عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 14 ذو القعدة 1439هـ/26-07-2018م, 03:35 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)}
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (و"من" في قوله: {من كفر} بدل من قوله: "الكاذبون"، ولم يجز الزجاج غير هذا الوجه; لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام، فعلقه بما قبله، والذي أبى الزجاج سائغ على ما أورده الآن إن شاء الله.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وهذا يتأيد بما روي من أن قوله: {وأولئك هم الكاذبون} يراد به عبد الله بن أبي سرح، ومقيس بن صبابة وأشباههما ممن كان آمن برسول الله ثم ارتد، فلما بين في هذه الآية أمر الكاذبين بأنهم الذين كفروا بعد الإيمان أخرج من هذه الصفة القوم المؤمنين المعذبين بمكة، وهم بلال وعمار وسمية أمه وخباب وصهيب وأشباههم، وذلك أن كفار مكة كانوا في صدر الإسلام يؤذون من أسلم من هؤلاء لضعفه، ويعذبونهم ليرتدوا، فربما سامحهم بعضهم بما أرادوا من القول، روي أن عمار بن ياسر فعل ذلك فاستثناه الله في هذه الآية، وبقيت الرخصة عامة في الأمر بعده. ثم ابتدأ الإخبار بأن من شرح صدرا بالكفر فعليهم، وهذا الضمير على معنى "من" لا على لفظها.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وفي هذا من الاعتراض أن أمر ابن أبي سرح وأولئك إنما كان ورسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، والظاهر من هذه الآية أنها مكية، وقالت فرقة: "من" في قوله: {من كفر} ابتداء، وقوله: {من شرح} تخصيص منه، ودخل الاستثناء لما ذكرنا من إخراج عمار وشبهه، ودنا من الاستثناء الأول الاستدراك بلكن. وقوله: "فعليهم" خبر عن "من" الأولى والثانية; إذ هو واحد بالمعنى; لأن الإخبار في قوله إنما قصد به الصنف الشارح بالكفر، فـ "صدرا" نصب على التمييز، وقوله: {شرح بالكفر
[المحرر الوجيز: 5/411]
صدرا} معناه: انبسط إلى الكفر باختياره، ويروى أن عمار بن ياسر شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع به من العذاب، وما سامع به من القول، فقال له: "كيف تجد قلبك؟" قال: أجده مطمئنا بالإيمان، قال: "فأجبهم بلسانك فإنه لا يضرك، وإن عادوا فعد"، ويتعلق بهذه الآية شيء من مسائل الإكراه، أما من عذبه كافر قادر عليه ليكفر بلسانه، وكان العذاب يؤدي إلى قتله فله الإجابة باللسان قولا واحدا فيما أحفظ، فإن أراد منه الإجابة بفعل كالسجود إلى صنم ونحو ذلك ففي هذا اختلاف فقالت فرقة هي الجمهور: يجيب بحسب التقية، وقالت فرقة: لا يجيب، ويسلم نفسه، وقالت فرقة: إن كان الصنم نحو القبلة أجاب، واعتقد السجود لله.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وما أحراه أن يسجد لله حينئذ حيثما توجه، وهذا مباح في السفر لتعب النزول عن الدابة في التنقل، فكيف لهذا؟ واحتجت فرقة على التفريق في المنع بقول ابن مسعود: "ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان إلا كنت متكلما به"، فقصر الرخصة على القول دون الفعل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وليس هذا بحجة، لأنه يحتمل أن جعل الكلام مثالا وهو يريد أن الفعل في حكمه،
[المحرر الوجيز: 5/412]
