عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 2 محرم 1440هـ/12-09-2018م, 07:00 PM
أم إسماعيل أم إسماعيل غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Dec 2010
المشاركات: 4,914
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({فوجدا عبدًا من عبادنا آتيناه رحمةً من عندنا وعلّمناه من لدنّا علمًا} وهذا هو الخضر، عليه السّلام، كما دلّت عليه الأحاديث الصّحيحة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. بذلك قال البخاريّ:
حدّثنا الحميديّ، حدّثنا سفيان، حدّثنا عمرو بن دينارٍ، أخبرني سعيد بن جبيرٍ قال: قلت لابن عبّاسٍ: إنّ نوفًا البكاليّ يزعم أنّ موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل. قال ابن عبّاسٍ: كذب عدوّ اللّه، حدّثنا أبيّ بن كعبٍ، رضي اللّه عنه، أنّه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: "إنّ موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل فسئل: أيّ النّاس أعلم؟ قال: أنا. فعتب اللّه عليه إذ لم يردّ العلم إليه، فأوحى اللّه إليه: إنّ لي عبدًا بمجمع البحرين هو أعلم منك. فقال موسى: يا ربّ، وكيف لي به؟ قال: تأخذ معك حوتًا، تجعله بمكتلٍ، فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. فأخذ حوتًا، فجعله بمكتلٍ ثمّ انطلق وانطلق معه بفتاه يوشع بن نونٍ عليهما السّلام، حتّى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما، واضطرب الحوت في المكتل، فخرج منه، فسقط في البحر واتّخذ سبيله في البحر سربًا، وأمسك اللّه عن الحوت جرية الماء، فصار عليه مثل الطّاق. فلمّا استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقيّة يومهما وليلتهما، حتّى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: {آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا} ولم يجد موسى النّصب حتّى جاوزا المكان الّذي أمره اللّه به. قال له فتاه: {أرأيت إذ أوينا إلى الصّخرة فإنّي نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشّيطان أن أذكره واتّخذ سبيله في البحر عجبًا} قال: "فكان للحوت سربًا ولموسى وفتاه عجبًا، فقال: {ذلك ما كنّا نبغ فارتدّا على آثارهما قصصًا}. قال: "فرجعا يقصّان أثرهما حتّى انتهيا إلى الصّخرة، فإذا رجلٌ مسجّى بثوبٍ، فسلّم عليه موسى، فقال الخضر: وأنّى بأرضك السّلام!. قال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك لتعلّمني ممّا علّمت رشدًا. {قال إنّك لن تستطيع معي صبرًا}، يا موسى إنّي على علمٍ من علم اللّه علّمنيه، لا تعلمه أنت، وأنت على علمٍ من علم اللّه علّمكه اللّه لا أعلمه. فقال موسى: {ستجدني إن شاء اللّه صابرًا ولا أعصي لك أمرًا} قال له الخضر: {فإن اتّبعتني فلا تسألني عن شيءٍ حتّى أحدث لك منه ذكرًا}.
فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرّت سفينةٌ فكلّموهم أن يحملوه، فعرفوا الخضر، فحملوهم بغير نولٍ، فلمّا ركبا في السّفينة لم يفجأ إلّا والخضر قد قلع لوحًا من ألواح السّفينة بالقدوم، فقال له موسى: قد حملونا بغير نولٍ، فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها؟ لقد جئت شيئًا إمرًا. {قال ألم أقل إنّك لن تستطيع معي صبرًا * قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرًا} قال: وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "كانت الأولى من موسى نسيانًا". قال: وجاء عصفورٌ فنزل على حرف السّفينة فنقر في البحر نقرة، [أو نقرتين] فقال له الخضر: ما علمي وعلمك في علم اللّه إلّا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر.
