عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 25 محرم 1440هـ/5-10-2018م, 10:49 AM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي الاستعاذة

الاستعاذة

قال أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعي الجرجاني (ت: 408هـ): (باب الاستعاذة
قال أبو الفضل أقرأني أبو علي بن حبشٍ، عن الحسن بن عطية، عن حمزة بإخفاء التعوذ في كل القرآن، وهي رواية الحلواني عن خلف، وخلاد، وإبراهيم بن زربي، عن سليم.
وقرأ ابن كثير إلا في رواية الهاشمي، وأبو عمرو، وأبو بحرية، وعاصم إلا في رواية الدويري طريق الرازي (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).
[المنتهى: 1/534]
وقرأت على أبي بكر ابن الشارب، عن أبي بكر الزينبي عن قنبل، وعلى أبي عدي (أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم).
وقرأت على أبي بكر الهبيري، عن هبيرة (أعوذ بالله العظيم السميع العليم من الشيطان الرجيم).
وقرأت عن نافع إلا في رواية أبي عدي، وأبي جعفر، وابن عامر، والكسائي (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم). وبه قرأت على ابن حبش فيما أظن، والله أعلم.
وقرأت عن سهل وأيوب (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم).
[المنتهى: 1/535]
وقرأت عن يعقوب، وسلام، وأبي عبيد، وخلفٍ كأبي عمرو.
وعن حمزة نستعيذ. وليس لها عن الأئمة نص فيما علمت، وقد قال الحلواني وليس للاستعاذة حد ينتهي إليه، من شاء زاد، ومن شاء نقصه. وقد جعل لها وللتسمية كتابًا مفردًا.
والاختيار: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)؛ للحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[المنتهى: 1/536]
وجاء تصديقه {فإذا قرأت القرآن} الآية [النحل: 98]). [المنتهى: 1/537]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (ذكر الاستعاذة والاختلاف في البسملة
اعلم وفقك الله للصواب أن الرواية في الاستعاذة قد عدمت عن كثير من القراء، ورويت عن بعض، فروى الحلواني عن خلف عن سليم عن حمزة إخفاء التعوذ والجهر بالبسملة في فاتحة الكتاب، وروى ابن زربى عن سليم إخفاءهما جميعًا، وروى المسيبي عن نافع ترك التعوذ والجهر بالبسملة، وليس هذا كتاب تقصي الروايات، وإنما نذكر في هذا الباب وغيره حسبما قرأت به، وأنبه على اليسير مما خالفه؛ والمختار لجميع القراء المعول عليه أن يبتدئ القارئ بأعوذ بالله من الشيطان الرجيم جهرًا لقوله تعالى: {وإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} ). [التبصرة: 58]
قال أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني (ت: 444هـ): (باب ذكر الاستعاذة
اعلم أن المستعمل عند الحذاق من أهل الأداء في لفظها: (أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم)، دون غيره. وذلك لموافقة الكتاب والسّنة.
فأما الكتاب فقوله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه من الشّيطان الرّجيم}.
وأما السّنة فما رواه نافع بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن النّبي، صلى الله عليه وسلم، أنه استعاذ قبل قراءة القرآن بهذا اللّفظ بعينه. وبذلك قرأت، وبه آخذ.
ولا أعلم خلافًا بين أهل الأداء في الجهر بها عند افتتاح القرآن، وعند الابتداء برؤوس الأجزاء، وغيرها، في مذهب الجماعة، اتباعا للنّص، واقتداء بالسنة.
فأما الرّواية بذلك فوردت عن أبي عمرو أداء، من طريق
[التيسير في القراءات السبع: 122]
أبي حمدون عن اليزيدي، عنه. ومن طريق محمّد بن غالب، عن شجاع، عنه.
وروى إسحاق المسيبي عن نافع أنه كان يخفيها في جميع القرآن.
وروى سليم عن حمزة أنه كان يجهر بها في أول أم القرآن خاصّة، ويخفيها بعد ذلك في سائر القرآن.
كذا قال خلف عنه.
وقال خلاد عنه: إنه كان يجيز الجهر بها في ذلك والإخفاء جميعًا، ولا ينكر على من جهر، ولا على من أخفى.
والباقون: لم يأت عنهم في ذلك شيء منصوص. واللّه أعلم). [التيسير في القراءات السبع: 123]
- قال محمد بن محمد بن محمد بن علي ابن الجزري (ت: 833هـ) :( (باب ذكر الاستعاذة)
اعلم أن المستعمل عند الحذاق من أهل الأداء في لفظها:
[تحبير التيسير: 181]
أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم دون غيره وذلك لموافقة الكتاب والسّنة [فأما] الكتاب فقوله تعالى لنبيه صلّى اللّه عليه وسلّم: فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه من الشّيطان الرّجيم) وأما السّنة فما رواه نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنه أستعاذ قبل القراءة بهذا اللّفظ بعينه وبذلك قرأت وبه آخذ ولا أعلم خلافًا بين أهل الأداء في الجهر بها عند افتتاح القرآن وعند الابتداء برءوس الأجزاء وغيرها في مذهب الجماعة اتباعا للنّص واقتداء بالسنة.
فأما الرّواية بذلك فوردت عن أبي عمرو أداء من طريق [أبي] حمدون عن
[تحبير التيسير: 182]
اليزيدي عنه، ومن طريق محمّد بن غالب عن شجاع عنه، وروى إسحاق المسيبي عن نافع أنه كان يخفيها في جميع القرآن وروى سليم عن حمزة أنه كان يجهر بها في أول أم القرآن خاصّة ويخفيها بعد ذلك في سائر القرآن. كذا قال خلف عنه، وقال خلاد عنه: أنه كان يجيز الجهر والإخفاء جميعًا. ولا ينكر على من [يجهر] ولا على من [يخفي] والباقون لم يأت عنهم في ذلك شيء منصوص [والله أعلم] ). [تحبير التيسير: 183]
قال أحمد بن علي بن خلف ابن الباذش الأنصاري (ت: 540هـ): (باب: الاستعاذة
المحتاج إلى معرفته في هذا الباب لفظ الاستعاذة، وصورة استعمالها:
فأما لفظها: فلم يأت فيه عن أحد من السبعة نص، وقد قال أبو الحسن أحمد بن يزيد الحلواني: ليس للاستعاذة حد تنتهي إليه، من شاء زاد، ومن شاء نقص.
واختلف أهل الأداء فيها اختلافا شديدا، فقال لنا أبو القاسم -رحمه الله- عن أبي معشر، عن الرفاعي، عن الخزاعي: إنه قرأ على أبي عدي لورش: "أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم" وهي رواية أهل مصر عن ورش، فيما ذكر الأهوازي.
وبه قرأت على أبي القاسم من طريقه، وكذا روي ابن الشارب عن
[الإقناع: 1/149]
الزينبي عن قنبل، وليست رواية الزينبي في كتابي هذا، ولكني لا أزال أذكر الشيء من رواية لم أضمنها الكتاب على طريق الفائدة والتنبيه، وتنشيط القارئ إلى طلب تلك الروايات والبحث عنها، فاعلمه.
وقيل عن نافع أيضا: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم".
وقيل عن ابن عامر والكسائي: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم" وبه أخذ أبو علي بن حبش في رواية السوسي، وأراه اختيارا منه كما اختار التكبير من {وَالضُّحَى} وكان يأخذ به لجميع القراء.
وقيل عن هبيرة عن حفص: "أعوذ بالله العظيم السميع العليم من الشيطان الرجيم".
وقيل عن حمزة: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم"
[الإقناع: 1/150]
وقيل عنه أيضا: "أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم".
واختار بعضهم لجميع القراء: "أعوذ بالله القوي من الشيطان الغوي".
ولكل لفظ من ألفاظ الاستعاذة وجه يستند إليه، وقولهم: "الاستعاذة" يصلح بهذه الألفاظ كلها، ولا يعين واحد منها.
والذي صار إليه معظم أهل الأداء، وأختاره لجميع القراء: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" لما روى عبد الله بن مسعود وأبو هريرة وجبير بن مطعم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه استعاذ عند القراءة بهذا اللفظ بعينه، وجاء تصديقه في التنزيل، قال الله عز وجل: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] فندبه إلى استعمال هذا اللفظ عندما يريد القراءة، والمعنى: فإذا أردت قراءة القرآن.
[الإقناع: 1/151]
وأما صورة استعمالها، فالقراء فيه على ثلاثة أقسام:
قسم ورد عنه إخفاؤها.
وقسم ورد عنه الجهر بها.
وقسم لم يرد عنه نص على إخفاء، ولا جهر.
القسم الأول: ينقسم ثلاثة أقسام: الإخفاء في جميع القرآن وفاتحة الكتاب، والإخفاء في جميع القرآن إلا فاتحة الكتاب، والتخيير بين الإخفاء والجهر.
فأما الإخفاء في جميع القرآن وفاتحة الكتاب: فرواه خلف وأبو حمدون عن المسيبي عن نافع، وإبراهيم بن زربي عن سليم عن حمزة.
وأما الإخفاء في جميعه إلا فاتحة الكتاب: فرواه الحلواني عن خلف.
وأما التخيير: فرواه الحلواني عن خلاد.
وهل تدخل أم القرآن في التخيير؟
فعندي أنها لا تدخل؛ حملا على روايته عن خلف.
[الإقناع: 1/152]
القسم الثاني: روى القصباني عن محمد بن غالب عن شجاع عن أبي عمرو إخفاء الميم من "الرجيم" عند الباء من "بسم الله" إذا آثر الإدغام، وهذا يقتضي الجهر، وكذلك ورد عن أبي حمدون عن اليزيدي عن أبي عمرو أداء.
وذكر عثمان بن سعيد أن ما ورد عن أبي عمرو من الجهر أداء لا نص.
القسم الثالث: سائر القراء لم يرد عنهم نص عن جهر، ولا إخفاء.
والمختار للجماعة الجهر بالاستعاذة، وقد صارت رواية الإخفاء عندهم كالمرفوضة، ورب شيء هكذا يروى ثم يسقط العمل به، وسيمر بك في هذا الكتاب من ذلك أشياء إن شاء الله.
[الإقناع: 1/153]
قال أبو جعفر: الاستعاذة مقدمة على التسمية عند ابتداء القراءة لا عند انتهائها، سواء بدأت بأول سورة أو رأس جزء أو غيرهما، ولك أن تصلها بالتسمية في نَفَس واحد وهو أتم؛ لأنك تكمل الاستفتاح، ولك أن تسكت عليها ولا تصلها بالتسمية، وذلك أشبه بمذهب أهل الترتيل، فأما من لم يسم فالأشبه عندي أن يسكت عليها ولا يصلها بشيء من القرآن، ويجوز وصلها به، والله أعلم). [الإقناع: 1/154]
قال القاسم بن فيرُّه بن خلف الشاطبي (ت: 590هـ): (باب الاستعاذة
95 - إِذَا مَا أَرَدْتَ الدَّهْرَ تَقْرَأُ فَاسْتَعِذْ = جِهَاراً مِنَ الشَّيْطَانِ بِاللهِ مُسْجَلاَ
96 - عَلَى مَا أَتَى في النَّحْلِ يُسْراً وَإِنْ تَزِدْ = لِرَبِّكَ تَنْزِيهاً فَلَسْتَ مُجَهَّلاَ
97 - وَقَدْ ذَكَرُوا لَفْظَ الرَّسُولِ فَلَمْ يَزِدْ = وَلَوْ صَحَّ هذَا النَّقْلُ لَمْ يُبْقِ مُجْمَلاَ
98 - وَفِيهِ مَقَالٌ في الْأُصُولِ فُرُوعُهُ = فَلاَ تَعْدُ مِنْهَا بَاسِقاً وَمُظَلِّلاَ
99 - وَإِخْفَاؤُهُ فَصلْ أَبَاهُ وَعُاَتُنَا = وَكَمْ مِنْ فَتىً كالْمَهْدَوِي فِيهِ أَعْمَلاَ). [الشاطبية: 8]
- قال علم الدين علي بن محمد السخاوي (ت: 643هـ): (الاستعاذة
[95] إذا ما أردت الدهر تقرأ فاستعذ = جهارًا من الشيطان بالله مسجلا
الاستعاذة : استدعاء عصمة الله ومنعه؛ إذ التعوذ الالتجاء إليه والاعتصام به.
وقوله: (إذا ما أردت)، تنبيه على معنى قوله عز وجل: {فإذا قرأت القرءان ..}؛ لأن معناه: وإذا أردت قراءة القرآن ، وهو كقولك : إذا أكلت فسم الله ؛ أي إذا أردت الأكل.
وقد تمسك قومٌ بظاهره ، فذهبوا إلى الاستعاذة بعد القراءة ؛ وليس ذلك معناه، وإنما هو استغناء بالفعل عن ذكر الإرادة لشدة اتصاله بها، ولكونه موجودًا عنها.
وقوله: (جهارًا)، هو المختار لسائر القراء.
والمسجل : المطلق؛ أي لجميع القراء وفي جميع القرآن .
[فتح الوصيد: 2/197]
[96] على ما أتي في النحل يسرًا وإن تزد = لربك تنزيهًا قلت فلست مجهلا
أي على اللفظ الذي أتى في النحل؛ أي بـ : قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
ومعنى (يسرًا)، أي ميسرا . والميسَّر: المسهل؛ فهو في موضع الحال. وزيادة التنزيه أن تقول: أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم؛ أو أعوذ بالله السميع العليم، ونحو ذلك.
[97] وقد ذكروا لفظ الرسول فلم يزد = ولو صح هذا النقل لم يُبق مجملا
هو ما روي عن ابن مسعود أنه قال: «قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أعوذ بالله السميع العليم، فقال لي: يا ابن أم عبد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. هكذا أقرأنيه جبريل عن القلم عن اللوح المحفوظ». وفي بعض الطرق: «هكذا أخذتها عن جبريل عن ميكائيل عن اللوح المحفوظ».
[فتح الوصيد: 2/198]
وروى نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول قبل القراءة : «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم».
ولو صح هذا النقل لارتفع الإجمال، ولتقيد به إطلاق الآية، ولكنه المختار، لموافقته لفظ الآية، ولورود الحديث على الجملة.
وأصل أَعُوذُ، أَعْوُذُ، فاستثقلت الضمة على الواو، فنقلت إلى العين.
[98] وفيه مقالٌ في الأصول فروعه = فلا تعدُ منها باسقًا ومُظللا
يعني أصول الفقه وأصول القراءات.
أما أصول الفقه، ففيها فروع ذلك المقال؛ أي ما تشعب منه. وذلك أن القراء يقولون اتباعًا لنص الكتاب، فلا بد من معرفة النص والظاهر، وهل هذا الأمر على الوجوب أم لا ؟!
وأما أصول القراءات ففيها الحديثُ في استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتاج إلى معرفة ما قيل في سنده.
والباسق: الطويل المرتفع.
والمظلل : الساتر بظله من استظل به.
[فتح الوصيد: 2/199]
[99] وإخفاؤه (فـ ) صلٌ (أ)باه وعاتُنا = وكم من فتًى كالمهدوي فيه أعملا
نقل إخفاء التعوذ عن حمزة ونافع في قوله: (فصلٌ أباه وعاتُنا)، وأشار بظاهر اللفظ إلى ضعف هذا المذهب.
قال الحافظ أبو عمرو : «روى المسيبي عن نافع إخفاء الاستعاذة في جميع القرآن.
وروى سليم عن حمزة أنه كان يجهر بها في أول أم القرآن ، ويخفيها بعد ذلك في جميع القرآن، كذا قال خلف عنه.
وقال خلاد : إنه كان يجيز الجهر والإخفاء جميعًا».
ولم يذكر في القصيد الجهر بها عن حمزة في رواية خلف عن سليم في أول الفاتحة خاصة، لضعف ذلك.