وأما الإكراه في البيع والطلاق والعتق والفطر في رمضان وشرب الخمر ونحو هذا من المعاصي التي بين العبد والله تبارك وتعالى فلا يلزم المكره شيء من ذلك، قاله مطرف، ورواه عن مالك، وقاله ابن عبد الحكم وأصبغ، وروياه عن ابن القاسم عن مالك، وفرق ابن عباس رضي الله عنهما بين ما منها قول كالعتق والطلاق فجعل فيها التقية، وقال: لا تقية فيما كان فعلا كشرب الخمر والفطر في رمضان، ولا يحل فعلها لمكره، وأما المظلوم فيضغط حتى يبيع متاعه، فذلك بيع لا يجوز عليه، وهو أولى بمتاعه يأخذه بلا ثمن، ويبيع المشتري بالثمن ذلك الظالم، فإن فات المتاع رجع بثمنه أو بقيمته -بالأكثر من ذلك- على الظالم إذا كان المشتري غير عالم بظلمه، قال مطرف: ومن كان من المشترين يعلم حال المكره فإنه ضامن لما ابتاع من رقيقه وعروضه كالغاصب، وأما من لا يعلم فلا يضمن العروض والحيوان، وإنما يضمن ما كان تلفه بسببه، مثل طعام أكله، أو ثوب لبسه، والغلة -إذا علم أو لم يعلم- ليست له بحال، هو لها ضامن كالغاصب، وقاله أصبغ وابن عبد الحكم: قال مطرف: وكل ما أحدث المبتاع في ذلك من عتق أو تدبير أو تحبيس فلا يلزم المكره، وله أخذ متاعه. وأما الإكراه على قتل مسلم أو جلده وأخذ ماله أو بيع متاعه فلا عذر فيه، ولا استكراه في ركوب معصية تنتهك من أحد كالزنى والقتل أو نحوه، قال مطرف، وأصبغ، وابن عبد الحكم: لا يفعل أحد ذلك وإن قتل إن لم يفعله، فإن فعل فهو آثم ويلزمه الحد والقود، وقال مالك: القيد إكراه، والسجن إكراه، والوعيد المخوف إكراه وإن لم يقع إذا تحقق ظلم ذلك المتعدي وإنفاذه لما يتوعد، ويعتبر الإكراه عندي بحسب همة المكره وقدره في الدين، وبحسب قدر الشيء الذي يكره عليه، فقد يكون الضرب إكراها في شيء دون شيء، فلهذه النوازل فقه الحال، وأما يمين المكره كما قلنا فهي غير لازمة، قال ابن الماجشون: وسواء حلف فيما هو لله تبارك وتعالى طاعة أو معصية إذا أكره على اليمين، قاله أصبغ، وقال مطرف: إن أكره على اليمين فيما هو لله تعالى معصية أو فيما ليس في فعله طاعة ولا معصية فاليمين فيه ساقطة، إن أكره على اليمين فيما هو طاعة مثل أن يأخذ الوالي رجلا فاسقا فيكرهه أن يحلف بالطلاق أن لا يشرب خمرا، أو لا يفسق، أو لا يغش في عمله، أو الوالد يحلف ولده في مثل هذا تأديبا له فإن اليمين تلزم وإن كان المكره قد أخطأ فيما تكلف من ذلك، وقال به ابن حبيب. وأما إن أكره
[المحرر الوجيز: 5/413]
رجل على أن يحلف وإلا أخذ له مال -كأصحاب المكس، وظلمة السعاة، وأهل الاعتداء- فقال مطرف: لا تقية في ذلك، وإنما يدرأ المرء بيمينه عن بدنه لا عن ماله، وقال ابن الماجشون: لا يحنث وإن درأ عن ماله ولم يخف على بدنه. وقال ابن القاسم: بقول مطرف، ورواه عن مالك رحمه الله، وقاله ابن عبد الحكم، وأصبغ، وابن حبيب. قال مطرف، وابن الماجشون: وإن بدر الحالف بيمينه للوالي الظالم قبل أن يسأله ليذب بها عما خاف عليه من بدنه وماله فحلف له فإنها تلزمه، قاله ابن عبد الحكم وأصبغ، وقال أيضا ابن الماجشون فيمن أخذه ظالم فحلف له بالطلاق البتة من غير أن يحلفه وتركه وهو كاذب، وإنما حلف خوفا من ضربه وقتله أو أخذ ماله، فإن كان إنما يتبرع باليمين غلبة خوف ورجاء النجاة من ظلمه فقد دخل في الإكراه ولا شيء عليه، وإن لم يحلف على رجاء النجاة فهو حانث، وإذا اتهم الوالي أحدا بفعل أمر فقال له: لا بد من عقوبتك إلا أن تحلف لي، فإن كان ذلك الأمر مما لذلك المكره فعله -إما أن يكون طاعة، وإما أن يكون لا طاعة ولا معصية- فالتقية في هذا، وأما إن كان الأمر مما لا يحل له فعله ويكون حظر الوالي فيه صوابا فلا تقية في اليمين، وهو حانث، قاله مالك، وابن الماجشون. فهذه نبذة من مسائل الإكراه). [المحرر الوجيز: 5/414]