ثمّ خرجا من السّفينة، فبينما هما يمشيان على السّاحل إذ أبصر الخضر غلامًا يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه [بيده] فاقتلعه بيده فقتله، فقال له موسى: {أقتلت نفسًا زكيّةً بغير نفسٍ لقد جئت شيئًا نكرًا * قال ألم أقل لك إنّك لن تستطيع معي صبرًا}؟! قال: "وهذه أشدّ من الأولى"، {قال إن سألتك عن شيءٍ بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدنّي عذرًا * فانطلقا حتّى إذا أتيا أهل قريةٍ استطعما أهلها فأبوا أن يضيّفوهما فوجدا فيها جدارًا يريد أن ينقضّ} قال: مائلٌ. فقال الخضر بيده: {فأقامه}، فقال موسى: قومٌ أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا، {لو شئت لاتّخذت عليه أجرًا قال هذا فراق بيني وبينك سأنبّئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرًا} فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "وددنا أنّ موسى كان صبر حتّى يقصّ اللّه علينا من خبرهما".
قال سعيد بن جبيرٍ: كان ابن عبّاسٍ يقرأ: "وكان أمامهم ملكٌ يأخذ كلّ سفينةٍ صالحةٍ غصبًا" وكان يقرأ: "وأمّا الغلام فكان كافرًا وكان أبواه مؤمنين".
ثمّ رواه البخاريّ عن قتيبة، عن سفيان بن عيينة = فذكر نحوه، وفيه: "فخرج موسى ومعه فتاه يوشع بن نونٍ، ومعهما الحوت حتّى انتهيا إلى الصّخرة، فنزلا عندها -قال: فوضع موسى رأسه فنام-قال سفيان: وفي حديث غير عمرٍو قال: وفي أصل الصّخرة عينٌ يقال لها: الحياة، لا يصيب من مائها شيءٌ إلّا حيي: فأصاب الحوت من ماء تلك العين، قال، فتحرّك وانسلّ من المكتل، فدخل البحر، فلمّا استيقظ قال موسى لفتاه: {آتنا غداءنا} كذا قال: وساق الحديث. ووقع عصفورٌ على حرف السّفينة، فغمس منقاره في البحر، فقال الخضر لموسى: ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم اللّه إلّا مقدار ما غمس هذا العصفور منقاره وذكر تمامه بنحوه.
وقال البخاريّ أيضًا: حدّثنا إبراهيم بن موسى، حدّثنا هشام بن يوسف، أنّ ابن جريج أخبرهم قال: أخبرني يعلى بن مسلمٍ وعمرو بن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ -يزيد أحدهما على صاحبه-وغيرهما قد سمعته يحدّث عن سعيد بن جبيرٍ قال: إنّا لعند ابن عبّاسٍ في بيته، إذ قال: سلوني. فقلت: أي أبا عبّاسٍ، جعلني اللّه فداك، بالكوفة رجلٌ قاصٌّ، يقال له: "نوفٌ" يزعم أنّه ليس بموسى بني إسرائيل -أمّا عمرٌو فقال لي: قال: كذب عدوّ اللّه! وأمّا يعلى فقال لي: قال ابن عبّاسٍ: حدّثني أبيّ بن كعبٍ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "موسى رسول اللّه، ذكّر النّاس يومًا، حتّى إذا فاضت العيون، ورقّت القلوب، ولّى فأدركه رجلٌ فقال: أي رسول اللّه، هل في الأرض أحدٌ أعلم منك؟ قال: لا. فعتب اللّه عليه إذ لم يردّ العلم إلى اللّه، قيل: بلى قال: أي ربّ، وأين؟ قال: بمجمع البحرين. قال: أي ربّ، اجعل لي علمًا أعلم ذلك به". قال لي عمرٌو: قال: حيث يفارقك الحوت، وقال لي يعلى: خذ حوتًا ميتًا حيث ينفخ فيه الرّوح. فأخذ حوتًا فجعله في مكتلٍ، فقال لفتاه: لا أكلّفك إلّا أن تخبرني حيث يفارقك الحوت، قال ما كلّفت كبيرًا. فذلك قوله: {وإذ قال موسى لفتاه} يوشع بن نونٍ، ليست عند سعيد بن جبيرٍ، قال: "فبينا هو في ظلّ صخرةٍ في مكانٍ ثريان إذ تضرّب الحوت وموسى نائمٌ فقال فتاه: لا أوقظه، حتّى إذا استيقظ نسي أن يخبره، وتضرّب الحوت حتّى دخل البحر، فأمسك اللّه عنه جرية الماء حتّى كأنّ أثره في حجرٍ". [قال: فقال لي عمرٌو: هكذا كأنّ أثره في حجرٍ]، وحلّق بين إبهاميه والّتي تليهما: {لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا} قال: "وقد قطع اللّه عنك النّصب" ليست هذه عند سعيدٍ -أخبره، فرجعا فوجدا خضرًا. قال: قال عثمان بن أبي سليمان: على طنفسة خضراء على كبد البحر. قال سعيد بن جبيرٍ: مسجى بثوبٍ، قد جعل طرفه تحت رجليه، وطرفه تحت رأسه، فسلّم عليه موسى، فكشف عن وجهه، وقال: هل بأرضٍ من سلامٍ؟ من أنت؟ قال أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. قال: فما شأنك؟ قال: جئتك لتعلّمني ممّا علّمت رشدًا. قال: يكفيك التّوراة بيدك، وأنّ الوحي يأتيك!. يا موسى، إنّ لي علمًا لا ينبغي لك أن تعلمه، وإنّ لك علمًا لا ينبغي لي أن أعلمه. فأخذ طائرٌ بمنقاره من البحر [فقال: واللّه ما علمي وعلمك في جنب علم اللّه إلّا كما أخذ هذا الطّائر بمنقاره من البحر]، حتّى إذا ركبا في السّفينة وجدا معابر صغارًا تحمل أهل هذا السّاحل إلى هذا السّاحل الآخر عرفوه، فقالوا: عبد اللّه الصّالح؟. قال فقلنا لسعيدٍ: خضرٌ؟ قال: نعم. لا نحمله بأجرٍ. فخرقها، ووتد فيها وتدًا. قال موسى: {أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئًا إمرًا}.
قال مجاهدٌ: منكرًا. قال: {ألم أقل إنّك لن تستطيع معي صبرًا} كانت الأولى نسيانًا، والوسطى شرطًا، والثّالثة عمدًا {قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرًا. فانطلقا}. حتّى لقيا غلامًا فقتله. قال يعلى: قال سعيدٌ، وجد غلمانًا يلعبون، فأخذ غلامًا كافرًا ظريفًا فأضجعه، ثمّ ذبحه بالسّكّين، فقال: {أقتلت نفسًا زكيّةً} لم تعمل بالحنث. وابن عبّاسٍ قرأها {زكيّةً} -" زاكية " مسلمة، كقولك: غلامًا زكيًّا فانطلقا، فوجدا جدارًا يريد أن ينقضّ فأقامه، قال [سعيدٌ] بيده هكذا، ورفع يده فاستقام -قال يعلى: حسبت أنّ سعيدًا قال: فمسحه بيده فاستقام -قال: {لو شئت لاتّخذت عليه أجرًا} قال سعيدٌ: أجرًا نأكله {وكان وراءهم ملكٌ} وكان أمامهم، قرأها ابن عبّاسٍ: "أمامهم ملكٌ" يزعمون عن غير سعيدٍ أنّه هدد بن بدد، والغلام المقتول اسمه -يزعمون-جيسور {ملكٌ يأخذ كلّ سفينةٍ غصبًا} فأردت إذا هي مرّت به أن يدعها بعيبها، فإذا جاوزه أصلحوها فانتفعوا بها. ومنهم من يقول: سدّوها بقارورةٍ. ومنهم من يقول: بالقار. {فكان أبواه مؤمنين} وكان كافرًا، {فخشينا أن يرهقهما طغيانًا وكفرًا}. أن يحملهما حبّه على أن يتابعاه على دينه {فأردنا أن يبدلهما ربّهما خيرًا منه زكاةً} كقوله: {أقتلت نفسًا زكيّةً}، {وأقرب رحمًا}: هما به أرحم منهما بالأوّل الّذي قتل خضرٌ. وزعم غير سعيد بن جبيرٍ أنّهما أبدلا جاريةً. وأمّا داود بن أبي عاصمٍ فقال عن غير واحدٍ: إنّها جاريةٌ.