وروى الحُلواني عن خلف قال : «كنا نقرأ على سليم، فنخفي التعوذ ونجهر ببسم الله في الحمد خاصة، وتخفيهما جميعًا في سائر القرآن».
وروى غير الحلواني عن سليم أنه كان يخفيهما جميعًا في ذلك كله.
وكذلك لم يذكر التخيير لخلاد غير سليم؛ لأنه لا معول عليه، وإنما ذكر مذهب حمزة في الإخفاء وهو الذي نقله الأئمة، ونبه على أنه مرغوب عنه عند الوعاة الحذاق.
[فتح الوصيد: 2/200]
والغرض بإخفائه الفصل بينه وبين البسملة، فإنها عنده آية من الفاتحة ليفصل بين القرآن وغيره.
وذكر المهدوي وغيره الإخفاء ، وأخذوا به في الفاتحة وغيرها.
وروي عن نافع أيضًا الإخفاء للفرق كما سبق.
وروى عنه ترك التعوذ أصلًا، إشعارًا بأن الأمر على الندب لا على الوجوب.
ولم ينقل المهدوي عن نافع الإخفاء).[فتح الوصيد: 2/201]
- قال محمد بن أحمد الموصلي (شعلة) (ت: 656هـ): ( [1] باب الاستعاذة:
ب: الاستعاذة: طلب الإعاذة، وهي: العصمة كالاستجارة والاستغاثة، من (عاذ به): إذا التجأ إليه.
ح: (بابُ): خبر مبتدأ محذوف.
ص: يقول: هذا بابٌ يذكر فيه مذاهب القراء في الاستعاذة قبل القراءة، ولفظ الاستعاذة على اختلافه خبر بمعنى الدعاء.
[95] إذا ما أردت الدهر تقرأ فاستعذ = جهارًا من الشيطان بالله مسجلا
ب: (الإرادة): القصد، و(الجهار): الإعلان، مصدر (جاهر) كـ (قاتل قتالا)، أو (جهر) كـ (حسب حسابًا)، و(الإسجال): الإطلاق.
ح: (إذا) ظرف زمان فيه معنى الشرط، و(ما): زائدة لتأكيد الشريط، و (الدهر): ظرف لـ (أردت)، أي: في جميع الدهر و(تقرأ): في تقدير: (أن تقرأ) بمعنى القراءة، فلما حذف (أن) رفع الفعل، كما تقول: (تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه)، و(تقرأ): في موضع النصب مفعولًا لـ (أردت)، و(فاستعذ): جواب الشرط، و (جهارًا): صفة مصدر محذوف، أي: تعوذا جهارًا، أي: ذا جهار، أو حال، أي: مجاهرًا، (بالله): صلة (فاستعذ)، و (مسجلا): صفة أيضًا للمصدر المحذوف، أو حال.
[كنز المعاني: 1/326]
ص: يقول: إذا أردت قراءة القرآن في سائر الأزمان: فتعوذ بالله من الشيطان تعوذًا معلنًا مطلقًا لجميع القراء في جميع القرآن، لا يختص بقارئ وبسورة وبحزبٍ دون غيرها، مأخوذ من قوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم)} [النحل: 98].
أي: إذا أردت القراءة بإطلاق اللازم وإرادة الملزوم، كقوله تعالى: {إذا قمتم إلا الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المادة: 6]، وصرح الشيخ بذلك بقوله: (إذا ما أردت).
واعلم أن الجهار إنما يحسن بحضرة من يسمع قراءته، فأما من يقرأ خاليًا أو في الصلاة فالإخفاء أولى.
[96] على ما أتى في النحل يُسرًا وإن تزد = لربك تنزيهًا فلست مجهلا
ب: (أتى): ورد، (في النحل): في سورة النحل، وهو قوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98]، (اليسر) السهل، (التنزيه): تبرئة الله عن كل سوء، (المجهل): المنسوب إلى الجهل.
[كنز المعاني: 1/327]
ح: (على ما أتى): منصوب المحل نعتًا آخر للتعوذ، أو حالًا، أي: معتمدًا على ما أتى، (يسرًا): مصدر بمعنى الحال، أي: ميسرًا، (تزد) من (زاد) المتعدي إلى المفعولين نحو قوله تعالى: {وزدناهم هدًى} [الكهف: 13] أحدهما: محذوف، والآخر: (تنزيهًا)، أي: وإن تزد الاستعاذة تنزيهًا، و(لربك): مفعول له، أي: تزد لأجل الله تنزيهًا، ويجوز أن يكون (لربك): صلة لـ (تنزيهًا) وعمل المصدر فيما قبله للاتساع في الظروف، ويجوز أن يكون (لربك): مفعولًا أولًا، زيدت اللام للتأكيد.
ص: أي: استعذ كما ورد في سورة لنحل من غير زيادة تنزيه عليه، حال كون ذلك سهلًا ميسرًا، لكونه أقل حروفًا وكلماتٍ، وإن زدت الاستعاذة تنزيهًا بأن قلت: (أعوذ بالله السميع العليم)، أو (أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم)، ونحوه لم تُنسب إلى الجهل، لأنه أيضًا
[كنز المعاني: 1/328]
مروي مرضي.
[97] وقد ذكروا لفظ الرسول فلم يزد = ولو صح هذا النقل لم يبق مجملا
ب: (الإجمال): في أصول الفقه: كون اللفظ مشتركًا بين معنيين فصاعدًا، نحو: {ثلاثة قروء} [البقرة: 228]، وههنا بمعنى الإطلاق، وكلاهما قريب.
ح: (مجملًا): بمعنى إجمالًا: أو صفة موصوف محذوف، أي: لفظًا موصوفًا بالإجمال.
[كنز المعاني: 1/329]
ص: أي: قد ذكر جماعة من القراء أخبارًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزد الرسول صلى الله عليه وسلم لفظةً على ما ورد في النحل.
كما روي عن جبير بن مطعم رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم».
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بالله السميع
[كنز المعاني: 1/330]
العليم من الشيطان الرجيم، فقال: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم».
وكلاهما ضعيف معارض بما هو أصح منه، نحو: ما أخرج أبو داود من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قام بالليل يقول: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه».
[كنز المعاني: 1/331]
وأشار إلى الضعف بقوله:
............ = ولو صح هذا النقل لم يُبق مجملا
لأن (لو) لامتناع الشيء لامتناع غيره، وإجمال الآية: أنها لا تدل إلا على طلب الاستعاذة، فبأي لفظٍ طلب المخاطب حصل المقصود، كما في قوله تعالى: {وسئلوا الله من فضله} [النساء: 32]، وأما تعيين لفظ دون آخر فمعنى لم يُفهم من إطلاق الآية.
[98] وفيه مقالٌ في الأصول فروعه = فلا تعد منها باسقًا ومظللا
ب: (المقال): مصدر بمعنى المفعول، (الأصل): ما يتفرع منه غيره، و (الفرع): ما يتفرع من غيره، (لا تعد): لا تتجاوز، (الباسق): الشجر المرتفع، (المظلل): ما له ظلٌ لكثرة فروعه.
[كنز المعاني: 1/332]
ح: (مقال): مبتدأ، (فروعه): مبتدأ ثانٍ، (في الأصول): خبره، والجملة: صفة المبتدأ الأول، و(فيه): خبر، وضمير (فيه): راجع إلى التعوذ، وفي (منها): إلى (فروعه)، و(باسقًا): صفة موصوفٍ محذوف، أي: فرعًا باسقًا، وهو مفعول (لا تعد)، وكذلك: (مظللًا).
والمراد بـ (الأصول): أصول الفقه؛ لأن الأصولي يبحث: أن الأمر هل هو للوجوب أم لا؟ وأن مثل {فاستعذ بالله} [النحل: 98] هل هو نص حتى يصح الاستدلال به في تعيين هذا اللفظ أم مجمل حتى لا يصح؟ أو أمهات كتب القراءة؛ لأن فيها تفاريع هذا
[كنز المعاني: 1/333]
البحث.
ص: يعني: أن في التعوذ، هل يتعين على ما في النحل أم لا؟ كلامٌ في أصول الفقه، أو في طوال كتب القراءة شعبه وأقسامه، فتأملها ولا تتجاوز عن الرفيع المظلل منها، أي: عن القول الراجح المشهور.
[99] وإخفاؤه فصلٌ أباه وعاتنا = وكم من فتى كالمهدوي فيه أعملا
ب: (أبى الأمر): إذا عصاه، و(الوعاة): جمع واعٍ بمعنى الحافظ، (المهدوي): هو أبو العباس أحمد بن عمار المقرئ، منسوب إلى (المهدية)
[كنز المعاني: 1/334]
قرية من بلاد المغرب، (أعمل الفكر): إذا حمله على العمل.
ح: (اخفاؤه): مبتدأ، خبره: (فصلٌ)، (أباه وعاتنا): جملة وصف بها الخبر، و(كم) الخبرية: مرفوعة المحل على الابتداء، وخبره: (أعملا)، ومفعول (أعملا): محذوف، أي: أعمل الفكر.
ص: أي: إخفاء التعوذ قسمٌ من أقسام الكلام رده علماؤنا الوعاة للعلوم، لأن الآية مطلقة، فتقييدها بالإخفاء خلاف الظاهر، ولا يقال: تقييدها بالجهر أيضًا خلاف الظاهر؛ لأن المقصود إظهار شعار القرآن، والجهر أظهر لشعاره.
والفاء: رمز حمزة، والألف: رمز نافع، والواو في (وعاتنا) -: للفصل، أي: روي الإخفاء عن حمزة ونافع.
[كنز المعاني: 1/335]
وفي قوله: (وإخفاؤه فصلٌ) إشارة إلى أن الإخفاء للفصل بين القرآن وغيره). [كنز المعاني: 1/336]
- قال أبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل الدمشقي (ت: 665هـ): (باب: الاستعاذة
كل ما يأتي في كتب العلماء من قولهم: باب، أو فرع، أو نحو ذلك فهو خبر مبتدأ محذوف. وبعضهم يظهره: أي هذا باب نذكر فيه مذاهب القراء في الاستعاذة قبل القراءة، وهي طلب الإعاذة من الله تعالى، وهي عصمته كالاستجارة والاستعانة والاستغاثة، يقال: عذت بفلان واستعذت به: أي لجأت إليه، ولفظ الاستعاذة على اختلافه كما سيأتي ذكره كلفظ الخبر، ومعناه الدعاء: أي اللهم أعذني.
95-
إِذَا مَا أَرَدْتَ -الدَّهْرَ- تَقْرَأُ فَاسْتَعِذْ،.. جِهَاراً مِنَ الشَّيْطَانِ بِاللهِ مُسْجَلا
الدهر منصوب على الظرف وجهارا مصدر في موضع الحال: أي مجاهرا أو جاهرا أو يكون نعت مصدر محذوف: أي تعوذا جهارًا أي ذا جهار، وهذا في استعاذة القارئ على المقرئ أو بحضرة من يسمع قراءته أما من قرأ خاليا أو في الصلاة فالإخفاء له أولى، ومسجلا: بمعنى مطلقا لجميع القراء في جميع القرآن لا يختص ذلك بقارئ دون غيره ولا بسورة ولا بحزب ولا بآية دون باقي السور والأحزاب والآيات، وهذا بخلاف البسملة على ما سيأتي، ووقت الاستعاذة ابتداءُ القراءة على ذلك العمل في نقل الخلف عن السلف إلا ما شذ عن بعضهم أن موضعها بعد الفراغ من القراءة، وقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} معناه إذا أردت القراءة كقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا}. وقول
[إبراز المعاني من حرز الأماني: 1/219]
النبي -صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأ أحدكم فليستنثر، ومن أتى الجمعة فليغتسل". كل ذلك على حذف الإرادة للعلم بها، وأظهر الشاطبي -رحمه الله- في نظمه ذلك المقدر المحتاج إليه في الآية، وهو الإرادة فقال: إذا ما أردت الدهر تقرأ،.. ولم يقل إذا ما قرأت الدهر للكل فاستعذ إشارة إلى تفسير الآية وشرحها، وهو كقولك: إذا أكلت فسم الله إذا أردت الأكل استغنى بالفعل عن ذكر الإرادة؛ لشدة اتصاله بها، ولكونه موجودا فيها.
96-
عَلَى مَا أَتَى في النَّحْلِ يُسْراً وَإِنْ تَزِدْ،.. لِرَبِّكَ تَنْزِيهاً فَلَسْتَ مُجَهَّلا
[إبراز المعاني من حرز الأماني: 1/220]
أي استعذ معتمدا على ما أتى في سورة النحل دليلا ولفظا، وهو قوله سبحانه وتعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}، فهذا اللفظ هو أدنى الكمال في الخروج عن عهدة الأمر بذلك، ولو نقص منه بأن قال: أعوذ بالله من الشيطان ولم يقل الرجيم كان
[إبراز المعاني من حرز الأماني: 1/221]
مستعيذا، ولم يكن آتيا باللفظ الكامل في ذلك، ويسرا مصدر في موضع الحال من فاعل أتى أي أتى ذا يسر، أي سهلا ميسرا وتيسره قلة كلماته فهو أيسر لفظا من غيره على ما سنذكره، وزاد يتعدى إلى مفعولين نحو قوله تعالى: {وَزِدْنَاهُمْ هُدىً}. والمفعول الأول هنا محذوف: أي وإن تزد لفظ الاستعاذة تنزيها: أي لفظ تنزيه يريد بذلك أن تذكر صفة من صفات الله تعالى تثني عليه بها سواء كانت صفة سلب أو ثبوت نحو أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم، أو أعوذ بالله السميع العليم فكل صفة أثبتها له فقد نزهته عن الاتصاف بضدها وقوله: لربك متعلق بتنزيها، ولا يمتنع ذلك من جهة كونه مصدرا فلا يتقدم معموله عليه فإن هذه القاعدة مخالفة ي الظروف؛ لاتساع العرب فيها وتجويزها من الأحكام فيها ما لم تجوزه في غيرها، وقد ذكرت ذلك في نظم المفصل وقررناه في الشرح الكبير، ومن منع هذا قدر لأجل تعظيم ربك وقيل لربك هو المفعول الأول دخلت اللام زائدة أي وإن تزد ربك تنزيها وقوله: فلست مجهلا أي منسوبا إلى الجهل؛ لأن ذلك كله صواب مروي، وليس في الكتاب ولا في السنة الثابتة ما يرد ذلك.
97-
وَقَدْ ذَكَرُوا لَفْظَ الرَّسُولِ فَلَمْ يَزِدْ،.. وَلَوْ صَحَّ هذَا النَّقْلُ لَمْ يُبْقِ مُجْمَلا
أي: وقد ذكر جماعة من المصنفين في علم القراءات أخبارا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وغيره لم يزد لفظها على ما أتى في النحل.
منها: "أن ابن مسعود رضي
[إبراز المعاني من حرز الأماني: 1/222]
الله عنه قرأ على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أعوذ بالله السميع العليم فقال: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم".
وعن جبير بن مطعم قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم".
وكلا الحديثين ضعيف والأول لا أصل له في كتب أهل الحديث.
والثاني أخرجه أبو داود بغير هذه العبارة وهو: "أعوذ بالله من الشيطان من نفخه ونفثه وهمزه".
ثم يعارض كل واحد منهما بما هو أصح منهما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قام من الليل يقول: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه". قال الترمذي: هو أشهر حديث في هذا الباب. وفي صحيح أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة عن ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم ونفخه وهمزه ونفثه".
وأشار بقوله: ولو صح هذا النقل إلى عدم صحته كما ذكرناه، وقوله: لم يبق مجملا أي إجمالا في الآية وذلك أن آية النحل لا تقتضي إلا طلب أن يستعيذ القارئ بالله من الشيطان الرجيم فبأي لفظ فعل المخاطب فقد حصل المقصود كقوله تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}.
