عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 29 محرم 1440هـ/9-10-2018م, 08:57 PM
جمهرة التفاسير جمهرة التفاسير غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 2,953
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يا أيّها الّذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثمّ طلّقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ فما لكم عليهنّ من عدّةٍ تعتدّونها فمتّعوهنّ وسرّحوهنّ سراحًا جميلا (49)}.
هذه الآية الكريمة فيها أحكامٌ كثيرةٌ. منها: إطلاق النّكاح على العقد وحده، وليس في القرآن آيةٌ أصرح في ذلك منها، وقد اختلفوا في النّكاح: هل هو حقيقةً في العقد وحده، أو في الوطء، أو فيهما؟ على ثلاثة أقوال، واستعمال القرآن إنّما هو في العقد والوطء بعده، إلّا في هذه الآية فإنّه استعمل في العقد وحده؛ لقوله: {إذا نكحتم المؤمنات ثمّ طلّقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ}. وفيها دلالةٌ لإباحة طلاق المرأة قبل الدّخول بها.
وقوله: {المؤمنات} خرج مخرج الغالب؛ إذ لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابيّة في ذلك بالاتّفاق. وقد استدلّ ابن عبّاسٍ، وسعيد بن المسيّب، والحسن البصريّ، وعليّ بن الحسين، زين العابدين، وجماعةٌ من السّلف بهذه الآية على أنّ الطّلاق لا يقع إلّا إذا تقدّمه نكاحٌ؛ لأنّ اللّه تعالى قال: {إذا نكحتم المؤمنات ثمّ طلّقتموهنّ}، فعقّب النّكاح بالطّلاق، فدلّ على أنّه لا يصحّ ولا يقع قبله. وهذا مذهب الشّافعيّ، وأحمد بن حنبلٍ، وطائفةٍ كثيرةٍ من السّلف والخلف، رحمهم اللّه تعالى.
وذهب مالكٌ وأبو حنيفة، رحمهما اللّه، إلى صحّة الطّلاق قبل النّكاح؛ فيما إذا قال: "إن تزوّجت فلانةً فهي طالقٌ". فعندهما متى تزوّجها طلّقت منه. واختلفا فيما إذا قال: "كلّ امرأةٍ أتزوّجها فهي طالقٌ". فقال مالكٌ: لا تطلّق حتّى يعيّن المرأة. وقال أبو حنيفة، رحمه اللّه: كلّ امرأةٍ يتزوّجها بعد هذا الكلام تطلّق منه، فأمّا الجمهور فاحتجّوا على عدم وقوع الطّلاق بهذه الآية.
قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أحمد بن منصورٍ المروزيّ، حدّثنا النّضر بن شميل، حدّثنا يونس -يعني: ابن أبي إسحاق -سمعت آدم مولى خالدٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ قال: [إذا قال]: كلّ امرأةٍ أتزوّجها فهي طالقٌ، قال: ليس بشيءٍ من أجل أنّ اللّه تعالى يقول: {يا أيّها الّذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثمّ طلّقتموهنّ} الآية.
وحدّثنا محمّد بن إسماعيل الأحمسي، حدّثنا وكيع، عن مطرٍ، عن الحسن بن مسلم بن ينّاق، عن ابن عبّاسٍ قال: إنّما قال اللّه تعالى: {إذا نكحتم المؤمنات ثمّ طلّقتموهنّ}، ألا ترى أنّ الطّلاق بعد النّكاح؟!
وهكذا روى محمّد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: قال اللّه: {إذا نكحتم المؤمنات ثمّ طلّقتموهنّ} فلا طلاق [قبل النّكاح].
وقد ورد الحديث بذلك عن عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك". رواه الإمام أحمد والتّرمذيّ، وأبو داود، وابن ماجه. وقال التّرمذيّ: "هذا حديثٌ حسنٌ". وهو أحسن شيءٍ روي في هذا الباب. وهكذا روى ابن ماجه عن عليٍّ، والمسور بن مخرمة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنّه قال: "لا طلاق قبل نكاحٍ".
[وفي الآية دليلٌ على أنّ المسيس مطلقٌ، ويراد به الوطء].
