
البكار: الصغيرة، والمقاحم: التي لم تقو على العمل.
وغنيّ: حلفاء بني عامر، قال الأخطل لجرير:
أتشتم قوماً أثّلوك بنهشل... ولولاهم كنتم كعكل مواليا
وعكل من الرّباب حلفاء بني سعد.
وقال الفرزدق لعبد الله بن أبي إسحاق النحوي، وكان
[الحجة للقراء السبعة: 2/237]
مولى لحضرمي، وبنو الحضرميّ حلفاء بني عبد شمس بن عبد مناف:
فلو كان عبد الله مولى هجوته... ولكنّ عبد الله مولى مواليا
الإعراب:
قوله عزّ وجلّ: ولكلٍّ وجهةٌ هو مولّيها [البقرة/ 148] موضع الجملة رفع لكونها وصفاً للوجهة، فمن قرأ: هو مولّيها؛ فالضمير الذي هو هو لاسم الله تعالى، تقديره: ولكلّ وجهة، الله مولّيها. ومعنى توليته لهم إياها: إنما هو أمرهم بالتوجّه نحوها في صلاتهم إليها، يدلّك على ذلك قوله تعالى: فلنولّينّك قبلةً ترضاها [البقرة/ 144]، فكما أنّ فاعل، نولّينّك الله عزّ وجلّ، فكذلك الابتداء في قوله: هو مولّيها ضمير اسم الله تعالى، والتقدير: الله مولّيها إياه، ف «إياه» المراد المحذوف ضمير المولّى، وحذف المفعول الثاني لجري ذكره المظهر وهو كلّ في قوله: ولكلٍّ وجهةٌ فإذا قرئ: ولكل وجهة هو مولاها فالضمير لكلٍّ وقد جرى ذكره في قوله: ولكلٍّ وجهةٌ، وفي القراءة الأخرى لم يجر الذّكر، ولكن عليه دلالة، وقد استوفى الاسم الجاري على الفعل المبني للمفعول مفعوليه اللذين يقتضيهما، أحدهما:
[الحجة للقراء السبعة: 2/238]
الضمير المرفوع في مولّى، والآخر: ضمير المؤنّث، وهو الذي هو ضمير كلّ ابتداء وخبره مولّاها. ولو قرأ قارئ: ولكل وجهة هو مولاها فجعل هو ضمير ناس، أو قبيل، أو فريق، أو نحو ذلك فأضمر العلم به، كما أضمر اسم الله سبحانه، فيمن قرأ:
هو مولّيها لكان ذلك على ضربين: إن جعل الهاء لكلٍّ فأنّث كلا على المعنى، لأنّه في المعنى للوجهة كما قال:
وكلٌّ أتوه داخرين [النمل/ 87] فجمع على المعنى؛ فإنّ ذلك لا يجوز، لأن اسم المفعول قد استوفى مفعوليه اللذين يقتضيهما. فلا يكون حينئذ لكلٍّ وجهةٌ متعلّق، فبقيت اللام لا عامل فيها، وإن جعل الهاء في مولاها كناية عن المصدر الذي هو التولية؛ جاز، لأن الجارّ حينئذ يتعلق باسم المفعول الذي هو (مولي) كأنه قال: الفريق أو القبيل مولّى لكلّ وجهة تولية، واللام على هذا زيادة كزيادتها في:
ردف لكم [النمل/ 72] ونحوه.
وقد قلنا في هذه المسألة بعبارة أخرى في وقت آخر:
قوله جلّ وعزّ: ولكلٍّ وجهةٌ هو مولّيها هو: ضمير اسم الله سبحانه، فإذا كان كذلك فقد حذف من الكلام أحد مفعولي الفعل الذي يتعدّى إلى مفعولين في قوله عزّ وجلّ:
فلنولّينّك قبلةً ترضاها. التقدير: الله مولّيها إياه، وإيّاه ضمير كلّ الموجّه المولّى، وتولية الله إيّاه، إنّما هو بأمره له بالتوجّه إليها.
[الحجة للقراء السبعة: 2/239]
وقراءة ابن عامر مولاها تدلّك على ما ذكرنا من إرادة مفعول محذوف من الكلام، ألا ترى أنّه لما بنى الفعل للمفعول به، فحذف الفاعل أسند الفعل إلى أحد المفعولين، وأضاف اسم الفاعل إلى المفعول الآخر وهو ضمير المؤنث العائد إلى الوجهة، فقوله: هو على قراءته ضمير كلّ، أي كل ولّي جهة، وهذه التولية بأمر الله سبحانه إياهم بتوجّههم إليها، وقراءته في المعنى تؤول إلى قراءة من قرأ: هو مولّيها.
ألا ترى أنّ في مولّيها ضمير اسم الله عزّ وجلّ، فإذا أسند الفعل إلى المفعول به، وبناه له، ففاعل التولية هو الله تعالى كما كانت في القراءة الأخرى كذلك.
