عرض مشاركة واحدة
  #25  
قديم 18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 06:39 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

الباب العاشر: فتنة اللفظية

فتنة اللفظية

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (فتنة اللفظية
كانت فتنة القول بخلق القرآن فتنة عظيمة، عمّ بلاؤها عامّة الناس، وامتحن فيها علماء أهل السنة محنة شديدة، وذلك بسبب تقريب المأمون ومن تبعه من الخلفاء للمعتزلة، وتعيين كثير من الولاة والقضاة والكتاب منهم أو ممن يداهن في هذه المسألة أو يداري، واجتهادهم في حمل الناس على القول بخلق القرآن، وأنّه لا يتم الدين إلا به؛ وجرت أمور يطول وصفها؛ حتى قُتل من قتل من علماء أهل السنة، وحبس من حُبس، وضُرب من ضرب، واستمرّت هذه المحنة بضع عشرة سنة؛ حتى فشا هذا القول وانتشر، وفُتن به خلق من العامة، ونشأ عليه جيل لا يعرفون قولاً ظاهراً غيره.

وكان من يجرؤ على معارضة الخلفاء والقضاة في هذا الأمر يُنال بألوان من الأذى، حتى إن من كان يريد أن يؤذي أحداً من علماء السنّة أو يتسبب في الإضرار به يشي به إلى القضاة أو الخلفاء بأنّه لا يقول بخلق القرآن؛ فكانت تلك تهمة كافية عندهم لتعذيبه والتضييق عليه.
كما حصل لبشر بن الوليد الكندي؛ فإنّه امتحن في زمان المأمون فامتنع فعرض على السيف فأجاب مكرهاً؛ ثم أطلق؛ فلما كان في زمان المعتصم وكان يحدّث ويفتي ولا يقول بخلق القرآن ؛ فوشى به رجل سوء إلى المعتصم بأنّه لا يقول بخلق القرآن؛ فأمر المعتصم بحبسه في بيته والتضييق عليه وإقامة شرطيّ على بابه يمنعه من الخروج.

ولولا أن حفظ الله هذا الدين برجال صدقٍ ثبتوا في هذه المحنة فثبت بثباتهم خلق من العامة؛ لقد كاد أن يطبق على هذا القول عامة الناس.
فكانت حاجة الناس إلى بيان الحق بياناً لا لبس فيه ماسة.
ولكن جرت حكمة الله بأن تُبتلى الفئة التي ثبتت في المحنة في أوّل الأمر بابتلاء آخر ؛ ويبتلى عامّة الناس بهم.

فظهر من قال بالوقف؛ وكان بسبب القول بالوقف فتنة عظيمة؛ حتى قال بالوقف بعض أهل الحديث الذين لا يقولون بخلق القرآن، واغترّ بهم جماعة من العامّة كما سبق بيانه.

وظهرت فتنة اللفظية فكانت فتنتها أعظم وأطول مدى من فتنة الوقف؛ فإنّها استمرّت قروناً من الزمان وجرى بسببها مِحَن يطول وصفها، وسنذكر بعضها في خلاصة موجزة بإذن الله تعالى.