وقوله: {فما لكم عليهنّ من عدّةٍ تعتدّونها}: هذا أمرٌ مجمعٌ عليه بين العلماء: أنّ المرأة إذا طلّقت قبل الدّخول بها لا عدّة عليها فتذهب فتتزوّج في فورها من شاءت، ولا يستثنى من هذا إلّا المتوفّى عنها زوجها، فإنّها تعتدّ منه أربعة أشهرٍ وعشرًا، وإن لم يكن دخل بها بالإجماع أيضًا.
وقوله: {فمتّعوهنّ وسرّحوهنّ سراحًا جميلا}: المتعة هاهنا أعمّ من أن تكون نصف الصّداق المسمّى، أو المتعة الخاصّة إن لم يكن قد سمّى لها، قال اللّه تعالى: {وإن طلّقتموهنّ من قبل أن تمسّوهنّ وقد فرضتم لهنّ فريضةً فنصف ما فرضتم} [البقرة: 237]، وقال {لا جناح عليكم إن طلّقتم النّساء ما لم تمسّوهنّ أو تفرضوا لهنّ فريضةً ومتّعوهنّ على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعًا بالمعروف حقًّا على المحسنين} [البقرة: 236].
وفي صحيح البخاريّ، عن سهل بن سعدٍ وأبي أسيدٍ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوّج أميمة بنت شراحيل، فلمّا أدخلت عليه بسط يده إليها، فكأنّها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيدٍ أن يجهّزها ويكسوها ثوبين رازقيّين.
قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، رضي اللّه عنهما: إن كان سمّى لها صداقًا، فليس لها إلّا النّصف، وإن لم يكن سمّى لها صداقًا فأمتعها على قدر عسره ويسره، وهو السّراح الجميل).[تفسير ابن كثير: 6/ 439-441]

تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({يا أيّها النّبيّ إنّا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهنّ وما ملكت يمينك ممّا أفاء اللّه عليك وبنات عمّك وبنات عمّاتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأةً مؤمنةً إن وهبت نفسها للنّبيّ إن أراد النّبيّ أن يستنكحها خالصةً لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرجٌ وكان اللّه غفورًا رحيمًا (50)}.
يقول تعالى مخاطبًا نبيّه، صلوات اللّه وسلامه عليه، بأنّه قد أحلّ له من النّساء أزواجه اللّاتي أعطاهنّ مهورهنّ، وهي الأجور هاهنا. كما قاله مجاهدٌ وغير واحدٍ، وقد كان مهره لنسائه اثنتي عشرة أوقيّةً ونشّا وهو نصف أوقيّةٍ، فالجميع خمسمائة درهمٍ، إلّا أمّ حبيبة بنت أبي سفيان فإنّه أمهرها عنه النّجاشيّ، رحمه اللّه، أربعمائة دينارٍ، وإلّا صفيّة بنت حييّ فإنّه اصطفاها من سبي خيبر، ثمّ أعتقها وجعل عتقها صداقها. وكذلك جويرية بنت الحارث المصطلقيّة، أدّى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس بن شمّاسٍ وتزوّجها، رضي اللّه عن جميعهن.
وقوله: {وما ملكت يمينك ممّا أفاء اللّه عليك} أي: وأباح لك التّسرّي ممّا أخذت من المغانم، وقد ملك صفيّة وجويرية فأعتقهما وتزوّجهما. وملك ريحانة بنت شمعونٍ النّضريّة، ومارية القبطيّة أمّ ابنه إبراهيم، عليه السّلام، وكانتا من السّراري، رضي اللّه عنهما.
وقوله: {وبنات عمّك وبنات عمّاتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك}: هذا عدلٌ وسط بين الإفراط والتّفريط؛ فإنّ النّصارى لا يتزوّجون المرأة إلّا إذا كان الرّجل بينه وبينها سبعة أجدادٍ فصاعدًا، واليهود يتزوّج أحدهم بنت أخيه وبنت أخته، فجاءت هذه الشّريعة الكاملة الطّاهرة بهدم إفراط النّصارى، فأباح بنت العمّ والعمّة، وبنت الخال والخالة، وتحريم ما فرّطت فيه اليهود من إباحة بنت الأخ والأخت، وهذا بشعٌ فظيعٌ.