تفسير قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)}
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون}
"ذلك" إشارة إلى الغضب والعذاب الذي توعد به قبل هذه الآية، والضمير في "أنهم" لمن شرح بالكفر صدرا، ولما فعلوا فعل من استحب ألزموا ذلك وإن كانوا غير
[المحرر الوجيز: 5/414]
مصدقين بالآخرة، لكن الأمر في نفسه بين، فمن حيث أعرضوا عن النظر فيه كانوا كمن استحب غيره، وهذه الآية علق فيها العقاب بتكسبهم وذلك أن استحبابهم زينة الدنيا ولذات الكفر هو التكسب.
وقوله: {وأن الله لا يهدي القوم الكافرين} إشارة إلى اختراع الله تعالى الكفر في قلوبهم، ولا شك أن كفر الكافر الذي يتعلق به العقاب إنما هو باختراع من الله تعالى وتكسب من الكافر، فجمعت الآية بين الأمرين، وعلى هذا مرت عقيدة أهل السنة. وقوله: {لا يهدي القوم الكافرين} عموم على أنه لا يهديهم من حيث هم كفار في نفس كفرهم، أو عموم يراد به الخصوص فيمن يوافي). [المحرر الوجيز: 5/415]

تفسير قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108)}
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {أولئك الذين طبع الله على قلوبهم} الآية، عبارة عن صرف الله لهم عن طريق الهدى، واختراع الكفر المظلم في قلوبهم، وتغليب الإعراض على نظرهم، فكأنه سد بذلك طرق هذه الحواس حتى لا ينتفع بها في اعتبار وتأمل، وقد تقدم القول وذكر الاختلاف في الطبع والختم في سورة البقرة، وهل هو حقيقة أو مجاز. و"السمع": اسم جنس، وهو مصدر في الأصل، فلذلك وحد، ونبه على تكسبهم الإعراض عن النظر فوصفهم بالغفلة). [المحرر الوجيز: 5/415]

تفسير قوله تعالى: {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)}
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (وقد سبق شرح "لا جرم" في هذه السورة). [المحرر الوجيز: 5/415]

تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)}
قال عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا} الآية. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم، فنزلت: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} إلى آخر الآية، قال: وكتب بها إلى من بقي من المسلمين بمكة، وأن لا عذر لهم، فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم ومن الناس من يقول آمنا بالله إلى آخر الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك، فخرجوا ويئسوا من
[المحرر الوجيز: 5/415]
كل خير، ثم نزلت فيهم: {ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا} فكتبوا إليهم بذلك أن الله قد جعل لكم مخرجا، فلحقهم المشركون فقاتلوهم حتى نجا من نجا، وقتل من قتل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
جاءت الرواية هكذا أنهم بعد نزول الآية خرجوا، فيجيء الجهاد الذي ذكر في الآية جهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام، وروت طائفة أنهم خرجوا واتبعوا وجاهدوا متبعيهم، فقتل من قتل، ونجا من نجا، فنزلت الآية حينئذ، فمعنى بالجهاد المذكور جهادهم لمتبعيهم.
وقال ابن إسحاق: نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر، وعياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله:
وذكر عمار في هذا عندي غير قويم، فإنه أرفع من طبقة هؤلاء، وإنما هؤلاء من تاب ممن شرح بالكفر صدرا، فتح الله لهم باب التوبة في آخر الآية.
وقال عكرمة، والحسن: نزلت هذه الآية في شأن عبد الله بن أبي سرح وأشباهه، فكأنه قال: من بعد ما فتنهم الشيطان. وهذه الآية مدنية، ولا أعلم في ذلك خلافا، وإن وجد فهو ضعيف.
وقرأ الجمهور: "من بعد ما فتنوا" بضم الفاء وكسر التاء، وقرأ ابن عامر وحده بفتحها، فإن كان الضمير للمعذبين فيجيء بمعنى: فتنوا أنفسهم بما أعطوا للمشركين من القول، كما فعل عمار بن ياسر، وأما على قراءة الجمهور فإن كان الضمير للمعذبين فهو بمعنى: من بعد ما فتنهم المشركون، وإن كان الضمير للمشركين فهو بمعنى: من بعد ما فتنهم الشيطان. والضمير في "بعدها" عائد على الفتنة، أو على الفعلة، أو الهجرة، أو التوبة، والكلام يعطيها، وإن لم يجر لها ذكر صريح). [المحرر الوجيز: 5/416]

رد مع اقتباس