ولا يتعين للسؤال هذا اللفظ فبأي لفظ سأل كان ممتثلا، ففي الآية إطلاق عبر عنه بالإجمال وكلاهما قريب، وإن كان بينهما فرق في علم أصول الفقه.
[إبراز المعاني من حرز الأماني: 1/223]
وأما زوال إجمال الآية لصحة ما رواه من الحديث، فوجهه أنه كان يتعين ختما أو أولوية وأياما كان فهو معنى غير المفهوم من الإطلاق والإجمال إذ الألفاظ كلها في الاستعاذة بالنسبة إلى الأمر المطلق سواء يتخير فيها المكلف وإذا ثبتت الأولوية لأحدها أو تعين فقد زال التخيير والله أعلم.
98-
وَفِيهِ مَقَالٌ في الأُصُولِ فُرُوعُهُ،.. فَلاَ تَعْدُ مِنْهَا بَاسِقاً وَمُظَلِّلا
أي في التعوذ قول كثير وكلام طويل تظهر لك فروعه في الكتب التي هي أصول وأمهات، يشير إلى الكتب المطولة في هذا العلم كالإيضاح لأبي علي الأهوازي والكامل لأبي القاسم الهذلي وغيرهما؛ ففيها يبسط الكلام في ذلك ونحوه فطالعها وانظر فيها ولا تتجاوز منها القول الصحيح الظاهر البين المتضح الحجج، وأشار إلى ذلك بقوله: باسقا أي عاليا والمظلل ما له ظل؛ لكثرة فروعه وورقه أي قولا باسقا، وقيل مراده بالأصول علم أصول الفقه لأجل الكلام المتعلق بالنصوص فالهاء في فيه تعود إلى لفظ الرسول أو إلى النقل أو إلى المذكور بجملته، وقد أوضحنا ذلك كله في الشرح الكبير والله أعلم.
[إبراز المعاني من حرز الأماني: 1/224]
99-
وَإِخْفَاؤُهُ "فَـ"ـصلْ "أَ"بَاهُ "وَ"عُاَتُنَا،.. وَكَمْ مِنْ فَتىً كالمَهْدَوِي فِيهِ أَعْمَلاَ
أي روى إخفاء التعوذ عن حمزة ونافع؛ لأن الفاء رمز حمزة والألف رمز نافع، وهذا أول رمز وقع في نظمه والواو في وعاتنا للفصل وتكررت بقوله: وكم هذا هو المقصود بهذا النظم في الباطن.
وأما ظاهره فقوله "فصل" يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه فصل من فصول القراءة وباب من أبوابها كرهه مشايخنا وحفاظنا: أي ردوه ولم يأخذوا به والوعاة جمع واع كقاض وقضاة يقال: وعاه أي حفظه:
والثاني أن يكون أشار بقوله فصل إلى بيان حكمة إخفاء التعوذ، وهو الفصل بين ما هو من القرآن وغيره فقوله: وإخفاؤه فصل جملة ابتدائية و"أباه وعاتنا" جملة فعلية وهي صفة لفصل على الوجه الأول مستأنفة على الوجه الثاني؛ لأن الوعاة ما أبوا كونه فاصلا بين القرآن وغيره وإنما أبا الإخفاء الوعاة؛ لأن الجهر به إظهار لشعار القراءة كالجهر بالتلبية وتكبيرات العيد.
ومن فوائده أن السامع له ينصت للقراءة من أولها لا يفوته منها شيء، وإذا أخفى التعوذ لم يعلم السامع بالقراءة إلا بعد أن فاته من المقروء شيء، وهذا المعنى هو الفارق بين القراءة خارج الصلاة وفي الصلاة فإن المختار في الصلاة الإخفاء؛ لأن المأموم منصت من أول الإحرام بالصلاة ثم أشار بقوله: وكم من فتى إلى أن جماعة من المصنفين الأقوياء في هذا العلم اختاروا الإخفاء وقرروه واحتجوا له، وذكر منهم المهدوي وهو أبو العباس أحمد بن عمار المقرئ المفسر مؤلف الكتب المشهورة التفصيل
[إبراز المعاني من حرز الأماني: 1/225]
والتحصيل والهداية وشرحها منسوب إلى المهدية من بلاد أفريقية بأوائل المغرب، والهاء في فيه للإخفاء "وأعملا" فعل ماضٍ خبر "وكم من فتى" أي أعمل فكره في تصحيحه وتقريره، وفيه وجوه أخر ذكرناها في الشرح الكبير والله أعلم). [إبراز المعاني من حرز الأماني: 1/226]
- قال عبد الفتاح بن عبد الغني بن محمد القاضي (ت: 1403هـ): (2 باب الاستعاذة
الاستعاذة: طلب العوذ، وهو الامتناع بالحفظ والعصمة، والمراد هنا الاستعاذة قبل القراءة في مذهب القراء، ولفظ الاستعاذة على اختلافه بالنقص والزيادة خبر بمعنى الدعاء. أي «اللهم أعذني من البلاء وشر الأعداء» والاستعاذة ليست
[الوافي: 40]
من القرآن بإجماع العلماء.
95 - إذا ما أردت الدّهر تقرأ فاستعذ ... جهارا من الشّيطان بالله مسجلا
96 - على ما أتى في النّحل يسرا وإن تزد ... لربّك تنزيها فلست مجهّلا
اللغة: (أردت) قصدت. (الدهر): ظرف الزمان. (الجهار): الإعلان ضد الإخفاء، مصدر جاهر إذا أعلن جهارا، كجاهد جهادا. وهو صفة مصدر محذوف والتقدير تعوذا جهارا أي ذا جهار. ومسجلا اسم مفعول أسجل بمعنى أطلق فمسجلا:
بمعنى مطلقا وهو أيضا صفة المصدر المحذوف أي: تعوذا جهارا مطلقا. وقوله: (على ما أتى): جار ومجرور متعلق بمحذوف وصف آخر للمصدر المحذوف أي: تعوذا كائنا على اللفظ الذي ورد في سورة النحل. و(اليسر): السهل وهو مصدر منصوب في موضع الحال من فاعل أتى أي: حال كون هذا اللفظ يسرا أي: ذا يسر وسهولة. و(التنزيه):
التقديس. و(المجهل): المنسوب للجهل اسم مفعول.
والمعنى: إذا أردت قراءة القرآن في أي زمن من الأزمان، ولأي قارئ من القراء، ومن أي جزء من أجزاء القرآن، سواء كان ذلك أول السورة أو أثناءها فتعوذ في ابتداء قراءتك تعوذا مجهورا به مطابقا للفظ الوارد في سورة النحل، حال كون هذا اللفظ ميسرا في النطق سهلا على اللسان لقلة كلماته وحروفه، بأن تقول في ابتداء قراءتك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، من غير أن تزيد على هذا اللفظ شيئا، وإن شئت زيادة التعظيم لربك بوصف كمال ونعت جلال، فلست منسوبا إلى الجهل؛ لأنك أتيت بما يفيد كمال تنزيه الله عزّ وجلّ وتبرئته من جميع النقائص، كأن تقول: أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم، أو أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وهكذا. وقد نبه الناظم بقوله: إذا ما أردت إلخ، إلا أن قوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ معناه فإذا أردت قراءة القرآن، فاستعذ، فيكون في الآية مجاز مرسل من إطلاق اسم المسبب وإرادة اسم السبب كقوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة.
[الوافي: 41]
97 - وقد ذكروا لفظ الرّسول فلم يزد ... ولو صحّ هذا النّقل لم يبق مجملا
اللغة: (الواو): في ذكروا لعلماء القرآن والمحدثين. ولفظ (الرسول): أي تعوذه أو استعاذته. و(مجملا): مصدر ميمي المراد به الحدث «أي إجمالا».
والمعنى: أن جماعة من القراء والمحدثين ذكروا تعوذ الرسول صلّى الله عليه وسلم، فلم يزد الرسول شيئا على اللفظ الوارد في سورة النحل، فمن ذلك ما روى أن ابن مسعود قرأ على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال:
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال له الرسول صلّى الله عليه وسلم: «يا ابن أم عبد قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، وروى نافع عن جبير بن مطعم أن الرسول صلّى الله عليه وسلم كان يقول: «أعوذ
بالله من الشيطان الرجيم». وهذان الحديثان ضعيفان، قال أبو شامة: والأول لا أصل له في كتب الحديث، والثاني أخرجه أبو داود ولكن بغير هذه العبارة. وليس أدل على ضعف الحديثين من ورود أحاديث أخر أصح سندا منهما تعارضهما: منها: ما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري: قال: كان رسول الله صلّى الله
عليه وسلم إذا قام من الليل يقول «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه»، قال الترمذي: هو أشهر حديث في هذا الباب. وفي صحيح ابن خزيمة عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم، وهمزه ونفخه ونفثه». وقد أشار الناظم إلى ضعف الحديثين السابقين وأمثالهما بقوله: ولو صح هذا النقل لم يبق مجملا؛ والمراد بالإجمال: الإطلاق، أي لو صحّ نقل ترك الزيادة لذهب إجمال الآية، واتضح معناها وتعين لفظها، فلا يجوز العدول عنه.
المعنى: لو كانت الأحاديث الدالة على ترك الزيادة على آية النحل ثابتة صحيحة السند لم تبق إجمالا في الآية، بل تكون الآية حينئذ واضحة المعنى، بينة المراد متعينا لفظها عند التعوذ فيقال:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بلا زيادة عليه أو نقص عنه، ولكن هذه الأحاديث الدالة على ترك الزيادة ضعيفة معارضة بأصح منها سندا، فحينئذ تبقى الآية على إجمالها وإطلاقها فلا يتقيد القارئ بلفظها، بل يجوز له النقص عنه بأن
[الوافي: 42]
يقول: أعوذ بالله من الشيطان، والزيادة عليه بأن يقول: أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم، أو نحو ذلك، ويعتبر القارئ عندئذ ممتثلا للأمر في الآية الكريمة سواء نقص عنها لفظا أو زاد عليها لفظا، أو اثنين، أو ثلاثة، ومما ينبغي التنبه له:
أن الأمر في الآية الكريمة للندب على ما ذهب إليه جماهير العلماء من السلف والخلف.
98 - وفيه مقال في الأصول فروعه ... فلا تعد منها باسقا ومظلّلا
اللغة: ضمير (فيه): يعود على التعوذ. و(مقال): مصدر ميمي، والمراد به القول. و(الفروع):
جمع فرع وهو الغصن. و(الباسق): الشجر الطويل المرتفع. و(المظلل): ما له ظل لكثرة ورقه.
والمعنى: أن في التعوذ قولا كثيرا، وكلاما طويل الذيل، ممتد النسق، انتشرت فروعه في أصول الفقه، وأصول الحديث، وأصول القراءات. فأما أصول الفقه: فيبحث فيها عن التعوذ من حيث إن الأمر به في الآية؛ هل هو للوجوب أو للندب؟ وهل الآية واضحة الدلالة فيتعين لفظها أم مجملة فيصلح كل لفظ يدل على التعوذ؟. وأما أصول الحديث:
فيبحث فيها عن درجة الأحاديث الدالة على التعوذ وعن سندها وحال رواتها. وأما أصول القراءات- والمراد بها أمهات الكتب المؤلفة في هذا الشأن ك «الكامل» للإمام الهذلي، و«الإيضاح» للأهوازي، و«جامع البيان» للداني- فيبحث فيها عن التعوذ من حيث الجهر به والإخفاء، ومن حيث الوقف عليه أو وصله بما بعده. وقوله: فلا تعد منها باسقا ومظللا، معناه: فارجع إلى هذه الأصول وأمعن النظر فيها ولا تتجاوز منها القول الذي
تعضده الأدلة، وتؤازره البراهين. فكنى بالباسق والمقال عن هذا القول.
99 - وإخفاؤه فصل أباه وعاتنا ... وكم من فتى كالمهدوي فيه أعملا
اللغة: (الإخفاء): الإسرار، وضمير (وإخفاؤه): يعود على التعوذ، و(أبى الشيء):
تجنبه وامتنع من فعله. و(الوعاة) جمع واع كقضاة جمع قاض وهو الحافظ المدقق، وقد جرى كثير من شراح القصيدة على أن الفاء رمز لحمزة والألف رمز لنافع. وعلى هذا يكون.
المعنى: أن حمزة ونافعا كانا يخفيان التعوذ عند قراءتهما. وممن أخذ به لحمزة مطلقا في جميع القرآن: الإمام أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي المقرئ المفسر المتوفّى سنة
[الوافي: 43]
ثلاثين وأربعمائة، فإنه أعمل فكره في تصحيح الإخفاء وتقريره والقراءة والإقراء به، وروى خلف عن سليم عن حمزة أنه كان يجهر بالتعوذ في أول الفاتحة ويخفيه في سائر القرآن. وروى خلاد عن سليم أن حمزة كان يخير القارئ بين الجهر والإخفاء في التعوذ. وروى المسيبي عن نافع أنه كان يخفي التعوذ في جميع القرآن. وعلى هذا يكون قول الناظم: وإخفاؤه فصل، في قوة الاستثناء من عموم قوله: فاستعذ جهارا من الشيطان بالله مسجلا؛ فإنه بعمومه يدل على الأمر بالتعوذ جهارا في جميع الأوقات، وفي سائر القرآن، ولجميع القراء. ولكن الصحيح:
أن لا رمز في البيت، وأن قوله: فصل: معناه: فرق، وأنه بيان لحكمة إخفاء التعوذ، وهو الفرق بين القرآن وغيره، أو معناه: أن إخفاء التعوذ حكم من أحكامه. وكيفية من كيفياته، فكأنه قال: إخفاء التعوذ فرق بين القرآن وغيره، أو كيفية من كيفياته، ردّه- أي الإخفاء- علماؤنا الحفاظ الأثبات ولم يأخذوا به، بل أخذوا بالجهر به في جميع القرآن، ولكل القراء، كما أفاد ذلك عموم قوله: فاستعذ جهارا من الشيطان بالله مسجلا؛ ذلك أن الجهر بالتعوذ إظهار لشعار القراءة كالجهر بالتلبية وتكبيرات العيد. ومن فوائد الجهر به: أن السامع للقراءة يتمكن من الإصغاء لها من أولها، فلا يفوته شيء منها، وإذا أخفى القارئ التعوذ فلا يعلم السامع للقراءة إلا بعد أن يفوته شيء منها. وهذا المعنى هو الفارق بين القراءة في الصلاة وخارجها فإن المستحب للقارئ في الصلاة إخفاء التعوذ وإن كان إماما وفي صلاة جهرية؛ لأن المأموم منصت في الصلاة من أول الإحرام فلا يفوته شيء من قراءة إمامه.
وفصل الخطاب في هذا المقام أن يقال: إن التعوذ يستحب إخفاؤه في مواطن، والجهر به في مواطن أخرى، فمواطن الإخفاء:
(1) إذا كان القارئ يقرأ سرّا، سواء كان منفردا أم في مجلس.
(2) إذا كان خاليا سواء قرأ سرّا أم جهرا.
(3) إذا كان في الصلاة، سواء كانت الصلاة سرية أم جهرية، وسواء كان منفردا أم
مأموما أو إماما.
(4) إذا كان يقرأ وسط جماعة يتدارسون القرآن، كأن يكون في مقرأة ولم يكن هو المبتدئ بالقراءة، وما عدا هذه المواطن يستحب الجهر بالتعوذ فيها.