وإنّما قال: {وبنات عمّك وبنات عمّاتك وبنات خالك وبنات خالاتك} فوحّد لفظ الذّكر لشرفه، وجمع الإناث لنقصهنّ كقوله: {عن اليمين والشّمائل} [النّحل:48]، {يخرجهم من الظّلمات إلى النّور} [البقرة: 257]، {وجعل الظّلمات والنّور} [الأنعام: 1]، وله نظائر كثيرةٌ.
وقوله: {اللاتي هاجرن معك} قال ابن أبي حاتمٍ، رحمه اللّه:
حدّثنا محمّد بن عمّار بن الحارث الرّازيّ، حدّثنا عبيد اللّه بن موسى، حدّثنا إسرائيل، عن السّدّيّ، عن أبي صالحٍ، عن أمّ هانئٍ قالت: خطبني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فاعتذرت إليه بعذري، ثمّ أنزل اللّه: {إنّا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهنّ وما ملكت يمينك ممّا أفاء اللّه عليك وبنات عمّك} إلى قوله: {اللاتي هاجرن معك} قالت: فلم أكن أحلّ له، ولم أكن ممّن هاجر معه، كنت من الطّلقاء. ورواه ابن جريرٍ عن أبي كريب، عن عبيد اللّه بن موسى، به.
ثمّ رواه ابن أبي حاتمٍ من حديث إسماعيل بن أبي خالدٍ، عن أبي صالحٍ، عنها بنحوه.
ورواه التّرمذيّ في جامعه. وهكذا قال أبو رزين وقتادة: إنّ المراد: من هاجر معه إلى المدينة. وفي روايةٍ عن قتادة: {اللاتي هاجرن معك} أي: أسلمن. وقال الضّحّاك: قرأ ابن مسعودٍ: "واللّاتي هاجرن معك".
وقوله: {وامرأةً مؤمنةً إن وهبت نفسها للنّبيّ إن أراد النّبيّ أن يستنكحها} أي: ويحلّ لك -يأيّها النّبيّ -المرأة المؤمنة إذا وهبت نفسها لك أن تتزوّجها بغير مهرٍ إن شئت ذلك. وهذه الآية توالى فيها شرطان، كقوله تعالى إخبارًا عن نوحٍ، عليه السّلام، أنّه قال لقومه: {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان اللّه يريد أن يغويكم} [هودٍ: 34]، وكقول موسى: {يا قوم إن كنتم آمنتم باللّه فعليه توكّلوا إن كنتم مسلمين} [يونس: 84].
وقال هاهنا: {وامرأةً مؤمنةً إن وهبت نفسها للنّبيّ إن أراد النّبيّ أن يستنكحها} وقد قال الإمام أحمد:
حدّثنا إسحاق، أخبرنا مالكٌ، عن أبي حازمٍ، عن سهل بن سعدٍ السّاعديّ؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم جاءته امرأةٌ فقالت: يا رسول اللّه، إنّي قد وهبت نفسي لك. فقامت قيامًا طويلًا فقام رجلٌ فقال: يا رسول اللّه، زوّجنيها إن لم يكن لك بها حاجةٌ. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "هل عندك من شيءٍ تصدقها إيّاه"؟ فقال: ما عندي إلّا إزاري هذا. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك، فالتمس شيئًا". فقال: لا أجد شيئًا. فقال: "التمس ولو خاتمًا من حديدٍ" فالتمس فلم يجد شيئًا، فقال له النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: "هل معك من القرآن شيءٌ؟ " قال: نعم؛ سورة كذا، وسورة كذا -لسورٍ يسمّيها -فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "زوّجتكها بما معك من القرآن".
أخرجاه من حديث مالكٍ.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا عفّان، حدّثنا مرحومٌ، سمعت ثابتًا يقول: كنت مع أنسٍ جالسًا وعنده ابنةٌ له، فقال أنسٌ: جاءت امرأةٌ إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت: يا نبيّ اللّه، هل لك فيّ حاجةٌ؟ فقالت ابنته: ما كان أقلّ حياءها. فقال: "هي خيرٌ منك، رغبت في النّبيّ، فعرضت عليه نفسها".
انفرد بإخراجه البخاريّ، من حديث مرحوم بن عبد العزيز [العطّار]، عن ثابتٍ البناني، عن أنسٍ، به.
وقال أحمد أيضًا: حدّثنا عبد اللّه بن بكرٍ، حدّثنا سنان بن ربيعة، عن الحضرميّ، عن أنس بن مالكٍ: أنّ امرأةً أتت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقالت: يا رسول اللّه، ابنةٌ لي كذا وكذا. فذكرت من حسنها وجمالها، فآثرتك بها. فقال: "قد قبلتها".فلم تزل تمدحها حتّى ذكرت أنّها لم تصدّع ولم تشتك شيئًا قطّ، فقال: "لا حاجة لي في ابنتك". لم يخرّجوه.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبي، حدّثنا منصور بن أبي مزاحم، حدّثنا ابن أبي الوضّاح -يعني: محمّد بن مسلمٍ -عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: الّتي وهبت نفسها للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم خولة بنت حكيمٍ.
وقال ابن وهبٍ، عن سعيد بن عبد الرّحمن وابن أبي الزّناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أنّ خولة بنت حكيم بن الأوقص، من بني سليم، كانت من اللّاتي وهبن أنفسهنّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
وفي روايةٍ له عن سعيد بن عبد الرّحمن، عن هشامٍ، عن أبيه: كنّا نتحدّث أنّ خولة بنت حكيم كانت وهبت نفسها لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، وكانت امرأةً صالحةً.
فيحتمل أنّ أمّ سليمٍ هي خولة بنت حكيمٍ، أو هي امرأةٌ أخرى.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا محمّد بن إسماعيل الأحمسي، حدّثنا وكيع، حدّثنا موسى بن عبيدة، عن محمّد بن كعبٍ، وعمر بن الحكم، وعبد اللّه بن عبيدة قالوا: تزوّج رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ثلاثٌ عشرة امرأةً، ستٌّ من قريشٍ، خديجة، وعائشة، وحفصة، وأمّ حبيبة، وسودة، وأمّ سلمة. وثلاثٌ من بني عامر بن صعصعة، وامرأتان من بني هلال بن عامرٍ: ميمونة بنت الحارث، وهي الّتي وهبت نفسها للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وزينب أمّ المساكين -امرأةٌ من بني أبي بكر بن كلابٍ من القرطاء -وهي الّتي اختارت الدّنيا، وامرأةٌ من بني الجون، وهي الّتي استعاذت منه، وزينب بنت جحشٍ الأسديّة، والسّبيّتان صفيّة بنت حييّ بن أخطب، وجويرية بنت الحارث بن عمرو بن المصطلق الخزاعيّة.
وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن ابن عبّاسٍ: {وامرأةً مؤمنةً إن وهبت نفسها للنّبيّ} قال: هي ميمونة بنت الحارث.
فيه انقطاعٌ: هذا مرسلٌ، والمشهور أنّ زينب الّتي كانت تدعى أمّ المساكين هي زينب بنت خزيمة الأنصاريّة، وقد ماتت عند النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم في حياته، فاللّه أعلم.
والغرض من هذا أنّ اللّاتي وهبن أنفسهنّ من النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كثيرٌ، كما قال البخاريّ، حدّثنا زكريّا بن يحيى، حدّثنا أبو أسامة قال: هشام بن عروة حدّثنا عن أبيه، عن عائشة قالت: كنت أغار من اللّاتي وهبن أنفسهنّ من النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وأقول: أتهب امرأةٌ نفسها؟ فلمّا أنزل اللّه: {ترجي من تشاء منهنّ وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممّن عزلت فلا جناح عليك} قلت: ما أرى ربّك إلّا يسارع في هواك.
وقد قال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا عليّ بن الحسين، حدّثنا محمّد بن منصورٍ الجعفيّ، حدّثنا يونس بن بكير، عن عنبسة بن الأزهر، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: لم يكن عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم امرأةً وهبت نفسها له.
ورواه ابن جريرٍ عن أبي كريب، عن يونس بن بكير. أي: إنّه لم يقبل واحدةً ممّن وهبت نفسها له، وإن كان ذلك مباحًا له ومخصوصًا به؛ لأنّه مردودٌ إلى مشيئته، كما قال اللّه تعالى: {إن أراد النّبيّ أن يستنكحها} أي: إن اختار ذلك.
وقوله: {خالصةً لك من دون المؤمنين} قال عكرمة: أي: لا تحلّ الموهوبة لغيرك، ولو أنّ امرأةً وهبت نفسها لرجلٍ لم تحلّ له حتّى يعطيها شيئًا. وكذا قال مجاهدٌ والشّعبيّ وغيرهما.
أي: إنّها إذا فوّضت المرأة نفسها إلى رجلٍ، فإنّه متى دخل بها وجب لها عليه بها مهر مثلها، كما حكم به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في بروع بنت واشقٍ لمّا فوّضت، فحكم لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بصداق مثلها لمّا توفّي عنها زوجها، والموت والدّخول سواءٌ في تقرير المهر وثبوت مهر المثل في المفوّضة لغير النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فأمّا هو، عليه السّلام، فإنّه لا يجب عليه للمفوّضة شيءٌ ولو دخل بها؛ لأنّ له أن يتزوّج بغير صداقٍ ولا وليٍّ ولا شهودٍ، كما في قصّة زينب بنت جحشٍ، رضي اللّه عنها. ولهذا قال قتادة في قوله: {خالصةً لك من دون المؤمنين}، يقول: ليس لامرأةٍ تهب نفسها لرجلٍ بغير وليٍّ ولا مهرٍ إلّا للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم.
[وقوله تعالى: {قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم}] قال أبيّ بن كعبٍ، ومجاهدٌ، والحسن، وقتادة وابن جريرٍ في قوله: {قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم} أي: من حصرهم في أربع نسوةٍ حرائر وما شاءوا من الإماء، واشتراط الوليّ والمهر والشّهود عليهم، وهم الأمّة، وقد رخّصنا لك في ذلك، فلم نوجب عليك شيئًا منه؛ {لكيلا يكون عليك حرجٌ وكان اللّه غفورًا رحيمًا}). [تفسير ابن كثير: 6/ 441-445]

تفسير قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آَتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ترجي من تشاء منهنّ وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممّن عزلت فلا جناح عليك ذلك أدنى أن تقرّ أعينهنّ ولا يحزنّ ويرضين بما آتيتهنّ كلّهنّ واللّه يعلم ما في قلوبكم وكان اللّه عليمًا حليمًا (51)}.
قال الإمام أحمد: حدّثنا محمّد بن بشرٍ، حدّثنا هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة، رضي اللّه عنها؛ أنّها كانت تعيّر النّساء اللّاتي وهبن أنفسهنّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، قالت: ألا تستحي المرأة أن تعرض نفسها بغير صداقٍ؟ فأنزل اللّه، عزّ وجلّ: {ترجي من تشاء منهنّ وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممّن عزلت فلا جناح عليك}، قالت: إنّي أرى ربّك إلا يسارع في هواك.
وقد تقدّم أنّ البخاريّ رواه من حديث أبي أسامة، عن هشام بن عروة، فدلّ هذا على أنّ المراد بقوله: {ترجي} أي: تؤخّر {من تشاء منهنّ} أي: من الواهبات [أنفسهنّ] {وتؤوي إليك من تشاء} أي: من شئت قبلتها، ومن شئت رددتها، ومن رددتها فأنت فيها أيضًا بالخيار بعد ذلك، إن شئت عدت فيها فآويتها؛ ولهذا قال: {ومن ابتغيت ممّن عزلت فلا جناح عليك}. قال عامرٌ الشّعبيّ في قوله: {ترجي من تشاء منهنّ وتؤوي إليك من تشاء}: كن نساءً وهبن أنفسهنّ للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فدخل ببعضهنّ وأرجأ بعضهنّ لم ينكحن بعده، منهنّ أمّ شريكٍ.
وقال آخرون: بل المراد بقوله: {ترجي من تشاء منهنّ وتؤوي إليك من تشاء} أي: من أزواجك، لا حرج عليك أن تترك القسم لهنّ، فتقدّم من شئت، وتؤخّر من شئت، وتجامع من شئت، وتترك من شئت.
هكذا يروى عن ابن عبّاسٍ، ومجاهدٍ، والحسن، وقتادة، وأبي رزين، وعبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، وغيرهم، ومع هذا كان، صلوات اللّه وسلامه عليه، يقسم لهنّ؛ ولهذا ذهب طائفةٌ من الفقهاء من الشّافعيّة وغيرهم إلى أنّه لم يكن القسم واجبًا عليه، صلوات اللّه وسلامه عليه، واحتجّوا بهذه الآية الكريمة.
