الموضوع: المنان
عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 28 شعبان 1438هـ/24-05-2017م, 09:54 AM
جمهرة علوم العقيدة جمهرة علوم العقيدة غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: May 2017
المشاركات: 1,193
افتراضي

شرح ابن القيم (ت:751هـ)[الشرح المطول]



قال ابن القيم محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي (ت:751هـ) كما في المرتبع الأسنى: ( ( المَنَّانُ ):
([ (( المنَّانُ )): ذُو المَنِّ] الذي إنَّمَا يَتَقَلَّبُ الخلائقُ في بَحْرِ منَّتِهِ عليهم، وَمَحْضِ صَدَقَتِهِ عليهم، بلا عِوَضٍ منهم الْبَتَّةَ، وإنْ كانتْ أَعْمَالُهُم أَسْبَاباً لِمَا يَنَالُونَهُ منْ كَرَمِهِ وَجُودِهِ، فهوَ المنَّانُ عليهم بأنْ وَفَّقَهُم لتلكَ الأسبابِ وَهَدَاهُم لها، وَأَعَانَهُم عليها، وَكَمَّلَهَا لهم، وَقَبِلَهَا منهم على ما فيها)([1]).

(و [أمَّا] قولـُهُ [تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)} [التين: 6]؛ أيْ: غيرُ مقطوعٍ ولا منقوصٍ، ولا مُكَدَّرٍ عليهم، وهذا هوَ الصوابُ.
وقالتْ طائفةٌ: غيرُ مَمْنُونٍ بهِ عليهم، بلْ هوَ جزاءُ أَعْمَالِهِم، وَيُذْكَرُ هذا عنْ عِكْرِمَةَ وَمُقَاتِلٍ، وهوَ قولُ كثيرٍ من القَدَرِيَّةِ، قالَ هؤلاءِ: إنَّ المنَّةَ تُكَدِّرُ النعمةَ.

فَتَمَامُ النعمةِ أنْ يكونَ غَيْرَ مَمْنُونٍ بها على المُنْعَمِ عليهِ، وهذا القولُ خطأٌ قَطْعاً، أُتِيَ أَرْبَابُهُ منْ تَشْبِيهِ نعمةِ اللهِ على عبدِهِ بإنعامِ المخلوقِ على المخلوقِ.

وهذا منْ أبْطَلِ الباطلِ؛ فإنَّ المنَّةَ التي تُكَدِّرُ النِّعمةَ هيَ مِنَّةُ المخلوقِ على المخلوقِ، وأمَّا مِنَّةُ الخالقِ على المخلوقِ ففيها تَمَامُ النعمةِ وَلَذَّتُها وَطِيبُهَا؛ فإنَّها مِنَّةٌ حَقِيقَةً، قالَ تَعَالَى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)} [الحجرات: 17]، وقالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115)} [الصافَّات: 114-115]، فتكونُ مِنَّةً عليهما بنعمةِ الدنيا دُونَ نعمةِ الآخرةِ، وقالَ لِمُوسَى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)} [طه: 37]، وقالَ أهلُ الجنَّةِ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27)} [الطور: 27]، وقالَ تَعَالَى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}الآيَةَ [آل عمرانَ: 164]، وقالَ: {نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} الآيَةَ [القصص: 5]. وفي الصحيحِ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ للأنصارِ: ((أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلاَّلاً فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي؟ أَلَمْ أَجِدْكُمْ عَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بِي؟)) فَجَعَلُوا يقولونَ لَهُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ.([2])

فهذا جوابُ العَارِفِينَ باللهِ ورسولِهِ، وهل المنَّةُ إلاَّ للهِ المانِّ بِفَضْلِهِ الذي جَمِيعُ الخلقِ في مِنَنِهِ؟!!

وإنَّمَا قَبُحَتْ مِنَّةُ المخلوقِ؛ لأنَّها منَّةٌ بما ليسَ مِنْهُ، وهيَ مِنَّةٌ يَتَأَذَّى بها المَمْنُونُ عليهِ، وأمَّا مِنَّةُ (( المنَّانِ )) بِفَضْلِهِ التي ما طَابَ العيشُ إلاَّ بمنَّتِهِ، وكلُّ نعمةٍ منهُ في الدنيا والآخرةِ فهيَ مِنَّةٌ يَمُنُّ بها على مَنْ أَنْعَمَ عليهِ، فَتِلْكَ لا يَجُوزُ نَفْيُهَا.

وكيفَ يَجُوزُ أنْ يُقَالَ: إنَّهُ لا منَّةَ للهِ على الذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحاتِ في دخولِ الجنَّةِ؟! وهلْ هذا إلاَّ منْ أبطلِ الباطلِ؟!! ([3])

فإنْ قِيلَ: هذا القدرُ لا يَخْفَى على مَنْ قالَ هذا القولَ من العلماءِ، وليسَ مُرَادُهُم ما ذُكِرَ، وإنَّمَا مُرَادُهُم أنَّهُ لا يَمُنُّ عليهم بهِ، وإنْ كانتْ للهِ فيهِ المنَّةُ عليهم، فإنَّهُ لا يَمُنُّ عليهم بهِ، بلْ يُقَالُ: هذا جَزَاءُ أعمالِكُم التي عَمِلْتُمُوهَا في الدُّنيا، وهذا أَجْرُكُم، فَأَنْتُم تَسْتَوْفُونَ أُجُورَ أَعْمَالِكُم، لا نَمُنُّ عَلَيْكُم بما أَعْطَيْنَاكُم.

قيلَ: وهذا أيضاً هوَ الباطلُ بِعَيْنِهِ؛ فإنَّ ذلكَ الأجرَ لَيْسَت الأعمالُ ثَمَناً لهُ ولا مُعَاوَضَةً عنهُ، وقدْ قالَ أعلمُ الخلقِ باللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ مِنْكُمُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ))، قالُوا: ولا أنتَ يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: ((وَلا أَنَا، إِلاَّ أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ)). ([4]) فَأَخْبَرَ أنَّ دخولَ الجنَّةِ برحمةِ اللهِ وفضلِهِ، وذلكَ مَحْضُ مِنَّتِهِ عليهِ وعلى سائرِ عبادِهِ، وكما أنَّهُ سبحانَهُ المَانُّ بإرسالِ رُسُلِهِ، وبالتوفيقِ لطاعتِهِ وبالإعانةِ عليها، فهوَ المانُّ بِإِعْطَاءِ الجزاءِ، وذلكَ كُلُّهُ مَحْضُ مِنَّتِهِ وفضلِهِ وَجُودِهِ، لا حقَّ لأحدٍ عليهِ بحيثُ إذا وَفَّاهُ إيَّاهُ لمْ يَكُنْ لهُ عليهِ منَّةٌ، فإنْ كانَ في الدنيا باطلٌ، فهذا ليسَ منهُ في شيءٍ([5]).

فإنْ قِيلَ: كيفَ تَقُولونَ هذا وقدْ أَخْبَرَ رسولُهُ عنهُ بأنَّ حقَّ العبادِ عليهِ إذا وَحَّدُوهُ أنْ لا يُعَذِّبَهُم وقدْ أَخْبَرَ عنْ نفسِهِ أنَّ حَقًّا عليهِ نَصْرَ المؤمنينَ؟!

قِيلَ: لَعَمْرُ اللهِ هذا منْ أَعْظَمِ منَّتِهِ على عبادِهِ؛ أنْ جَعَلَ على نفسِهِ حَقًّا بِحُكْمِ وَعْدِهِ الصادقِ: أنْ يُثِيبَهُم ولا يُعَذِّبَهُم إذا عَبَدُوهُ وَوَحَّدُوهُ، فهذا مِنْ تَمَامِ مِنَّتِهِ، فإنَّهُ لوْ عَذَّبَ أهلَ سَمَاواتِهِ وأرضِهِ لَعَذَّبَهُم وهوَ غيرُ ظالمٍ لهم، ولكنَّ مِنَّتَهُ اقْتَضَتْ أنْ أَحَقَّ على نفسِهِ ثوابَ عَابِدِيهِ وإجابةَ سَائِلِيهِ.

مَا للعبادِ عليهِ حقٌّ واجِبُ = إنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ أوْ نُعِّمُوا
كَلاَّ ولا سَعْيٌ لَدَيْهِ ضَائِعُ = فَبِفَضْلِهِ فهوَ الكريمُ الوَاسِعُ)([6])
[فَصْلٌ]:
(وحَظَرَ اللهُ سبحانَهُ على عبادِهِ المنَّ بالصنيعةِ، واخْتَصَّ بهِ صفةً لنفسِهِ؛ لأنَّ مَنَّ العبادِ تَكْدِيرٌ وتَعْيِيرٌ ([7])، وَمَنُّ اللهِ سبحانَهُ إفضالٌ وتذكيرٌ.
- وأيضاً: فإنَّهُ هوَ المُنْعِمُ في نفسِ الأمرِ، والعبادُ وَسَائِطُ، فهوَ المُنْعِمُ على عبدِهِ في الحقيقةِ.
- وأيضاً: فالامْتِنَانُ اسْتِعْبَادٌ وكَسْرٌ وإِذْلالٌ لِمَنْ يُمَنُّ عليهِ، ولا تَصْلُحُ العبوديَّةُ والذلُّ إلاَّ للهِ.
- وأيضاً: فَالمنَّةُ أنْ يَشْهَدَ المُعْطِي أنَّهُ هوَ ربُّ الفضلِ والإنعامِ وأنَّهُ وَلِيُّ النعمةِ وَمُسْدِيهَا، وليسَ ذلكَ في الحقيقةِ إلاَّ اللهَ.
- وأيضاً: فالمَانُّ بِعَطَائِهِ يَشْهَدُ نَفْسَهُ مُتَرَفِّعاً على الآخِذِ مُسْتَعْلِياً عليهِ غَنِيًّا عنهُ عَزِيزاً، وَيَشْهَدُ ذُلَّ الآخذِ وحاجَتَهُ إليهِ وفاقَتَهُ، ولا يَنْبَغِي ذلكَ للعبدِ.
- وأيضاً: فإنَّ المُعْطِيَ قدْ تَوَلَّى اللهُ ثَوَابَهُ وَرَدَّ عليهِ أضعافَ ما أَعْطَى، فَبَقِيَ عِوَضُ ما أَعْطَى عندَ اللهِ، فَأَيُّ حَقٍّ بَقِيَ لهُ قِبَلَ الآخِذِ؟!! فإذا امْتَنَّ عليهِ فقدْ ظَلَمَهُ ظُلْماً بَيِّناً، وادَّعَى أنَّ حَقَّهُ في قَلْبِهِ.
ومِنْ هنا- واللهُ أَعْلَمُ- بَطَلَتْ صَدَقَتُهُ بالمنِّ، فإنَّهُ لَمَّا كَانتْ مُعَاوَضَتُهُ ومعامَلَتُهُ معَ اللهِ، وعِوَضُ الصدقةِ عندَهُ، فلمْ يَرْضَ بهِ ولاحَظَ العِوَضَ مِن الآخِذِ والمعاملةَ عندَهُ، فمَنَّ عليهِ بما أَعْطَاهُ، أَبْطَلَ مُعَاوَضَتَهُ معَ اللهِ ومُعامَلَتَهُ لَهُ)([8])
). [المرتبع الأسنى: ؟؟]


([1]) مَدارِجُ السَّالكِينَ (1/115-116) .
([2]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ (16035) والبُخَارِيُّ في كتابِ المغازِي / بابُ غزوةِ الطائفِ (4330) ومسلمٌ في كتابِ الزكاةِ / بابُ إعطاءِ المُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُم (2443).
([3]) قال رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في مَدارجِ السَّالكِينَ (1/115-116): (وهذه الطائفةُ من أَجْهَلِ الخلقِ باللهِ، وأغلَظِهِم عنه حِجابًا. وحُقَّ لهم أن يكونوا مجوسَ هذه الأمةِ. ويَكْفِي في جَهلِهِم باللهِ: أنهم لم يَعْلَمُوا أن أهلَ سماواتِه وأرضِه في مِنَّتِه، وأنَّ مِن تَمامِ الفَرَحِ والسرورِ، والغْبْطَةِ واللَّذَّةِ: اغتِباطُهُم بمِنَّةِ سيِّدِهِم ومولاهُم الحقِّ، وأنهم إنما طابَ لهم عَيْشُهُم بهذه المِنَّةِ. وأَعْظَمُهم منه منزلةً، وأقربُهم إليه: أَعرَفُهم بهذه المِنَّةِ، وأَعظمُهم إقرارًا بها، وذِكرًا لها، وشُكرًا عليها، ومحبةً له لأجلِها. فهل يَتقَلَّبُ أَحدٌ قَطُّ إلا في مِنَّتِه؟ {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} واحتمالُ مِنَّةِ المخلوقِ: إنما كانت نقصًا لأنه نَظِيرُه. فإذا مَنَّ عليه استعلَى عليه، ورأَى المَمنونَ عليه نفسَهُ دُونَه. هذا مع أنه ليس في كلِّ مخلوقٍ، فلرسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ المِنَّةُ على أُمَّتِهِ، وكان أصحابُه يقولونَ (اللهُ ورَسُولُهُ أَمَنُّ) ولا نقصَ في مِنَّةِ الوالدِ على وَلَدِه، ولا عارَ عليه في احتمالِها. وكذلك السيدُ على عبدِه.
فكيفَ بربِّ العالمينَ الذي إنما يَتَقَلَّبُ الخلائقُ في بحرِ مِنَّتِهِ عليهِم، ومَحْضِ صَدَقَتِهِ عَلَيْهِمْ بِلا عِوَضٍ مِنهم البتةَ؟).
([4]) رَوَاهُ الإمامُ أَحْمَدُ في كتابِ صفةِ القيامةِ / بابٌ لَنْ يَدْخُلَ أحدٌ الجنةَ بعَمَلِه، بل برحمةِ اللهِ تَعالَى (7048).
([5]) هكذا في الأصلِ.
([6]) التِّبْيَانُ فِي أقسامِ القرآنِ (66-68) .
([7]) في الأصلِ: (وتَعْبِيرٌ) ولعلَّ الصوابَ ما أَثْبَتُّهُ.
([8]) طَرِيقُ الهِجرتَيَنِ (375) .


رد مع اقتباس