[الوافي: 44]
«تتمة» لو قطع القارئ قراءته لطارئ قهري كعطاس أو تنحنح- أو كلام يتعلق بمصلحة القراءة؛ كأن شك في شيء في القراءة وسأل من بجواره ليتثبت؛ فإنه لا يعيد التعوذ. أما لو قطعها إعراضا عنها، أو لكلام لا تعلق له بها ولو ردّا لسلام؛ فإنه يستأنف التعوذ). [الوافي: 45]
قال محمد بن محمد بن محمد بن علي ابن الجزري (ت: 833هـ): (باب اختلافهم في الاستعاذة
والكلام عليها من وجوهٍ (الأوّل) في صيغتها وفيه مسألتان:
(الأولى) أنّ المختار لجميع القرّاء من حيث الرّواية (أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم) كما ورد في سورة النّحل فقد حكى الأستاذ أبو طاهر بن سوارٍ وأبو العزّ القلانسيّ وغيرهما الاتّفاق على هذا اللّفظ بعينه، وقال الإمام أبو الحسن السّخاويّ في كتابه " جمال القرّاء " إنّ الّذي عليه إجماع الأمّة هو: (أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم) ، وقال الحافظ أبو عمرٍو الدّانيّ أنّه هو المستعمل عند الحذّاق دون غيره، وهو المأخوذ به عند عامّة الفقهاء: كالشّافعيّ وأبي حنيفة وأحمد وغيرهم، وقد ورد النّصّ بذلك عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، ففي الصّحيحين من حديث سليمان بن صردٍ رضي اللّه عنه قال: استبّ رجلان عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ونحن عنده جلوسٌ وأحدهما يسبّ صاحبه مغضبًا قد احمرّ وجهه. فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: إنّي لأعلم كلمةً لو قالها لذهب عنه ما يجده - لو قال - أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم. الحديث لفظ
[النشر في القراءات العشر: 1/243]
البخاريّ في باب الحذر من الغضب في كتاب الأدب، ورواه أبو يعلى الموصليّ في مسنده عن أبيّ بن كعبٍ رضي اللّه عنه، وكذا رواه الإمام أحمد والنّسائيّ في عمل اليوم واللّيلة، وهذا لفظه نصًّا، وأبو داود ورواه أيضًا التّرمذيّ من حديث معاذ بن جبلٍ بمعناه. وروي هذا اللّفظ من التّعوّذ أيضًا من حديث جبير بن مطعمٍ، ومن حديث عطاء بن السّائب عن السّلميّ عن ابن مسعودٍ. وقد روى أبو الفضل الخزاعيّ عن المطّوّعيّ عن الفضل بن الحباب عن روح بن عبد المؤمن، قال: قرأت على يعقوب الحضرميّ فقلت: أعوذ بالسّميع العليم. فقال لي: قل (أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم) فإنّي قرأت على سلّام بن المنذر فقلت: أعوذ بالسّميع العليم فقال لي: قل (أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم) فإنّي قرأت على عاصم بن بهدلة فقلت: أعوذ بالسّميع العليم فقال لي: قل (أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم) فإنّي قرأت على زرّ بن حبيشٍ فقلت: أعوذ بالسّميع العليم فقال لي: قل (أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم) فإنّي قرأت على عبد اللّه بن مسعودٍ فقلت: أعوذ بالسّميع العليم فقال لي: قل (أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم) فإنّي قرأت على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت: أعوذ بالسّميع العليم فقال لي: يا ابن أمّ عبدٍ قل (أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم) هكذا أخذته عن جبريل عن ميكائيل عن اللّوح المحفوظ.
حديثٌ غريبٌ جيّد الإسناد من هذا الوجه (وروّيناه مسلسلًا) من طريق روحٍ أيضًا قرأت على الشّيخ الإمام العالم العارف الزّاهد جمال الدّين أبي محمّدٍ، محمّد بن محمّد بن محمّد بن محمّد بن الجمّاليّ النّسائيّ مشافهةً فقلت: أعوذ بالسّميع العليم فقال لي: قل: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم. فإنّي قرأت على الشّيخ الإمام شيخ السّنّة سعد الدّين محمّد بن مسعود بن محمّدٍ الكارزينيّ فقلت: أعوذ بالسّميع العليم فقال لي: قل: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم. فإنّي قرأت على أبي الرّبيع عليّ بن عبد الصّمد بن أبي الجيش: أعوذ بالسّميع العليم فقال لي: قل: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم. فإنّي قرأت على والدي: أعوذ بالسّميع العليم فقال لي: قل: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم. فإنّي قرأت على محيي الدّين أبي محمّدٍ
[النشر في القراءات العشر: 1/244]
يوسف بن عبد الرّحمن بن عليّ بن محمّد بن الجوزيّ أعوذ بالسّميع العليم فقال لي: قل: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم. فإنّي قرأت على والدي أعوذ بالسّميع العليم فقال لي: قل: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم. فإنّي قرأت على أبي الحسن عليّ بن يحيى البغداديّ أعوذ بالسّميع العليم فقال لي: قل: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم. فإنّي قرأت على أبي بكرٍ محمّد بن عبد الباقي الأنصاريّ: أعوذ بالسّميع العليم فقال لي: قل: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم. فإنّي قرأت على هنّاد بن إبراهيم النّسفيّ: أعوذ بالسّميع العليم فقال لي: قل: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم. فإنّي قرأت على محمود بن المثنّى بن المغيرة. أعوذ باللّه السّميع العليم فقال لي: قل: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم. فإنّي قرأت على أبي عصمة محمّد بن أحمد السّجزيّ: أعوذ باللّه السّميع العليم فقال لي: قل: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم. فإنّي قرأت على أبي محمّدٍ عبد اللّه بن عجلان بن عبد اللّه الزّنجانيّ: أعوذ باللّه السّميع العليم فقال لي: قل: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم. فإنّي قرأت على أبي عثمان سعيد بن عبد الرّحمن الأهوازيّ: أعوذ باللّه السّميع العليم فقال لي: قل: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم. فإنّي قرأت على محمّد بن عبد اللّه بن بسطامٍ: أعوذ باللّه السّميع العليم فقال لي: قل: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم. فإنّي قرأت على روح بن عبد المؤمن: أعوذ باللّه السّميع العليم فقال لي: قل: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم. فإنّي قرأت على يعقوب بن إسحاق الحضرميّ: أعوذ باللّه السّميع العليم فقال لي: قل: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم. فإنّي قرأت على سلّام بن المنذر: أعوذ باللّه السّميع العليم فقال لي: قل: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم. فإنّي قرأت على عاصم بن أبي النّجود: أعوذ باللّه السّميع العليم فقال لي: قل: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم. فإنّي قرأت على زرّ بن حبيشٍ: أعوذ باللّه السّميع العليم فقال لي: قل: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم. فإنّي قرأت على عبد اللّه بن مسعودٍ: أعوذ باللّه السّميع العليم فقال لي: قل: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم. فإنّي قرأت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: أعوذ باللّه السّميع العليم فقال لي: قل: أعوذ باللّه
[النشر في القراءات العشر: 1/245]
من الشّيطان الرّجيم. فإنّي قرأت على جبريل: أعوذ باللّه السّميع العليم فقال لي: قل: أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم. ثمّ قال لي: جبريل هكذا أخذت عن ميكائيل وأخذها ميكائيل عن اللّوح المحفوظ.
(وقد أخبرني) بهذا الحديث أعلى من هذا شيخاي الإمامان، الوليّ الصّالح أبو العبّاس أحمد بن رجبٍ المقرئ وقرأت عليه، أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم، والمقرئ المحدّث الكبير يوسف بن محمّدٍ السّومريّ البغداديّان فيما شافهني به، وقرأ على أبي الرّبيع بن أبي الحبش المذكور، وأخبرني به عاليًا جدًّا جماعةٌ من الثّقات منهم أبو حفصٍ عمر بن الحسن بن مزيد بن أميلة المراغيّ، وقرأت عليه أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم، عن شيخه الإمام أبي الحسن عليّ بن أحمد بن عبد الواحد بن البخاريّ، قال: أخبرنا الإمام أبو الفرج عبد الرّحمن بن عليّ بن محمّد بن الجوزيّ في كتابه فذكره بإسناده، وروى الخزاعيّ أيضًا في كتابه المنتهى بإسنادٍ غريبٍ عن عبد اللّه بن مسلم بن يسارٍ قال: قرأت على أبيّ بن كعبٍ فقلت: أعوذ باللّه السّميع العليم فقال: يا بنيّ عمّن أخذت هذا؟ قل أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم كما أمرك اللّه عزّ وجلّ.
(الثّانية) دعوى الإجماع على هذا اللّفظ بعينه مشكلةٌ والظّاهر أنّ المراد على أنّه المختار فقد ورد تغيير هذا اللّفظ والزّيادة عليه والنّقص منه كما سنذكره ونبيّن صوابه (وأمّا أعوذ) فقد نقل عن حمزة فيه، أستعيذ، ونستعيذ، واستعذت، ولا يصحّ، وقد اختاره بعضهم كصاحب الهداية من الحنفيّة قال: لمطابقة لفظ القرآن يعني قوله تعالى: (فاستعذ باللّه) وليس كذلك وقول الجوهريّ: عذت بفلانٍ واستعذت به، أي: لجأت إليه، مردودٌ عند أئمّة اللّسان، بل لا يجزي ذلك على الصّحيح كما لا يجزي: أتعوّذ، ولا تعوّذت، وذلك لنكتةٍ ذكرها الإمام الحافظ العلّامة أبو أمامة محمّد بن عليّ بن عبد الرّحمن بن النّقّاش - رحمه اللّه تعالى - في كتابه (اللّاحق السّابق والنّاطق الصّادق) في التّفسير فقال: بيان الحكمة الّتي لأجلها
[النشر في القراءات العشر: 1/246]
لم تدخل السّين والتّاء في فعل المستعيذ الماضي والمضارع فقد قيل له: استعذ، بل لا يقال إلّا أعوذ دون أستعيذ وأتعوّذ واستعذت وتعوّذت، وذلك أنّ السّين والتّاء شأنهما منه أنّ الدّلالة على الطّلب فوردتا إيذانًا بطلب التّعوّذ فمعنى استعذت باللّه أطلب منه أن يعيذك. فامتثال الأمر هو أن يقول، أعوذ باللّه ; لأنّ قائله متعوّذٌ، أو مستعيذٌ قد عاذ والتجأ والقائل أستعيذ باللّه ليس بعائذٍ، إنّما، وهو طالبٌ العياذ كما تقول أستخير، أي: أطلب خيرته، وأستقيله أي: أطلب إقالته وأستغفره وأستقيله، أي: أطلب مغفرته ; في فعل الأمر إيذانًا بطلب هذا المعنى من المعاذية، فإذا قال المأمور: أعوذ باللّه، فقد امتثل ما طلب منه، فإنّه طلب منه نفس الاعتصام والالتجاء وفرقٌ بين الاعتصام وبين طلب ذلك، فلمّا كان المستعيذ هاربًا ملتجأً معتصمًا باللّه أتى بالفعل الدّالّ على طلب ذلك فتأمّله. قال: والحكمة الّتي لأجلها امتثل المستغفر الأمر بقوله لها: أستغفر اللّه أنّه يطلب المغفرة الّتي لا تتأتّى إلّا منه بخلاف العياذ واللّجأ والاعتصام فامتثل الأمر بقوله: أستغفر اللّه، أي: أطلب منه أن يغفر لي، انتهى. وللّه درّه ما ألطفه وأحسنه، فإن قيل فما تقول في الحديث الّذي رواه الإمام أبو جعفر بن جريرٍ الطّبريّ في تفسيره: حدّثنا أبو كريبٍ، ثنا عثمان بن سعيدٍ، ثنا بشر بن عمارة، ثنا أبو روقٍ، عن الضّحاك، عن عبد اللّه بن عبّاسٍ قال: أوّل ما نزل جبريل على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: يا محمّد استعذ، قال: أستعيذ بالسّميع العليم من الشّيطان الرّجيم. ثمّ قال: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم. اقرأ باسم ربّك؟ قلت: ما أعظمه مساعدًا لمن قال به لو صحّ فقد قال شيخنا الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثيرٍ - رحمه اللّه - بعد إيراده: وهذا إسنادٌ غريبٌ. قال: وإنّما ذكرناه ليعرف، فإنّ في إسناده ضعفًا وانقطاعًا. قلت: ومع ضعفه وانقطاعه وكونه لا تقوم به حجّةٌ، فإنّ الحافظ أبا عمرٍو الدّانيّ - رحمه اللّه تعالى - رواه على الصّواب من حديث أبي روقٍ أيضًا عن الضّحّاك عن ابن عبّاسٍ أنّه قال: أوّل ما نزل جبريل - عليه السّلام - على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم علّمه
[النشر في القراءات العشر: 1/247]
الاستعاذة. قال: يا محمّد قل أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم. ثمّ قال: قل بسم اللّه الرّحمن الرّحيم.
والقصد أنّ الّذي تواتر عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في التّعوّذ للقراءة ولسائر تعوّذاته من رواياتٍ لا تحصى كثرةً ذكرناها في غير هذا الموضع هو لفظ: أعوذ، وهو الّذي أمره اللّه تعالى به وعلّمه إيّاه فقال: " وقل ربّ أعوذ بك من همزات الشّياطين، قل أعوذ بربّ الفلق، قل أعوذ بربّ النّاس "، وقال عن موسى - عليه السّلام - " أعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين، إنّي عذت بربّي وربّكم "، وعن مريم - عليها السّلام - " أعوذ بالرّحمن منك " وفي صحيح أبي عوانة عن زيد بن ثابتٍ رضي اللّه عنه أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم أقبل علينا بوجهه فقال: تعوّذوا باللّه من عذاب النّار، قلنا نعوذ باللّه من عذاب النّار، قال: تعوّذوا باللّه من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قلنا نعوذ باللّه من الفتن ما ظهر منها وما بطن. قال: تعوّذوا باللّه من فتنة الدّجّال. قلنا نعوذ باللّه من فتنة الدّجّال فلم يقولوا في شيءٍ من جوابه صلّى اللّه عليه وسلّم نتعوّذ باللّه، ولا تعوّذنا على طبق اللّفظ الّذي أمروا به كما أنّه صلّى اللّه عليه وسلّم لم يقل أستعيذ باللّه، ولا استعذت على طبق اللّفظ الّذي أمره اللّه به، ولا كان صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه يعدلون عن اللّفظ المطابق الأوّل المختار إلى غيره، بل كانوا هم أولى بالاتّباع وأقرب إلى الصّواب وأعرف بمراد اللّه تعالى، كيف وقد علّمنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كيف يستعاذ فقال: إذا تشهّد أحدكم فليستعذ باللّه من أربعٍ: اللّهمّ إنّي أعوذ بك من عذاب جهنّم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شرّ فتنة المسيح الدّجّال. رواه مسلمٌ وغيره، ولا أصرح من ذلك.
(وأمّا باللّه) فقد جاء عن ابن سيرين: أعوذ بالسّميع العليم، وقيّده بعضهم بصلاة التّطوّع، ورواه أبو عليٍّ الأهوازيّ عن ابن واصلٍ وغيره عن حمزة، وفي صحّة ذلك عنهما نظرٌ. (وأمّا الرّجيم) فقد ذكر
[النشر في القراءات العشر: 1/248]
الهذليّ في كامله عن شبل بن حميدٍ يعني ابن قيسٍ أعوذ باللّه القادر من الشّيطان الغادر، وحكي أيضًا عن أبي زيدٍ عن أبي السّمّاك " أعوذ باللّه القويّ من الشّيطان الغويّ " وكلاهما لا يصحّ (وأمّا تغييرهما) بتقديمٍ وتأخيرٍ ونحوه فقد روى ابن ماجه بإسنادٍ صحيحٍ من حديث عبد اللّه بن مسعودٍ رضي اللّه عنه عن النّبيّ - صلّى اللّه عليه وعلى آله وسلّم -: اللّهمّ أنّي أعوذ بك من الشّيطان الرّجيم. وكذا رواه أبو داود من حديث عبد الرّحمن بن أبي ليلة عن معاذ بن جبلٍ، وهذا لفظه والتّرمذيّ بما معناه، وقال: مرسلٌ. يعني أنّ عبد الرّحمن بن أبي ليلى لم يلق معاذًا ; لأنّه مات قبل سنة عشرين ورواه ابن ماجه أيضًا بهذا اللّفظ عن جبير بن مطعمٍ واختاره بعض القرّاء، وفي حديث أبي هريرة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: إذا خرج أحدكم من المسجد فليقل اللّهمّ اعصمني من الشّيطان الرّجيم. رواه ابن ماجه، وهذا لفظه والنّسائيّ من غير ذكر الرّجيم، وفي كتاب ابن السّنّيّ: اللّهمّ أعذني من الشّيطان الرّجيم وفيه أيضًا عن أبي أمامة رضي اللّه عنه: اللّهمّ إنّي أعوذ بك من إبليس وجنوده. وروى الشّافعيّ في مسنده عن أبي هريرة: أنّه تعوّذ في المكتوبة رافعًا صوته: ربّنا إنّا نعوذ بك من الشّيطان الرّجيم (وأمّا الزّيادة) فقد وردت بألفاظٍ منها ما يتعلّق بتنزيه اللّه تعالى (الأوّل) " أعوذ باللّه السّميع العليم من الشّيطان الرّجيم " نصّ عليها الحافظ أبو عمرٍو الدّانيّ في جامعه، وقال إنّ على استعماله عامّة أهل الأداء من أهل الحرمين والعراقيّين والشّام ورواه أبو عليٍّ الأهوازيّ أدّاه عن الأزرق بن الصّبّاح، وعن الرّفاعيّ عن سليمٍ وكلاهما عن حمزة ونصًّا عن أبي حاتمٍ، ورواه الخزاعيّ عن أبي عديٍّ عن ورشٍ أداءً.
(قلت): وقرأت، أنا به في اختيار أبي حاتمٍ السّجستانيّ، ورواية حفصٍ من طريق هبيرة. وقد رواه أصحاب السّنن الأربعة وأحمد عن أبي سعيدٍ الخدريّ بإسنادٍ جيّدٍ، وقال التّرمذيّ هو أشهر حديثٍ في هذا الباب، وفي مسند أحمد بإسنادٍ صحيحٍ عن معقل بن يسارٍ
[النشر في القراءات العشر: 1/249]
عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: من قال حين يصبح ثلاث مرّاتٍ أعوذ باللّه السّميع العليم من الشّيطان الرّجيم، ثمّ قرأ ثلاث آياتٍ من آخر سورة الحشر، وكّل اللّه به سبعين ألف ملكٍ يصلّون عليه حتّى يمسي، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيدًا، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة، رواه التّرمذيّ، وقال: حسنٌ غريبٌ. (الثّاني): (أعوذ باللّه العظيم من الشّيطان الرّجيم) ذكره الدّانيّ أيضًا في جامعه عن أهل مصر وسائر بلاد المغرب، وقال إنّه استعمله منهم أكثر أهل الأداء، وحكاه أبو معشرٍ الطّبريّ في سوق العروس عن أهل مصر أيضًا، وعن قنبلٍ والزّينبيّ ورواه الأهوازيّ عن المصريّين عن ورشٍ، وقال على ذلك وجدت أهل الشّام في الاستعاذة، إلّا أنّي لم أقرأ بها عليهم من طريق الأداء عن ابن عامرٍ، وإنّما هو شيءٌ يختارونه ورواه أداءً عن أحمد بن جبيرٍ في اختياره، وعن الزّهريّ وأبي بحريّة وابن مناذر وحكاه الخزاعيّ عن الزّينبيّ عن قنبلٍ ورواه أبو العزّ أداءً عن أبي عديٍّ عن ورشٍ ورواه الهذليّ عن ابن كثيرٍ في غير رواية الزّينبيّ.
(الثّالث): (أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم. إنّ اللّه هو السّميع العليم) رواه الأهوازيّ عن أبي عمرٍو، وذكره أبو معشرٍ عن أهل مصر والمغرب وروّيناه من طريق الهذليّ عن أبي جعفرٍ وشيبة ونافعٍ في غير رواية أبي عديٍّ عن ورشٍ، وحكاه الخزاعيّ وأبو الكرم الشّهرزوريّ عن رجالهما عن أهل المدينة وابن عامرٍ والكسائيّ وحمزة في أحد وجوهه. وروي عن عمر بن الخطّاب ومسلم بن يسارٍ وابن سيرين والثّوريّ (وقرأت أنا) به في قراءة الأعمش، إلّا أنّه في رواية الشّنبوذيّ عنه أدغمت الهاء في الهاء. (الرّابع): (أعوذ باللّه السّميع العليم من الشّيطان الرّجيم) رواه الخزاعيّ عن هبيرة عن حفصٍ قال: وكذا في حفظي عن ابن الشّارب عن الزّينبيّ عن قنبلٍ، وذكره الهذليّ عن أبي عديٍّ عن ورشٍ. (الخامس): (أعوذ باللّه العظيم من الشّيطان الرّجيم إنّ اللّه هو السّميع العليم) رواه الهذليّ عن الزّينبيّ عن ابن كثيرٍ.
[النشر في القراءات العشر: 1/250]
(السّادس): (أعوذ باللّه السّميع العليم من الشّيطان الرّجيم، إنّ اللّه هو السّميع العليم) ذكره الأهوازيّ عن جماعةٍ (وقرأت به) في قراءة الحسن البصريّ. (السّابع): أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم، وأستفتح اللّه وهو خير الفاتحين. رواه أبو الحسين الخبّازيّ، عن شيخه أبي بكرٍ الخوارزميّ، عن ابن مقسمٍ، عن إدريس، عن خلفٍ، عن حمزة (الثّامن) - أعوذ باللّه العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشّيطان الرّجيم. رواه أبو داود في الدّخول إلى المسجد، عن عمرو بن العاص، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وقال: إذا قال ذلك، قال الشّيطان: حفظ منّي سائر اليوم إسناده جيّدٌ، وهو حديثٌ حسنٌ، ووردت بألفاظٍ تتعلّق بشتم الشّيطان نحو (أعوذ باللّه من الشّيطان الرّجيم الخبيث المخبث والرّجس النّجس) ، كما رويناه في كتابي الدّعاء لأبي القاسم الطّبرانيّ، وعمل اليوم واللّيلة لأبي بكر بن السّنّيّ، عن ابن عمر - رضي اللّه عنهما - قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إذا دخل الخلاء قال: (اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الرّجس النّجس الخبيث المخبث الشّيطان الرّجيم.) وإسناده ضعيفٌ، ووردت أيضًا بألفاظٍ تتعلّق بما يستعاذ منه، ففي حديث جبير بن مطعمٍ: من الشّيطان الرّجيم من همزه ونفثه ونفخه رواه ابن ماجه، وهذا لفظه، وأبو داود والحاكم وابن حبّان في صحيحيهما. وكذا في حديث أبي سعيدٍ وفي حديث ابن مسعودٍ: من الشّيطان الرّجيم وهمزه ونفخه ونفثه.
وفسّروه فقالوا: همزه الجنون، ونفثه الشّعر، ونفخه الكبر.
وأمّا النّقص فلم يتعرّض للتّنبيه عليه أكثر أئمّتنا، وكلام الشّاطبيّ - رحمه اللّه - يقتضي عدمه، والصّحيح جوازه؛ لما ورد، فقد نصّ الحلوانيّ في جامعه على جواز ذلك، فقال: وليس للاستعاذة حدٌّ ينتهى إليه. من شاء زاد، ومن شاء نقص، أي: بحسب الرّواية كما سيأتي، وفي سنن أبي داود من حديث جبير بن مطعمٍ (أعوذ باللّه من الشّيطان) من غير ذكر الرّجيم، وكذا رواه غيره، وتقدّم في حديث أبي هريرة من رواية النّسائيّ " اللّهمّ اعصمني من الشّيطان " من غير ذكر الرّجيم.
[النشر في القراءات العشر: 1/251]
فهذا الّذي أعلمه ورد في الاستعاذة من الشّيطان في حال القراءة وغيرها، ولا ينبغي أن يعدل عمّا صحّ منها حسبما ذكرناه مبيّنًا، ولا يعدل عمّا ورد عن السّلف الصّالح، فإنّما نحن متّبعون لا مبتدعون. قال الجعبريّ في شرح قول الشّاطبيّ:
وإن تزد لربّك تنزيهًا فلست مجهّلًا
. هذه الزّيادة وإن أطلقها وخصّها فهي مقيّدةٌ بالرّواية، وعامّةٌ في غير التّنزيه.
في حكم الجهر بها والإخفاء، وفيه مسائل
(الأولى) أنّ المختار عند الأئمّة القرّاء هو الجهر بها عن جميع القرّاء، لا نعلم في ذلك خلافًا عن أحدٍ منهم إلّا ما جاء عن حمزة وغيره ممّا نذكره وفي كلّ حالٍ من أحوال القراءة كما نذكره، قال الحافظ أبو عمرٍو في جامعه: لا أعلم خلافًا في الجهر بالاستعاذة عند افتتاح القرآن، وعند ابتداء كلّ قارئٍ بعرضٍ، أو درسٍ، أو تلقينٍ في جميع القرآن إلّا ما جاء عن نافعٍ وحمزة، ثمّ روى عن ابن المسيّبيّ، أنّه سئل عن استعاذة أهل المدينة أيجهرون بها أم يخفونها؟ قال: ما كنّا نجهر، ولا نخفي، ما كنّا نستعيذ ألبتّة. وروى عن أبيه، عن نافعٍ أنّه كان يخفي الاستعاذة ويجهر بالبسملة عند افتتاح السّور ورءوس الآيات في جميع القرآن. وروي أيضًا عن الحلوانيّ، قال خلفٌ: كنّا نقرأ على سليمٍ فنخفي التّعوّذ، ونجهر بالبسملة في " الحمد " خاصّةً، ونخفي التّعوّذ والبسملة في سائر القرآن نجهر برءوس أثمنتها، وكانوا يقرءون على حمزة فيفعلون ذلك، قال الحلوانيّ: وقرأت على خلّادٍ؛ ففعلت ذلك. قلت: صحّ إخفاء التّعوّذ من رواية المسيّبيّ عن نافعٍ، وانفرد به الوليّ عن إسماعيل بن نافعٍ، وكذلك الأهوازيّ عن يونس، عن ورشٍ، وقد ورد من طرق كتابنا عن حمزة على وجهين: أحدهما إخفاؤه، وحيث قرأ القارئ مطلقًا - أي في أوّل الفاتحة وغيرها - وهو الّذي لم يذكر أبو العبّاس المهدويّ عن حمزة من
[النشر في القراءات العشر: 1/252]
روايتي خلفٍ وخلّادٍ سواءً. وكذا روى الخزاعيّ عن الحلوانيّ عن خلفٍ وخلّادٍ. وكذا ذكر الهذليّ في كامله وهي رواية إبراهيم بن زربيٍّ، عن سليمٍ، عن حمزة. الثّاني: الجهر بالتّعوّذ في أوّل الفاتحة فقط، وإخفاؤه في سائر القرآن، وهو الّذي نصّ عليه في " المبهج " عن خلفٍ، عن سليمٍ، وفي اختياره وهي رواية محمّد بن لاحقٍ التّميميّ، عن سليمٍ، عن حمزة، ورواه الحافظ الكبير أبو الحسن الدّارقطنيّ في كتابه، عن أبي الحسن بن المنادي، عن الحسن بن العبّاس، عن الحلوانيّ، عن خلفٍ، عن سليمٍ، عن حمزة، أنّه كان يجهر بالاستعاذة والبسملة في أوّل سورة فاتحة الكتاب، ثمّ يخفيها بعد ذلك في جميع القرآن، وقرأت على خلّادٍ فلم يغيّر عليّ، وقال لي: كان سليمٌ يجهر فيهما جميعًا، ولا ينكر على من جهر ولا على من أخفى، وقال أبو القاسم الصّفراويّ في " الإعلان ": واختلف عنه - يعني عن حمزة - أنّه كان يخفيها عند فاتحة الكتاب وكسائر المواضع، أو يستثني فاتحة الكتاب فيجهر بالتّعوّذ عندها، فروي عنه الوجهان جميعًا. انتهى. وقد انفرد أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الطّبريّ، عن الحلوانيّ، عن قالون بإخفائها في جميع القرآن.
(الثّانية) أطلقوا اختيار الجهر في الاستعاذة مطلقًا، ولا بدّ من تقييده، وقد قيّده الإمام أبو شامة - رحمه اللّه تعالى - بحضرة من يسمع قراءته، ولا بدّ من ذلك، قال: لأنّ الجهر بالتّعوّذ إظهارٌ لشعائر القراءة، كالجهر بالتّلبية وتكبيرات العيد، ومن فوائده أنّ السّامع ينصت للقراءة من أوّلها لا يفوته منها شيءٌ، وإذا أخفى التّعوّذ لم يعلم السّامع بالقراءة إلّا بعد أن فاته من المقروء شيءٌ. وهذا المعنى هو الفارق بين القراءة خارج الصّلاة وفي الصّلاة، فإنّ المختار في الصّلاة الإخفاء ; لأنّ المأموم منصتٌ من أوّل الإحرام بالصّلاة، وقال الشّيخ محيي الدّين النّوويّ - رحمه اللّه -: إذا تعوّذ في الصّلاة الّتي يسرّ فيها بالقراءة أسرّ بالتّعوّذ، فإن تعوّذ في الّتي يجهر فيها بالقراءة فهل يجهر؟ فيه خلافٌ؛ من أصحابنا من قال: يسرّ، وقال الجمهور والشّافعيّ: في المسألة قولان: أحدهما يستوي الجهر والإسرار، وهو نصّه
[النشر في القراءات العشر: 1/253]
في الأمّ، والثّاني يسنّ الجهر، وهو نصّه في الإملاء. ومنهم من قال: قولان أحدهما يجهر صحّحه الشّيخ أبو حامدٍ الإسفرايينيّ إمام أصحابنا العراقيّين وصاحبه المحامليّ وغيره، وهو الّذي كان يفعله أبو هريرة، وإنّ ابن عمر - رضي اللّه عنهما - يسرّ، وهو الأصحّ عند جمهور أصحابنا، وهو المختار.
(قلت): حكى صاحب البيان القولين على وجهٍ آخر، فقال: أحد القولين أنّه يتخيّر بين الجهر والسّرّ ولا ترجيح، والثّاني يستحبّ فيه الجهر، ثمّ نقل عن أبي عليٍّ الطّبريّ أنّه يستحبّ فيه الإسرار، وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد، ومذهب مالكٍ في قيام رمضان. ومن المواضع الّتي يستحبّ فيها الإخفاء إذا قرأ خاليًا، سواءٌ قرأ جهرًا أو سرًّا، ومنها إذا قرأ سرًّا فإنّه يسرّ أيضًا، ومنها إذا قرأ في الدّور ولم يكن في قراءته مبتدئًا يسرّ بالتّعوّذ؛ لتتّصل القراءة ولا يتخلّلها أجنبيٌّ، فإنّ المعنى الّذي من أجله استحبّ الجهر هو الإنصات فقط في هذه المواضع.
(الثّالثة) اختلف المتأخّرون في المراد بالإخفاء، فقال كثيرٌ منهم هو الكتمان وعليه حمل كلام الشّاطبيّ أكثر الشّرّاح، فعلى هذا يكفي فيه الذّكر في النّفس من غير تلفّظٍ، وقال الجمهور: المراد به الإسرار، وعليه حمل الجعبريّ كلام الشّاطبيّ، فلا يكفي فيه التّلفّظ وإسماع نفسه، وهذا هو الصّواب ; لأنّ نصوص المتقدّمين كلّها على جعله ضدًّا للجهر وكونه ضدًّا للجهر يقتضي الإسرار به، واللّه تعالى أعلم.