وقال البخاريّ: حدّثنا حبّان بن موسى، حدّثنا عبد اللّه -هو ابن المبارك -أخبرنا عاصمٌ الأحول، عن معاذة عن عائشة؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم كان يستأذن في يوم المرأة منّا بعد أن نزلت هذه الآية: {ترجي من تشاء منهنّ وتؤوي إليك من تشاء ومن ابتغيت ممّن عزلت فلا جناح عليك}، فقلت لها: ما كنت تقولين؟ فقالت: كنت أقول: إن كان ذاك إليّ فإنّي لا أريد يا رسول اللّه أن أؤثر عليك أحدًا.
فهذا الحديث عنها يدلّ على أنّ المراد من ذلك عدم وجوب القسم، وحديثها الأوّل يقتضي أنّ الآية نزلت في الواهبات، ومن هاهنا اختار ابن جريرٍ أنّ الآية عامّةٌ في الواهبات وفي النّساء اللّاتي عنده، أنّه مخيّرٌ فيهنّ إن شاء قسم وإن شاء لم يقسم. وهذا الّذي اختاره حسنٌ جيّدٌ قويٌّ، وفيه جمعٌ بين الأحاديث؛ ولهذا قال تعالى: {ذلك أدنى أن تقرّ أعينهنّ ولا يحزنّ ويرضين بما آتيتهنّ كلّهنّ} أي: إذا علمن أنّ اللّه قد وضع عنك الحرج في القسم، فإن شئت قسمت، وإن شئت لم تقسم، لا جناح عليك في أيّ ذلك فعلت، ثمّ مع هذا أنت تقسم لهنّ اختيارًا منك لا أنّه على سبيل الوجوب، فرحن بذلك واستبشرن به وحملن جميلك في ذلك، واعترفن بمنّتك عليهنّ في قسمك لهنّ وتسويتك بينهنّ وإنصافك لهنّ وعدلك فيهنّ.
وقوله: {واللّه يعلم ما في قلوبكم} أي: من الميل إلى بعضهنّ دون بعضٍ، ممّا لا يمكن دفعه، كما قال الإمام أحمد:
حدّثنا يزيد، حدّثنا حمّاد بن سلمة، عن أيّوب، عن أبي قلابة، عن عبد اللّه بن يزيد، عن عائشة قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقسم بين نسائه فيعدل، ثمّ يقول: "اللّهمّ هذا فعلي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك".
ورواه أهل السّنن الأربعة، من حديث حمّاد بن سلمة - وزاد أبو داود بعد قوله: فلا تلمني فيما تملك ولا أملك: يعني القلب. وإسناده صحيحٌ، ورجاله كلّهم ثقاتٌ. ولهذا عقّب ذلك بقوله: {وكان اللّه عليمًا} أي: بضمائر السّرائر، {حليمًا} أي: يحلم ويغفر). [تفسير ابن كثير: 6/ 445-447]

تفسير قوله تعالى: {لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({لا يحلّ لك النّساء من بعد ولا أن تبدّل بهنّ من أزواجٍ ولو أعجبك حسنهنّ إلا ما ملكت يمينك وكان اللّه على كلّ شيءٍ رقيبًا (52)}.
ذكر غير واحدٍ من العلماء -كابن عبّاسٍ، ومجاهدٍ، والضّحّاك، وقتادة، وابن زيدٍ، وابن جريرٍ، وغيرهم -أنّ هذه الآية نزلت مجازاةً لأزواج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ورضًا عنهنّ، على حسن صنيعهنّ في اختيارهنّ اللّه ورسوله والدّار الآخرة، لمّا خيّرهنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، كما تقدّم في الآية. فلمّا اخترن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، كان جزاؤهنّ أنّ [اللّه] قصره عليهنّ، وحرّم عليه أن يتزوّج بغيرهنّ، أو يستبدل بهنّ أزواجًا غيرهنّ، ولو أعجبه حسنهنّ إلّا الإماء والسّراري فلا حجر عليه فيهنّ. ثمّ إنّه تعالى رفع عنه الحجر في ذلك ونسخ حكم هذه الآية، وأباح له التّزوّج، ولكن لم يقع منه بعد ذلك تزوّج لتكون المنّة للرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم عليهنّ.
قال الإمام أحمد: حدّثنا سفيان، عن عمرٍو، عن عطاءٍ، عن عائشة، رضي اللّه عنها، قالت: ما مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتى أحلّ اللّه له النّساء.
ورواه أيضًا من حديث ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عميرٍ، عن عائشة. ورواه التّرمذيّ والنّسائيّ في سننيهما.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا عبد الرّحمن بن عبد الملك بن شيبة، حدّثني عمر بن أبي بكرٍ، حدّثني المغيرة بن عبد الرّحمن الحزاميّ، عن أبي النّضر مولى عمر بن عبيد اللّه، عن عبد اللّه بن وهب بن زمعة، عن أمّ سلمة أنّها قالت: لم يمت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم حتّى أحلّ اللّه له أن يتزوّج من النّساء ما شاء، إلّا ذات محرمٍ، وذلك قول اللّه، عزّ وجلّ: {ترجي من تشاء منهنّ وتؤوي إليك من تشاء}.
فجعلت هذه ناسخةً للّتي بعدها في التّلاوة، كآيتي عدّة الوفاة في البقرة، الأولى ناسخةٌ للّتي بعدها، والله أعلم.
وقال آخرون: بل معنى الآية: {لا يحلّ لك النّساء من بعد} أي: من بعد ما ذكرنا لك من صفة النّساء اللّاتي أحللنا لك من نسائك اللّاتي آتيت أجورهنّ وما ملكت يمينك، وبنات العمّ والعمّات والخال والخالات والواهبة وما سوى ذلك من أصناف النّساء فلا يحلّ لك. هذا مرويٌّ عن أبيّ بن كعبٍ، ومجاهدٍ، وعكرمة، والضّحّاك -في روايةٍ -وأبي رزين -في روايةٍ عنه -وأبي صالحٍ، والحسن، وقتادة -في روايةٍ -والسّدّيّ، وغيرهم.
قال ابن جريرٍ: حدّثنا يعقوب، حدّثنا ابن عليّة، عن داود بن أبي هندٍ، حدّثني محمّد بن أبي موسى، عن زيادٍ -رجلٍ منّ الأنصار -قال: قلت لأبيّ بن كعبٍ: أرأيت لو أنّ أزواج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم توفين، أما كان له أن يتزوّج؟ فقال: وما يمنعه من ذلك؟ قال: قلت: قوله: {لا يحلّ لك النّساء من بعد}. فقال: إنّما أحلّ اللّه له ضربًا من النّساء، فقال: {يا أيّها النّبيّ إنّا أحللنا لك أزواجك} إلى قوله: {إن وهبت نفسها للنّبيّ} ثمّ قيل له: {لا يحلّ لك النّساء من بعد}.
ورواه عبد اللّه بن أحمد من طرقٍ، عن داود، به. وروى التّرمذيّ، عن ابن عبّاسٍ، رضي اللّه عنهما، قال: نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن أصناف النّساء، إلّا ما كان من المؤمنات المهاجرات بقوله: {لا يحلّ لك النّساء من بعد ولا أن تبدّل بهنّ من أزواجٍ ولو أعجبك حسنهنّ إلا ما ملكت يمينك}، فأحلّ اللّه فتياتكم المؤمنات {وامرأةً مؤمنةً إن وهبت نفسها للنّبيّ}، وحرمّ كلّ ذات دينٍ غير الإسلام، ثمّ قال: {ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين} وقال {يا أيّها النّبيّ إنّا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهنّ وما ملكت يمينك} إلى قوله: {خالصةً لك من دون المؤمنين}، وحرم ما سوى ذلك من أصناف النّساء.
وقال مجاهدٌ: {لا يحلّ لك النّساء من بعد} أي: من بعد ما سمّى لك، لا مسلمةً ولا يهوديّةً ولا نصرانيّةً ولا كافرةً.
وقال أبو صالحٍ: {لا يحلّ لك النّساء من بعد}: أمر ألّا يتزوّج أعرابيّةً ولا غربيةً، ويتزوّج بعد من نساء تهامة، وما شاء من بنات العمّ والعمّة، والخال والخالة، إن شاء ثلاثمائةٍ.
وقال عكرمة: {لا يحلّ لك النّساء من بعد} أي: الّتي سمّى الله.