وقال عبد الرّزّاق: أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ قال: خطب موسى، عليه السّلام، بني إسرائيل فقال: ما أحدٌ أعلم باللّه وبأمره منّي. فأمر أن يلقى هذا الرّجل. فذكر نحو ما تقدّم بزيادةٍ ونقصانٍ، واللّه أعلم.
وقال محمّد بن إسحاق، عن الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن سعيد بن جبيرٍ قال: جلست عند ابن عبّاسٍ وعنده نفرٌ من أهل الكتاب فقال بعضهم: يا أبا العبّاس، إنّ نوفًا ابن امرأة كعبٍ، يزعم عن كعبٍ أنّ موسى النّبيّ الّذي طلب العالم إنّما هو موسى بن ميشا؟ قال سعيدٌ: فقال ابن عبّاسٍ: أنوفٌ يقول هذا؟ قال سعيدٌ: فقلت له: نعم، أنا سمعت نوفًا يقول ذلك. قال: أنت سمعته يا سعيد؟ قال: قلت: نعم. قال: كذب نوفٌ. ثمّ قال ابن عبّاسٍ: حدّثني أبيّ بن كعبٍ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "أن موسى بني إسرائيل سأل ربّه فقال: أي ربّ، إن كان في عبادك أحدٌ هو أعلم منّي، فدلّني عليه. فقال له: نعم، في عبادي من هو أعلم منك. ثمّ نعت له مكانه وأذن له في لقيّه. فخرج موسى ومعه فتاه، ومعه حوتٌ مليحٌ، قد قيل له: إذا حيي هذا الحوت في مكانٍ، فصاحبك هنالك، وقد أدركت حاجتك. فخرج موسى ومعه فتاه، ومعه ذلك الحوت يحملانه، فسار حتّى جهده السّير، وانتهى إلى الصّخرة وإلى ذلك الماء، وذلك الماء ماء الحياة، من شرب منه خلّد، ولا يقاربه شيءٌ ميتٌ إلّا حيي. فلمّا نزلا ومسّ الحوت الماء حيي {فاتّخذ سبيله في البحر سربًا} فانطلقا فلمّا جاوز منقلبه قال: موسى لفتاه: {آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا} قال الفتى -وذكر-: {أرأيت إذ أوينا إلى الصّخرة فإنّي نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشّيطان أن أذكره واتّخذ سبيله في البحر عجبًا}. قال ابن عبّاسٍ: فظهر موسى على الصّخرة حتّى إذا انتهيا إليها، فإذا رجلٌ متلفّفٌ في كساءٍ له، فسلّم موسى، فردّ عليه العالم ثمّ قال له: ما جاء بك إن كان لك في قومك لشغل؟. قال له موسى: جئتك لتعلّمني ممّا علّمت رشدًا {قال إنّك لن تستطيع معي صبرًا} وكان رجلًا يعلم علم الغيب قد علّم ذلك -فقال موسى: بلى. قال: {وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرًا}؟ أي: إنّما تعرف ظاهر ما ترى من العدل، ولم تحط من علم الغيب بما أعلم. {قال ستجدني إن شاء اللّه صابرًا ولا أعصي لك أمرًا} وإن رأيت ما يخالفني، قال: {فإن اتّبعتني فلا تسألني عن شيءٍ} [وإن أنكرته] {حتّى أحدث لك منه ذكرًا}: فانطلقا يمشيان على ساحل البحر يتعرّضان النّاس، يلتمسان من يحملهما، حتّى مرّت بهما سفينةٌ جديدةٌ وثيقةٌ، لم يمرّ بهما من السّفن أحسن ولا أكمل ولا أوثق منها. فسألا أهلها أن يحملوهما، فحملوهما، فلمّا اطمأنّا فيها ولجّجت بهما مع أهلها، أخرج منقارًا له ومطرقةً، ثمّ عمد إلى ناحيةٍ منها فضرب فيها بالمنقار حتّى خرقها. ثمّ أخذ لوحًا فطبّقه عليها، ثمّ جلس عليها يرقّعها، فقال: له موسى -ورأى أمرًا أفظع به-: {أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئًا إمرًا * قال ألم أقل إنّك لن تستطيع معي صبرًا * قال لا تؤاخذني بما نسيت} أي: بما تركت من عهدك، {ولا ترهقني من أمري عسرًا}. ثمّ خرجا من السّفينة فانطلقا، حتّى أتيا أهل قريةٍ، فإذا غلمانٌ يلعبون خلفها، فيهم غلامٌ ليس في الغلمان غلامٌ أظرف منه ولا أثرى ولا أوضأ منه، فأخذه بيده، وأخذ حجرًا فضرب به رأسه حتّى دمغه فقتله، قال: فرأى موسى أمرًا فظيعًا لا صبر عليه، صبيٌّ صغيرٌ قتله لا ذنب له قال: {أقتلت نفسًا زكيّةً} أي: صغيرةً {بغير نفسٍ لقد جئت شيئًا نكرًا * قال ألم أقل لك إنّك لن تستطيع معي صبرًا * قال إن سألتك عن شيءٍ بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدنّي عذرًا} أي: قد أعذرت في شأني. {فانطلقا حتّى إذا أتيا أهل قريةٍ استطعما أهلها فأبوا أن يضيّفوهما فوجدا فيها جدارًا يريد أن ينقضّ}، فهدمه ثمّ قعد يبنيه، فضجر موسى ممّا يراه يصنع من التّكليف، وما ليس عليه صبرٌ، قال: {لو شئت لاتّخذت عليه أجرًا} أي: قد استطعمناهم فلم يطعمونا، وضفناهم فلم يضيّفونا، ثمّ قعدت تعمل من غير صنيعةٍ، ولو شئت لأعطيت عليه أجرًا في عمله؟. قال: {هذا فراق بيني وبينك سأنبّئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرًا * أمّا السّفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملكٌ يأخذ كلّ سفينةٍ غصبًا} -وفي قراءة أبيّ بن كعبٍ: "كلّ سفينةٍ صالحةٍ" -وإنّما عبتها لأردّه عنها، فسلمت حين رأى العيب الّذي صنعت بها. {وأمّا الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانًا وكفرًا * فأردنا أن يبدلهما ربّهما خيرًا منه زكاةً وأقرب رحمًا * وأمّا الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحًا فأراد ربّك أن يبلغا أشدّهما ويستخرجا كنزهما رحمةً من ربّك وما فعلته عن أمري} أي: ما فعلته عن نفسي، {ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرًا} وكان ابن عبّاسٍ يقول: ما كان الكنز إلّا علمًا.
وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ قال: لـمّا ظهر موسى وقومه على مصر، أنزل قومه، فلمّا استقرّت بهم الدّار، أنزل اللّه: أن ذكّرهم بأيّام اللّه فخطب قومه، فذكر ما آتاهم اللّه من الخير والنّعمة، وذكّرهم إذ نجّاهم اللّه من آل فرعون، وذكّرهم هلاك عدوّهم، وما استخلفهم اللّه في الأرض، وقال: كلّم اللّه نبيّكم تكليمًا، واصطفاني لنفسه، وأنزل عليّ محبّةً منه، وآتاكم اللّه من كلّ ما سألتموه؛ فنبيكم أفضل أهل الأرض، وأنتم تقرؤون التّوراة، فلم يترك نعمةً أنعمها عليهم إلّا وعرّفهم إيّاها. فقال له رجلٌ من بني إسرائيل: هم كذلك يا نبيّ اللّه، قد عرفنا الّذي تقول، فهل على الأرض أحدٌ أعلم منك يا نبيّ اللّه؟ قال: لا. فبعث اللّه جبرائيل إلى موسى، عليهما السّلام، فقال: إنّ اللّه [عزّ وجلّ] يقول: وما يدريك أين أضع علمي؟ بلى. إنّ على شطّ البحر رجلًا هو أعلم منك -قال ابن عبّاسٍ: هو الخضر-فسأل موسى ربّه أن يريه إيّاه، فأوحى إليه: أن ائت البحر، فإنّك تجد على شطّ البحر حوتًا، فخذه فادفعه إلى فتاك، ثمّ الزم شطّ البحر، فإذا نسيت الحوت وهلك منك، فثمّ تجد العبد الصّالح الّذي تطلب. فلمّا طال سفر موسى نبيّ اللّه ونصب فيه، سأل فتاه عن الحوت، فقال له فتاه وهو غلامه: {أرأيت إذ أوينا إلى الصّخرة فإنّي نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشّيطان أن أذكره} لك، قال الفتى: لقد رأيت الحوت حين اتّخذ سبيله في البحر سربًا فأعجب ذلك موسى، فرجع حتّى أتى الصّخرة، فوجد الحوت، فجعل الحوت يضرب في البحر ويتبعه موسى، وجعل موسى يقدّم عصاه يفرّج بها عنه الماء يتبع الحوت، وجعل الحوت لا يمسّ شيئًا من البحر إلّا يبس، حتّى يكون صخرةً، فجعل نبيّ اللّه يعجب من ذلك، حتّى انتهى به الحوت إلى جزيرةٍ من جزائر البحر، فلقي الخضر بها فسلّم عليه، فقال الخضر: وعليك السّلام، وأنّى يكون السّلام بهذه الأرض؟ ومن أنت؟ قال: أنا موسى. فقال الخضر: أصاحب بني إسرائيل؟ [قال: نعم] فرحّب به وقال: ما جاء بك؟ قال جئتك {على أن تعلّمن ممّا علّمت رشدًا قال إنّك لن تستطيع معي صبرًا} يقول: لا تطيق ذلك. قال موسى {ستجدني إن شاء اللّه صابرًا ولا أعصي لك أمرًا} قال: فانطلق به، وقال له: لا تسألني عن شيءٍ أصنعه حتّى أبيّن لك شأنه، فذلك قوله: {حتّى أحدث لك منه ذكرًا}
وقال الزّهريّ، عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة بن مسعودٍ عن ابن عبّاسٍ: أنّه تمارى هو والحرّ بن قيس بن حصنٍ الفزاريّ في صاحب موسى، فقال ابن عبّاسٍ: هو خضرٌ. فمرّ بهما أبيّ بن كعبٍ فدعاه ابن عبّاسٍ فقال: إنّي تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى الّذي سأل السّبيل إلى لقيه، فهل سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يذكر شأنه؟ قال: إنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم يقول: "بينا موسى في ملأٍ من بني إسرائيل إذ جاءه رجلٌ فقال: تعلم مكان رجلٍ أعلم منك؟ قال: لا؛ فأوحى اللّه إلى موسى بلى عبدنا خضرٌ. فسأل موسى السّبيل إلى لقيّه فجعل اللّه له الحوت آيةً وقيل له: إذا فقدت الحوت [فهو ثمّة] فارجع، فإنّك ستلقاه. فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر. فقال فتى موسى لموسى: {أرأيت إذ أوينا إلى الصّخرة فإنّي نسيت الحوت} قال موسى {ذلك ما كنّا نبغ فارتدّا على آثارهما قصصًا} فوجدا عبدنا خضرًا فكان من شأنهما ما قص في الله كتابه). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 175-181]

تفسير قوله تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({قال له موسى هل أتّبعك على أن تعلّمن ممّا علّمت رشدًا (66) قال إنّك لن تستطيع معي صبرًا (67) وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرًا (68) قال ستجدني إن شاء اللّه صابرًا ولا أعصي لك أمرًا (69) قال فإن اتّبعتني فلا تسألني عن شيءٍ حتّى أحدث لك منه ذكرًا (70)}.
يخبر تعالى عن قيل موسى، عليه السّلام لذلك [الرّجل] العالم، وهو الخضر، الّذي خصّه اللّه بعلمٍ لم يطلع عليه موسى، كمّا أنّه أعطى موسى من العلم ما لم يعطه الخضر، {قال له موسى هل أتّبعك} سؤالٌ بتلطّفٍ، لا على وجه الإلزام والإجبار. وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلّم من العالم. وقوله: {أتّبعك} أي: أصحبك وأرافقك، {على أن تعلّمن ممّا علّمت رشدًا} أي: ممّا علّمك اللّه شيئًا، أسترشد به في أمري، من علمٍ نافعٍ وعملٍ صالحٍ.
فعندها {قال} الخضر لموسى: {إنّك لن تستطيع معي صبرًا} أي: أنت لا تقدر أن تصاحبني لما ترى [منّي] من الأفعال الّتي تخالف شريعتك؛ لأنّي على علمٍ من علم اللّه، ما علّمكه اللّه، وأنت على علمٍ من علم اللّه، ما علّمنيه اللّه، فكلٌّ منّا مكلّفٌ بأمورٍ. من اللّه دون صاحبه، وأنت لا تقدر على صحبتي). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 181]

تفسير قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) :({وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرًا} فأنا أعرف أنّك ستنكر عليّ ما أنت معذورٌ فيه، ولكن ما اطّلعت على حكمته ومصلحته الباطنة الّتي اطّلعت أنا عليها دونك). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 181]

تفسير قوله تعالى: {قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) :({قال} له موسى: {ستجدني إن شاء اللّه صابرًا} أي: على ما أرى من أمورك، {ولا أعصي لك أمرًا} أي: ولا أخالفك في شيءٍ. فعند ذلك شارطه الخضر {قال فإن اتّبعتني فلا تسألني عن شيءٍ} أي: ابتداءً {حتّى أحدث لك منه ذكرًا} أي: حتّى أبدأك أنا به قبل أن تسألني.
قال ابن جريرٍ: حدّثنا ابن حميدٍ، حدّثنا يعقوب، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ قال: سأل موسى ربّه، عزّ وجلّ، فقال: ربّ، أيّ عبادك أحبّ إليك؟ قال: الّذي يذكرني ولا ينساني. قال فأيّ عبادك أقضى؟ قال: الّذي يقضي بالحقّ ولا يتّبع الهوى. قال أي ربّ، أيّ عبادك أعلم؟ قال الّذي يبتغي علم النّاس إلى علمه، عسى أن يصيب كلمةً تهديه إلى هدًى أو تردّه عن ردًى. قال: أي ربٍّ هل في أرضك أحدٌ أعلم منّي؟ قال: نعم. قال: فمن هو؟ قال الخضر. قال: فأين أطلبه؟ قال على السّاحل عند الصّخرة، الّتي ينفلت عندها الحوت. قال: فخرج موسى يطلبه، حتّى كان ما ذكر اللّه، وانتهى موسى إليه عند الصّخرة، فسلّم كلّ واحدٍ منهما على صاحبه. فقال له موسى: إنّي أريد أن تصحبني قال إنّك لن تطيق صحبتي. قال: بلى. قال: فإن صحبتني {فلا تسألني عن شيءٍ حتّى أحدث لك منه ذكرًا} قال: فسار به في البحر حتّى انتهى إلى مجمع البحور، وليس في الأرض مكانٌ أكثر ماءً منه. قال: وبعث اللّه الخطّاف، فجعل يستقي منه بمنقاره، فقال لموسى: كم ترى هذا الخطّاف رزأ من هذا الماء؟ قال: ما أقلّ ما رزأ! قال: يا موسى فإنّ علمي وعلمك في علم اللّه كقدر ما استقى هذا الخطّاف من هذا الماء. وكان موسى قد حدّث نفسه أنّه ليس أحدٌ أعلم منه، أو تكلّم به، فمن ثمّ أمر أن يأتي الخضر. وذكر تمام الحديث في خرق السّفينة، وقتل الغلام، وإصلاح الجدار، وتفسيره له ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 5/ 181-182]

رد مع اقتباس