وقد قرئ فيما ذكر أبو الحسن: ولكلٍّ وجهةٌ هو مولّيها. فضمير المؤنث في قوله: مولّيها يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون ضمير المصدر الذي هو التولية، وجاز إضمارها لدلالة الفعل عليها، كما جاز إضمار البخل في قوله تعالى: ولا يحسبنّ الّذين يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله هو خيراً لهم [آل عمران/ 180] أي: البخل. ويكون هو ضمير اسم الله تعالى. فيكون المعنى: الله مولّ لكلّ وجهة تولية، فأوصل الفعل باللام كما تقول: لزيد ضربت وإن كنتم للرّءيا تعبرون [يوسف/ 43].
والآخر: أن لا تجعل الهاء ضميراً للتولية، ولكن ضميراً لوجهة، فإذا جعلته كذلك لم يستقم، لأنّك إذا أوصلت الفعل
[الحجة للقراء السبعة: 2/240]
إلى المفعول الذي يقتضيه الفعل مرة لم توصله مرة أخرى إلى مفعول آخر- ألا ترى أنّك لو قلت: لزيد ضربته لم يجز أن تجعل الهاء ضمير زيد، لأنّك قد عدّيت إليه الفعل مرّة باللّام، فلا تعدّيه إليه مرة أخرى، كما لا يتعدّى الفعل إلى حالين، ولا اسمين للزمان، ولا نحو ذلك مما يقتضيه الفعل.
فأما قوله:
هذا سراقة للقرآن يدرسه فالهاء للمصدر ولا تكون للقرآن الذي تعدى إليه الفعل باللام، وقد تصحّ هذه القراءة على تقدير حذف المضاف، وهو أن تقدّر: ولكلّ ذوي وجهة هو مولّيها فيكون المعنى: الله مولّ لكلّ ذوي: وجهة؛ وجهتهم؛ فيكون في المعنى كقراءة من قرأ: ولكلٍّ وجهةٌ هو مولّيها، إذا قدّرت حذف المفعول الثاني الذى هو إياه، إلا أنّ المفعول الثاني المحذوف في قول من قرأ: ولكلٍّ وجهةٌ هو مولّيها مظهر في هذه القراءة، وهو قوله: ولكلٍّ وجهةٌ إذا قدّرته: ولكلّ ذوي وجهة، فيصير التقدير: الله مولّ كلّ ذوي وجهة وجهتهم. فكلّ هم المولّون، والهاء ضمير الجهة التي أخذوا بالتوجه إليها.
[الحجة للقراء السبعة: 2/241]
وما ذكرته من أنّ هو ضمير اسم الله تعالى، وإن لم يجر له ذكر، قول أبي الحسن. وقد روي عن مجاهد أنه قال:
أراد: ولكلّ صاحب ملّة وجهة، أي: قبلة هو مستقبلها، فالضمير عنده على هذا لكلّ.
وقد حكى أبو الحسن القولين جميعاً: أن يكون هو ضمير اسم الله تعالى، وأن يكون لكلّ. وجاء قوله: هو مولّيها فيمن ذهب إلى هذا القول على لفظ كل، ولو قيل:
هم مولّوها على المعنى، كما قال تعالى: وكلٌّ أتوه [النمل/ 87] كان حسناً. وقال بعضهم: اخترت مولّيها على مولّاها لأنه قراءة الأكثر، ولأنه إذا قرئ مولّاها ظنّ أن جميع ذلك شرعه الله لهم.
وقوله: مولاها اسم جار على فعل مبني للمفعول، ولم يسند إلى فاعل بعينه؛ فيجوز أن يكون فاعل التولية الله عزّ وجلّ، ويجوز أن يكون بدعة، حملهم عليها بعض رؤسائهم ومفتيهم، فليس إذا صرفه إلى أحد الوجهين، بأولى من صرفه إلى الآخر.
فأمّا قوله: وجهةٌ فقد اختلف أهل العربية فيها، فمنهم من يذهب إلى أنّه مصدر شذّ عن القياس فجاء مصححاً، ومنهم من يقول: إنه اسم ليس بمصدر جاء على أصله، وأنه لو
كان مصدراً جاء مصحّحاً، للزم أن يجيء فعله أيضاً
[الحجة للقراء السبعة: 2/242]
مصحّحا، ألا ترى أن هذا المصدر إنما اعتلّ على الفعل حيث كان عاملًا عمله؛ وكان على حركاته وسكونه؟ فلو صحّ لصحّ الفعل، لأن هذه الأفعال المعتلات، إذا صحت في موضع تبعها باقي ذلك، وفي أن لم يجيء شيء من هذه الأفعال مصحّحا دلالة على أن وجهةٌ إنما صحّ من حيث كان اسماً للمتوجّه، لا كما رآه أبو عثمان من أنّه مصدر جاء على الأصل، وما شبّهه به من «ضيون وحيوة وبنات ألببه» لا يشبه هذا، لأن ذلك ليس شيء منه جارياً على فعل كالمصدر.
فإن قيل: فيما استدللنا به من أنّ الفعل إذا اعتلّ وجب اعتلال مصدره، أليس قد جاء القول والبيع صحيحين؛ وأفعالهما معتلّة؛ فما ننكر أن يصحّ: وجهةٌ، وإن كان فعله معتلًا؟.
قيل: إن القول والبيع لا يدخل على هذا، ألا ترى أنّ وجهةٌ على وزن الفعل، وليس القول والبيع كذلك؟ والموافقة في الوزن توجب الإعلال، ألا ترى «بابا وعاباً». لمّا وافقا بناء الفعل أعلّا، ولم يعلّ نحو عيبة وعوض وحول؟ فالقول والبيع ليسا على وزن شيء من الأفعال فيلحقهما اعتلالها.
على أن للقائل أن يقول: إن القول والبيع ونحوهما، لما سكنا أشبها بالإسكان المعتلّ، إذ الاعتلال قد يكون بالسكون يدلك على ذلك أنهم أعلّوا نحو: سياط وحياض، وإن صحت الآحاد
[الحجة للقراء السبعة: 2/243]
منها بحيث كانا في السكون في الواحد بمنزلة المعتل نحو:
«ديمة وديم» فكما جرى ما ذكرنا مجرى المعتلّ للسكون، كذلك يجري: قول وبيع مجرى ذلك، وقد قالوا: وجّه الحجر جهة ماله» فجاء المصدر بحذف الزيادة، وكأنّ «ما» زائدة، والظّرف وصف للنكرة، ولزمت الزيادة كما لزمت في: آثرا ما، ونحوه). [الحجة للقراء السبعة: 2/244]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({ولكل وجهة هو موليها}
قرأ ابن عامر (هو مولاها) بفتح اللّام أي هو موجهها وحجته أنه قدر له أن يتولاها ولم يسند إلى فاعل بعينه فيجوز أيكون هو كناية عن الاسم الّذي أضيفت إليه كل وهو الفاعل ويجوز أن يكون فاعل التّولية الله وهو كناية عنه والتّقدير ولكل ذي ملّة قبلة الله موليها وجهه ثمّ رد ذلك إلى ما لم يسم فاعله
وقرأ الباقون {هو موليها} أي متبعها وراضيها وحجتهم ما قد جاء في التّفسير عن مجاهد {ولكل وجهة هو موليها} أي لكل صاحب ملّة وجهة أي قبلة هو موليها هو مستقبلها قوله {هو موليها} هو كناية عن الاسم الّذي اضيفت إليه كل في المعنى لأنّها وإن كانت منونة فلا بد من أن تسند إلى اسم). [حجة القراءات: 117]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (76- قوله: {هو موليها} قرأه ابن عامر بالألف بعد اللام، وقرأ الباقون بالياء.
77- ووجه القراءة بالألف أنه جعل الفعل للمفعول، فهو فعل لم يُسم فاعله، فعدى الفعل إلى مفعولين: الأول قام مقام الفاعل، مستتر في «موليها» وهو ضمير «هو» والثاني الهاء في «موليها»، تعود على الوجهة، أي: الله يوليه إياها، والهاء والألف لوجهة، والتقدير: ولكل فريق وجهة الله موليها إياه، ويجوز أن يكون الضمير المرفوع لكبرائهم وساداتهم، هم يولونهم إياها، كما قال عنهم: {إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا} «الأحزاب 67» وبالألف قرأ ابن عباس وأبو رجاء.
78- ووجه القراءة بالياء أنه بنى الفعل للفاعل، وهو الله جل ذكره، والمفعول الثاني محذوف تقديره: ولكل فريق وجهة الله موليها إياه، فالقراءتان ترجعان إلى معنى، ودل على ذلك قوله: {فلنولينك قبلة ترضاها} «144» ويجوز في هذه القراءة، أن يكون الضمير المرفوع، ويكون التقدير: هو موليها نفسه، وحسن حذف المفعول الثاني، لتقدم ذكره في أول الكلام، والاختيار القراءة بالياء لإجماع القراء على ذلك، وعليه قراءة العامة في الأمصار). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/267]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (51- {هُوَ مُوَلاّها} [آية/ 148]:-
بالألف، قرأها ابن عامر وحده.
ووجه ذلك أن قوله {هُوَ} راجع إلى {كلّ}، والتقدير: الكل مولى إياها؛ لأنه يقال: وليت فلانًا الجهة فهو مولى إياها، فالمفعول الأول هو الضمير المرفوع في: مولى، والثاني هو ضمير المؤنث المضاف إليه.
وقرأ الباقون {مُوَلِّيها} بالياء، وقوله {هُوَ} ضمير اسم الله تعالى، والتقدير: ولكل وجهة الله موليها إياه، فحذف المفعول الثاني لجري ذكره وهو {كلّ}، وجاز إ1مار اسم الله تعالى، وإن لم يجر له تعالى ههنا الذكر للعلم به). [الموضح: 304]


روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس