عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 26 رجب 1440هـ/1-04-2019م, 05:51 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

الفصل الثالث: في تجويد اللفظ بالقرآن وذكر ضروبه، وصفة اللحن
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (الفصل الثالث: في تجويد اللفظ بالقرآن وذكر ضروبه، وصفة اللحن
اعلم أن القراءة المتفق على ارتضائها ضربان:
أحدهما: الترتيل، والثاني: الحدر.
[الموضح: 153]
أما الترتيل فهو التمكث في القراءة، وفيه التحقيق، وهو إنما يكون للإفهام أو للرياضة أو للتدبر.
وأما الحدر فهو الاسترسال في القراءة من غير مكث ولا عجلة، وفيه التسهيل، وهو إنما يكون للاستكثار من القراءة.
ومن لم يمكنه حسن الأداء بالحدر فلا ينبغي أن يقرأ إلا بالترتيل، فإنه هو الأصل، وهو المأمور به في قوله تعالى {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} وقوله عز وجل {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} وقوله سبحانه {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}.
وإنما أمر به ليسلم اللفظ بالقرآن عن التغيير، ويتوفر حظه من التجويد والتقويم، ولئلا تبخس الحروف حظ التمام، ولا تحرف عن جهة مخارجها، ولا يزاحم بعضها بعضًا في مسالكها.
والترتيل هو من قولهم: ثغر رتل، إذا كان مفلجًا وذلك إذا انفرج ما بين الأسنان على استواءٍ فيها، وترتل في مسيره إذا تتابعت خطاه من غير سرعة.
فكذلك الترتيل هو التأني في القراءة مع تفصيل الكلم بعضها من بعض جامعًا لشرائط التجويد والتقويم، وروي أن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم كان ترتيلًا على ما ورد من حديث أم سلمة أنها وصفت قراءته عليه السلام كالمفسرة لها ومقطعة آية آية وحرفًا حرفًا.
[الموضح: 154]
فالترتيل إذا هو تبيين القراءة وإتباع بعضها بعضًا على تأنٍ وتؤدةٍ مع تجويد اللفظ وحسن تأديته وتقويمه.
وعن علي رضي الله عنه أنه قال: تنوق رجل في (بسم الله الرحمن الرحيم) فغفر له، فقيل إن تنوقه كان بتجويد القراءة وترتيلها، وقيل بل بتجويد الخط وتحسينه.
وروي عن علي رضي الله عنه أيضًا أنه قال: كان نبيكم حسن الصوت مادًا له ترجيع، أراد بالترجيع ما ذكرنا من الترتيل، ولم يرد به ترجيع الصوت بالغناء به؛ لأن ذلك منهي عنه بقوله صلى الله عليه وسلم:
"إياكم ولحون أهل الفسق والكتابين فإنه سيأتي قوم يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية والنوح، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم".
وأما قوله عليه السلام: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" فإن معناه من لم
[الموضح: 155]
يستغن به، كما قال صلى الله عليه وسلم "القرآن غنى لا غنى دونه ولا فقر بعده" والمراد به الاستكفاف به عن حُطام الدنيا، وقيل: أراد بقوله "لم يتغن" أي لم يحسن صوته به مع التبيين ولزوم الترتيل. كما قال صلى الله عليه وسلم "ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي يتغنى بالقرآن" أي يجهر به فيطيب صوته به ويحسنه مع تجويد اللفظ وتقويمه.
وكيف يجوز ترجيع الغناء في القرآن، وفيه خروج كثير من الحروف عن مخارجها، كالزيادة في المد على حروف المد، وإنشاء المد حيث لا مد هناك، وزيادة الصوت بحروف لا تكون فيها تلك الزيادة؟
فلهذا نهي عنه.
وأما الحدر فهو تسهيل القراءة، وهو يراد للتحفظ والاستكثار من الدرس وهو أيضًا يرتضى إذا لم يفارق التجويد، وذلك بأن تعطى الحروف حقوقها من مخارجها ومسالكها، ويوفر عليها حظوظها من حركاتها وسكناتها من غير زيادة مجاوزة للحد، ولا نقصان مؤد إلى القدح.
فإن حسن الأداء فرض في القراءة، ويجب على القارئ أن يتلو القرآن حق تلاوته صيانة للقرآن عن أن يجد التغير واللحن إليه سبيلًا، على أن
[الموضح: 156]
العلماء قد اختلفوا في وجوب حسن الأداء في القرآن:
فبعضهم ذهب إلى أن ذلك مقصورٌ على ما يلزم المكلف قراته في المفترضات، فإن تجويد اللفظ وتقويم الحروف وحسن الأداء واجب فيه فحسب.
وذهب الآخرون إلى أن ذلك واجب على كل من قرأ شيئًا من القرآن كيفما كان؛ لأنه لا رخصة في تغيير اللفظ بالقرآن وتعويجه واتخاذ اللحن سبيلًا إليه إلا عند الضرورة، قال الله تعالى {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ}.
وقد وردت الرخصة في الهذ والزمزمة وهما نوعان من القراءة:
أما الهد فهو سرعة القراءة، يصدق ذلك ما رواه عطاء بن ميسرة عن معاذ قال: عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن فقرأتها قراءة سقرتها أي
[الموضح: 157]
هذذتها، فقال "هكذا فاقرأ يا معاذ"، فقد وردت فيه الرخصة، لكن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يكرهون دوام القراءة بذلك وأن لا تكون القراءة إلا كذلك.
وأما الزمزمة فهي القراءة في النفس خاصة، وهي أن يكون الصوت بها محسوسًا ولكنه غير مستبان للمخافتة التي فيها، يشهد لذلك ما رواه مكحول عن أنس قال: كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل الزمزمة قال: فقيل: يا رسول الله لو رفعت صوتك، قال: "إني أكره أن أوذي جليسي أو أهل بيتي".
وهذان النوعان اللذان وردت الرخصة فيهما، أعني الهذّ والزمزمة، فلا يجوز واحد منهما إلا مع تقويم الحروف وإتمامها وإخراجها من مخارجها وصيانتها من سوء الأداء وما يخرجها من صفاتها التي تجب لها، وإلا بعد الاجتناب من اللحن جليه وخفيه.
أما اللحن الجلي فهو تغيير الحركات والسكنات وتصحيف الحروف
[الموضح: 158]
وزيادتها ونقصانها، وهذا هو الذي يستوي في معرفته حفظة القرآن سواء كانوا من العلماء به أم غيرهم.
وأما اللحن الخفي فهو تغيير صفات الحروف دون ذواتها، وهو ضربان: أحدهما لا يكاد يعرف بالوصف والخط، وإنما يدرك باللفظ إذا أوضحته الملاسنة والمشافهة، وذلك لا يتأتى لأحد إلا بالتلقف، وهو نحو الفرق بين ما إذا كان للنفي وبينه إذا كان للإثبات، ونحو إبانة الخبر عن الاستخبار، ونحو معرفة قدر المد، وتمييز الإشباع من الاختلاس، والروم من الإشمام، والمدغم من المخفى، وكالفرق بين الحروف المتجانسة كحرف مهموس هو أشد همسًا من مهموس آخر، وكمجهور هو أشد جهرًا، وشديد هو أكثر شدة، ورخوٍ هو أشد رخاوة، ولا يتصور مثل ذلك إلا بالمشافهة.
والضرب الثاني قد يدرك بالوصف لفظًا وخطًا، لكن متعاطيه محتاجٌ إلى
[الموضح: 159]
معرفة مخارج الحروف وأحيازها ومعرفة ألقابها وما يتجانس منها، وما يفترق، وما يتقارب، وما يكتسي الواحد من الآخر من الوصف وما يصير إليه إذا ألف مع غيره، ليخرج كل حرف من مخرجه الذي هو له ولا يعدل عنه، ولا يبخس المتحرك والساكن حق الحركة والسكون فيقع اللحن الخفي كما ذكرنا). [الموضح: 160]


رد مع اقتباس