وكان أوّل من أشعل فتنة اللفظية: حسين بن علي الكرابيسي ، وكان رجلاً قد أوتي سعة في العلم ؛ فحصّل علماً كثيراً، وصنّف مصنّفات كثيرة، وكان له أصحاب وأتباع ؛ لكنّه وقع في سقطات مردية، تدلّ على ضعف إدراكه للمقاصد الشرعية، وضعف السعي في تحقيق المصالح ودرء المفاسد؛ والعلم إذا لم يصحبه عقل ورشد كان وبالاً على صاحبه لأنّه ينصرف عن المقاصد السامية للعلم إلى التشغيب على العلماء ومماحكتهم؛ وربما تمكّن بذكائه وسعة معرفته من إثارة شبهات يريد بها إفحام بعض العلماء والارتفاع عليهم؛ فيعاقب بنقيض قصده؛ فيسقط ويكون ما أثاره من الشبهات مثلبة عليه؛ ينكرها أهل العلم ويذمونه بها.
ومن ذلك أنّ الكرابيسيّ ألّف كتاباً حطّ فيه على بعض الصحابة وزعم أنّ ابن الزبير من الخوارج، وأدرج فيه ما يقوّي به جانب الرافضة ببعض متشابه المرويات؛ وحطّ على بعض التابعين كسليمان الأعمش وغيره، وانتصر للحسن بن صالح بن حيّ وكان يرى السيف.
فعرض كتابه على الإمام أحمد وهو لا يدري لمن هو؛ فاستبشع بعض ما فيه، وقال: (هذا أراد نصرة الحسن بن صالح، فوضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد جمع للروافض أحاديث في هذا الكتاب...)
وقال: (قد جمع للمخالفين ما لم يحسنوا أن يحتجوا به).
فحذّر منه الإمام أحمد، ونهى عن الإخذ عنه؛ فبلغ ذلك الكرابيسيَّ فغضب وتنمّر، وقال: لأقولنَّ مقالة حتى يقول ابن حنبلٍ بخلافها فيكفر؛ فقال: لفظي بالقرآن مخلوق.
وهذه الكلمة التي فاه بها الكرابيسي أثارت فتنة عظيمة على الأمّة؛ وكان الناس بحاجة إلى بيان الحقّ ورفع اللبس، لا زيادة التلبيس والتوهيم، وإثارة فتنة كانوا في عافية منها.
وبهذا نعرف الفرق العظيم بين مقاصد الربانيين من العلماء، ومقاصد الذين يريدون الإثارة والتغليط ومماحكة العلماء ومشاغبتهم، ثم لنتأمّل كيف كانت عاقبة هؤلاء وعاقبة هؤلاء.
نقل أبو بكر المرّوذي وهو من خاصة أصحاب الإمام أحمد مقالة الكرابيسي للإمام أحمد، وذكر له أن الكرابيسي قال: (أقول: إنّ القرآن كلام الله غير مخلوقٍ من كلّ الجهات إلاّ أنّ لفظي به مخلوقٌ، ومن لم يقل: لفظي بالقرآن مخلوقٌ، فهو كافرٌ).
فقال الإمام أحمد: (بل هو الكافر - قاتله الله - وأيّ شيءٍ قالت الجهميّة إلاّ هذا؟ وما ينفعه، وقد نقض كلامُه الأخير ُكلامَه الأوَّل؟!).
ثم قال الإمام أحمد للمرّوذي: أيشٍ خبر أبي ثورٍ، أوافقه على هذا؟
قال المروذي: قلت: قد هجره.
قال: (أحسن، لن يفلح أصحاب الكلام).
ثم قال الإمام أحمد: (ما كان الله ليدعه وهو يقصد إلى التابعين مثل سليمان الأعمش، وغيره، يتكلم فيهم).
وقال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله، عن الكرابيسي، وما أظهر، فكلح وجهه ثم أطرق، ثم قال: هذا قد أظهر رأي جهم.
قال الله تعالى: " {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله}، " فممن يسمع؟ إنما جاء بلاؤهم من هذه الكتب التي وضعوها. تركوا آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأقبلوا على هذه الكتب).

وقبل بيان تلبيس الكرابيسي ؛ يجب أن نفرّق بين أمرين عظيمين:
الأمر الأول: أن القرآن كلام الله تعالى وهو غير مخلوق، فالقرآن يتلوه القارئ، ويكتبه الكاتب في المصحف، ولا يخرج بذلك عن كونه كلام الله، لأن الكلام يُنسب إلى من قاله ابتداء.
فإذا سمعت قارئاً يقرأ: (قل هو الله أحد). وسئلت كلام من هذا ؟
قلت: هو كلام الله.
وإذا سمعت من يقرأ: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكلّ امرئ ما نوى).
عرفت أنّ هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لشهرته عنه، وأنّ الذي قرأ هذا لم يُنشئ هذا الكلام من تلقاء نفسه.
وإذا سمعت من يُنشد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل
عرفت أنّ هذا من قصيدة لبيد بن ربيعة لشهرتها عنه.
وكذلك إذا سمعت قصيدة معروفة لشاعر قديم ينشدها أحدهم ، وسُئلت: قصيدة من هذه؟
فإنّك تنسبها للشاعر الذي قالها ابتداءً، ولا تنسبها لمن أنشدها، ولو أن واحداً من الناس ألقى هذه القصيدة ونسبها لنفسه لعدَّه الناس كذاباً منتحلاً.
لأن الكلام يُنسب نسبة إنشاء إلى من قاله ابتداءً.

والمقصود أن القرآن كلام الله تعالى، وقارئ القرآن إنما يقرأ كلام الله تعالى، فهذا الكلام يُنسب إلى الله تعالى لا إلى القارئ.
وكلام الله تعالى صفة من صفاته، وصفات الله تعالى غير مخلوقة.
وهذه المسألة خالف فيها المعتزلة والجهمية وزعموا أنَّ كلام الله مخلوق.

الأمر الثاني: أنَّ أفعال العباد مخلوقة، فكما أنَّ ذواتهم مخلوقة؛ فكل ما يصدر منهم من قول أو فعل فهو مخلوق؛ كما هو معلوم متقرر من أدلّة كثيرة؛ منها قول الله تعالى: {والله خلقكم وما تعملون}.
وهذه المسألة خالف فيها القدرية؛ فكفَّرهم العلماء؛ لأنَّ من زعم أن الله لم يخلق أفعال العباد؛ وأن العباد يخلقون أفعال أنفسهم فقد أثبت خالقاً غير الله تعالى، ولذلك سمّيت القدرية مجوس هذه الأمة.
وكلام السلف في تكفير من لم يقل بخلق أفعال العباد معروف مشتهر.
قال يحيى بن إسحاق العنبري: سألت حمّاد بن زيدٍ عمن قال: كلام النّاس ليس بمخلوقٍ.
فقال: هذا كلام أهل الكفر "
وقال يحيى بن إسحاق أيضاً: سألت معتمر بن سليمان عمن قال: كلام النّاس ليس بمخلوقٍ.
قال: «هذا كفرٌ»
وقال البخاري في كتاب خلق أفعال العباد: (حدثنا عبيد الله هو ابن قدامة بن سعيد، ثنا حماد بن زيد، قال: «من قال كلام العباد ليس بمخلوق فهو كافر» وتابعه على ذلك يحيى بن سعيد القطان ومعتمر بن سليمان).
والمقصود أن قراءة القارئ من فعله وفعله مخلوق.
فيقال في تلخيص هذين الأمرين: القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة.

فجاءت مسألة اللفظ للتلبيس بين الأمرين؛ فقول القائل: لفظي بالقرآن مخلوق؛ قد يريد به ملفوظه وهو كلام الله الذي تلفّظ به فيكون موافقاً للجهمية الذين يقولون بخلق القرآن.
وقد يريد به فعلَ العبد الذي هو القراءة والتلفّظ بالقرآن؛ لأنَّ اللفظ في اللغة يأتي اسماً ومصدراً؛ فالاسم بمعنى المفعول أي الملفوظ، والمصدر هو التلفظ.
ويتفرّع على هذين الاحتمالين احتمالات أخرى، ولذلك اختلف الناس في تأويل قول القائل: "لفظي بالقرآن مخلوق" إلى أقوال، يأتي بيانها بإذن الله.

فهي كلمة مجملة حمّالة لوجوه، ولا نفع في إيرادها، والناس كانوا أحوج إلى البيان والتوضيح والتصريح بأنَّ القرآن كلام الله غير مخلوق.
لا أن تلقى إليهم كلمة مجملة فيها تلبيس تتأوَّلها كلّ فرقة على ما تريد.
ولذلك فرحت طائفة من الجهمية بهذه المقالة؛ فقالوا: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، ومنهم من قال: القرآن بألفاظنا مخلوق.
وهم يريدون أنَّ القرآن مخلوق؛ لكن القول باللفظ أخفّ وطأة وأقرب إلى قبول العامّة من التصريح بقولهم: إن القرآن مخلوق.
فتستّروا باللفظ؛ كما تستّرت طائفة منهم بالوقف.
ولذلك قال الإمام أحمد: (افترقت الجهمية على ثلاث فرق:
فرقة قالوا: القرآن مخلوق.
وفرقة قالوا :كلام الله، وتسكت.
وفرقة قالوا: لفظنا بالقرآن مخلوق).
فالفرقة الأولى هم جمهور المعتزلة الذين قالوا بخلق القرآن، وأظهروا هذا القول وأشهروه ودعوا إليه.
والفرقة الثانية هم الذين سُمّوا بالواقفة.
والفرقة الثالثة هم اللفظية.

وليس كلّ من قال باللفظ جهمي، كما أنَّه ليس كلّ من قال بالوقف جهمي، وقد سبق بيان ذلك.
وقد اشتدّ إنكار الإمام أحمد على من قال باللفظ إثباتاً أو نفياً لأنه تلبيس يفتن العامة ولا يبيّن لهم حقاً ولا يهديهم سبيلاً.
وجرت محنة عظيمة للإمام البخاري بسبب هذه المسألة، ووقعت فتنة بين أصحاب الإمام أحمد بعد وفاته بسب هذه المسألة، ودخل الغلط على بعض أهل الحديث بسبب هذه المسألة.
وقام الإمام أحمد والإمام البخاري في هذه المسألة بما هو الحقّ فيها، وإن دقّت عنه أفهام بعض الناس، وافتتن بها بعضهم). [الإيمان بالقرآن:101 - 110]


رد مع اقتباس