واختار ابن جريرٍ، رحمه اللّه، أنّ الآية عامّةٌ فيمن ذكر من أصناف النّساء، وفي النّساء اللّواتي في عصمته وكن تسعًا. وهذا الّذي قاله جيّدٌ، ولعلّه مراد كثيرٍ ممّن حكينا عنه من السّلف؛ فإنّ كثيرًا منهم روي عنه هذا وهذا، ولا منافاة، واللّه أعلم.
ثمّ أورد ابن جريرٍ على نفسه ما روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم طلّق حفصة ثمّ راجعها، وعزم على فراق سودة حتّى وهبته يومها لعائشة، ثمّ أجاب بأنّ هذا كان قبل نزول قوله: {لا يحلّ لك النّساء من بعد ولا أن تبدّل بهنّ من أزواجٍ ولو أعجبك حسنهنّ}، وهذا الّذي قاله من أنّ هذا كان قبل نزول الآية صحيحٌ، ولكن لا يحتاج إلى ذلك؛ فإنّ الآية إنّما دلّت على أنّه لا يتزوّج بمن عدا اللّواتي في عصمته، وأنّه لا يستبدل بهنّ غيرهنّ، ولا يدلّ ذلك على أنّه لا يطلّق واحدةً منهنّ من غير استبدالٍ، واللّه أعلم.
فأمّا قضية سودة ففي الصّحيح عن عائشة، رضي اللّه عنها، وهي سبب نزول قوله تعالى: {وإن امرأةٌ خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا [والصّلح خيرٌ]} الآية [النّساء: 128].
وأمّا قضيّة حفصة فروى أبو داود والنّسائيّ وابن ماجه وابن حبّان في صحيحه، من طرقٍ عن يحيى بن زكريّا بن أبي زائدة، عن صالح بن صالح بن حيٍّ عن سلمة أن بن كهيل، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ، عن عمر؛ أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم طلّق حفصة ثمّ راجعها. وهذا إسنادٌ قويٌّ.
وقال الحافظ أبو يعلى: حدّثنا أبو كريب، حدّثنا يونس بن بكير، عن الأعمش، عن أبي صالحٍ، عن ابن عمر قال: دخل عمر على حفصة وهي تبكي، فقال: ما يبكيك؟ لعلّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم طلّقك؟ إنّه قد كان طلّقك مرّةً ثمّ راجعك من أجلي؛ واللّه لئن كان طلّقك مرّةً أخرى لا أكلّمك أبدًا. ورجاله على شرط الصّحيحين.
وقوله: {ولا أن تبدّل بهنّ من أزواجٍ ولو أعجبك حسنهنّ}، فنهاه عن الزّيادة عليهنّ، أو طلاق واحدةٍ منهنّ واستبدال غيرها بها إلّا ما ملكت يمينه.
وقد روى الحافظ أبو بكرٍ البزّار حديثًا مناسبًا ذكره هاهنا، فقال:
حدّثنا إبراهيم بن نصرٍ، حدّثنا مالك بن إسماعيل، حدّثنا عبد السّلام بن حربٍ، عن إسحاق بن عبد اللّه القرشي، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة، رضي اللّه عنه، قال: كان البدل في الجاهليّة أنّ يقول الرّجل للرّجل: بادلني امرأتك وأبادلك بامرأتي: أي: تنزل لي عن امرأتك، وأنزل لك عن امرأتي. فأنزل اللّه: {ولا أن تبدّل بهنّ من أزواجٍ ولو أعجبك حسنهنّ} قال: فدخل عيينة بن حصنٍ على النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، وعنده عائشة، فدخل بغير إذنٍ، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "فأين الاستئذان؟ " فقال يا رسول اللّه، ما استأذنت على رجلٍ من مضر منذ أدركت. ثمّ قال: من هذه الحميراء إلى جنبك؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "هذه عائشة أمّ المؤمنين". قال: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق ؟ قال: "يا عيينة إنّ اللّه قد حرّم ذلك". فلمّا أن خرج قالت عائشة: من هذا؟ قال: هذا أحمق مطاعٌ، وإنّه على ما ترين لسيّد قومه".
ثمّ قال البزّار إسحاق بن عبد اللّه: ليّن الحديث جدًّا، وإنّما ذكرناه لأنّا لم نحفظه إلّا من هذا الوجه، وبيّنّا العلّة فيه). [تفسير ابن كثير: 6/ 447-450]

رد مع اقتباس