(فأمّا قول) ابن المسيّبيّ ما كنّا نجهر، ولا نخفي، ما كنّا نستعيذ ألبتّة - فمراده التّرك رأسًا كما هو مذهب مالكٍ - رحمه اللّه تعالى - كما سيأتي.
الثّالث في محلّها
وهو قبل القراءة إجماعًا، ولا يصحّ قولٌ بخلافه، عن أحدٍ ممّن يعتبر قوله، وإنّما آفة العلم التّقليد، قد نسب إلى حمزة وأبي حاتمٍ، ونقل عن أبي هريرة
[النشر في القراءات العشر: 1/254]
رضي اللّه عنه، وابن سيرين وإبراهيم النّخعيّ، وحكي عن مالكٍ، 55 وذكر أنّه مذهب داود بن عليٍّ الظّاهريّ وجماعته عملًا بظاهر الآية وهو: فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه فدلّ على أنّ الاستعاذة بعد القراءة. وحكي قولٌ آخر، وهو الاستعاذة قبل وبعد. ذكره الإمام فخر الدّين الرّازيّ في تفسيره، ولا يصحّ شيءٌ في هذا عمّن نقل عنه، ولا ما استدلّ به لهم، أمّا حمزة وأبو حاتمٍ فالّذي ذكر ذلك عنهم هو أبو القاسم الهذليّ، فقال في كامله: قال حمزة في رواية ابن قلوقا: إنّما يتعوّذ بعد الفراغ من القرآن، وبه قال أبو حاتمٍ.
(قلت:) أمّا رواية ابن قلوقا، عن حمزة فهي منقطعةٌ في الكامل لا يصحّ إسنادها، وكلّ من ذكر هذه الرّواية عن حمزة من الأئمّة كالحافظين أبي عمرٍو الدّانيّ وأبي العلاء الهمدانيّ وأبي طاهر بن سوّارٍ وأبي محمّدٍ سبط الخيّاط، وغيرهم - لم يذكروا ذلك عنه، ولا عرّجوا عليه، وأمّا أبو حاتمٍ فإنّ الّذين ذكروا روايته واختياره كابن سوّارٍ وابن مهران وأبي معشرٍ الطّبريّ والإمام أبي محمّدٍ البغويّ، وغيرهم - لم يذكروا شيئًا، ولا حكوه، وأمّا أبو هريرة فالّذي نقل عنه رواه الشّافعيّ في مسنده: أخبرنا إبراهيم بن محمّدٍ، عن ربيعة بن عثمان، عن صالح بن أبي صالحٍ أنّه سمع أبا هريرة وهو يؤمّ النّاس رافعًا صوته (ربّنا إنّا نعوذ بك من الشّيطان الرّجيم) في المكتوبة إذا فرغ من أمّ القرآن. وهذا الإسناد لا يحتجّ به ; لأنّ إبراهيم بن محمّدٍ هو الأسلميّ، وقد أجمع أهل النّقل والحديث على ضعفه ولم يوثّقه سوى الشّافعيّ. قال أبو داود: كان قدريًّا رافضيًّا مأبونًا كلّ بلاءٍ فيه، وصالح بن أبي صالحٍ الكوفيّ ضعيفٌ واهٍ، وعلى تقدير صحّته لا يدلّ على الاستعاذة بعد القراءة، بل يدلّ أنّه كان يستعيذ إذا فرغ من أمّ القرآن، أي للسّورة الأخرى، وذلك واضحٌ. فأمّا أبو هريرة هو ممّن عرف بالجهر بالاستعاذة، وأمّا ابن سيرين والنّخعيّ فلا يصحّ عن واحدٍ منهما عند أهل النّقل، وأمّا مالكٌ فقد حكاه عنه القاضي أبو بكر بن العربيّ في المجموعة، وكفى في الرّدّ والشّناعة على قائله، وأمّا داود وأصحابه، فهذه كتبهم موجودةٌ
[النشر في القراءات العشر: 1/255]
لا تعدّ كثرةً، لم يذكر فيها أحدٌ شيئًا من ذلك. ونصّ ابن حزمٍ إمام أهل الظّاهر على التّعوّذ قبل القراءة ولم يذكر غير ذلك (وأمّا الاستدلال) بظاهر الآية فغير صحيحٍ، بل هي جاريةٌ على أصل لسان العرب وعرفه، وتقديرها عند الجمهور: إذا أردت القراءة فاستعذ، وهو كقوله تعالى: إذا قمتم إلى الصّلاة فاغسلوا وجوهكم وكقوله صلّى اللّه عليه وسلّم: من أتى الجمعة فليغتسل، وعندي أنّ الأحسن في تقديرها: إذا ابتدأت وشرعت، كما في حديث جبريل - عليه السّلام -: فصلّى الصّبح حين طلع الفجر. أي: أخذ في الصّلاة عند طلوعه، ولا يمكن القول بغير ذلك. وهذا بخلاف قوله في الحديث: ثمّ صلّاها بالغد بعد أن أسفر. فإنّ الصّحيح أنّ المراد بهذا الابتداء، خلافًا لمن قال: إنّ المراد الانتهاء.
ثمّ إنّ المعنى الّذي شرعت الاستعاذة له يقتضي أن تكون قبل القراءة؛ لأنّها طهارة الفم ممّا كان يتعاطاه من اللّغو والرّفث وتطييبٌ له، وتهيّؤٌ لتلاوة كلام اللّه تعالى، فهي التجاءٌ إلى اللّه تعالى، واعتصامٌ بجنابه من خللٍ يطرأ عليه، أو خطأٍ يحصل منه في القراءة وغيرها وإقرارٌ له بالقدرة، واعترافٌ للعبد بالضّعف والعجز عن هذا العدوّ الباطن الّذي لا يقدر على دفعه ومنعه إلّا اللّه الّذي خلقه، فهو لا يقبل مصانعةً، ولا يدارى بإحسانٍ، ولا يقبل رشوةً، ولا يؤثّر فيه جميلٌ، بخلاف العدوّ الظّاهر من جنس الإنسان كما دلّت عليه الآي الثّلاث من القرآن الّتي أرشد فيها إلى ردّ العدوّ الإنسانيّ، فقال تعالى في الأعراف: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين فهذا ما يتعلّق بالعدوّ الإنسانيّ، ثمّ قال: وإمّا ينزغنّك من الشّيطان نزغٌ فاستعذ باللّه الآية، وقال في " المؤمنون " ادفع بالّتي هي أحسن السّيّئة ثمّ قال: وقل ربّ أعوذ بك الآية، وقال في فصّلت ادفع بالّتي هي أحسن فإذا الّذي بينك وبينه عداوةٌ الآيات، وقلت في ذلك وفيه أحسن الاكتفاء وأملح الاقتفاء:
[النشر في القراءات العشر: 1/256]
شيطاننا المغوي عدوٌّ فاعتصم... باللّه منه والتجي وتعوّذ
وعدوّك الإنسيّ دار وداده... تملكه وادفع بالّتي فإذا الّذي
(الرّابع) في الوقف على الاستعاذة وقلّ من تعرّض لذلك من مؤلّفي الكتب، ويجوز الوقف على الاستعاذة والابتداء بما بعدها بسملةً كان أو غيرها، ويجوز وصله بما بعدها، والوجهان صحيحان، وظاهر كلام الدّانيّ - رحمه اللّه - أنّ الأولى وصلها بالبسملة ; لأنّه قال في كتابه " الاكتفاء ": الوقف على آخر التّعوّذ تامٌّ، وعلى آخر البسملة أتمّ. وممّن نصّ على هذين الوجهين الإمام أبو جعفر بن الباذش، ورجّح الوقف لمن مذهبه التّرتيل، فقال في كتابه " الإقناع ": لك أن تصلها - أي: الاستعاذة - بالتّسمية في نفسٍ واحدٍ، وهو أتمّ ولك أن تسكت عليها، ولا تصلها بالتّسمية، وذلك أشبه بمذهب أهل التّرتيل. فأمّا من لم يسمّ - يعني مع الاستعاذة - فالأشبه عندي أن يسكت عليها، ولا يصلها بشيءٍ من القرآن، ويجوز وصلها. قلت: هذا أحسن ما يقال في هذه المسألة، ومراده بالسّكت الوقف؛ لإطلاقه ولقوله في نفسٍ واحدٍ. وكذلك نظمه الأستاذ أبو حيّان في قصيدته حيث قال:
وقف بعد أو صلا
. وعلى الوصل لو التقى مع الميم مثلها نحو: (الرّحيم ما ننسخ) - أدغم لمن مذهبه الإدغام، كما يجب حذف همزة الوصل في نحو: (الرّحيم اعلموا أنّما الحياة الدّنيا) ونحو: (الرّحيم القارعة). وقد ورد من طريق أحمد بن إبراهيم القصبانيّ، عن محمّد بن غالبٍ، عن شجاعٍ، عن أبي عمرٍو أنّه كان يخفي الميم من الرّحيم عند باء بسم اللّه، ولم يذكر ابن شيطا، وأكثر العراقيّين سوى وصل الاستعاذة بالبسملة، كما سيأتي في باب البسملة.
(الخامس) في حكم الاستعاذة استحبابًا ووجوبًا
وهي مسألةٌ لا تعلّق للقراءات بها، ولكن لمّا ذكرها شرّاح الشّاطبيّة لم يخل كتابنا من ذكرها؛ لما يترتّب عليها من الفوائد. وقد تكفّل أئمّة التّفسير والفقهاء بالكلام فيها، ونشير إلى ملخّص ما ذكر فيها من مسائل (الأولى) ذهب الجمهور
[النشر في القراءات العشر: 1/257]
إلى أنّ الاستعاذة مستحبّةٌ في القراءة بكلّ حالٍ: في الصّلاة وخارج الصّلاة، وحملوا الأمر في ذلك على النّدب، وذهب داود بن عليٍّ وأصحابه إلى وجوبها حملًا للأمر على الوجوب كما هو الأصل، حتّى أبطلوا صلاة من لم يستعذ. وقد جنح الإمام فخر الدّين الرّازيّ - رحمه اللّه - إلى القول بالوجوب، وحكاه عن عطاء بن أبي رباحٍ، واحتجّ له بظاهر الآية من حيث الأمر والأمر ظاهره الوجوب، وبمواظبة النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم عليها؛ ولأنّها تدرأ شرّ الشّيطان، وما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجبٌ؛ ولأنّ الاستعاذة أحوط، وهو أحد مسالك الوجوب، وقال ابن سيرين: إذا تعوّذ مرّةً واحدةً في عمره فقد كفى في إسقاط الوجوب، وقال بعضهم: كانت واجبةً على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم دون أمّته، حكى هذا من القولين شيخنا الإمام عماد الدّين بن كثيرٍ - رحمه اللّه تعالى - في تفسيره.
(الثّانية) الاستعاذة في الصّلاة للقراءة لا للصّلاة. وهذا مذهب الجمهور كالشّافعيّ وأبي حنيفة ومحمّد بن الحسن وأحمد بن حنبلٍ، وقال أبو يوسف: هي للصّلاة، فعلى هذا يتعوّذ المأموم وإن كان لا يقرأ، ويتعوّذ في العيدين بعد الإحرام وقبل تكبيرات العيد. ثمّ إذا قلنا بأنّ الاستعاذة للقراءة فقط، فهل قراءة الصّلاة قراءةٌ واحدةٌ فتكفي الاستعاذة في أوّل ركعةٍ، أو قراءة كلّ ركعةٍ مستقلّةٌ بنفسها فلا يكفي؟ قولان للشّافعيّ، وهما روايتان عن أحمد، والأرجح الأوّل؛ لحديث أبي هريرة في الصّحيح أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان إذا نهض من الرّكعة الثّانية استفتح القراءة ولم يسكت ولأنّه لم يتخلّل القراءتين أجنبيٌّ، بل تخلّلها ذكرٌ، فهي كالقراءة الواحدة حمدٌ للّه، أو تسبيحٌ، أو تهليلٌ، أو نحو ذلك. ورجّح الإمام النّوويّ وغيره الثّاني، وأمّا الإمام مالكٌ فإنّه قال: لا يستعاذ إلّا في قيام رمضان فقط، وهو قولٌ يعرف لمن قبله، وكأنّه أخذ بظاهر الحديث الصّحيح، عن عائشة - رضي اللّه عنها - كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: يستفتح الصّلاة بالتّكبير والقراءة بـ: الحمد للّه ربّ العالمين، ورأى أنّ هذا دليلٌ على ترك التّعوّذ، فأمّا قيام رمضان
[النشر في القراءات العشر: 1/258]
فكأنّه رأى أنّ الأغلب عليه جانب القراءة، واللّه أعلم.
(الثّالثة) إذا قرأ جماعةٌ جملةً هل يلزم كلّ واحدٍ الاستعاذة، أو تكفي استعاذة بعضهم؟ لم أجد فيها نصًّا، ويحتمل أن تكون عينًا على كلٍّ من القولين بالوجوب والاستحباب، والظّاهر الاستعاذة لكلّ واحدٍ ; لأنّ المقصود اعتصام القارئ والتجاؤه باللّه تعالى عن شرّ الشّيطان كما تقدّم، فلا يكون تعوّذٌ واحدٌ كافيًا عن آخر كما اخترناه في التّسمية على الأكل، وذكرناه في غير هذا الموضع، وإنّه ليس من سنن الكفايات، واللّه أعلم.
(الرّابعة) إذا قطع القارئ القراءة لعارضٍ من سؤالٍ، أو كلامٍ يتعلّق بالقراءة لم يعد الاستعاذة، وبخلاف ذلك ما إذا كان الكلام أجنبيًّا، ولو ردًّا للسّلام، فإنّه يستأنف الاستعاذة، وكذا لو كان القطع إعراضًا عن القراءة كما تقدّم، واللّه أعلم. وقيل: يستعيذ، واستدلّ له بما ذكره أصحابنا). [النشر في القراءات العشر: 1/259]
- قال محمد بن محمد بن محمد بن علي ابن الجزري (ت: 833هـ): (باب الاستعاذة
المختار لجميع القراء «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» على الصيغة الواردة في سورة النحل، وقد حكى غير واحد الاتفاق على هذا، ويجهر بها عن جميعهم قبل القراءة، وروى عن حمزة إخفاؤها قيل حيث قرأ، وروى عنه الإخفاء في غير الفاتحة.
وانفرد أبو إسحاق الطبري عن الحلواني عن قالون- بإخفاء الاستعاذة في جميع القرآن.
ولا حرج على القارئ في الإتيان بذلك اللفظ من الاستعاذة؛ بل يجوز له التعوذ بما صح عن أئمة القراءة من زيادة ونقص، ويجوز الوقف عليه ووصله بما بعده بسملة كان أو غيرها من القرآن، والتعوذ مستحب عند أكثر العلماء، وقال بعضهم بوجوبه، والله أعلم). [تقريب النشر في القراءات العشر: 208]
قال محمد بن محمد بن محمد بن علي ابن الجزري (ت: 833هـ) :(باب الاستعاذة
103 - وقل أعوذ إن أردت تقرا = كالنّحل جهراً لجميع القرّا
104 - وإن تغيّر أو تزد لفظًا فلا = تعد الّذى قد صحّ ممّا نقلا
105 - وقيل يخفي حمزةٌ حيث تلا = وقيل لا فاتحةٌ وعلّلا
106 - وقف لهم عليه أو صل واستحب = تعوّذٌ وقال بعضهم يجب). [طيبة النشر: 38]
- قال محمد بن محمد بن محمد بن علي ابن الجزري (ت: 833هـ) : (باب الاستعاذة
أي هذا باب يذكر فيه مذاهب القراء في الاستعاذة قبل الشروع في القراءة فهو خبر مبتدأ محذوف، وكذلك كل ما يأتي من الأبواب، وكذا قول العلماء في كتبهم باب أو فصل أو كتاب أو فرع، وبدأ به لأن الاستعاذة أول ما يبدأ به عند الشروع في القراءة، والاستعاذة: طلب العوذ من الله تعالى، والعوذ مصدر عاذ بكذا: أي استجار به وامتنع.
وقل أعوذ إن أردت تقرا = كالنّحل جهرا لجميع القرّا
أمر القارئ أن يقول إذا أراد القراءة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم كما ورد في سورة النحل، وهذا اللفظ هو أدنى الكمال عندهم، وهو المختار لجميع القراء، وقد
حكى عن غير واحد من الأئمة الاتفاق على هذا اللفظ بعينه، وإنما نص على هذا اللفظ بعينه لينبه على أنه لا يجوز أستعيذ ولا استعذت ولا نحو ذلك، وما ورد عن حمزة في ذلك فلا يصح، وذلك أن المستعيذ طالب العوذ، بخلاف العائذ، وفرق بين الفاعل وطالب الفعل كما أوضحه في النشر فأمر منه بلفظ أعوذ ووكل باقية إلى ما في سورة النحل، وكذلك المختار لجميع القراء الجهر وإن كان ورد عن بعضهم إخفاؤه كما سيأتي ذكره، واللام في قوله جميع يتعلق بقل وبتقرأ وتجهرا.
وإن تغير أو تزد لفظا فلا = تعد الّذي قد صحّ ممّا نقلا
أي وإن تغير شيئا من لفظ الاستعاذة المتقدم كما أشار إليه أو تزد في لفظه
[شرح طيبة النشر لابن الجزري: 44]
فلا تتجاوز به ما ورد عن السلف وصح عن الأئمة نقله، فمن ذلك: اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم، وأعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وأعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم، وورد أيضا غير ذلك من زيادة ونقص، وفي صحته نظر، وفي قوله: وإن تزد، إشارة إلى أنه لم يصح عنده نقص من اللفظ المختار. وقول الشاطبي رحمه الله. وإن تزد لربك تنزيها، صريح في إطلاق الزيادة، وهو مشكل. قال الجعبري رحمه الله تعالى في شرحه: هذه الزيادة وإن أطلقها وخصها فهي مقيدة بالرواية وعامة في غير التنزيه.
وقيل يخفى حمزة حيث تلا = وقيل لا فاتحة وعلّلا
هذا كالاستدراك على قوله: جهرا لجميع القراء، وهو أنه ورد عن حمزة روايتان في إخفاء التعوذ سوى الجهر، وهو الإخفاء مطلقا: أي حيث قرأ سواء كان أول سورة أو أثناءها، والثاني الإخفاء إلا في فاتحة الكتاب كما ذكره في النشر، والأصح عنه الجهر كما تقدم، وكذلك نقل عن نافع الإخفاء مطلقا ولكنه من غير طريق كتابنا، ووجه إخفاء حمزة ليفرق بين القرآن وغيره، ووجه تخصيص الفاتحة بالجهر الفرق بين ابتداء القرآن وغيره، وذلك أن القرآن عنده كالسورة الواحدة، ولهذا آثر وصل السورة بالسورة من غير فصل بين السورتين ببسملة ولا غيرها، ولأن أبا هريرة رضي الله عنه جهر بها في أول الفاتحة، والألف في عللا للتثنية: أي والقولان معلولان: أي ضعيفان، ويحتمل أن يراد أن لكل منهما علة:
أي وجه.
وقف لهم عليه أوصل واستحب = تعوّذ وقال بعضهم يجب
أي يجوز لكل واحد من القراء الوقف على التعوذ ووصله بما بعده سواء كان بسملة أو غيرها، وهذه مسألة عزيزة قلّ من تعرض لها، وقد أشار إليها الداني في كتابه الاكتفاء، والأستاذ أبو جعفر بن الباذش في كتاب الإقناع، وأجاد في ذلك في كتاب النشر (قوله: واستحب) يشير إلى مسألة مهمة وإن لم تتعلق بالقراءة، وهي التعوذ واجب أو مستحب، فالذي ذهب إليه الجمهور أنه مستحب
[شرح طيبة النشر لابن الجزري: 45]
قبل القراءة على كل حال في الصلاة وغيرها، وحملوا الأمر في ذلك على الندب، وذهب آخرون إلى الوجوب، وجنح الإمام الرازي في تفسيره وحكاه عن عطاء بن أبي رباح، وأوضح ذلك وبالغ داود الظاهري وأصحابه في ذلك حتى أبطلوا صلاة من لا يستعيذ، وهو قول ظاهر القوة: أعني القول بالوجوب، وأما ما ينقل عنهم أو عن غيرهم من الاستعاذة بعد القراءة لظاهر الآية فليس بصحيح عنهم ولا عن غيرهم كما بينه في النشر). [شرح طيبة النشر لابن الجزري: 46]
- قال محب الدين محمد بن محمد بن محمد النُّوَيْري (ت: 857هـ): (باب الاستعاذة
الباب: ما يتوصل للشيء منه، وهو خبر مبتدأ محذوف أي: هذا باب الاستعاذة، وعليه كان المتقدمون.
والإضافة إما بمعنى [«في»، أو] اللام التي للاستحقاق؛ كقولهم: (جلّ الفرس)، وكذا في كل باب، وحذف المتوسطون المبتدأ، والمتأخرون بين حذف المضاف [وحذف] المضاف إليه. والاستعاذة: طلب العوذ، مصدر استعاذ بالله: طلب عصمته، من: عاذ [يعوذ] عوذا [وعياذا] وعياذة، وقدمها وضعا؛ لتقدمها حكما.
[شرح طيبة النشر للنويري: 1/276]
ص:
وقل أعوذ إن أردت تقرا = كالنّحل جهرا لجميع القرّا
ش: الواو للاستئناف، و(قل) فعل أمر، وهو مبني على ما يجزم به مضارعه، و(أعوذ) مضارع مرفوع إما لتجرده من الناصب والجازم، وهو مذهب الكوفيين [وهو] الصحيح، أو لحلوله محل الاسم، وهو مذهب البصريين.
ولا فاعل له هنا؛ لأن المراد منه لفظه وهو مفعول (قل)، والجملة إما جواب [(إن)]، أو دليله [أي: إذا أردت قراءة القرآن وقتا ما فاقرأ قبل القراءة الاستعاذة لجميع القراء واجهر بها أو أي شيء قرأت من ابتداء سورة أو آية أو بعضهما] على خلاف، وعليهما فلا محل لها؛ لعدم اقترانها بالفاء، أو بـ «إذا» على الأول، ولاستئنافها على الثاني.
(وأردت): قصدت، فعل الشرط، و(تقرا) مفعوله؛ فيلزم تقدير (إن)، ويجوز نصبه؛ كقول طرفة:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ... .... ...
[شرح طيبة النشر للنويري: 1/277]
و (كالنحل) إما حال فاعل (قل) فيتعلق بواجب الحذف، أي: قل هذا اللفظ حال كونك مكملا له كلفظ النحل، أو من (أعوذ)، أو صفة مصدر حذف.
وجهرا: [مصدر «جهر»] أي: قل هذا اللفظ قولا ذا جهر، أو حال فاعل (قل) وحذف مفعول «تقرأ»؛ لأنه لم يتعلق بذكره غرض؛ إذ المراد: تقرأ آية أو سورة [أو أعم]، وليس من استعمال المشترك في مفهوميه. ونبه بـ (إن) أردت تقرأ على تقديم الاستعاذة على القراءة، أي: قل: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، لجميع القراء جهرا إن أردت قراءة ما.
[شرح طيبة النشر للنويري: 1/278]
وقد ذكر في هذا [البيت] حكم الاستعاذة، والكلام عليها من وجوه:
الأول: في محلها.
وهو قبل القراءة اتفاقا.
وأما قول الهذلي في (كامله): قال حمزة في رواية [ابن] قلوقا: «إنما يتعوذ بعد الفراغ»، وبه قال [أبو] حاتم، فلا دليل فيه؛ لأن رواية ابن قلوقا عن حمزة منقطعة في «الكامل» لا يصح إسنادها، وكل من ذكر هذه الرواية [عنه] كالداني والهمذاني، وابن سوار، وغيرهم لم يذكروا ذلك؛ ولذا لم يذكر أحد عن أبي حاتم ما ذكره الهذلي، ولا دليل لهم في الآية؛ لجريانها على ألسنة العرب وعرفهم؛ لأن تقديرها: إذا أردت القراءة؛ كقوله: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: 6]؛
وكالحديث: «من أتى الجمعة فليغتسل»، وأيضا فالمعنى الذي شرعت له يقتضي تقدمها، وهو الالتجاء إلى الله تعالى
[شرح طيبة النشر للنويري: 1/279]
والاعتصام بجانبه من خطل أو خلل يطرأ في القراءة أو غيرها، والإقرار له بالمعذرة، واعتراف العبد بالضعف والعجز عن هذا العدو الذي لا يقدر على دفعه إلا الله تعالى.
الثاني: في صفتها.
والمختار لجميع القراء: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»، بل حكى الأستاذ أبو طاهر ابن سوار وأبو العز وغيرهما الاتفاق على ذلك، بل قال السخاوي: هو الذي عليه إجماع الأمة. وفي دعواهما نظر، ولعلهما أرادا المختار؛ فقد ورد غير ذلك. أما (أعوذ) فنقل عن حمزة: «أعوذ» و«نستعيذ» و«استعذت» ولا يصح؛ لما سيأتي، واختاره
[شرح طيبة النشر للنويري: 1/280]
صاحب «الهداية» من الحنفية.
قال: لمطابقة لفظ القرآن، يعني فَاسْتَعِذْ [النحل: 98].
ويؤخذ من هذا التعليل: أنه لا يجزئ عنده إلا «أستعيذ» وفيه نظر، بل لا يجزئ «أستعيذ».
والدليل عليه أن السين والتاء شأنهما الدلالة على الطلب إيذانا بطلب التعوذ؛ فمعنى «استعذ بالله»: اطلب من الله أن يعيذك. فامتثال الأمر [قولك]: «أعوذ»؛ لأن قائله متعوذ ومستعيذ، قد عاذ والتجأ، وقائل: «أستعيذ» طالب العياذ لا متعوذ، ك «أستخير» [الله]، أي: أطلب خيرته، وكذلك [أستغفره] وأستقيله، فدخلت [استعذ] على الأمر إيذانا بطلب هذا المعنى من المعاذ به، فإذا قال المأمور: (أعوذ) فقد امتثل ما طلب منه؛ فإن المطلوب منه نفس الاعتصام، وفرق بينه وبين طلب الاعتصام، فلما كان المستعيذ هاربا ملتجئا معتصما بالله أتى بالفعل الدال على ذلك، فتأمله.
فإن قلت: فما تقول في الحديث الذي رواه أبو جعفر الطبري بسنده إلى ابن عباس قال: أول ما نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا محمّد استعذ».
قال: «أستعيذ بالسّميع العليم من الشّيطان الرّجيم ».
فالجواب: أن التمسك به يتوقف على صحته، وقد قال الحافظ أبو الفداء إسماعيل ابن كثير: «في إسناده ضعف وانقطاع». انتهى.
ومع ذلك فإن الداني رواه على الصواب عن ابن عباس: أن جبريل قال: «يا محمّد قل: أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم».
والحاصل أن المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في جميع تعوذاته: أعوذ، وهو الذي أمره الله به وعلمه له فقال: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ [المؤمنون: 97]، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس: 1]، وقال تعالى عن موسى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [البقرة: 67]، وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ [الدخان: 20]، وقال سيد البشر: «إذا تشهّد أحدكم
[شرح طيبة النشر للنويري: 1/281]
فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهمّ إنّي أعوذ بك ... الحديث ».
ولم يقل: أستعيذ، ولا أصرح في بيان الآية من هذا.
وأما «بالله» فجاء عن ابن سيرين [أعوذ] بالسميع العليم. قيل: وعن حمزة.
وأما «الرجيم» ففي «كامل الهذلي» «أعوذ بالله القادر من الشيطان الغادر».
وعن أبي السمال: «أعوذ بالله القوي من الشيطان الغوي».
الثالث: في الجهر بها والإخفاء.
والمختار: الجهر بها عند جميع القراء، إلا ما سنذكر عن حمزة، وفي كل حال من أحوال القراءة.
قال الداني: لا أعلم خلافا في الجهر بالاستعاذة عند افتتاح القرآن، وعند ابتداء كل قارئ لعرض أو تدريس أو تلقين، وفي جميع القرآن، إلا ما جاء عن حمزة ونافع.
[شرح طيبة النشر للنويري: 1/282]
ثم روي عن ابن المسيبي أنه قال: ما كنا نستعيذ البتة.
وروي عن نافع أنه كان يجهر بالتسمية، ويخفي الاستعاذة عند افتتاح السور ورءوس الآي.
[ثم] قال المصنف: وقد صح إخفاء التعوذ من رواية المسيبي. وسيأتي عن حمزة.
واعلم أن في البيت أربع مسائل: حكم الاستعاذة، وابتداؤها بـ «أعوذ»، وكونها كالنحل، [وجهرا].
فقوله: (لجميع القراء) إما حال من (أعوذ)، أي: قل هذا اللفظ لجميع القراء؛ لقول المصنف في «نشره»: نقل عن حمزة: أستعيذ، ولا يصح؛ فيكون إجماعا، أو متعلق بـ «جهرا» ثم استثنى حمزة، وهو صريح كلام الداني، ولما صح عنده [إخفاء] الاستعاذة عن نافع لم يستثنه، أو بـ (كالنحل) تبعا للسخاوي وغيره، وهو أبعدها؛ لتجويزه [الزيادة] والتغيير، والأولى أن يكون المراد: قل التعوذ ابتداء لجميع القراء؛ لأنه طعن فيما روي عن حمزة وأبي حاتم.
تنبيه:
أطلقوا الجهر، وقيده أبو شامة بحضرة سامع، قال: لأنه [من فوائدها أن السامع] راح ينصت للقراءة من أولها فلا يفوته شيء، وعند الإخفاء لم يعلم السامع إلا بعد فوات جزء، وهذا الفارق بين الصلاة وغيرها؛ [فإن المختار فيها] الإخفاء. انتهى. وهو كلام حسن لا بد منه.
وقال الجعبري- رحمه الله-: «هي على سنن القراءة، إن جهرا فجهر، وإن سرّا فسر».
قلت: وفيه نظر؛ لأن المأتي بها لأجله يحصل بالجهر والسر.
وأيضا فالإجماع على أنها دعاء لا قرآن، فينبغي السر بها جريا على سنن الدعاء، وفرقا بين القرآن وغيره [كأن] دعت الضرورة إلى الجهر بها بحضرة سامع، ومحل الضرورة [في مثله] لا يتجاوز.
[شرح طيبة النشر للنويري: 1/283]
ص:
وإن تغيّر أو تزد لفظا فلا = تعد الذي قد صحّ ممّا نقلا
ش: (إن) حرف شرط، و(تغير) فعله، و(تزد) عطف عليه، و(لفظا) مفعول (تغير)، ومقدر مثله في الثاني، وهو: الأولى، أو العكس، وأطلق (لفظا)؛ ليصدق على كل لفظ سواء كان تنزيها أو ذمّا للشيطان، والفاء للجواب، و(لا) ناهية، و(تعد) مجزوم [بالحذف للنهي]، والموصول مفعوله، [(ومن) تتعلق بـ (تعد)، (وما) موصول، و(نقل) صلته]، وعبر بالموصول ليعم المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أئمة القراء.
أي: وإن ترد أن تغير الاستعاذة عن النظم الوارد في سورة النحل أو تزد لربك تنزيها، أو للشيطان ذمّا بأي لفظ شئت، فلا تتجاوز عن المنقول اللفظ الذي قد صح منه.
وذكر الناظم- أثابه الله تعالى- في هذا حكم التغيير والزيادة:
أما التغيير فروى ابن ماجة بإسناد صحيح عنه صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ إنّي أعوذ بك من الشّيطان الرّجيم».
ورواه أبو داود من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل وهذا لفظه، والترمذي لكن بمعناه وقال: مرسل، واختاره بعض القراء، وروى غير هذا.
وأما الزيادة فوردت بألفاظ، منها ما يتعلق بتنزيه الله- تعالى- ومنها ما يتعلق بذم الشيطان، فالأول ورد على أنواع:
الأول: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم».
[شرح طيبة النشر للنويري: 1/284]
قال الداني: وعليه عامة أهل الأداء من أهل الحرمين والشام والعراقين، ورواه الخزاعي عن أبي عدي عن ورش، والأهوازي عن حمزة، ورواه أصحاب السنن الأربعة وأحمد عن أبي سعيد بإسناد جيد.
قال الترمذي: وهو أصح حديث في الباب.
فإن قلت: هذا الحديث معارض بما رواه ابن مسعود من قوله صلى الله عليه وسلم حين قرأ عليه فقال:
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: «قل يا ابن أمّ [عبد]: «أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم».
قلت: يكفى في ترجيح الأول قول الترمذي: هو أصح حديث في الباب.
الثاني: «أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم».
قال الداني: وعليه أهل مصر وسائر بلاد المغرب، وروي عن قنبل، وورش وأهل الشام.
الثالث: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم».
ذكره أبو معشر عن أهل مصر، والمغرب، [وروي عن أبي جعفر وشيبة ونافع، في غير رواية أبي عدي عن ورش، وابن عامر، والكسائي، وحمزة في أحد وجوهه ].
الرابع: «أعوذ بالله السميع العليم [من الشيطان الرجيم]».
رواه الزينبي عن قنبل، وأبو عدي عن ورش.
[الخامس:] «أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم».
رواه الزينبي عن ابن كثير.
السادس: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم».
ذكره الأهوازي عن جماعة.
السابع: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وأستفتح الله وهو خير الفاتحين».
[شرح طيبة النشر للنويري: 1/285]
رواه إدريس عن حمزة.
الثامن: «أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وبسلطانه القديم من الشيطان الرجيم».
رواه أبو داود في دخول المسجد عن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إذا قال ذلك قال الشيطان: «عصم منّي سائر اليوم» وإسناده جيد، وهو حديث حسن.
وأما ما يتعلق بشتم الشيطان فخرج الطبراني من حديث أبي بكر قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهمّ إنّي أعوذ بك من الرّجس النّجس الخبيث المخبّث الشّيطان الرّجيم، ونفخه» رواه ابن ماجة، وهذا لفظه، وأبو داود، والحاكم، وابن حبان في صحيحيهما.
وأما النقص فأهمله أكثرهم؛ ولذا لم يذكره [لا] لضعفه، [فقد] قال الناظم في «نشره»: والصحيح جوازه، فقد قال الحلواني في جامعه: من شاء زاد أو نقص- يعني بحسب الرواية- وفي سنن أبي داود وغيره من حديث [جبير] بن مطعم: «أعوذ بالله من الشيطان» فقط.
ص:
وقيل يخفي حمزة حيث تلا = وقيل لا فاتحة وعلّلا
ش: (قيل) مبني للمفعول، و(يخفي حمزة) فعلية، و(حيث) من الظروف الملازمة للإضافة إلى الجمل، وهي مبنية على الضم الصحيح لقطعها عن الإضافة، وفيها ست لغات: تثليث الثاء مع الياء والواو، وهي مضافة إلى جملة (تلا)، وجملة (يخفي) نائب عن فاعل (قيل)، أي: وقيل هذا اللفظ، ولا (فاتحة) نائب فاعل (قيل)، ولا بد من تقدير محذوف، أي: وقيل لا فاتحة فلا يخفي فيها، (وعللا) فعلية مستأنفة، أي: وقيل: يخفي حمزة الاستعاذة في كل مكان تلاه من القرآن سواء كان فاتحة أو غيرها، وهذه طريقة المهدوي والخزاعي، وقيل: يخفي في جميع (القرآن) إلا [في] الفاتحة فيجهر
[شرح طيبة النشر للنويري: 1/286]
بالتعوذ في أولها، وهي طريقة «المبهج» عن سليم، وذكر الصفراوي الوجهين عن حمزة.
تنبيه:
لا بد في الإخفاء من إسماع القارئ نفسه، ولا يكفي التصور ولا فعل القارئ دون صوت عند الجمهور، وقال كثير: هو الكتمان، فيكفي ذكره بالنفس بلا لفظ، وحمل أكثرهم كلام الشاطبي عليه.
قوله: (وعللا) أي: ضعّف، يحتمل ألفه التثنية وهو الأولى؛ لاجتماعهما في علة التضعيف، وهو فوات السامع شيئا، والإطلاق؛ لأن القول الثاني بأن فعلها في الفاتحة دون غيرها تحكّم؛ فهو ظاهر الضعف.
ص:
وقف لهم عليه أو صل واستحب = تعوّذ وقال بعضهم يجب
ش: [الواو لعطف جملة طلبية على مثلها، و] الجاران متعلقان بـ (قف)، وضمير (عليه) للتعوذ، و(أو صل) التعوذ بما بعده، كذلك، ولا محل لهما، والباقي [واضح].
أي: قف للقراء على الاستعاذة، قال [الداني]: وهو تام. أو صلهما بما بعدها من البسملة، قال الداني: وهو أتم من الأول، أو من السورة، فيتصور أربع صور، ورجح ابن الباذش الوقف لمن مذهبه الترتيل.
قال: فأما من لم يسم- يعني مع الاستعاذة- فالأشبه عندي أن يسكت، أي: يقف عليها ولا يصلها بشيء من القرآن، وعلى الوصل لو التقى مع الميم مثلها، نحو «الرجيم ما ننسخ» أدغم لمن مذهبه الإدغام.
وقوله: (واستحب تعوذ) إما من عطف الخبر على الإنشاء عند من جوّزه، أو جملة مستأنفة عند من منعه، وجملة: (قال بعضهم) معطوفة على (واستحب) فلا محل لهما مطلقا، وجملة: (يجب التعوذ) محكية بالقول، فمحلها نصب.
أي: يستحب التعوذ عند القراءة مطلقا [في الصلاة] وخارجها عند الجمهور.
[شرح طيبة النشر للنويري: 1/287]
وقال داود وأصحابه: يجب؛ إبقاء لصيغة «افعل» على أصلها، وجنح له الإمام فخر الدين الرازي وحكاه عن [ابن] أبي رباح.
فائدتان:
[الأولى]: إذا قطع القارئ القراءة لعارض من سؤال أو كلام يتعلق بالقراءة لم يعد الاستعاذة، بخلاف الكلام الأجنبي فيعيدها، ولو رد السلام، وكذا [لو كان القطع] إعراضا عن القراءة.
وقيل: يستعيذ.
الثانية: لو قرأ جماعة هل يجزئ تعوذ أحدهم؟ لا نص فيها، والظاهر عدمه؛ لأن المقصود [الاعتصام] والالتجاء؛ فلا بد من تعوذ كل قارئ. قاله المصنف). [شرح طيبة النشر للنويري: 1/288]

قال أحمد بن محمد بن البناء الدمياطي (ت: 1117هـ): (باب الاستعاذة:
هي مستحبة عند الأكثر، وقيل واجبة وبه قال الثوري وعطاء لظاهر الآية، وقال بعضهم موضع الخلاف إنما هو في الصلاة خاصة أما في غيرها فسنة قطعا، وعلى الأول هي سنة عين لا سنة كفاية فلو قرأ جماعة جملة شرع لكل واحد الاستعاذة.
والذي اتفق عليه الجمهور: قديما وحديثا أنها قبل القراءة، وقيل بعدها ونقل عن حمزة وقيل قبلها بمقتضى الخبر، وبعدها بمقتضى القرآن جمعا بين الأدلة ونقل الثاني عن مالك وغيره لم يصح وكذا الثالث، والمختار لجميع القراء في كيفيتها أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وهو المأخوذ به عند عامة الفقهاء، وحكي فيه الإجماع لكنه تعقب بما روي من الزيادة والنقص فلا حرج على القارئ في الإتيان بشيء من صيغ الاستعاذة مما صح عند أئمة القراء.
فما ورد: في الزيادة على اللفظ المتقدم أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان
[إتحاف فضلاء البشر: 1/107]
الرجيم نص عليه الداني في الجامع، ورواه أصحاب السنن الأربعة عن أبي سعيد الخدري بإسناد جيد، وروي ذلك عن الحسن مع زيادة: إن الله هو السميع العليم مع الإدغام، وعن الأعمش من رواية المطوعي أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم، وعن الشنبوذي كذلك لكن بالإدغام.
ومما ورد في النقص عنه: ما في حديث جبير بن مطعم المروي في أبي داود أعوذ بالله من الشيطان فقط.
ويستحب: الجهر بها عند الجميع إلا ما صح من إخفائها من رواية المسيبي عن نافع، ولحمزة وجهان: الإخفاء مطلقا والجهر أول الفاتحة فقط، والمراد بالإخفاء الإسرار على ما صوبه في النشر، ومحل الجهر حيث يجهر بالقراءة فإن أسر القراءة أسر الاستعاذة؛ لأنها تابعة، وهذا في غير الصلاة أما فيها فالمختار الإسرار مطلقا، وقيد أبو شامة إطلاقهم اختيار الجهر بحضرة سامع، ويجوز الوقف على التعوذ ووصله بما بعده ببسملة كان أو غيرها من القرآن، وظاهر كلام الداني أن الأول وصلها بالبسملة، وأما من لم يسم فالأشبه الوقف على الاستعاذة ويجوز الوصل، وعليه لو التقى مع الميم مثلها نحو: "الرجيم ما ننسخ" أدغم من مذهبه الإدغام، كما يجب حذف همزة الوصل في نحو: "الرجيم اعلموا أنما".
تتمة:
إذا قطع القارئ القراءة لعارض من سؤال أو كلام يتعلق بالقراءة لم يعده بخلاف ما إذا كان الكلام أجنبيا، ولو رد السلام فإنه يستأنف الاستعاذة، وكذا لو كان القطع إعراضا عن القراءة). [إتحاف فضلاء البشر: 1/108]
قال علي بن محمد الصفاقسي (ت: 1118هـ): (باب الاستعاذة
أما حكمها: فلا خلاف بين العلماء أن القارئ مطلوب منه في أول قراءته أن يتعوذ.
وهل هو على الندب؟ وهو المشهور، وقول الجمهور، أو على الوجوب؟ وبه قال عطاء والثوري وداود وأصحابه، وإليه جنح الفخر الرازي، قولان وقال ابن سيرين: «إن تعوذ مرة في عمره كفى في إسقاط الواجب».
[غيث النفع: 306]
وأما صيغتها: فالمختار عند جميع القراء (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) وكلهم يجيز غير هذه الصيغة من الصيغ الواردة، نحو (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم) و(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إنه هو السميع العليم) و(أعوذ بالله العظيم السميع العليم من الشيطان الرجيم).
وأما الجهر بها: فقال الداني: «لا أعلم خلافًا بين أهل الأداء في الجهر بها عند افتتاح القرآن، وعند الابتداء برءوس الأجزاء أو غيرها في مذاهب الجماعة، اتباعًا للنص، واقتداءً بالسنة».
وكذلك ذكره غيره، وكلهم أطل، وقيده الإمام أبو شامة، وتبعه جماعة من شراح القصيد وغيرهم كالمحقق بما إذا كان بحضرة من يسمع قراءته، قال: «لأن السامع
[غيث النفع: 307]
ينصت للقراءة من أولها، فلا يفوته منها شيء، لأن التعوذ شعار القراءة، وإذا أخفى التعوذ لم يعلم السامع بالقراءة إلا بعد أن يفوته منها شيء» انتهى.
ويؤخذ منه أنه إذا قرأ سرًا فإنه يسر، وبه صرح المحقق، قال: «وكذلك إذا قرأ في الدور ولم يكن في قراءته مبتدئًا، فإنه يسر التعوذ، لتتصل القراءة، ولا يتخللها أجنبي، فإن المعنى الذي من أجله استحب الجهر، وهو الإنصات، فُقِدَ ف يهذه المواضع».
ويعني بالمواضع ما ذكره أبو شامة ومسألة من قد قرأ سرًا وهذه، وهذا قيد حسن لا بد منه، ويدل عليه أمور:
منها: أن الله أمر بالاستعاذة، ولم يعين سرًا ولا جهرًا، ولا خلاف أعلمه أن من تعوذ سرًا فقد امتثل أمر الله عز وجل، كمن ذكر سرًا فقد امتثل أمره بالذكر.
ومنها: أن المطلوب من الاستعاذة الالتجاء والاعتصام والاستجارة بالله جل وعلا من ضرر الشيطان في دين أو دنيا، فإنه لا يفكه عن ذلك إلا الله القادر عليه، لا غيره، لأنه شرير بالطبع، لا يقبل جعلاً ولا يؤثر فيه جميل، ولا يمكن علاجه بنوع من أنواع الحيل التي تعالج بها بنو آدم، وطلب هذا من الله يحصل بالسر كما يحصل بالجهر، لأن الله تعالى يعلم السر وأخفى.
ومنها: أن الإجماع منعقد على أنها ليست من القرآن، وإنما هي دعاء، والدعاء من آدابه ومستحباته الإخفاء، قال تعالى: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية} [الأعراف: 55] وقال {إذ نادى ربه نداء خفيا} [مريم].
[غيث النفع: 308]
والمراد بالإخفاء الإسرار لا الكتمان، وقال بعضهم: هو الكتمان، فيكفي عنده الذكر في النفس من غير تلفظ، والأول أولى، وهو مذهب الجمهور.
وأما الوقف عليها: فإن كانت مع البسملة جاز فيها لكل القراءة أربعة أوجه.
الأول: الوقف عليها، وهو أحسنها.
الثاني: الوقف على التعوذ ووصل البسملة بأول القراءة.
الثالث: وصلها والوقف على البسملة، ولا تسكن ميم (الرحيم) ولا تخفى، لأجل باء (بسم) لأن قبلها ساكنًا، وقد أجمعوا على ترك ذلك إذا سكن ما قبل الميم، نحو {إبراهيم بنيه} [البقرة: 132] إلا ما رواه القصباني وغيره من الإخفاء، وليس ذلك من طرق القصيد، بل ولا من طرق النشر.
[غيث النفع: 309]
الرابع: وصلها ووصل البسملة بأول القراءة، سواء كانت القراءة أول السورة أم لا، إلا أنه إذا كانت أول سورة فلا خلاف في البسملة لجميع القراء، وإن لم تكن أول سورة فيجوز ترك البسملة، وعليه فيجوز الوقف على التعوذ ووصله بالقراءة، إلا أن يكون في أول قراءته اسم الجلالة فالأولى أن لا يصل، لما في ذلك من البشاعة.
فإن عرض للقارئ ما قطع قراءته فإن كان أمرًا ضروريًا، كسعال أو كلام يتعلق بالقراءة فلا يعيد التعوذ، وإن كان أجنبيًا قال المحقق وغيره: (ولو رد السلام أعاده وكذلك لو قطع القراءة ثم بدا له فعاد إليها) ). [غيث النفع: 310]

روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس