عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 30 محرم 1436هـ/22-11-2014م, 02:11 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي غير مصنف

قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : (حدّثنا يحيى بن بكيرٍ، حدّثنا اللّيث، عن عقيلٍ، عن ابن شهابٍ، ح وحدّثني سعيد بن مروان، حدّثنا محمّد بن عبد العزيز بن أبي رزمة، أخبرنا أبو صالحٍ سلمويه، قال: حدّثني عبد اللّه، عن يونس بن يزيد، قال: أخبرني ابن شهابٍ، أنّ عروة بن الزّبير، أخبره أنّ عائشة، زوج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قالت: كان أوّل ما بدئ به رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم الرّؤيا الصّادقة في النّوم، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصّبح، ثمّ حبّب إليه الخلاء، فكان يلحق بغار حراءٍ فيتحنّث فيه - قال: والتّحنّث: التّعبّد - اللّيالي ذوات العدد، قبل أن يرجع إلى أهله ويتزوّد لذلك، ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد بمثلها حتّى فجئه الحقّ، وهو في غار حراءٍ فجاءه الملك، فقال: اقرأ، فقال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: «ما أنا بقارئٍ» ، قال: " فأخذني فغطّني حتّى بلغ منّي الجهد، ثمّ أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئٍ، فأخذني فغطّني الثّانية حتّى بلغ منّي الجهد، ثمّ أرسلني فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئٍ، فأخذني فغطّني الثّالثة حتّى بلغ منّي الجهد، ثمّ أرسلني، فقال: {اقرأ باسم ربّك الّذي خلق (1) خلق الإنسان من علقٍ (2) اقرأ وربّك الأكرم (3) الّذي علّم بالقلم} [العلق: 2]- الآيات إلى قوله - {علّم الإنسان ما لم يعلم} [العلق: 5] " فرجع بها رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم ترجف بوادره، حتّى دخل على خديجة، فقال: «زمّلوني زمّلوني» ، فزمّلوه، حتّى ذهب عنه الرّوع، قال لخديجة: «أي خديجة، ما لي لقد خشيت على نفسي» ، فأخبرها الخبر، قالت خديجة: كلّا، أبشر فواللّه لا يخزيك اللّه أبدًا، فواللّه إنّك لتصل الرّحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضّيف، وتعين على نوائب الحقّ، فانطلقت به خديجة حتّى أتت به ورقة بن نوفلٍ ، وهو ابن عمّ خديجة أخي أبيها، وكان امرأً تنصّر في الجاهليّة، وكان يكتب الكتاب العربيّ، ويكتب من الإنجيل بالعربيّة ما شاء اللّه أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي، فقالت خديجة: يا ابن عمّ، اسمع من ابن أخيك، قال ورقة: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خبر ما رأى، فقال ورقة: هذا النّاموس الّذي أنزل على موسى، ليتني فيها جذعًا، ليتني أكون حيًّا، ذكر حرفًا، قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: «أومخرجيّ هم؟» قال ورقة: نعم، لم يأت رجلٌ بما جئت به إلّا أوذي، وإن يدركني يومك حيًّا أنصرك نصرًا مؤزّرًا، ثمّ لم ينشب ورقة أن توفّي، وفتر الوحي فترةً، حتّى حزن رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم،
- قال محمّد بن شهابٍ: فأخبرني أبو سلمة بن عبد الرّحمن: أنّ جابر بن عبد اللّه الأنصاريّ رضي اللّه عنهما، قال: قال رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم وهو يحدّث عن فترة الوحي، قال في حديثه: " بينا أنا أمشي سمعت صوتًا من السّماء، فرفعت بصري، فإذا الملك الّذي جاءني بحراءٍ جالسٌ على كرسيٍّ بين السّماء والأرض، ففرقت منه، فرجعت، فقلت: زمّلوني زمّلوني "، فدثّروه، فأنزل اللّه تعالى: (يا أيّها المدّثّر (1) قم فأنذر (2) وربّك فكبّر (3) وثيابك فطهّر (4) والرّجز فاهجر) - قال أبو سلمة: وهي الأوثان الّتي كان أهل الجاهليّة يعبدون - قال: «ثمّ تتابع الوحي»). [صحيح البخاري: 6 / 173-174]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ) : (قولُهُ: (بابٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بنُ بَكِيرٍ حَدَّثَنَا الليثُ عَنْ عَقِيلٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ، وحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مَرْوَانَ الإسنادَ الأوَّلَ. قَدْ ساقَ البُخارِيُّ المَتْنَ بِهِ أَوَّلَ الكِتَابِ، وساقَ في هَذَا البابِ المَتْنَ بِالإسنادِ الثَّانِي، وسَعِيدُ بْنُ مَرْوَانَ هَذَا هُو أَبُو عُثْمَانَ البَغْدَادِيُّ نَزِيلُ نَيْسَابُورَ مِنْ طَبَقَةِ البُخارِيِّ شَارَكَهُ في الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ وسُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ ونَحْوِهِمَا، ولَيْسَ لَهُ في البُخارِيِّ سوى هَذَا الموضِعِ، وماتَ قَبْلَ البُخارِيِّ بأَرْبَعِ سِنِينَ، ولهم شَيْخٌ آخَرُ يُقَالُ: له أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مَرْوَانَ الرَّهَاوِيُّ حَدَّثَ عَنْهُ أَبُو حَاتِمٍ وابنُ أَبِي رِزْمَةَ وغَيْرُهُمَا، وفَرَّقَ البُخارِيُّ في التاريخِ بَيْنَهُ وبَيْنَ البَغْدَادِيِّ، ووَهِمَ مَنْ زَعَمَ أنهما واحدٌ، وآخِرُهُمُ الكِرْمَانِيُّ ومُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ أَبِي رِزْمَةَ بكسرِ الراءِ وسُكُونِ الزَّايِ، واسمُ أَبِي رِزْمَةَ غَزْوَانُ، وهُو مَرْوَزِيٌّ مِن طَبَقَةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، فهو مِنَ الطَّبَقَةِ الوُسْطَى مِن شُيُوخِ البُخارِيِّ، ومع ذلك فحَدَّثَ عَنْهُ بوَاسِطَةٍ، وليس له عنده سِوَى هَذَا المَوْضِعِ، وقد حَدَّثَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ بلا وَاسِطَةٍ، وشَيْخُهُ أَبُو صَالِحٍ سَلْمُوَيْهِ اسْمُهُ سُلَيْمَانُ بْنُ صَالِحٍ اللَّيْثِيُّ المَرْوَزِيُّ يُلَقَّبُ سَلْمُوَيْهِ ويُقالُ: اسمُ أَبِيهِ دَاوُدُ، وهُو من طَبَقَةِ الرَّاوِي عنه مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ إلا أنه تَقَدَّمَتْ وَفَاتُهُ، وكانَ مِنْ أَخِصَّاءِ عَبْدِ اللهِ بْنِ المُبَارَكِ والمُكْثِرِينَ عَنْهُ، وقد أَدْرَكَهُ البُخارِيُّ بالسِّنِّ؛ لأنَّه مَاتَ سَنَةَ عَشْرٍ ومِائَتَيْنِ، وما له أيضًا في البُخارِيِّ سِوَى هَذَا الحَدِيثِ، وعَبْدُ اللهِ هُو ابنُ المُبَارَكِ الإمامُ المَشْهُورُ وقَدْ نَزَلَ البُخارِيُّ في حَدِيثِهِ في هَذَا الإسنادِ دَرَجَتَيْنِ، وفي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ ثَلاثَ دَرَجَاتٍ، وقد تَقَدَّمَ شرحُ هَذَا الحديثِ مُسْتَوْفًى في أَوَائِلِ هَذَا الكتابِ، وسَأَذْكُرُ هُنَا مَا لم يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهُ مما اشْتَمَلَ عليه مِنْ سِيَاقِ هَذِهِ الطَّرِيقِ وغَيْرِهَا مِنَ الفَوَائِدِ.
قولُهُ: (أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَليَهِ وسَلَّمَ قَالَتْ: كَانَ أَوَّلُ مَا بُدِئَ به رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليَهِ وسَلَّمَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ) قَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا من مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ لأنَّ عَائِشَةَ لم تُدْرِكْ هذه القصةَ فتَكُونُ سَمِعَتْهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَليَهِ وسَلَّمَ أو مِن صَحابِيٍّ. وتَعَقَّبَهُ مَنْ لَمْ يَفْهَمْ مُرَادَهُ فقَالَ: إذا كانَ يَجُوزُ أَنَّهَا سَمِعَتْهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَليَهِ وسَلَّمَ فكَيْفَ يَجْزِمْ بأنها مِنَ المراسيلِ؟ والجوابُ: أنَّ مُرْسَلَ الصَّحَابِيِّ مَا يَرْوِيهِ مِن الأمورِ التي لم يُدْرِكْ زَمَانَهَا بخلافِ الأمورِ التي يُدْرِكُ زَمَانَهَا فإنها لا يُقَالُ: إنها مُرْسَلَةٌ بل يُحْمَلُ على أَنَّهُ سَمِعَها أو حَضَرَها ولو لم يُصَرِّحْ بذلك، ولا يَخْتَصُّ هَذَا بمُرْسَلِ الصَّحَابِيِّ بل مُرْسَلُ التَّابِعِيِّ إذا ذَكَرَ قِصَّةً لم يَحْضُرْهَا سُمِّيَتْ مُرْسَلَةً، ولو جَازَ في نَفْسِ الأمرِ أن يَكُونَ سَمِعَهَا من الصَّحَابِيِّ الذي وَقَعَتْ له تلك القِصَّةُ، وأما الأمورُ التي يُدْرِكُهَا فيُحْمَلُ على أنه سَمِعَهَا أو حَضَرَها لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ سَالِمًا مِنَ التَّدْلِيسِ، واللهُ أَعْلَمُ.
ويُؤَيِّدُ أنها سَمِعَتْ ذلك مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَليَهِ وسَلَّمَ قَوْلُهَا في أثناءِ هَذَا الحديثِ: فجَاءَهُ المَلَكُ فقَالَ: اقْرَأْ. فقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليَهِ وسَلَّمَ: ((مَا أَنَا بِقَارِئٍ قَالَ: فَأَخَذَنِي)) إلى آخِرِهِ، فقَوْلُهُ: قَالَ: فَأَخَذَنِي فغَطَّنِي. ظَاهِرٌ في أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَليَهِ وسَلَّمَ أَخْبَرَهَا بذلك، فتُحْمَلُ بَقِيَّةُ الحَدِيثِ عَلَيْهِ.
قولُهُ: (أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليَهِ وسَلَّمَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ) زادَ في رِوَايَةِ عَقِيلٍ كما تَقَدَّمَ في بَدْءِ الوَحْيِ: (مِنَ الوَحْيِ) أي: في أَوَّلِ المُبْتَدَآتِ مِنْ إِيجادِ الوَحْيِ الرُّؤْيَا، وأَمَّا مُطْلَقُ مَا يَدُلُّ على نُبُوَّتِهِ فتَقَدَّمَتْ لَهُ أَشْيَاءُ مِثْلُ تَسْلِيمِ الحَجَرِ كما ثَبَتَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ وغَيْرِ ذَلِكَ، و"ما" في الحديثَ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ أي: أَوَّلُ شَيْءٍ. وَوَقَعَ صَرِيحًا في حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ عِندَ ابنِ عَائِذٍ، وَوَقَعَ في مَرَاسِيلِ عَبْدِ اللهِ بنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ عِندَ الدُّولابِيِّ مَا يَدُلُّ على أنَّ الذي كَانَ يَراهُ صَلَّى اللهُ عَليَهِ وسَلَّمَ هُو جِبْرِيلُ، ولَفْظُهُ أَنَّهُ قَالَ لِخَدِيجَةَ بَعْدَ أَنْ أَقْرَأَهُ جِبْرِيلُ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}: أَرَأَيْتُكِ الَّذِي كُنْتُ أُحَدِّثُكِ أَنِّي رَأَيْتُهُ فِي الْمَنَامِ فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ اسْتَعْلَنَ. قولُهُ: (مِنَ الوَحْيِ) يَعْنِي إليه، وهُو إِخْبَارٌ عَمَّا رآهُ مِن دَلائِلِ نُبُوَّتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوحَى بذلك إليه، وهُو أَوَّلُ ذلك مُطْلَقًا مَا سَمِعَهُ مِنْ بَحِيرَا الرَّاهِبِ، وهُو عِندَ التِّرْمِذِيِّ بإسنادٍ قَوِيٍّ عَنْ أَبِي مُوسَى، ثم مَا سَمِعَهُ عِندَ بِنَاءِ الكَعْبَةِ حَيْثُ قِيلَ لَهُ: اشْدُدْ عَلَيْكَ إِزَارَكَ، وهُو في صَحِيحِ البُخارِيِّ مِن حَدِيثِ جَابِرٍ، وكذلك تَسْلِيمُ الحَجَرِ عَلَيْهِ وهُو عِندَ مُسْلِمٍ مِن حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ.
قولُهُ: (الصَّالِحَةُ) قَالَ ابنُ المُرَابِطِ: هِيَ التي لَيْسَتْ ضِغْثًا ولا مِنْ تَلْبِيسِ الشَّيْطَانِ، ولا فيها ضَرْبُ مَثَلٍ مُشْكِلٍ، وتُعُقِّبَ الأخيرُ بأنه إِنْ أَرَادَ بالمُشْكِلِ مَا لا يُوقَفُ على تَأْوِيلِهِ فَمُسَلَّمٌ، وإلا فلا.
قولُهُ: (فَلَقِ الصُّبْحِ) يأتِي في سُورَةِ الفَلَقِ قريبًا. قولُهُ: (ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الخَلاءُ) هَذَا ظاهرٌ في أنَّ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ كَانَتْ قَبْلَ أَنْ يُحَبَّبَ إليه الخلاءُ، ويُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِتَرْتِيبِ الأَخْبَارِ، فيَكُونُ تَحْبِيبُ الخَلْوَةِ سَابِقًا على الرُّؤْيَا الصَّادِقَةِ، والأولُ أَظْهَرُ.
قولُهُ: (الخَلاءُ) بالمدِّ: المَكَانُ الخَالِي، ويُطْلَقُ على الخَلْوَةِ، وهُو المرادُ هنا.
قولُهُ: (فَكَانَ يَلْحَقُ بِغَارِ حِرَاءٍ) كذا في هذه الروايةِ، وتقدَّمَ فِي بَدْءِ الوَحْيِ بِلَفظِ: فَكَانَ يَخْلُو. وهِيَ أَوْجَهُ، وفي رِوَايَةِ عُبَيدِ بنِ عُمَيرٍ عِندَ ابنِ إِسْحَاقَ: فكَانَ يُجَاوِرُ.
قولُهُ: (اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ) في رِوَايَةِ ابنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ كَانَ يَعْتَكِفُ شَهْرَ رَمَضَانَ.
قولُهُ: (قَالَ: والتَّحَنُّثُ التَّعَبُّدُ) هَذَا ظاهرٌ في الإدراجِ؛ إذ لو كَانَ مِنْ بَقِيَّةِ كَلامِ عَائِشَةَ لَجَاءَ فيه قَالَتْ. وهُو يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ كَلامِ عُرْوَةَ أو مَن دُونَهُ، ولم يَأْتِ التَّصْرِيحُ بصِفَةِ تَعَبُّدِهِ لَكِنْ في رِوَايَةٍ عُبَيدِ بنِ عُمَيرٍ عِندَ ابنِ إِسْحَاقَ: فَيُطْعِمُ مَنْ يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ المَسَاكِينِ. وجاءَ عَنْ بَعْضِ المَشَايِخِ أَنَّهُ كَانَ يَتَعَبَّدُ بِالتَّفَكُّرِ، ويَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ عَائِشَةُ أَطْلَقَتْ على الخَلْوَةِ بِمُجَرَّدِهَا تَعَبُّدًا، فَإِنَّ الانعِزَالَ عَنِ النَّاسِ ولا سِيَّمَا مَنْ كَانَ على بَاطِلٍ مِنْ جُمْلَةِ العِبَادَةِ، كما وَقَعَ للخليلِ عليه السلامُ حيثُ قَالَ: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي، وهذا يَلْتَفِتُ إلى مَسْأَلَةٍ أُصُولِيَّةٍ وهُو أنه صَلَّى اللهُ عَليَهِ وسَلَّمَ هل كَانَ قَبْلَ أن يُوحَى إليه مُتَعَبِّدًا بشَرِيعَةِ نَبِيٍّ قَبْلَهُ؟ قَالَ الجُمهورُ: لا؛ لأنَّه لو كانَ تَابِعًا لاسْتُبْعِدَ أَنْ يَكُونَ مَتْبُوعًا، ولأنه لو كانَ لَنُقِلَ مَنْ كَانَ يُنْسَبُ إليه. وقيلَ: نَعَمْ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الحَاجِبِ، واختَلَفُوا في تَعْيِينِهِ على ثَمَانِيَةِ أَقْوَالٍ:
أَحَدُهَا: آدَمُ؛ حَكَاهُ ابْنُ بُرْهَانٍ.
الثَّاني: نُوحٌ؛ حَكَاهُ الآمِدِيُّ.
الثالثُ: إبرَاهِيمُ؛ ذَهَبَ إليه جماعةٌ، واسْتَدَلُّوا بِقَوِلِهِ تَعَالَى: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبرَاهِيمَ حَنِيفًا}.
الرابعُ: مُوسَى.
الخامِسُ: عِيسَى.
السادسُ: بِكُلِّ شَيْءٍ بَلَغَهُ عَنْ شَرْعِ نَبِيٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، وحُجَّتُهُ أولئك الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ.
السابعُ: الوَقْفُ، واخْتَارَهُ الآمِدِيُّ، ولا يَخْفَى قُوَّةُ الثالثِ ولا سِيَّمَا مَعَ مَا نُقِلَ مِنْ مُلازَمَتِهِ للحَجِّ والطَّوَافِ ونَحْوِ ذلك مِمَّا بَقِيَ عِنْدَهُمْ مِنْ شَرِيعَةِ إْبرَاهِيمَ، واللهُ أَعْلَمُ، وهذا كُلُّهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ، وأما بَعْدَ النُّبُوَّةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ القولُ فيه في تَفْسِيرِ سُورَةِ الأنعامِ.
قولُهُ: (إِلَى أَهْلِهِ) يَعْنِي خَدِيجَةَ وأَوْلادَهُ مِنْهَا، وقد سَبَقَ في تَفْسِيرِ سُورَةِ النورِ في الكلامِ على حَدِيثِ الإِفْكِ تَسْمِيَةُ الزَّوْجَةِ أَهْلاً، ويَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ أَقَارِبَهُ أو أَعَمَّ.
قولُهُ: (ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ) خَصَّ خَدِيجَةَ بالذِّكْرِ بَعْدَ أَنْ عَبَّرَ بالأَهْلِ؛ إِمَّا تفسيرًا بَعْدَ إِبْهَامٍ، وإمَّا إِشَارَةً إلى اختِصَاصِ التَّزَوُّدِ بكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِهَا دُونَ غَيْرِهَا، (فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا) في رِوَايَةِ الكُشْمِيهَنِيِّ: بِمِثْلِهَا- بالمُوَحَّدَةِ- والضميرُ للَّيَالِي أو للخَلْوَةِ أو للعبادةِ أو للمَرَّاتِ أي: السابقةِ، ثم يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ المرادُ أَنَّهُ يَتَزَوَّدُ ويَخْلُو أَيَّامًا ثُمَّ يَرْجِعُ ويَتَزَوَّدُ ويَخْلُو أَيَّامًا، ثُمَّ يَرْجِعُ ويَتَزَوَّدُ ويَخْلُو أَيَّامًا إلى أن يَنْقَضِيَ الشَّهْرُ، ويَحْتَمِلُ أن يَكُونَ المرادُ أَنْ يَتَزَوَّدَ لِمِثْلِهَا إذا حالَ الحَوْلُ وجَاءَ ذلك الشهرُ الذي جَرَتْ عَادَتُهُ أَنْ يَخْلُوَ فِيهِ، وهذا عِنْدِي أَظْهَرُ، ويُؤْخَذُ مِنْهُ إِعْدَادُ الزَّادِ للمُخْتَلِي إذا كانَ بحَيْثُ يَتَعَذَّرُ عليه تَحْصِيلُهُ لِبُعْدِ مَكَانِ اختِلائِهِ مِنَ البَلَدِ مَثَلاً، وأنَّ ذَلِكَ لا يَقْدَحُ في التَّوَكُّلِ، وذلك لوُقُوعِهِ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَليَهِ وسَلَّمَ بَعْدَ حُصولِ النُّبُوَّةِ لَهُ بالرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ، وإن كانَ الوَحْيُ في اليَقَظَةِ فَقَدْ تَرَاخَى عَنْ ذَلِكَز قولُهُ: (وهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ) جُمْلَةٌ في مَوْضِعِ الحالِ.
قولُهُ: (فَجَاءَهُ المَلَكُ) هُو جِبْرِيلُ، كما جَزَمَ بِهِ السُّهَيْلِيُّ وكأنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ كَلامِ وَرَقَةَ المَذْكُورِ في حَدِيثِ البابِ. وَوَقَعَ عِندَ البَيْهَقِيُّ في الدلائلِ: فَجَاءَهُ المَلَكُ فِيهِ أي: في غارِ حِرَاءٍ. كذا عَزَاهُ شَيْخُنَا البُلْقِينِيُّ للدَّلائِلِ فتَبِعْتُهُ، ثُمَّ وَجَدْتُهُ بهذا اللفظِ في كتابِ التَّعْبِيرِ، فعَزْوُهُ له أَوْلَى.

تَنْبِيهٌ:
إذا عُلِمَ أنه كانَ يُجَاوِرُ في غارِ حِرَاءٍ في شَهْرِ رَمَضَانَ، وأَنَّ ابتِدَاءَ الوَحْيِ جاءَ وهُو في الغارِ المَذْكُورِ اقْتَضَى ذلك أنَّهُ نُبِّئَ في شَهْرِ رَمَضَانَ، ويُعَكِّرُ على قَوْلِ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُ بُعِثَ على رَأْسِ الأَرْبَعِينَ مَعَ قولِهِ: إنَّهُ في شَهْرِ رَمَضَانَ وُلِدَ، ويُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ المَجِيءُ في الغارِ كَانَ أَوَّلاً في شَهْرِ رَمَضَانَ، وحِينَئِذٍ نُبِّئَ وأُنْزِلَ عليه اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، ثُمَّ كَانَ المَجِيءُ الثَّانِي في شَهْرِ رَبِيعٍ الأوَّلِ بالإنذارِ، وأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ، فيُحْمَلُ قَوْلُ ابنِ إِسْحَاقَ عَلَى رَأْسِ الأَرْبَعِينَ أي: عِندَ الَمِجيءِ بالرسالةِ واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: (اقْرَأْ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الأَمْرُ لِمُجَرَّدِ التَّنْبِيهِ والتَّيَقُّظِ لما سَيُلْقَى إليه، ويَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ على بَابِهِ مِنَ الطَّلَبِ، فيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى تَكْلِيفِ مَا لا يُطَاقُ في الحالِ، وإِنْ قُدِرَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ، ويَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ صِيغَةُ الأَمْرِ مَحْذُوفَةً أي: قُلِ: اقْرَأْ، وإن كانَ الجَوَابُ مَا أنا بِقَارِئٍ، فعلى مَا فَهِمَ من ظَاهِرِ اللَّفْظِ، وكأنَّ السِّرَّ في حَذْفِهَا لِئَلاَّ يُتَوَهَّمَ أَنَّ لَفْظَ قُلْ مِنَ القرآنِ، ويُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ تَأْخِيرِ البَيَانِ عَنْ وَقْتِ الخِطَابِ وأنَّ الأَمْرَ عَلَى الفَوْرِ، لَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ الفَوْرَ فُهِمَ مِنَ القَرِينَةِ.
قولُهُ: (مَا أنا بِقَارِئٍ) وَقَعَ عِندَ ابنِ إِسْحَاقَ في مُرْسَلِ عُبَيدِ بنِ عُمَيرٍ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَليَهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((أَتَانِي جِبْرِيلُ بِنَمَطٍ مِنْ دِيبَاجٍ فِيهِ كِتَابٌ قَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: مَا أنا بقارئٍ)) قَالَ السُّهَيْلِيُّ: قَالَ بَعْضُ المُفَسِّرينَ: إن قولَهُ: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} إشارةٌ إلى الكتابِ الَّذِي جاءَ به جِبْرِيلُ حَيْثُ قَالَ له: اقْرَأْ.
قولُهُ: (فَغَطَّنِي) تَقَدَّمَ بَيَانُهُ في بَدْءِ الوَحْيِ، وَوَقَعَ في السيرةِ لابنِ إسحاقَ: فَغَتَّنِي بالمثناةِ بَدَلَ الطَّاءِ وهما بمَعْنًى، والمرادُ: غَمَّنِي، وصَرَّحَ بذلك ابنُ أَبِي شَيْبَةَ في مُرْسَلِ عَبْدِ اللهِ بنِ شَدَّادٍ، وذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ أنه رُوِيَ سَأَبي(*) بمُهْمَلَةٍ ثُمَّ هَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ أو مُثَنَّاةٍ، وهما جميعًا بمَعْنَى الخَنْقِ، وأَغْرَبَ الدَّاوُدِيُّ فقالَ: مَعْنَى فَغَطَّنِي: صَنَعَ بِي شَيْئًا حتَّى أَلْقَانِي إلى الأَرْضِ كَمَنْ تَأْخُذُهُ الغَشْيَةُ، والحِكْمَةُ في هَذَا الغَطِّ شَغْلُهُ عَنِ الالتِفَاتِ لِشَيْءٍ آخَرَ، أو لإظهارِ الشِّدَّةِ والجِدِّ في الأمرِ تَنْبِيهًا على ثِقَلِ القَوْلِ الذي سَيُلْقَى إليه، فلَمَّا ظَهَرَ أَنَّهُ صَبَرَ على ذلك أَلْقَى إليه، وهذا وإنْ كَانَ بِالنِّسْبَةِ إلى عِلْمِ اللهِ حَاصِلٌ؛ لَكِنْ لَعَلَّ المُرَادَ إِبْرَازُهُ للظاهرِ بالنسبةِ إليه صَلَّى اللهُ عَليَهِ وسَلَّمَ. وقيلَ: ليُخْتَبَرَ هَلْ يَقُولُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ شَيْئًا فلَمَّا لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ دَلَّ على أنه لا يَقْدِرُ عليه، وقيلَ: أرادَ أَنْ يُعَلِّمَهُ أَنَّ القِرَاءَةَ لَيْسَتْ مِنْ قُدْرَتِهِ ولَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهَا، وقيلَ: الحِكْمَةُ فِيهِ أنَّ التَّخْيِيلَ والوَهْمَ والوَسْوَسَةَ لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ الجِسْمِ فلَمَّا وَقَعَ ذلك لجِسْمِهِ عَلِمَ أَنَّهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ، وذَكَرَ بَعْضُ مَنْ لَقِينَاهُ أَنَّ هَذَا من خَصَائِصِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَليَهِ وسَلَّمَ؛ إِذْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الأنبياءِ أَنَّه جَرَى له عِندَ ابتداءِ الوَحْيِ مِثْلُ ذَلِكَ.
قولُهُ: (فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ) يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ يُرِيدُ التَّأْكِيدَ فِي أَمْرٍ وإِيضَاحَ البَيَانِ فيه أَنْ يُكَرِّرَهُ ثَلاثًا، وقد كانَ صَلَّى اللهُ عَليَهِ وسَلَّمَ يَفْعَلُ ذلك- كما سَبَقَ في كِتَابِ العِلْمِ- ولَعَلَّ الحِكْمَةَ في تَكْرِيرِ الإقراءِ الإشارةُ إلى انحصارِ الإيمانِ الذي يَنْشَأُ الوَحْيُ بِسَبَبِهِ في ثلاثٍ: القَوْلِ والعَمَلِ والنِّيَّةِ، وأنَّ الوَحْيَ يَشْتَمِلُ على ثلاثٍ: التَّوْحِيدِ والأَحْكَامِ والقَصَصِ. وفي تكريرِ الغَطِّ الإشارةُ إلى الشَّدَائِدِ الثلاثِ التي وَقَعَتْ لَهُ وهِيَ: الحَصْرُ في الشِّعْبِ، وخُرُوجُهُ في الهِجْرَةِ، وما وَقَعَ له يَوْمَ أُحُدٍ، وفي الارسالاتِ الثلاثِ إِشَارَةٌ إلى حُصُولِ التَّيْسِيرِ لَهُ عَقِبَ الثلاثِ المَذْكُورَةِ في الدُّنيَا والبَرْزَخِ والآخرةِ.
قولُهُ: (فَقَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ إِلَى قَوْلِهِ: مَا لَمْ يَعْلَمْ) هَذَا القَدْرُ مِن هذه السورةِ هُو الذي نَزَلَ أَوَّلاً بخِلافِ بَقِيَّةِ السُّورَةِ فإِنَّمَا نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ بزَمَانٍ، وقد قَدَّمْتُ في تَفْسِيرِ المُدَّثِّرِ بَيَانَ الاختلافِ في أَوَّلِ مَا نَزَلَ، والحِكْمَةُ في هذه الأَوَّلِيَّةِ أَنَّ هذه الآياتِ الخَمْسَ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَقَاصِدِ القُرآنِ؛ ففيها بَرَاعَةُ الاستهلالِ، وهي جَدِيرَةٌ أَنْ تُسَمَّى عُنْوَانَ القُرآنِ؛ لأنَّ عُنْوَانَ الكِتَابِ يَجْمَعُ مَقَاصِدَهُ بعِبَارَةٍ وَجِيزَةٍ في أَوَّلِهِ، وهذا بخلافِ الفَنِّ البَدِيعِيِّ المُسَمَّى العُنْوَانَ، فإنهم عَرَّفُوهُ بأنْ يَأْخُذَ المُتَكَلِّمُ في فَنٍّ فيُؤَكِّدُهُ بذِكْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ. وبيانُ كَوْنِهَا اشْتَمَلَتْ على مَقَاصِدِ القرآنِ أَنَّهَا تَنْحَصِرُ في عُلُومِ التوحيدِ والأحكامِ والأخبارِ، وقدِ اشْتَمَلَتْ على الأمرِ بالقراءةِ والبَدَاءَةِ فِيهَا ببِسْمِ اللهِ، وفي هذه الإشارةُ إلى الأحكامِ، وفيها مَا يَتَعَلَّقُ بتَوْحِيدِ الرَّبِّ وإثباتِ ذَاتِهِ وصِفَاتِهِ مِنْ صِفَةِ ذَاتٍ وصِفَةِ فِعْلٍ، وفي هَذَا إشارةٌ إلى أصولِ الدينِ، وفيها مَا يَتَعَلَّقُ بالأخبارِ مِنْ قولِهِ: عَلَّمَ الإنسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.
قولُهُ: (بِاسْمِ رَبِّكَ) اسْتَدَلَّ بِهِ السُّهْيَلِيُّ على أنَّ البَسْمَلَةَ يُؤْمَرُ بِقِرَاءَتِهَا أَوَّلَ كُلِّ سُورَةٍ، لَكِنْ لا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكونَ آيةً مِنْ كُلِّ سُورَةٍ. كذا قَالَ وقَرَّرَهُ الطِّيبِيُّ فقالَ: قولُهُ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ قَدَّمَ الفِعْلَ الذي هُو مُتَعَلِّقُ الباءِ لِكَوْنِ الأمرِ بالقراءةِ أَهَمَّ.
وقولُهُ (اقْرَأْ) أَمْرٌ بإِيجادِ القِراءَةِ مُطْلَقًا.
وقولُهُ: (بِاسْمِ رَبِّكَ) حالٌ أي: اقرأْ مُفْتَتِحًا بِاسْمِ رَبِّكَ، وأَصَحُّ تَقَادِيرِهِ قُلْ بِاسْمِ اللهِ، ثُمَّ اقْرَأْ. قَالَ: فيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ البَسْمَلَة مَأْمُورٌ بها في ابتداءِ كُلِّ قِرَاءَةٍ. انتهى. لَكِنْ لا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ مَأْمُورًا بها، فلا تَدُلُّ على أنها آيةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ وهُو كما قَالَ؛ لأنها لو كانَ لَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ آيةً قَبْلَ كُلِّ آيةٍ، وليس كذلك، وأما مَا ذكَرهُ القَاضِي عِيَاضٌ عن أَبِي الحَسَنِ بْنِ القَصَّارِ- مِنَ المَالِكِيَّةِ- أنه قَالَ: في هذه القصةِ رَدٌّ على الشافِعِيِّ في قَولِهِ: إِنَّ البسملةَ آيةٌ مِنْ كُلِّ سُورَةٍ قَالَ: لأن هَذَا أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ ولَيْسَ في أَوَّلِهَا البسملةُ. فقد تُعُقِّبَ بأنَّ فِيهَا الأمرَ بِهَا وإن تَأَخَّرَ نُزُولُهَا، وقَالَ النَّوَوِيُّ: تَرْتِيبُ آيِ السُّوَرِ في النزولِ لم يَكُنْ شَرْطًا، وقد كانَتِ الآيةُ تَنْزِلُ فتُوضَعُ في مكانٍ قَبْلَ التي نَزَلَتْ قَبْلَهَا، ثُمَّ تَنْزِلُ الأخرى فتُوضَعُ قَبْلَهَا إلى أَنِ اسْتَقَرَّ الأمرُ في آخِرِ عَهْدِهِ صَلَّى اللهُ عَليَهِ وسَلَّمَ على هَذَا الترتيبِ، ولو صَحَّ مَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ أنَّ جِبْرِيلَ أَمَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَليَهِ وسَلَّمَ بالاستعاذةِ والبسملةِ قَبْلَ قولِهِ: اقْرَأْ لَكَانَ أَوْلَى في الاحتجاجِ، لَكِنْ في إسنادِهِ ضَعْفٌ وانقِطَاعٌ، وكذا حَدِيثُ أَبِي مَيْسَرَةَ أنَّ أَوَّلَ مَا أَمَرَ بهِ جِبْرِيلُ قَالَ لَهُ: قُلْ: بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحَيمِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ. هُو مُرْسَلٌ، وإن كانَ رِجَالُهُ ثِقَاتٍ، والمَحْفُوظُ أَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ، وأنَّ نُزُولَ الفاتحةِ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ.
قولُهُ: (تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ) في رِوَايَةِ الكُشْمِيهَنِيِّ: فُؤَادُهُ، وقد تَقَدَّمَ بيانُ ذَلِكَ في بَدْءِ الوَحْيِ، وتَرْجُفُ عِنْدَهُمْ بمُثَنَّاةٍ فَوْقَانِيَّةٍ، ولَعَلَّهَا في رِوَايَةٍ: يَرْجُفُ فُؤَادُهُ بالتَّحْتَانِيَّةِ.
قولُهُ: (زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) كذا للأكثرِ مَرَّتَيْنِ، وكذا تَقَدَّمَ في بَدْءِ الوَحْيِ، وَوَقَعَ لأبِي ذَرٍّ هنا مَرَّةً وَاحِدَةً، والتزميلُ التَّلْفِيفُ، وقَالَ ذلك لِشِدَّةِ مَا لَحِقَهُ مِنْ هَوْلِ الأَمْرِ، وجَرَتِ العَادَةُ بسُكُونِ الرِّعْدَةِ بالتَّلْفِيفِ. وَوَقَعَ في مُرْسَلِ عُبَيدِ بنِ عُمَيرٍ أنه صَلَّى اللهُ عَليَهِ وسَلَّمَ خَرَجَ فَسَمِعَ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ يَقُولُ: يا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللهِ وأنا جِبْرِيلُ، فَوَقَفْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ فمَا أَتَقَدَّمُ وَمَا أَتَأَخَّرُ وَجَعَلْتُ أَصْرِفُ وَجْهِي في نَاحِيَةِ آفَاقِ السَّمَاءِ، فَلا أَنْظُرُ في نَاحِيَةٍ مِنْهَا إلا رَأَيْتُهُ كذلك. وسَيَأْتِي في التعبيرِ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ وَقَعَ له عِندَ فَتْرَةِ الوَحْيِ وهُو المُعتَمَدُ فإِنَّ إِعْلامَهُ بالإرسالِ وَقَعَ بِقَوِلِهِ: قُمْ فَأَنْذِرْ.
قولُهُ: (فَزَمَّلُوهُ حتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ) بفتحِ الرَّاءِ أي: الفَزَعُ، وأما الذي بضَّمِ الرَّاءِ فهو مَوْضِعُ الفَزَعِ مِنَ القلبِ.
قولُهُ: (قَالَ لِخَدِيجَةَ: أي خَدِيجَةُ، مَا لِي؟ لَقَدْ خَشِيتُ) في رِوَايَةِ الكُشْمِيهَنِيِّ: قَدْ خَشِيتُ.
قولُهُ: (فَأَخْبَرَهَا الخَبَرَ) تَقَدَّمَ في بَدْءِ الوحيِ بِلَفظِ: فقالَ لخَدِيجَةَ وأَخْبَرَهَا الخبرَ لَقَدْ خَشِيتُ.
وقولُهُ: (وأَخْبَرَهَا الخبرَ) جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ القَوْلِ والمَقُولِ، وقد تَقَدَّمَ في بَدْءِ الوحيِ مَا قالوه في مُتَعَلِّقِ الخَشْيَةِ المذكورةِ، وقَالَ عِيَاضٌ: هَذَا وَقَعَ له أَوَّلَ مَا رَأَى التَّبَاشِيرَ في النومِ ثُمَّ في اليَقَظَةِ وسَمِعَ الصَّوْتَ قَبْلَ لِقَاءِ المَلَكِ، فأَمَّا بَعْدَ مَجِيءِ المَلَكِ فَلا يَجُوزُ عليه الشكُّ، ولا يَخْشَى مِنْ تَسَلُّطِ الشَّيْطَانِ. وتَعَقَّبَهُ النووِيُّ بأنه خِلافُ صَرِيحِ الشِّفَاءِ، فإنه قَالَ بَعْدَ أن غَطَّهُ المَلَكُ وأَقْرَأَهُ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ قَالَ، إلا أن يَكُونَ أَرَادَ أَنَّ قولَهُ: خَشِيتُ على نَفْسِي وَقَعَ منه إِخْبَارًا عَمَّا حَصَلَ له أَوَّلاً لا أنه حَالَةَ إِخْبَارِهَا بذلك جَازَتْ، فيَتَّجِهُ، واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: (كَلاَّ أَبْشِرْ) بهمزةِ قَطْعٍ، ويَجُوزُ الوَصْلُ، وأصلُ البِشَارَةِ في الخَيْرِ، وفي مُرْسَلِ عُبَيدِ بنِ عُمَيرٍ فَقَالَتْ: أَبْشِرْ يَا ابْنَ عَمِّ واثْبُتْ، فوالذي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونَ نَبِيَّ هذه الأمةِ.
قولُهُ: (لا يُخْزِيكَ اللهُ) بخاءٍ مُعْجَمَةٍ وتَحْتَانِيَّةٍ، وَوَقَعَ في رِوَايَةِ مَعْمَرٍ في التعبيرِ: يَحْزُنُكَ؛ بمُهْمَلَةٍ ونُونٍ ثُلاثِيًّا ورُبَاعِيًّا، قَالَ اليَزِيدِيُّ: أَحْزَنَهُ لُغَةُ تَمِيمٍ وحَزَنَهُ لُغَةُ قُرَيْشٍ، وقد نَبَّهَ على هَذَا الضبطِ مُسْلِمٌ. والخِزْيُ الوُقُوعُ في بَلِيَّةٍ وشُهْرَةٍ يُذِلُّهُ. وَوَقَعَ عِندَ ابنِ إِسْحَاقَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ مُرْسَلاً أَنَّ خَدِيجَةَ قَالَتْ: أَيِ ابْنَ عَمِّ، أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُخْبِرَنِي بِصَاحِبِكَ إِذَا جَاءَ؟ قَالَ: نعم. فجاءَهُ جِبْرِيلُ فقالَ: يا خديجةُ هَذَا جبريلُ قَالَتْ: قُمْ فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِي اليُسْرَى. ثُمَّ قَالَتْ: هل تراهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: فَتَحَوَّلْ إلى اليُمْنَى كذلك ثم قَالَتْ: فَتَحَوَّلْ فَاجْلِسْ في حِجْرِي كذلك ثم أَلْقَتْ خِمَارَهَا وتَحَسَّرَتْ وهُو في حِجْرِهَا، وقَالَتْ: هل تَرَاهُ؟ قَالَ: لا. قَالَتْ: اثْبُتْ فواللهِ إِنَّهُ لَمَلَكٌ وما هُو بشَيْطَانٍ. وفي روايةٍ مُرْسَلَةٍ عِندَ البَيْهَقِيِّ في الدلائلِ أَنَّهَا ذَهَبَتْ إلى عَدَّاسٍ وكانَ نَصْرَانِيًّا فذَكَرَتْ له خَبَرَ جِبْرِيلَ فقالَ: هُو أَمِينُ اللهِ بَيْنَهُ وبَيْنَ النَّبِيِّينَ. ثم ذَهَبَتْ إلى وَرَقَةَ.
قولُهُ: (فَانْطَلَقَتْ بِهِ إِلَى وَرَقَةَ) في مُرْسَلِ عُبَيدِ بنِ عُمَيرٍ أَنَّهَا أَمَرَتْ أَبَا بَكْرٍ أن يَتَوَجَّهَ مَعَهُ، فيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عِندَ تَوْجِيهِهَا أو مَرَّةً أُخْرَى.
قولُهُ: (مَاذَا تَرَى) في رِوَايَةِ ابنِ مَنْدَهْ في الصحابةِ من طَرِيقِ سَعِيدِ بنِ جُبَيرٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ عَنْ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ قَالَ: قُلْتُ: يا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي عن هَذَا الذي يَأْتِيكَ. قَالَ: يَأْتِينِي مِنَ السَّمَاءِ جَنَاحَاهُ لُؤْلُؤٌ وبَاطِنُ قَدَمَيْهِ أَخْضَرُ.
قولُهُ: (وَكَانَ يَكْتُبُ الكِتَابَ العَرَبِيَّ ويَكْتُبُ مِنَ الإنجيلِ بِالعَرَبِيَّةِ مَا شاءَ اللهُ) هكذا وقعَ هنا وفي التعبيرِ، وقد تَقَدَّمَ القولُ فيه في بَدْءِ الوَحْيِ ونَبَّهْتُ عليه هنا؛ لأنى نَسَبْتُ هذه الروايةَ هُنَاكَ لِمُسْلِمٍ فَقَطْ تَبَعًا للقُطْبِ الحَلَبِيِّ، قَالَ النوويُّ: العبارتانِ صَحِيحَتَانِ، والحاصلُ أَنَّهُ تَمَكَّنَ حتَّى صَارَ يَكْتُبُ مِنَ الإنجيلِ أيَّ مَوْضِعٍ شَاءَ بالعَرَبِيَّةِ وبالعِبْرَانِيَّةِ. قَالَ الدَّاوُدِيُّ: كَتَبَ مِنَ الإنجيلِ الذي هُو بالعِبْرَانِيَّةِ هَذَا الكتابَ الذي هُو بالعَرَبِيِّ.
قولُهُ: (اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ) أي الذي يَقُولُ.
قولُهُ: (أُنْزِلَ على مُوسَى) كذا هنا على البناءِ للمَجْهُولِ، وقد تَقَدَّمَ في بَدْءِ الوَحْيِ أَنْزَلَ اللهُ. وَوَقَعَ في مُرْسَلِ أَبِي مَيْسَرَةَ: أَبْشِرْ فَأَنَا أَشْهَدُ إِنَّكَ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ ابْنُ مَرْيَمَ وأَنَّكَ عَلَى مِثْلِ نَامُوسِ مُوسَى وأَنَّكَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وأنكَ سَتُؤْمَرُ بالجهادِ. وهذا أَصْرَحُ مَا جاءَ في إسلامِ وَرَقَةَ، أَخْرَجَهُ ابنُ إِسْحَاقَ. وأَخرَجَ التِّرْمِذِيُّ عن عَائِشَةَ أَنَّ خَدِيجَةَ قَالَتْ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عَليَهِ وسَلَّمَ لما سُئِلَ عَنْ وَرَقَةَ: كَانَ وَرَقَةُ صَدَّقَكَ ولَكِنَّهُ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ فَقَالَ: رَأَيْتُهُ في المنامِ وعَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ، ولو كانَ مِنْ أهْلِ النَّارِ لكانَ لِبَاسُهُ غَيْرَ ذَلِكَ. وعندَ البَزَّارِ والحاكمِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: ((لا تَسُبُّوا وَرَقَةَ، فإنِّي رَأَيتُ لَهُ جَنَّةً أو جَنَّتَيْنِ)) وقد اسْتَوْعَبْتُ مَا وَرَدَ فيه في تَرْجَمَتِهِ مِن كِتَابِي في الصحابةِ، وتقدَّمَ بَعْضُ خَبَرِهِ في بَدْءِ الوحيِ، وتقدَّمَ أيضًا ذِكْرُ الحِكْمَةِ في قَوْلِ وَرَقَةَ: نَامُوسُ مُوسَى، ولم يَقُلْ: عيسى مَعَ أنه كَانَ تَنَصَّرَ، وأن ذلك وَرَدَ في رِوَايَةِ الزُّبَيرِ بْنِ بَكَّارٍ بِلَفظِ عِيسَى، ولم يَقِفْ بَعْضُ مَنْ لَقِينَاهُ على ذلك فبَالَغَ في الإنكارِ على النَّوَوِيِّ ومَنْ تَبِعَهُ بأنه وَرَدَ في غيرِ الصَّحِيحَينِ بِلَفظِ: نَامُوسُ عِيسَى، وذَكَرَ القُطْبُ الحَلَبِيُّ في وَجْهِ المناسبةِ لِذِكْرِ مُوسَى دُونَ عِيسَى أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَليَهِ وسَلَّمَ لَعَلَّهُ لَمَّا ذَكَرَ لِوَرَقَةَ مِمَّا نَزَلَ عليه مِنِ اقْرَأْ ويَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ ويَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ، فَهِمَ وَرَقَةُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كُلِّفَ بأَنْوَاعٍ مِنَ التَّكَالِيفِ، فنَاسَبَ ذِكْرُ مُوسَى لذلك؛ لأن الذي أُنْزِلَ على عِيسَى إنما كانَ مَوَاعِظَ كذا قَالَ، وهُو مُتَعَقَّبٌ، فإن نُزُولَ يا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ ويَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ إنَّمَا نَزَلَ بَعْدَ فَتْرَةِ الوَحْيِ كما تَقَدَّمَ بَيَانُهُ في تَفْسِيرِ المُدِّثِّرِ، والاجتماعُ بوَرَقَةَ كَانَ في أَوَّلِ البَعْثَةِ، وزَعَمَ أنَّ الإنجيلَ كُلَّهُ مَوَاعِظُ مُتَعَقَّبٌ أيضًا فإنه مُنَزَّلٌ أيضًا على الأحكامِ الشرعيةِ، وإن كانَ مُعْظَمُهَا مُوَافِقًا لِمَا في التوراةِ لَكِنَّهُ نَسَخَ مِنْهَا أَشْيَاءَ بدَلِيلِ قولِهِ: تَعَالَى: {وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}.
قولُهُ: (فيها أي أيامِ الدَّعْوَةِ) قاله السُّهَيْلِيُّ، وقَالَ المَازِرِيُّ: الضميرُ للنبوةِ ويَحْتَمِلُ أَنْ يَعُودَ للقِصَّةِ المَذْكُورَةِ.
قولُهُ: (لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا ذَكَرَ حَرْفًا) كذا في هذه الروايةِ وتقدَّمَ فِي بَدْءِ الوَحْيِ بِلَفظِ: إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، ويأتي في رِوَايَةِ مَعْمَرٍ في التعبيرِ بِلَفظِ: حينَ يُخْرِجُكَ، وأَبْهَمَ مَوْضِعَ الإخراجِ، والمرادُ بِهِ مَكَّةُ وقَدْ وَقَعَ في حَدِيثِ عبدِ اللهِ بَنْ عَدِيٍّ في السُّنَنِ: ولولا أَنِّي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا خَرَجْتُ يُخَاطِبُ مَكَّةَ.
قولُهُ: (يَوْمُكَ) أي: وقتُ الإخراجِ، أو وقتُ إِظْهَارِ الدَّعْوَةِ، أو وَقْتُ الجِهَادِ، وتَمَسَّكَ ابنُ القَيِّمِ الحَنْبَلِيُّ بِقَوِلِهِ في الروايةِ التي في بَدْءِ الوَحْيِ: ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ، يَرُدُّ مَا وَقَعَ في السيرةِ النبويةِ لابنِ إِسْحَاقَ أَنَّ وَرَقَة كَانَ يَمُرُّ بِبِلالٍ والمُشْرِكُونَ يُعَذِّبُونَهُ وهُو يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ، فيَقُولُ: أَحَدٌ واللهِ يا بلالُ لَئِنْ قَتَلُوكَ لاتَّخَذْتُ قَبْرَكَ حَنَانًا. هَذَا واللهُ أَعْلَمُ وَهَمٌ؛ لأنَّ وَرَقَةَ قَالَ: وإِنْ أَدْرَكَنِي يَوْمُكَ حَيًّا لأَنْصُرَنَّكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا؛ فلَوْ كانَ حَيًّا عِندَ ابتداءِ الدَّعْوَةِ لكانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَجَابَ وقَامَ بِنَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَليَهِ وسَلَّمَ كقيامِ عُمَرَ وحَمْزَةَ. قُلْتُ: وهذا اعتراضٌ ساقطٌ، فإنَّ وَرَقَةَ إِنَّمَا أَرَادَ بِقَوِلِهِ: فَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ حَيًّا أَنْصُرْكَ اليَوْمَ الذي يُخْرِجُونَكَ فيه؛ لأنَّه قَالَ ذلك عنه عِندَ قولِهِ: أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ وتَعْذِيبُ بِلالٍ كَانَ بَعْدَ انتِشارِ الدَّعْوَةِ وبَيْنَ ذَلِكَ وبَيْنَ إِخْرَاجِ المسلمينَ مِنْ مَكَّةَ للحَبَشَةِ ثُمَّ للمدينةِ مُدَّةٌ مُتَطَاوِلَةٌ.
تنبيهٌ:
زاد مَعْمَرٌ بَعْدَ هَذَا كلامًا يأتِي ذِكْرُهُ في كتابِ التعبيرِ.
قولُهُ: (قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ) هُو مَوْصُولٌ بالإسنادَيْنِ المذكورَيْنِ في أَوَّلِ البابِ، وقد أَخْرَجَ البُخارِيُّ حَدِيثَ جَابِرٍ هَذَا بالسَّنَدِ الأوَّلِ مِنَ السَّنَدَيْنِ المَذْكُورَيْنِ هنا في تَفْسِيرِ سُورَةِ المُدَّثِّرِ.
قولُهُ: (فَأَخْبَرَنِي) هُو عطفٌ على شَيْءٍ والتقديرُ: قَالَ ابنُ شهابٍ: فأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بما تَقَدَّمَ، وأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَة بما سَيَأْتِي.
قولُهُ: (قَالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليَهِ وسَلَّمَ -وهُو يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الوَحْيِ- قَالَ في حَدِيثِهِ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي) هَذَا يُشْعِرُ بأنَّهُ كَانَ في أَصْلِ الرِّوَايَةِ أَشْيَاءُ غَيْرُ هَذَا المَذْكُورِ، وهذا أيضًا من مُرْسَلِ الصَّحَابِيِّ؛ لأنَّ جابرًا لم يُدْرِكْهُ زَمَانَ القِصَّةِ، فيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهَا منَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَليَهِ وسَلَّمَ أو مِنْ صَحابِيٍّ آخَرَ حَضَرَهَا. واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: (قَالَ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَليَهِ وسَلَّمَ وهُو يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الوَحْيِ) وَقَعَ في رِوَايَةِ عَقِيلٍ في بَدْءِ الوَحْيِ غَيْرَ مُصَرِّحٍ بذِكْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَليَهِ وسَلَّمَ فيه، وَوَقَعَ في رِوَايَةِ يَحْيَى بنِ أَبِي كَثِيرٍ عن أَبِي سَلَمَةَ في تَفْسِيرِ المدثِّرِ عَنْ جَابِرٍ عنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَليَهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي هَبَطْتُ فنُودِيتُ)) وَزَادَ مُسْلِمٌ في رِوَايَتِهِ: ((جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ شَهْرًا)).
قولُهُ: (سَمِعْتُ صوتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي) يُؤْخَذُ منه جَوَازُ رَفْعِ البَصَرِ إلى السَّمَاءِ عِندَ وجودِ حَادِثٍ مِنْ قِبَلِهَا، وقد تَرْجَمَ له المُصَنِّفُ في الأدبِ، ويُسْتَثْنَى من ذلك رَفْعُ البَصَرِ إلى السَّمَاءِ في الصلاةِ لِثُبُوتِ النَّهْيِ عَنْهُ كما تَقَدَّمَ في الصلاةِ مِن حَدِيثِ أَنَسٍ، ورَوَى ابنُ السُّنِّيِّ بإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عنِ ابنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أُمِرْنَا أَنْ لا نُتْبِعَ أَبْصَارَنَا الكَوَاكِبَ إذا انْقَضَتْ. وَوَقَعَ في رِوَايَةِ يَحْيَى بنِ أَبِي كَثِيرٍ: فنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، ونَظَرْتُ عَنْ شِمَالِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، ونَظَرْتُ أَمَامِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، وَنَظَرْتُ خَلْفِي فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي. وفي روايةِ مُسْلِمٍ بَعْدَ قولِهِ: شَيْئًا: ثُمَّ نُودِيتُ فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا ثُمَّ نُودِيتُ فَرَفَعْتُ رَأْسِي.
قولُهُ: (فَإِذَا المَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ على كُرْسِيٍّ) كذا له بالرَّفْعِ وهُو على تَقْدِيرِ حَذْفِ المبتدأِ أي: فإذا صاحبُ الصَّوْتِ هُو المَلَكُ الذي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ وهُو جَالِسٌ، وَوَقَعَ عِندَ مُسْلِمٍ: جَالِسًا بالنَّصْبِ، وهُو على الحالِ، وَوَقَعَ في رِوَايَةِ يَحْيَى بنِ أَبِي كَثِيرٍ: فإذا هُو جَالِسٌ على عَرْشٍ بَيْنَ السَّمَاءِ والأرضِ. قولُهُ: (فَفَزِعْتُ مِنْهُ) كذا في رِوَايَةِ ابنِ المُبَارَكِ عَنْ يُونُسَ، وفي روايةِ ابْنِ وَهْبٍ عِندَ مُسْلِمٍ: فجُثِثْتُ، وفي روايةِ عَقِيلٍ في بَدْءِ الوَحْيِ: فرُعِبْتُ، وفي رِوَايَتِهِ في تَفْسِيرِ المُدَّثِّرِ: فجُثِثْتُ وكذا لمسلمٍ وَزَادَ: فَجُثِثْتُ مِنْهُ فَرَقًا، وفي روايةِ مَعْمَرٍ فيه: فجُثِثْتُ، وهذه اللَّفْظَةُ بضَّمِ الجيمِ، وذَكَرَ عياضٌ أنه وَقَعَ للقابِسِيِّ بالمهملةِ قَالَ: وفَسَّرَهُ بأَسْرَعْتُ، قَالَ: ولا يَصِحُّ مَعَ قولِهِ: حتَّى هَوَيْتُ أي: سَقَطْتُ من الفَزَعِ، قُلْتُ: ثَبَتَ في رِوَايَةِ عبدِ اللهِ بنِ يُوسُفَ عَنِ اللَّيْثِ في ذِكْرِ المَلائِكَةِ مِنْ بَدْءِ الخَلْقِ، ولَكِنَّهَا بضَّمِ المُهْمَلَةِ وكَسْرِ المُثَلَّثَةِ بَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ تَحْتَانِيَّةٌ سَاكِنَةٌ ثُمَّ مُثَنَّاةٌ فَوْقَانِيَّةٌ، ومَعْنَاهَا إِنْ كَانَتْ مَحْفُوظَةً: سَقَطْتُ على وَجْهِي حتَّى صِرْتُ كَمَنْ حُثِيَ عَلَيْهِ التُّرَابُ. قَالَ النوويُّ: وبعد الجيمِ مُثَلَّثَتَانِ في رِوَايَةِ عَقِيلٍ ومَعْمَرٍ، وفي روايةِ يُونُسَ بِهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ مُثَلَّثَةٍ وهي أَرْجَحُ مِنْ حَيْثُ المَعْنَى، قَالَ أهْلُ اللُّغَةِ: جُئِثَ الرَّجُلُ فهو مَجْؤُوثٌ إذا فَزِعَ، وعن الكِسَائِيِّ: جُئِثَ وجُثِثَ فهو مَجْؤُوثٌ ومَجْثُوثٌ أي: مَذْعُورٌ.
قولُهُ: (فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) في رِوَايَةِ يَحْيَى بنِ أَبِي كَثِيرٍ: فقُلْتُ: دَثِّرُونِي وَصُبُّوا عَلَيَّ مَاءً بَارِدًا، وكأنه رَوَاهَا بالمَعْنَى، والتزميلُ والتَّدْثِيرُ يَشْتَرِكَانِ في الأصلِ وإن كانَتْ بَيْنَهُمَا مُغَايَرَةٌ في الهَيْئَةِ، وَوَقَعَ في رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَقُلْتُ: دَثِّرُونِي، فَدَثَّرُونِي وَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً، ويُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بأَنَّهُ أَمَرَهُمْ فَامْتَثَلُوا، وأَغْفَلَ بَعْضُ الرُّوَاةِ ذِكْرَ الأَمْرِ بالصَّبِّ، والاعتبارُ بمَنْ ضَبَطَ وكأنَّ الحِكْمَةَ في الصبِّ بَعْدَ التَّدَثُّرِ طَلَبُ حُصُولِ السُّكُونِ لِمَا وَقَعَ في الباطنِ مِنَ الانزعاجِ، أو أنَّ العادةَ أَنَّ الرِّعْدَةَ تَعْقُبُهَا الحُمَّى وقد عُرِفَ مِنَ الطِّبِّ النبويِّ مُعَالَجَتُهَا بالماءِ البارِدِ.
قولُهُ: (فَنَزَلَتْ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) يُعْرَفُ مِنِ اتِّحَادِ الحَدِيثَيْنِ في نُزُولِ يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ عَقِبَ قولِهِ: دَثِّرُونِي وزَمِّلُونِي أنَّ المُرَادَ بزَمِّلُونِي دَثِّرُونِي، ولا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ نُزُولُ يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ حِينَئِذٍ؛ لأنَّ نُزُولَهَا تَأَخَّرَ عَنْ نُزُولِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ بالاتفاقِ؛ لأنَّ أَوَّلَ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ الأمرُ بالإنذارِ، وذلك أَوَّلَ مَا بُعِثَ، وأَوَّلُ الْمُزَّمِّلِ الأَمْرُ بقِيَامِ اللَّيْلِ وتَرْتِيلِ القرآنِ، فيَقْتَضِي تَقَدُّمَ نُزُولِ كَثِيرٍ من القرآنِ قَبْلَ ذلك، وقد تَقَدَّمَ في تَفْسِيرِ المدثِّرِ أَنَّهُ نَزَلَ مِنْ أَوَّلِهَا إلى قولِهِ: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ، وفيها مُحَصَّلُ مَا يَتَعَلَّقُ بالرسالةِ، ففي الآيةِ الأولى المُؤَانَسَةُ بالحالةِ التي هُو عليها مِنَ التَّدَثُّرِ إِعْلامًا بعَظِيمِ قَدْرِهِ، وفي الثانيةِ الأَمْرُ بالإنذارِ قَائِمًا، وحُذِفَ المفعولُ تَفْخِيمًا، والمرادُ بالقيامِ إِمَّا حَقِيقَتُهُ أي: قُمْ مِنْ مَضْجَعِكَ، أو مَجَازُهُ أي: قُمْ مَقَامَ تَصْمِيمٍ.
وأما الإنذارُ فالحكمةُ في الاقتصارِ عليه هنا فإنه أيضًا بُعِثَ مُبَشِّرًا؛ لأن ذلك كانَ أَوَّلَ الإسلامِ فمُتَعَلَّقُ الإنذارِ مُحَقَّقٌ، فلما أطاعَ مَنْ أَطَاعَ نَزَلَتْ {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} وفي الثالثةِ تكبيرُ الربِّ تَمْجِيدًا وتَعْظِيمًا، ويَحْتَمِلُ الحَمْلَ على تَكْبِيرِ الصلاةِ كما حُمِلَ الأمرُ بالتطهيرِ على طهارةِ البدنِ والثيابِ كما تَقَدَّمَ البحثُ فيه، وفي الآيةِ الرابعةِ، وأما الخامسةُ فهُجْرَانُ مَا يُنَافِي التوحيدَ وما يَؤُولُ إلى العذابِ، وحَصَلَتِ المناسبةُ بينَ السورتَيْنِ المُبْتَدَأِ بِهِما النزولُ فيما اشْتَمَلَتا عليه مِنَ المعانِي الكثيرةِ باللَّفْظِ الوَجِيزِ، وفي عِدَّةِ مَا نَزَلَ مِن كُلٍّ منهما ابتداءً. واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: (قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وهي الأوثانُ التي كانَ أهْلُ الجاهليةِ يَعْبُدُونَ) تَقَدَّمَ شَرْحُ ذلك في تَفْسِيرِ المدثرِ، وتقدَّمَ الكثيرُ مِن شَرْحِ حَدِيثِ عَائِشَةَ وجابرٍ في بَدْءِ الوَحْيِ وبَقِيَتْ منهما فَوَائِدُ أَخَّرْتُهَا إلى كتابِ التعبيرِ لِيَأْخُذَ كُلُّ موضعٍ سَاقَهَمُا المُصَنِّفُ فيه مُطَوَّلاً بقِسْطٍ مِنَ الفائدةِ.
قولُهُ: (ثم تَتَابَعَ الوَحْيُ) أي: استَمَرَّ نُزُولُهُ). [فتح الباري: 8 / 716-722]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ) : (قوله فيه
- ثنا عبد الله بن محمّد ثنا عبد الرّزّاق أنا معمر عن الزّهريّ ح وقال اللّيث حدثني عقيل قال محمّد أخبرني عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت أول ما بدئ به رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم من الوحي الرّؤيا الصادقة جاءه الملك فقال {اقرأ بسم ربك الّذي خلق (1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك الأكرم (3) الّذي علم بالقلم} 1-4 العلق
حديث اللّيث أسنده المؤلف في تفسير هذه السّورة عن يحيى بن بكير عن اللّيث بهذا القدر الّذي أورده هنا
وأورده في بدء الوحي عن يحيى بن بكير مطولا). [تغليق التعليق: 4 / 374-375]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : (بابٌ
هَذَا كَالْفَصْلِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْبَابِ وَلَيْسَ فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّسَخِ لَفْظُ بَابٍ بِمَوْجُودٍ.
ـ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ح وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مَرْوَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رِزْمَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ سَلْمُوَيْهِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ.
هَذَا الْحَدِيثُ قَدْ مَرَّ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَأَخْرَجَهُ هُنَا أَيْضًا بِإِسْنَادَيْنِ: الأَوَّلُ عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ هُوَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْرٍ الْمَخْزُومِيُّ الْمِصْرِيُّ وَيُنْسَبُ إِلَى جَدِّهِ غَالِبًا، وَذُكِرَ هُنَا مُجَرَّدًا، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ يَرْوِي عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ الْمِصْرِيِّ، عَنْ عُقَيْلٍ -بِضَمِّ الْعَيْنِ- ابْنِ خَالِدٍ الأَيْلِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، الثَّانِي: عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَرْوَانَ أَبِي عُثْمَانَ الْبَغْدَادِيِّ نَزِيلِ نَيْسَابُورَ مِنْ طَبَقَةِ الْبُخَارِيِّ وَشَارَكَهُ فِي الرِّوَايَةِ، عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ وَسُلَيْمَانَ بْنِ حَرْبٍ وَنَحْوِهِمَا، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ سِوَى هَذَا الْمَوْضِعِ وَمَاتَ قَبْلَ الْبُخَارِيِّ بِأَرْبَعِ سِنِينَ، كَذَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ ثُمَّ قَالَ: وَلَهُمَا شَيْخٌ آخَرُ يُقَالُ لَهُ: أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ مَرْوَانَ الرَّهَاوِيُّ، حَدَّثَ عَنْهُ أَبُو حَاتِمٍ وَابْنُ وَارَهْ وَغَيْرُهُمَا، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ وَوَهِمَ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُمَا وَاحِدٌ وَوَحَّدَهُمَا الْكِرْمَانِيُّ.
فَإِنْ قُلْتَ: قَالَ الْكِرْمَانِيُّ: وَسَعِيدُ بْنُ مَرْوَانَ الرَّهَاوِيُّ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَخِفَّةِ الْهَاءِ وَبِالْوَاوِ الْبَغْدَادِيُّ مَاتَ سَنَةَ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ. قُلْتُ: الْكِرْمَانِيُّ تَبِعَ فِي ذَلِكَ صَاحِبَ رِجَالِ الصَّحِيحَيْنِ فَإِنَّهُ قَالَ: سَعِيدُ بْنُ مَرْوَانَ أَبُو عُثْمَانَ الرَّهَاوِيُّ ثُمَّ الْبَغْدَادِيُّ سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رِزْمَةَ، رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَفْسِيرِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ وَقَالَ: مَاتَ بِنَيْسَابُورَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ النِّصْفَ مِنْ شَعْبَانَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، وَهَذَا يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ أَنَّ الصَّوَابَ مَعَ الْكِرْمَانِيِّ وَمَعَ مَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ يَظْهَرُ ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رِزْمَةَ -بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ- وَاسْمُهُ غَزْوَانُ وَهُوَ أَيْضًا مَرْوَزِيٌّ مِنْ طَبَقَةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَهُوَ مِنَ الطَّبَقَةِ الْوُسْطَى مِنْ شُيُوخِ الْبُخَارِيِّ وَمَعَ ذَلِكَ حَدَّثَ عَنْهُ بِوَاسِطَةٍ، وَلَيْسَ لَهُ عِنْدَهُ إِلاَّ هَذَا الْمَوْضِعُ. وَقَدْ رَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ بِلاَ وَاسِطَةٍ، مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَةٍ.
وَأَبُو صَالِحٍ اسْمُهُ سُلَيْمَانُ بْنُ صَالِحٍ الْمَرْوَزِيُّ يُلَقَّبُ بِسَلْمُوَيْهِ -بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ اللاَّمِ وَسُكُونِهَا وَضَمِّ الْمِيمِ- وَهُوَ أَيْضًا مَرْوَزِيٌّ يُقَالُ: اسْمُ أَبِيهِ دَاوُدُ، كَانَ مِنْ أَخِصَّاءِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَالْمُكْثِرِينَ عَنْهُ، وَقَدْ أَدْرَكَهُ الْبُخَارِيُّ بِالسِّنِّ؛ لأَنَّهُ مَاتَ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَتَيْنِ وَمَا لَهُ فِي الْبُخَارِيِّ إِلاَّ هَذَا الْحَدِيثُ.
وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ الْمَرْوَزِيُّ، وَيُونُسُ بْنُ يَزِيدَ مِنَ الزِّيَادَةِ الأَيْلِيُّ وَهَذَا مِنَ الْغَرَائِبِ إِذِ الْبُخَارِيُّ كَثِيرًا يَرْوِي عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ بِوَاسِطَةِ شَخْصٍ وَاحِدٍ مِثْلِ عَبْدَانَ وَغَيْرِهِ، وَهُنَا رَوَى عَنْهُ بِثَلاَثِ وَسَائِطَ وَهَذَا الْحَدِيثُ مِنْ ثَمَانِيَّاتِ الْبُخَارِيِّ.
قَالَتْ: كَانَ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ فَكَانَ يَلْحَقُ بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ، قَالَ: وَالتَحنُّثُ التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتَ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدَ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ بِمِثْلِهَا حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: ((مَا أَنَا بِقَارِئٍ. قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} الآيَاتِ إِلَى قَوْلِهِ: {عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ})) فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: ((زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي)). فَزَمَّلُوهُ حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ قَالَ لِخَدِيجَةَ: ((أَيْ خَدِيجَةُ مَا لِي لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي))، فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ قَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلاَّ، أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخِي أَبِيهَا وَكَانَ امْرَأً تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ، وَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ، فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: يَا عَمِّ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ. قَالَ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى ؟ فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى، لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا، وَذَكَرَ حَرْفًا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: ((أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ ؟!)) قَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلاَّ أُوْذِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ حَيًّا أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ.
قَدْ مَرَّ الْكَلاَمُ فِي شَرْحِهِ مُسْتَوْفًى، وَلَكِنْ نَذْكُرُ بَعْضَ شَيْءٍ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ.
قَوْلُهُ: قَالَتْ أَيْ: عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا. وَقَالَ النَّوَوِيُّ: هَذَا مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ؛ لأَنَّ عَائِشَةَ لَمْ تُدْرِكْ هَذِهِ الْقِصَّةَ وَوَفْقَ بَعْضِهِمْ كَلاَمُهُ بِأَنَّ الْمُرْسَلَ مَا يَرْوِيهِ الصَّحَابِيُّ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي لَمْ يُدْرِكْ زَمَانَهَا بِخِلاَفِ الأُمُورِ الَّتِي يُدْرِكُ زَمَانَهَا؛ فَإِنَّهَا لاَ يُقَالُ: إِنَّهَا مُرْسَلَةٌ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ سَمِعَهَا أَوْ حَضَرَهَا، وَعَائِشَةُ سَمِعَتْهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ تَحْضُرْهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهَا فِي أَثْنَاءِ الْحَدِيثِ: فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ. إِلَى قَوْلِهِ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ أَخْبَرَهَا بِذَلِكَ فَيُحْمَلُ بَقِيَّةُ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ فَلْيُتَأَمَّلْ.
قَوْلُهُ: (مِنَ الْوَحْيِ) أَيْ: إِلَى الْوَحْيِ، قَالَهُ بَعْضُهُمْ وَلاَ أَدْرِي مَا وَجْهُ عُدُولِهِ، عَنْ مَعْنَى: "مِنْ" إِلَى مَعْنَى: "إِلَى"، بَلْ هَذِهِ "مِن" الْبَيَانِيَّةِ تُبَيِّنُ أَنَّ مَا بُدِئَ بِهِ مِنَ الْوَحْيِ كَذَا وَكَذَا، وَإِلاَّ فَدَلاَئِلُ النُّبُوَّةِ قَبْلَ ذَلِكَ ظَهَرَتْ فِيهِ مِثْلَ سَمَاعِهِ مِنْ بَحِيرَا الرَّاهِبِ وَسَمَاعِهِ عِنْدَ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ: اشْدُدْ عَلَيْكَ إِزَارَكَ، وَتَسْلِيمِ الْحَجَرِ عَلَيْهِ، فَالأَوَّلُ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى، وَالثَّانِي عِنْدَ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ، والثَّالِثُ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ.
قَوْلُهُ: (الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ) وَيُرْوَى الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ وَهِيَ الَّتِي لاَ تَكُونُ أَضْغَاثًا وَلاَ مِنْ تَلْبِيسِ الشَّيْطَانِ.
قَوْلُهُ: (فِي النَّوْمِ) تَأْكِيدٌ، وَإِلاَّ فَالرُّؤْيَا مُخْتَصَّةٌ بِالنَّوْمِ، وَإِنَّمَا ابْتَدَأَ بِالرُّؤْيَا لِئَلاَّ يَفْجَأَهُ الْمَلَكُ وَيَأْتِيهِ بِصَرِيحِ النُّبُوَّةِ بَغْتَةً فَلاَ تَتَحَمَّلُهَا الْقُوَى الْبَشَرِيَّةُ فَبُدِئَ بِتَبَاشِيرِ الْكَرَامَةِ وَصِدْقِ الرُّؤْيَا اسْتِئْنَاسًا.
قَوْلُهُ: (فَلَقِ الصُّبْحِ) شَبَّهَ مَا جَاءَهُ فِي الْيَقَظَةِ وَوَجَدَهُ فِي الْخَارِجِ طِبْقًا لِمَا رَآهُ فِي الْمَنَامِ بِالصُّبْحِ فِي إِنَارَتِهِ وَوُضُوحِهِ. وَالْفَلَقُ: الصُّبْحُ، لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ اسْتِعْمَالُهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَغَيْرِهِ أُضِيفَ إِلَيْهِ لِلتَّخْصِيصِ وَالْبَيَانِ إِضَافَةَ الْعَامِّ إِلَى الْخَاصِّ، وَقَالَ الطِّيبِيُّ: لِلْفَلَقِ شَأْنٌ عَظِيمٌ، وَلِذَلِكَ جَاءَ وَصْفًا لِلَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {فَالِقِ الإِصْبَاحِ}، وَأُمِرَ بِالاسْتِعَاذَةِ بِرَبِّ الْفَلَقِ لأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنِ انْشِقَاقِ ظُلْمَةِ عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَطُلُوعِ تَبَاشِيرِ الصُّبْحِ بِظُهُورِ سُلْطَانِ الشَّمْسِ وَإِشْرَاقِهَا الآفَاقَ كَمَا أَنَّ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ مُبَشِّرَةٌ تُنْبِئُ عَنْ وُجُودِ أَنْوَارِ عَالَمِ الْغَيْبِ وَآثَارِ مَطَالِعِ الْهِدَايَاتِ.
قَوْلُهُ: الْخَلاَءُ بِالْمَدِّ الْمَكَانُ الْخَالِي وَيُرَادُ بِهِ الْخَلْوَةُ وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، وَإِنَّمَا حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ؛ لأَنَّ الْخَلْوَةَ شَأْنُ الصَّالِحِينَ وَدَأَبُ عِبَادِ اللَّهِ الْعَارِفِينَ.
قَوْلُهُ: (فَكَانَ يَلْحَقُ بِغَارِ حِرَاءٍ)، كَذَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ وَفِي بَدْءِ الْوَحْيِ تَقَدَّمَ: فَكَانَ يَخْلُو، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَكَانَ يُجَاوِرُ، وَبَسَطْنَا الْكَلاَمَ هُنَاكَ فِي غَارِ حِرَاءٍ.
قَوْلُهُ: (فَيَتَحَنَّثُ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ النُّونِ ثُمَّ التَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ، وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الْحَدِيثِ بِأَنَّهُ التَّعَبُّدُ.
قَوْلُهُ: (اللَّيَالِيَ) أُطْلِقَ اللَّيَالِي وَأُرِيدَ بِهَا اللَّيَالِي مَعَ أَيَّامِهَا عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ لأَنَّهَا أَنْسَبُ لِلْخَلْوَةِ، وَوَصْفُ اللَّيَالِي بِذَوَاتِ الْعَدَدِ لإِرَادَةِ التَّقْلِيلِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} قِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ التَّفْسِيرُ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ أَدْرَجَهُ فِي الْحَدِيثِ، وَذَلِكَ مِنْ عَادَتِهِ، إِذْ قَوْلُ عَائِشَةَ يَتَحَنَّثُ فِيهِ اللَّيَالِيَ ذَوَاتَ الْعَدَدِ، وَقَوْلُهُ: وَالتَّحَنُّثُ التَّعَبُّدُ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ كَلاَمَيْهَا. وَقَالَ التُّورِبِشْتِيُّ: قَوْلُهَا اللَّيَالِيَ ذَوَاتَ الْعَدَدِ. يَتَعَلَّقُ بِيَتَحَنَّثُ لاَ بِالتَّعَبُّدِ وَمَعْنَاهُ: يَتَحَنَّثُ اللَّيَالِيَ، وَلَوْ جُعِلَ مُتَعَلِّقًا بِالتَّعَبُّدِ فَسَدَ الْمَعْنَى؛ فَإِنَّ التَّحَنُّثَ لاَ يُشْتَرَطُ فِيهِ اللَّيَالِي بَلْ يُطْلَقُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ.
قَوْلُهُ: (قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ)، وَفِي الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ كَذَلِكَ، يُقَالُ: نَزَعَ إِلَى أَهْلِهِ إِذَا حَنَّ إِلَيْهِمْ فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ) خَصَّ خَدِيجَةَ بِالذِّكْرِ بَعْدَ أَنْ عَبَّرَ بِالأَهْلِ إِمَّا تَفْسِيرٌ بَعْدَ إِبْهَامٍ، وَإِمَّا إِشَارَةٌ إِلَى اخْتِصَاصِ التَّزَوُّدِ بِكَوْنِهِ مِنْ عِنْدِهَا دُونَ غَيْرِهَا.
قَوْلُهُ: (فَيَتَزَوَّدُ بِمِثْلِهَا) بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ فِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ، وَعِنْدَ غَيْرِهِ لِمِثْلِهَا بِاللاَّمِ، وَالضَّمِيرُ فِيهِ لِلَّيَالِي أَوِ الْخَلْوَةِ أَوْ الْمَرَّةِ السَّابِقَةِ، وَيَتَزَوَّدُ بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: يَلْحَقُ، وَهُوَ مِنَ التَّزَوُّدِ وَهُوَ اتِّخَاذُ الزَّادِ، وَلاَ يَقْدَحُ فِي التَّوَكُّلِ لِوُجُوبِ السَّعْيِ فِي إِبْقَاءِ النَّفْسِ بِمَا يُبْقِيهِ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى فَجِئَهُ الْحَقُّ) أَيْ: حَتَّى أَتَاهُ أَمْرُ الْحَقِّ بَغْتَةً وَكَذَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَفِي الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ: حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ، يُقَالُ: فَجِئَ يَفْجَأُ بِكَسْرِ الْجِيمِ فِي الْمَاضِي وَفَتْحِهَا فِي الْغَابِرِ وَفَجَأَ يَفْجَأُ بِالْفَتْحِ فِيهِمَا، وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ: الْوَحْيُ أَوْ رَسُولُ الْحَقِّ وَهُوَ جِبْرِيلُ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءَ) الْوَاوُ فِيهِ لِلْحَالِ.
قَوْلُهُ: (فَجَاءَهُ الْمَلَكُ) أَيْ: جِبْرِيلُ؛ قَالَهُ السُّهَيْلِيُّ.
قَوْلُهُ: (اقْرَأْ) هَذَا الأَمْرُ لِمُجَرَّدِ التَّنْبِيهِ وَالتَّيَقُّظِ لِمَا سَيُلْقَى إِلَيْهِ، وَقِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى بَابِهِ؛ فَيُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لاَ يُطَاقُ فِي الْحَالِ وَإِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (مَا أَنَا بِقَارِئٍ) وَيُرْوَى: مَا أُحْسِنُ أَنْ أَقْرَأَ. وَجَاءَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ إِسْحَاقَ: مَا أَقْرَأُ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي الأَسْوَدِ فِي مَغَازِيهِ أَنَّهُ قَالَ: كَيْفَ أَقْرَأُ.
قَوْلُهُ: (فَغَطَّنِي) مِنَ الْغَطِّ وَهُوَ الْعَصْرُ الشَّدِيدُ وَالضَّغْطُ، وَمِنْهُ الْغَطُّ فِي الْمَاءِ وَهُوَ الْغَوْصُ فِيهِ، وَفِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ فَغَتَّنِي بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ، وَالْغَتُّ: حَبْسُ النَّفْسِ مَرَّةً وَإِمْسَاكُ الْيَدِ أَوِ الثَّوْبِ عَلَى الْفَمِ، وَيُرْوَى فِي غَيْرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ: فَسَأَبَنِي مِنْ سَأَبْتُ الرَّجُلَ سَأْبًا إِذَا خَنَقْتَهُ وَمَادَّتُهُ سِينٌ مُهْمَلَةٌ وَهَمْزَةٌ وَبَاءٌ مُوَحَّدَةٌ، وَيُرْوَى سَأَتَنِي بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ عِوَضَ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ قَالَ أَبُو عَمْرٍو: سَأَتَهُ يَسْأَتُهُ سَأْتًا إِذَا خَنَقَهُ حَتَّى يَمُوتَ.
وَيُرْوَى: فَدَعَتَنِي مِنَ الدَّعْتِ بِفَتْحِ الدَّالِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَفِي آخِرِهِ تَاءٌ مُثَنَّاةٌ مِنْ فَوْقُ، وَقَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ: الدَّعْتُ الدَّفْعُ الْعَنِيفُ. وَيُرْوَى: ذَأَتَنِي بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، قَالَ أَبُو زَيْدٍ ذَأَتَهُ إِذَا خَنَقَهُ أَشَدَّ الْخَنْقِ حَتَّى أَدْلَعَ لِسَانَهُ، وَيُقَالُ: غَطِّنِي وَغَتَّنِي وَضَغَطَنِي وَعَصَرَنِي وَغَمَزَنِي وَخَنَقَنِي كُلُّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
قَوْلُهُ: (حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ) يَجُوزُ فِيهِ فَتْحُ الْجِيمِ وَضَمُّهَا وَهُوَ الْغَايَةُ وَالْمَشَقَّةُ، وَيَجُوزُ نَصْبُ الدَّالِ عَلَى مَعْنَى بَلَغَ جِبْرِيلُ مِنِّي الْجُهْدَ، وَالرَّفْعُ عَلَى مَعْنَى بَلَغَ الْجُهْدُ مَبْلَغَهُ وَغَايَتَهُ، وَالْحِكْمَةُ فِي الْغَطِّ شَغْلُهُ عَنِ الالْتِفَاتِ، وَالْمُبَالَغَةُ فِي أَمْرِهِ بِإِحْضَارِ قَلْبِهِ لِمَا يَقُولُهُ، وَكَرَّرَهُ ثَلاَثًا مُبَالَغَةً فِي التَّنْبِيهِ.
قَوْلُهُ: (فَرَجَعَ بِهَا) أَيْ: بِسَبَبِ تِلْكَ الضَّغْطَةِ.
قَوْلُهُ: (تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ) وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: فُؤَادُهُ أَيْ: يَضْطَرِبُ بَوَادِرُهُ بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، وَهِيَ اللُّحْمَةُ الَّتِي بَيْنَ الْكَتِفِ وَالْعُنُقِ تَرْجُفُ عِنْدَ الْفَزَعِ.
قَوْلُهُ: (زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) هَكَذَا هُوَ فِي الرِّوَايَاتِ بِالتَّكْرَارِ وَهُوَ مِنَ التَّزْمِيلِ وَهُوَ التَّلْفِيفُ، وَالتَّزَمُّلُ: الاشْتِمَالُ وَالتَّلَفُّفُ، وَمِثْلُهُ التَّدَثُّرُ.
قَوْلُهُ: (الرَّوْعُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ وَهُوَ الْفَزَعُ وَأَمَّا الَّذِي بِضَمِّ الرَّاءِ فَهُوَ مَوْضِعُ الْفَزَعِ مِنَ الْقَلْبِ.
قَوْلُهُ: (أَيْ خَدِيجَةُ) يَعْنِي: يَا خَدِيجَةُ.
قَوْلُهُ: (لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي) قَالَ عِيَاضٌ: لَيْسَ هُوَ بِمَعْنَى الشَّكِّ فِيمَا آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى، لَكِنَّهُ رُبَّمَا خَشِيَ أَنَّهُ لاَ يَقْوَى عَلَى مُقَاوَمَتِهِ هَذَا الأَمْرَ وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِ أَعْبَاءِ الْوَحْيِ فَتَزْهَقُ نَفْسُهُ.
قَوْلُهُ: (كَلاَّ) مَعْنَاهُ النَّفْيُ وَالرَّدْعُ، عَنْ ذَلِكَ الْكَلاَمِ وَالْمُرَادُ هُنَا التَّنْزِيهُ عَنْهُ وَهَذَا أَحَدُ مَعَانِيهَا.
قَوْلُهُ: (لاَ يُخْزِيكَ)، مِنَ الْخِزْيِ وَهُوَ الْفَضِيحَةُ وَالْهَوَانُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ مَعْمَرٍ: لاَ يُحْزِنُكَ مِنَ الْحُزْنِ وَقَالَ الْيَزِيدِيُّ: أَخْزَاهُ لُغَةُ تَمِيمٍ وَأَحْزَنَهُ لُغَةُ قُرَيْشٍ.
قَوْلُهُ: (الْكَلَّ)، بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ اللاَّمِ وَهُوَ الثِّقَلُ وَأَصْلُهُ مِنَ الْكَلاَلِ وَهُوَ الإِعْيَاءُ أَيْ: تَرْفَعُ الثِّقَلَ أَرَادَتْ تُعِينُ الضَّعِيفَ الْمُنْقَطِعَ وَالْيَتِيمَ وَالْعَيَّالَ.
قَوْلُهُ: (وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ) بِفَتْحِ التَّاءِ هُوَ الْمَشْهُورُ وَالصَّحِيحُ فِي الرِّوَايَةِ وَالْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ، وَرُوِيَ بِضَمِّهَا وَفِي مَعْنَى الْمَضْمُومِ قَوْلاَنِ: أَصَحُّهُمَا: مَعْنَاهُ تُكْسِبُ غَيْرَكَ الْمَالَ، الْمَعْدُومَ أَيْ: تُعْطِيهِ لَهُ تَبَرُّعًا. ثَانِيهِمَا: تُعْطِي النَّاسَ مَا لاَ يَجِدُونَهُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْفَوَائِدِ وَمَكَارِمِ الأَخْلاَقِ، يُقَالُ: كَسَبْتُ مَالاً وَأَكْسَبْتُ غَيْرِي مَالاً وَفِي مَعْنَى الْمَفْتُوحِ قَوْلاَنِ أَصَحُّهُمَا أَنَّ مَعْنَاهُ كَمَعْنَى الْمَضْمُومِ، وَالأَوَّلُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ، وَالثَّانِي أَنَّ مَعْنَاهُ تَكْسِبُ الْمَالَ وَتُصِيبُ مِنْهُ مَا يَعْجِزُ غَيْرُكَ عَنْ تَحْصِيلِهِ ثُمَّ تَجُودُ بِهِ وَتُنْفِقُهُ فِي وُجُوهِ الْمَكَارِمِ.
قَوْلُهُ: (وَتَقْرِي الضَّيْفَ) بِفَتْحِ التَّاءِ، تَقُولُ: قَرَيْتُ الضَّيْفَ أَقْرِيهِ قِرًى بِكَسْرِ الْقَافِ وَالْقَصْرِ، وَقَرَاهُ بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ.
قَوْلُهُ: (عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ)، النَّوَائِبُ جَمْعُ نَائِبَةٍ وَهِيَ الْحَادِثَةُ وَالنَّازِلَةُ خَيْرًا أَوْ شَرًّا، وَإِنَّمَا قَالَ: الْحَقِّ لأَنَّهَا تَكُونُ فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.
قَوْلُهُ: (وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ) قَدْ بَسَطْتُ الْكَلاَمَ فِيهِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ.
قَوْلُهُ: (هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أُنْزِلَ) عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَتَقَدَّمَ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ أَنْزَلَ اللَّهُ، وَالنَّامُوسُ -بِالنُّونِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ- هُوَ صَاحِبُ السِّرِّ وَقَالَ ابْنُ سِيدَهْ: النَّامُوسُ: السِّرُّ، وَقَالَ صَاحِبُ الْغَرِيبَيْنِ: هُوَ صَاحِبُ سِرِّ الْمَلِكِ، وَقَالَ ابْنُ ظَفَرٍ فِي شَرْحِ الْمَقَامَاتِ: صَاحِبُ سِرِّ الْخَيْرِ نَامُوسٌ، وَصَاحِبُ سِرِّ الشَّرِّ جَاسُوسٌ، وَقَدْ سَوَّى بَيْنَهُمَا رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ الصَّحِيحُ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلِ الصَّحِيحُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا نَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْغَرِيبِ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْحِكْمَةَ فِي قَوْلِ وَرَقَةَ: نَامُوسُ مُوسَى وَلَمْ يَقُلْ: عِيسَى مَعَ أَنَّهُ كَانَ تَنَصَّرَ.
قَوْلُهُ: (لَيْتَنِي فِيهَا) أَيْ: فِي أَيَّامِ الدَّعْوَةِ أَوِ الدَّوْلَةِ.
قَوْلُهُ: (جَذَعًا) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ: الشَّابُّ الْقَوِيُّ.
قَوْلُهُ: (وَذَكَرَ حَرْفًا) أَيْ: وَذَكَرَ وَرَقَةُ بَعْدَ ذَلِكَ كَلِمَةً أُخْرَى وَهِيَ فِي الرِّوَايَاتِ الأُخَرِ: إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ أَيْ: يَوْمَ إِخْرَاجِكَ أَوْ يَوْمَ دَعْوَتِكَ.
قَوْلُهُ: (أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ ؟!) جُمْلَةٌ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَهُوَ قَوْلُهُ: هُمْ، وَالْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: مُخْرِجِيَّ.
قَوْلُهُ: (مُؤَزَّرًا) بِلَفْظِ اسْمِ الْمَفْعُولِ مِنَ التَّأْزِيرِ أَيِ: التَّقْوِيَةِ، وَالأَزْرُ: الْقُوَّةُ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ) بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ: لَمْ يَلْبَثْ.
قَوْلُهُ: (وَفَتَرَ الْوَحْيُ) أَيِ: احْتَبَسَ.
قَوْلُهُ: (وَحَزِنَ) بِكَسْرِ الزَّايِ.

- قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: بَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ، جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، فَفَزِعْتُ مِنْهُ فَرَجَعْتُ فَقُلْتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَدَثَّرُوهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} -قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَهِيَ الأَوْثَانُ الَّتِي كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْبُدُونَ- قَالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ الْوَحْيُ.
هَذَا مَوْصُولٌ بِالإِسْنَادَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ هُوَ الزُّهْرِيُّ.
قَوْلُهُ: (فَأَخْبَرَنِي) مَعْطُوفٌ عَلَى مَحْذُوفٍ وَالتَّقْدِيرُ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بِمَا تَقَدَّمَ، وَأَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.
قَوْلُهُ: (أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) وَهَذَا أَيْضًا مُرْسَلُ الصَّحَابِيِّ؛ لأَنَّ جَابِرًا لَمْ يُدْرِكْ زَمَانَ الْقِصَّةِ، وَلَكِنْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَوْ مِنْ صَحَابِيٍّ آخَرَ قَدْ حَضَرَهَا.
قَوْلُهُ: (فَرَفَعْتُ رَأْسِي) وَيُرْوَى: فَرَفَعْتُ بَصَرِي.
قَوْلُهُ: (فَفَزِعْتُ مِنْهُ) كَذَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: فَجُئِثْتُ مِنْهُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ مِنْ جَأَثَ الرَّجُلُ إِذَا فَزِعَ فَهُوَ مَجْؤُوثٌ، وَيُرْوَى: فَجُثِثْتُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَكَسْرِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ الأُولَى، وَيُرْوَى: فَرُعِبْتُ مِنْهُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ عَلَى صِيغَةِ الْمَجْهُولِ، وَرِوَايَةُ الأَصِيلِيِّ: رَعُبْتُ بِفَتْحِ الرَّاءِ وَضَمِّ الْعَيْنِ مِنَ الرُّعْبِ وَهُوَ الْخَوْفُ، وَيُرْوَى: فَفَرِقْتُ؛ بِالْفَاءِ وَالرَّاءِ وَالْقَافِ مِنَ الْفَرَقِ بِالتَّحْرِيكِ وَهُوَ الْخَوْفُ وَالْفَزَعُ، يُقَالُ: فَرِقَ يَفْرَقُ مِنْ بَابِ عَلِمَ يَعْلَمُ فَرَقًا.
قَوْلُهُ: (وَهِيَ الأَوْثَانُ)، جَمْعُ وَثَنٍ، وَإِنَّمَا أَنَّثَ الضَّمِيرَ الرَّاجِعَ إِلَى الرُّجْزِ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ، وَقَدْ مَرَّ فِي تَفْسِيرِ الْمُدَّثِّرِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ تَتَابَعَ الْوَحْيُ) أَيِ: اسْتَمَرَّ). [عمدة القاري: 19 / 303-307]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : (هذا بابٌ بِالتَّنْوِينِ بِدُونِ تَرْجَمَةٍ وهو ثابتٌ لأَبِي ذَرٍّ. وبه قَالَ: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ) الْقُرَشِيُّ الْمِصْرِيُّ وَنَسَبَهُ لِجَدِّهِ لِشُهْرَتِهِ به، واسْمُ أَبِيهِ عَبْدُ اللَّهِ، وَسَقَطَ: ابْنُ بُكَيْرٍ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: (حَدَّثَنَا اللَّيْثُ) بْنُ سَعْدٍ الإِمَامُ الْمِصْرِيُّ (عَنْ عُقَيْلٍ) بِضَمِّ الْعَيْنِ مُصَغَّرًا ابْنِ خَالِدٍ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزُّهْرِيِّ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: (وَحَدَّثَنِي) بالإفرادِ، وَسَقَطَتِ الْوَاوُ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ (سَعِيدُ بْنُ مَرْوَانَ) بكَسْرِ الْعَيْنِ أَبُو عُثْمَانَ الْبَغْدَادِيُّ نَزِيلُ نَيْسَابُورَ قَالَ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي رِزْمَةَ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الزَّايِ قَالَ: (أَخْبَرَنَا أَبُو صَالِحٍ) سُلَيْمَانُ وَلَقَبُهُ (سَلَمَوَيْهِ) بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ واللاَّمِ وَسَكَّنَهَا أَبُو ذَرٍّ بْنُ صَالِحٍ اللَّيْثِيُّ الْمَرْوَزِيُّ قَالَ: (حَدَّثَنِي) بالإفرادِ (عَبْدُ اللَّهِ) بْنُ الْمُبَارَكِ (عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ) من الزِّيَادَةِ أَنَّهُ (قَالَ: أَخْبَرَنِي) بالإفرادِ (ابْنُ شِهَابٍ) الزُّهْرِيُّ (أنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ) بْنِ الْعَوَّامِ (أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (قَالَتْ) واللَّفْظُ لِلسَّنَدِ الثَّانِي: (كَانَ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) زَادَ في بَدْءِ الْوَحْيِ: مِنَ الْوَحْيِ (الرُّؤْيَا الصَّادِقَةَ فِي النَّوْمِ) وعَائِشَةُ لَمْ تُدْرِكْ ذلك، فَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا سَمِعَتْ ذَلِكَ منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهَا الآتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ إلخ، وفي بَابِ بَدْءِ الْوَحْيِ: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ في النَّوْمِ (فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلاَّ جَاءَتْ) مَجِيئًا (مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ) عَبَّرَ به؛ لأنَّ شَمْسَ النُّبُوَّةِ قد كَانَتْ مَبَادِئُ أَنْوَارِهَا الرُّؤْيَا إلى أن ظَهَرَتْ أَشِعَّتُهَا وتَمَّ نُورُهَا، (ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ) بِالمَدِّ أي: الاختلاءُ؛ لأنَّ فيه فَراغَ الْقَلْبِ والانْقِطَاعَ عنِ الْخَلْقِ، (فَكَانَ يَلْحَقُ) بِفَتْحِ الحَاءِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَ اللاَّمِ السَّاكِنَةِ آخِرُهُ قَافٌ، وَفِي بَدْءِ الْوَحْيِ: يَخْلُو، ولابْنِ إِسْحَاقَ: يُجَاوِرُ (بِغَارِ حِرَاءٍ) بِالصَّرْفِ على إِرَادَةِ الْمَكَانِ؛ جَبَلٌ على يَسارِ الذَّاهِبِ إلى مِنًى، (فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ) بِالْمُثَلَّثَةِ بَعْدَ النُّونِ (قَالَ) عُرْوَةُ أو مَنْ دُونَهُ مِن الرُّوَاةِ: (وَالتَّحَنُّثُ) هو (التَّعَبُّدُ اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ) مع أَيَّامِهِنَّ، واقْتَصَرَ عَلَى اللَّيَالِي؛ لأنَّهُنَّ أَنْسَبُ لِلْخَلْوَةِ، وَزَادَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ عِنْدَ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَيُطْعِمُ مَنْ يَرِدُ عليه مِنَ الْمَسَاكِينِ، وَعِنْدَهُ أَيْضًا: إنَّهُ كَانَ يَعْتَكِفُ فيه شَهْرَ رَمَضَانَ (قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ) عِيَالِهِ (وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ) التَّعَبُّدِ أو الخَلْوَةِ، (ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ بِمِثْلِهَا) بِالْمُوَحَّدَةِ، ولأَبِي ذَرٍّ عنِ الْحَمَوِيِّ والْمُسْتَمْلِىِّ: لِمِثْلِهَا باللاَّمِ بَدَلَ الْمُوَحَّدَةِ، والضَّمِيرُ لِلَّيَالِي، أو الخَلوةِ، أو العبادةِ، أو المرَّةِ السَّابِقَةِ. وَيُحْتَمَلُ أن يَكُونَ الْمُرَادُ أن يَتَزَوَّدَ لِمِثْلِهَا إِذَا حَالَ الْحَوْلُ وَجَاءَ ذلك الشَّهْرُ الَّذِي جَرَتْ عَادَتُهُ أن يَخْلُوَ فيه. قَالَ في الْفَتْحِ: وهذا عِنْدِي أَظْهَرُ (حَتَّى فَجِئَهُ) بِكَسْرِ الْجِيمِ أي: أَتَاهُ (الْحَقُّ) وهو الْوَحْيُ مُفَاجَأَةً (وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ) جُمْلَةٌ في موضِعِ الحالِ، (فَجَاءَهُ الْمَلَكُ) جِبْرِيلُ (فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ) مَا: نافيةٌ، واسمُها: أَنَا، وخَبَرُهَا بِقَارِئٍ؛ أي: ما أُحْسِنُ أَنْ أَقْرَأَ. (قَالَ: فَأَخَذَنِي) جِبْرِيلُ (فَغَطَّنِي) أي: ضَمَّنِي وَعَصَرَنِي (حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ) بِفَتْحِ الْجِيمِ والنَّصْبِ أي: بَلَغَ الْغَطُّ مِنِّي الْجَهْدَ، وبِضَمِّ الْجِيمِ والرَّفْعِ؛ أي: بَلَغَ الْجَهْدُ مَبْلَغَهُ، (ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ) وَإِنَّمَا فَعَلَ به ذلك لِيُفْرِغَهُ عن النَّظَرِ إلى أمْرِ الدُّنْيَا وَيُقْبِلَ بِكُلِّيَّتِهِ إلى ما يُلْقَى إليه، (ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: لعلَّ الْحِكْمَةَ في تكريرِ الإقرَاءِ الإشارَةُ إلى انْحِصَارِ الإيمانِ الَّذِي يَنْشَأُ الْوَحْيُ بسببِهِ في ثلاثٍ: الْقَوْلِ، وَالْعَمَلِ، والنِّيَّةِ، وإنَّ الْوَحْيَ يَشْتَمِلُ على ثلاثٍ: التَّوْحِيدِ والأحكامِ، والقَصَصِ، وفي تكريرِ الْغَطِّ الإشارةُ إلى الشَّدَائِدِ الثَّلاَثِ التي وَقَعَتْ له عليه الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ وهي: الْحَصْرُ في الشِّعْبِ، وخُرُوجُهُ في الهجرةِ، وما وَقَعَ يَوْمَ أُحُدٍ، وفي الإِرْسَالاتِ الثَّلاَثِ إلى حُصُولِ التَّيْسِيرِ له عَقِبَ الثَّلاَثِ الْمَذْكُورَةِ. (الَّذِي خَلَقَ) الْخَلاَئِقَ (خَلَقَ الإِنْسَانَ) الْجِنْسَ (مِنْ عَلَقٍ) جَمْعُ عَلَقَةٍ، وهي القطعةُ الْيَسِيرَةُ من الدَّمِ الْغَلِيظِ {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} الَّذِي لا يُوَازِيهِ كَرِيمٌ ولا يُعَادِلُهُ في الْكَرَمِ نَظِيرٌ. {الَّذِي عَلَّمَ} الْخَطَّ (بِالْقَلَمِ) قَالَ قَتَادَةُ: الْقَلَمُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عظيمةٌ، لَوْلا ذلك لم يَقُمْ دِينٌ، ولم يَصْلُحْ عَيْشٌ {عَلَّمَ الإِنْسَانَ} مِنَ العلومِ والخَطِّ والصِّناعاتِ {مَا لَمْ يَعْلَمْ} الآيَاتِ، قبلَ تعليمِهِ، وَسَقَطَ لأَبِي ذَرٍّ قَوْلُهُ: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} وَقَالَ: الآياتِ إلى قَوْلِهِ: عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، وهي خمسُ آياتٍ وتَالِيهَا إلى آخِرِهَا، نَزَلَ في أَبِي جَهْلٍ، وَضَمَّ إِلَيْهَا (فَرَجَعَ بِهَا) أي بالآياتِ الْخَمْسِ، أو بسببِ تلك الْغَطَّةِ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ) جَمْعُ بَادِرَةٍ وهي اللَّحْمَةُ الَّتِي بين الْكَتِفِ والْعُنُقِ تَضْطَرِبُ عند الْفَزَعِ، ولأَبِي ذَرٍّ عن الْكُشْمِيهَنِيِّ: فُؤَادُهُ أي: قَلْبُهُ (حَتَّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) مَرَّتَيْنِ لِلْحَمَوِيِّ والْمُسْتَمْلِيِّ مِنَ التَّزْمِيلِ وهو التَّلْفِيفُ، وطَلَبَ ذلك؛ لِيَسْكُنَ ما حَصَلَ له مِن الرِّعْدَةِ مِن شِدَّةِ هَوْلِ الأمْرِ وَثِقَلِهِ، (فَزَمَّلُوهُ) بِفَتْحِ الْمِيمِ كما أَمَرَهُمْ (حَتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ أي: الْفَزَعُ (قَالَ لِخَدِيجَةَ: أَيْ خَدِيجَةُ، مَا لِي لَقَدْ) ولأَبِي ذَرٍّ عن الْكُشْمِيهَنِيِّ: قد (خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي) أنْ لا أُطِيقَ حَمْلَ أَعْبَاءِ الْوَحْيِ لِمَا لَقِيتُهُ عِنْدَ لِقَاءِ الْمَلَكِ (فَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ قَالَتْ خَدِيجَةُ) له عليه الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ: (كَلاَّ) أي: لا خَوْفَ عَلَيْكَ (أَبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لاَ يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ والزَّايِ الْمَكْسُورَةِ، وفي مُرْسَلِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ: أَبْشِرْ يَا ابْنَ عَمِّ، واثْبُتْ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونَ نَبِيَّ هَذِهِ الأُمَّةِ، (فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ) أي: القرابَةَ، (وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِ اللاَّمِ؛ الضَّعِيفَ الْمُنْقَطِعَ وَالْيَتِيمَ (وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ) بفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ السِّينِ تُعْطِي النَّاسَ ما لا يَجِدُونَهُ عند غَيْرِكَ (وَتَقْرِي الضَّعِيفَ) بِفَتْحِ أَوَّلِهِ من الثُّلاَثِيِّ (وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ) حَوَادِثِهِ (فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ) مُصَاحِبَةً له (حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ) أيِ ابْنَ أَسَدٍ (وَهُوَ ابْنُ عَمِّ خَدِيجَةَ أَخِي) ولأَبِي ذَرٍّ: أَخُو (أَبِيهَا)؛ لأنَّهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدٍ، وهي خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ، (وَكَانَ) وَرَقَةُ (امْرَأً تَنَصَّرَ في الجاهِلِيَّةِ، وكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيَّ وَيَكْتُبُ مِن الإنْجِيلِ بالْعَرَبِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أن يَكْتُبَ) أي: كِتَابَتَهُ وذلك لِتَمَكُّنِهِ في دِينِ النَّصَارَى وَمَعْرِفَتِهِ بِكِتَابِهِمْ، (وَكَانَ) وَرَقَةُ (شَيْخًا كَبِيرًا) حَالَ كَوْنِهِ (قَدْ عَمِيَ فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: يَا عَمِّ) ولأَبِي ذَرٍّ: يا ابْنَ عَمِّ، (اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ) تَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأَنَّ الأبَ الثَّالِثَ لِوَرَقَةَ هو الأخُ للأبِ الرَّابعِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيِ: اسْمَعْ منه الَّذِي يَقُولُه (قَالَ) له عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ (وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي، مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرَ مَا رَأَى فَقَالَ) له وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ) أي: جِبْرِيلُ (الَّذِي أُنْزِلَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ (عَلَى مُوسَى) وفي روايَةِ الزُّبَيْرِ بْنِ بَكَّارٍ: على عِيسَى. وقد سَبَقَ في بَدْءِ الْوَحْيِ مَبْحَثُ ذلك. (لَيْتَنِي) وفي بَدْءِ الْوَحْيِ: يَا لَيْتَنِي، بِأَدَاةِ النِّدَاءِ (فِيهَا) في مُدَّةِ النُّبُوَّةِ أو الدَّعْوَةِ (جَذَعًا) بفَتْحِ الجيمِ والمُعْجَمَةِ أي: لَيْتَنِي شَابٌّ فيها، (لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا)، ذَكَرَ وَرَقَةُ بعد ذلك (حَرْفًا) وهي في الروايَةِ الأُخْرَى: إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ أي: من مَكَّةَ (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟) بِفَتْحِ الْوَاوِ وتشديدِ التَّحْتِيَّةِ، وهم: مُبتَدَأٌ، وَمُخْرِجِيَّ: خَبَرُهُ مُقَدَّمًا، وقَدَّمَ الْهَمْزَةَ على العاطِفِ؛ لأنَّ الاستفهامَ له الصَّدْرُ؛ نحوُ: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا} والاسْتِفْهَامُ للإنْكَارِ، وَبَقِيَّةُ الْمَبَاحِثِ سَبَقَتْ أَوَّلَ الْكِتَابِ (قَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ بِمَا جِئْتَ بِهِ) مِن الْوَحْيِ (إِلاَّ أُوذِيَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وكسرِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وفي بَدْءِ الْوَحْيِ: إلا عُودِيَ (وإِنْ يُدْرِكْنِي) بِالْجَزْمِ بإِنِ الشَّرْطِيَّةِ (يَوْمُكَ) فَاعِلُ يُدْرِكْنِي أي: يَوْمَ انْتِشَارِ نُبُوَّتِكَ (حَيًّا أَنْصُرْكَ) بِالْجَزْمِ جَوَابُ الشَّرْطِ (نَصْرًا مُؤَزَّرًا) قَوِيًّا بَلِيغًا صِفَةٌ لِنَصْرًا الْمَنْصُوبِ على الْمَصْدَرِيَّةِ، (ثُمَّ لَمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ) لم يَلْبَثْ (أَنْ تُوُفِّيَ وَفَتَرَ الْوَحْيُ) أيِ: احْتَبَسَ (فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ) وللْحَمَوِيِّ: النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) زَادَ في التَّعْبِيرِ من طريقِ مَعْمَرٍ عنِ الزُّهْرِيِّ فيما بَلَغَنَا: حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى من رُؤُوسِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذُرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ مِنْهُ نَفْسَهُ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا فَيَسْكُنُ لذلك جَأْشُهُ، وتَقَرُّ نَفْسُهُ، فَيَرْجِعُ فإذا طَالَتْ عليه فَتْرَةُ الْوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذلك، فإذا أَوْفَى بِذُرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى له جِبْرِيلُ فَقَالَ له مِثْلَ ذلك. وهذه الزِّيَادَةُ خَاصَّةٌ برِوايَةِ مَعْمَرٍ، والْقَائِلُ فيما بَلَغَنِي: الزُّهْرِيُّ، ولَيْسَ مَوْصُولاً، نَعَمْ يُحْتَمَلُ أن يَكُونَ بَلَغَهُ بالإسنادِ المذكورِ وسَقَطَ قَوْلُهُ: فيما بَلَغَنَا، عند ابْنِ مَرْدَوَيْهِ في تَفْسِيرِهِ مِن طريقِ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ عن مَعْمَرٍ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: والأوَّلُ هو الْمُعْتَمَدُ، وقَوْلُهُ: غَدَا بِالْغَيْنِ المُعجَمةِ مِن الذَّهَابِ غُدْوَةً، أو بِالْعَيْنِ المُهمَلَةِ من الْعَدْوِ، وهو الذَّهَابُ بِسُرْعَةٍ، وأمَّا إِرَادَتُهُ عليه الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ إِلْقَاءَ نَفْسِهِ من رُؤُوسِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ فَحُزْنًا على ما فَاتَهُ مِن الأمرِ الَّذِي بَشَّرَهُ به وَرَقَةُ، وَحَمَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ على أَنَّهُ لِمَا أَخْرَجَهُ مِنْ تَكْذِيبِ مَنْ بَلَّغَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} أَوْ خَافَ أنَّ الْفَتْرَةَ لأمْرٍ أو سَبَبٍ مِنْهُ، فَخَشِيَ أَنْ يُكَونَ عُقُوبَةً مِنْ رَبِّهِ، فَفَعَلَ ذلك بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَرِدْ بَعْدُ شَرْعٌ عن ذلك فَيُعْتَرَضُ بِهِ، وَأَمَّا ما رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِهِمْ أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ -وَذَكَرَ جِوَارَهُ بِحِرَاءٍ- قَالَ: (فَجَاءَنِي وَأَنَا نَائِمٌ فَقَالَ: اقْرَأْ، وَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها في غَطِّهِ له وإِقْرَائِهِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ قَالَ: فَانْصَرَفَ عَنِّي وَهَبَبْتُ من نَوْمِي كَأَنَّمَا صُوِّرَتْ فِي قَلْبِي وَلَمْ يَكُنْ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ شَاعِرٍ أَوْ مَجْنُونٍ ثُمَّ قُلْتُ: لاَ تُحَدِّثُ عَنِّي قُرَيْشٌ بِهَذَا أَبَدًا لأَعْمِدَنَّ إِلَى حَالِقٍ مِنَ الْجَبَلِ، فَلأََطْرَحَنَّ نَفْسِي مِنْهُ فَلأََقْتُلَنَّهَا. فَأَجَابَ عَنْهُ الْقَاضِي بِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ قَبْلَ لِقَائِهِ جِبْرِيلَ وقَبْلَ إِعْلاَمِ اللَّهِ له بالنُّبُوَّةِ وإِظْهَارِهِ واصْطِفَائِهِ بِالرِّسَالَةِ، نَعَمْ خَرَّجَ الطَّبَرِيُّ من طريقِ النُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أنَّ ذلك بَعْدَ لِقَاءِ جِبْرِيلَ، فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الْبَابِ، وفيه فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا قَالَ: (فَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَطْرَحَ نَفْسِي مِنْ حَالِقِ جَبَلٍ) أي عُلُوِّهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ لِضَعْفِ قُوَّتِهِ عن تَحَمُّلِ ما حُمِّلَهُ مِنْ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ وَخَوْفًا مما يَحْصُلُ له من الْقِيَامِ بها من مُبَايَنَةِ الْخَلْقِ جَمِيعًا، كما يَطْلُبُ الرَّجُلُ إِلَى أَخِيهِ مِن غَمٍّ يَنَالُهُ في الْعَاجِلِ ما يَكُونُ فيه زَوَالُهُ عنه وَلَوْ أَفْضَى إلى إِهْلاكِ نَفْسِهِ عَاجِلاً (قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ) الزُّهْرِيُّ بالإسنادِ الأوَّلِ من السَّنَدَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ أوَّلَ هذا الْبَابِ: (فَأَخْبَرَنِي) بالإفرادِ عُرْوَةُ بما سَبَقَ، وَأَخْبَرَنِي (أَبُو سَلَمَةَ عَبْدُ الرَّحْمِن) بْنُ عَوْفٍ وَسَقَطَ ابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِغَيْرِ أَبِي ذَرٍّ (أَنَّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُحَدِّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ) وَلَمْ يُدْرِكْ جَابِرٌ زَمَانَ الْقِصَّةِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ على أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (قَالَ في حَدِيثِهِ: بَيْنَا) بِغَيْرِ مِيمٍ (أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ) وفي بَدْءِ الْوَحْيِ: إِذْ سَمِعْتُ (صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ فَرَفَعْتُ بَصَرِي) ولأَبِي ذَرٍّ عنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: رَأْسِي (فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ) هو جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ (جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) وَجَالِسٌ رَفْعٌ خَبَرٌ عَنِ الْمَلَكِ (فَفَرِقْتُ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَسُكُونِ الْقَافِ أي: خِفْتُ (مِنْهُ فَرَجَعْتُ) إلى أهْلِي بسببِ الْفَرَقِ (فَقُلْتُ) لَهُمْ: (زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) مَرَّتَيْنِ (فَدَثَّرُوهُ) بالهاءِ (فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}) عن النَّجَاسَةِ أو قَصِّرْهَا {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} دُمْ على هَجْرِهَا (قَالَ أَبُو سَلَمَةَ) بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِالسَّنَدِ السَّابِق (و) الرُّجْزُ (هي الأَوْثَانُ الَّتِي كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَعْبُدُونَ)ها (قَالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ الْوَحْيُ) وأَنَّثَ ضَمِيرَ الرُّجْزَ بِقَوْلِهِ وهي اعْتِبَارًا بِالْجِنْسِ). [إرشاد الساري: 7 / 425-428]

قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : (باب قوله: {خلق الإنسان من علقٍ} [العلق: 2]
- حدّثنا ابن بكيرٍ، حدّثنا اللّيث، عن عقيلٍ، عن ابن شهابٍ، عن عروة، أنّ عائشة رضي اللّه عنها، قالت: " أوّل ما بدئ به رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم الرّؤيا الصّالحة، فجاءه الملك فقال: {اقرأ باسم ربّك الّذي خلق (1) خلق الإنسان من علقٍ (2) اقرأ وربّك الأكرم} [العلق: 2] "). [صحيح البخاري: 6 / 174]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ) : (قولُهُ: (بَابٌ قولُهُ: خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) ذَكَرَ فيه طَرَفًا من الحديثِ الذي قَبْلَهُ بروايةِ عَقِيلٍ عنِ ابنِ شهابٍ واختصَرَهُ جِدًّا، قَالَ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ به رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَليَهِ وسَلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ. وفي رِوَايَةِ الكُشْمِيهَنِيِّ: الصَّادِقَةُ، قَالَ: فَجَاءَهُ المَلَكُ فقالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} وهذا في غايةِ الإِجْحَافِ، ولا أَظُنُّ يَحْيَى بنَ بُكَيْرٍ حَدَّثَ البُخارِيَّ به هكذا، ولا كان له هَذَا التَّصَرُّفُ، وإنما هَذَا صَنِيعُ البُخارِيِّ وهُو دالٌّ على أنه كانَ يُجِيزُ الاختصارَ مِنَ الحديثِ إلى هذه الغايةِ). [فتح الباري: 8 / 723]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : (بَابٌ قَوْلُهُ: {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ}
أَيْ: هَذَا بَابٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} وَأَرَادَ بِالإِنْسَانِ بَنِي آدَمَ؛ لأَنَّ بَنِي آدَمَ خَلْقُهُمْ مِنْ عَلَقٍ وَهُوَ جَمْعُ عَلَقَةٍ، وَهُوَ الدَّمُ الْجَامِدُ وَهُوَ أَوَّلُ مَا تَتَحَوَّلُ إِلَيْهِ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ، وَإِنَّمَا جَمَعَ الإِنْسَانَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالإِنْسَانِ آدَمَ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ مِنْ عَلَقٍ مِنْ طِينٍ يَعْلَقُ بِالْكَفِّ.
ـ حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ}.
ابْنُ بُكَيْرٍ هُوَ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْن بُكَيْرٍ، وَهَذَا طَرَفٌ مِنَ الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ بِرِوَايَةِ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ.
قَوْلُهُ: (الصَّالِحَةُ) وَفِي رِوَايَةِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: الصَّادِقَةُ، وَقَدْ مَرَّ الْكَلاَمُ فِيهِ). [عمدة القاري: 19 / 307]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : ( (قَوْلُهُ) جَلَّ وَعَلا: (خَلَقَ) ولأَبِي ذَرٍّ: بَابُ خَلَقَ (الإِنْسَانِ مِنْ عَلَقٍ) وبه قَالَ: (حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ) يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمِصْرِيُّ قَالَ: (حَدَّثَنَا اللَّيْثُ) بْنُ سَعْدٍ الإمَامُ (عَنْ عُقَيْلٍ) بِضَمِّ الْعَيْنِ بْنِ خَالِدٍ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزُّهْرِيِّ، (عَنْ عُرْوَةَ) بْنِ الزُّبَيْرِ (أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أَوَّلُ) ولأَبِي ذَرٍّ: عَنْ عَائِشَةَ: أَوَّلُ (مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أَيْ مِنَ الْوَحْيِ (الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ) ولأَبِي ذَرٍّ عنِ الْكُشْمِيهَنِيِّ: الصَّادِقَةُ، زَادَ فِي رِوَايَةٍ: فِي النَّوْمِ وهِيَ تَأْكِيدٌ، وَإِلاَّ فَالرُّؤْيَا مُخْتَصَّةٌ بِالنَّوْمِ (فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} وَاسْتَنْبَطَ السُّهَيْلِيُّ من هذا الأمْرِ ثُبُوتَ الْبَسْمَلَةِ في أَوَّلِ الْفَاتِحَةِ، لأنَّ هذا الأمْرَ هو أوَّلُ شَيْءٍ نَزَلَ من الْقُرْآنِ فَأَوْلَى مَوَاضِعِ امتثالِهِ أَوَّلُ القرآنِ). [إرشاد الساري: 7 / 428]

قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : (باب قوله: {اقرأ وربّك الأكرم} [العلق: 3]
- حدّثنا عبد اللّه بن محمّدٍ، حدّثنا عبد الرّزّاق، أخبرنا معمرٌ، عن الزّهريّ، ح وقال اللّيث: حدّثني عقيلٌ، قال محمّدٌ: أخبرني عروة، عن عائشة رضي اللّه عنها، " أوّل ما بدئ به رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم الرّؤيا الصّادقة جاءه الملك، فقال: {اقرأ باسم ربّك الّذي خلق (1) خلق الإنسان من علقٍ (2) اقرأ وربّك الأكرم (3) الّذي علّم بالقلم} [العلق: 2] "). [صحيح البخاري: 6 / 174]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ) : (قولُهُ: (بَابٌ قولُهُ: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ}.
حَدَّثَنَا عبدُ اللهِ بنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عن الزُّهْرِيِّ ح وقَالَ الليثُ: حَدَّثَنِي عَقِيلٌ قَالَ: قال مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ) أما روايةُ مَعْمَرٍ فسَتَأْتِي بتَمَامِهَا في أولِ التعبيرِ، وأما روايةُ اللَّيْثِ فوَصَلَها المُصَنِّفُ في بَدْءِ الوَحْيِ ثم في الذي قَبْلَهُ ثم في التعبيرِ، أَخْرَجَهُ في المواضعِ الثلاثةِ عن يَحْيَى بنِ بُكَيْرٍ عنِ اللَّيْثِ، فأما في بَدْءِ الوَحْيِ فأَفْرَدَهُ، وأما في الذي قَبْلَهُ فَاخْتَصَرَهُ جِدًّا، وسَاقَهُ قَبْلَهُ بتَمَامِهِ لَكِنْ قَرَنَهُ برِوَايَةِ يُونُسَ، وسَاقَهُ على لفظِ يُونُسَ، وأَمَّا التعبيرُ فَقَرَنَهُ برِوَايَةِ مَعْمَرٍ وسَاقَهُ على لَفْظِ مَعْمَرٍ أيضًا ولَكِنْ لم يَقَعْ في شَيْءٍ مِنَ المواضعِ المَذْكُورَةِ: حَدَّثَنِي عَقِيلٌ قَالَ: قال مُحَمَّدٌ، وإنما في بَدْءِ الوَحْيِ: عن عَقِيلٍ عَنِ ابنِ شِهَابٍ، وكذا في بَقِيَّةِ المواضعِ، وكذا ذكَرهُ عن عَبْدِ اللهِ بنِ يُوسُفَ عنِ اللَّيْثِ في البابِ الذي بَعْدَ هَذَا، وذَكَرَهُ في بَدءِ الخَلقِ عنه عن الليثِ بِلَفظِ: حَدَّثَنِي عَقِيلٌ عنِ ابنِ شهابٍ، ورواه أَبُو صالحٍ عبدُ اللهِ بنُ صَالِحٍ عَنِ اللَّيْثِ حَدَّثَنِي عَقِيلٌ قَالَ: قالَ مُحَمَّدُ بْنُ شِهَابٍ، فسَاقَهُ بتَمَامِهِ، وقد ذَكَرَ المُصَنِّفُ مُتَابَعَةَ أَبِي صَالِحٍ في بَدْءِ الوَحْيِ، وبَيَّنْتُ هُنَاكَ مَنْ وَصَلَهَا، وللهِ الحَمْدُ). [فتح الباري: 8 / 723]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : (بَابٌ قَوْلُهُ: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ}
هَذَا بَابٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} هَذَا التَّكْرِيرُ لِلتَّأْكِيدِ وَقِيلَ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الأَوَّلُ لِلْعُمُومِ وَالثَّانِي لِلْخُصُوصِ.
قَوْلُهُ: {وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} أَيِ: الَّذِي لَهُ الْكَمَالُ فِي زِيَادَةِ كَرَمِهِ عَلَى كَرَمِ كُلِّ كَرِيمٍ إِذْ يُنْعِمُ عَلَى عِبَادِهِ بِنِعَمِهِ الَّتِي لاَ تُحْصَى، وَيَحْلُمُ عَنْهُمْ فَلاَ يُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ مَعَ كُفْرِهِمْ، وَجُحُودِهِمْ لِنِعَمِهِ، وَرُكُوبِهِمُ الْمَنَاهِيَ، وَاطِّرَاحِهِمُ الأَوَامِرَ.
ـ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ ح وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ، قَالَ مُحَمَّدٌ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ جَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}.
هَذَا أَيْضًا مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ جِدًّا وَأَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ:
الأَوَّلُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُسْنِدِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بْنِ هَمَّامٍ، عَنْ مَعْمَرٍ -بِفَتْحِ الْمِيمَيْنِ- ابْنِ رَاشِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ.
وَالثَّانِي: عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، وَهَذَا مُعَلَّقٌ، وَصَلَهُ فِي بَدْءِ الْوَحْيِ، ثُمَّ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ، ثُمَّ فِي التَّعْبِيرِ، أَخْرَجَهُ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلاَثَةِ عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ، عَنِ اللَّيْثِ). [عمدة القاري: 19 / 307]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : ( (قَوْلُهُ: اقْرَأْ) ولأَبِي ذَرٍّ: بابٌ بِالتَّنْوِينِ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ) وَبِهِ قَالَ: (حَدَّثَنَا) ولأَبِي ذَرٍّ: حَدَّثَنِي بالإفرادِ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) الْمُسْنَدِيُّ قَالَ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّازِقِ) بْنُ هَمَّامٍ قَالَ: (أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ) بِسُكُونِ الْعَيْنِ ابْنُ رُشْدٍ (عَنِ الزُّهْرِيِّ) مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ (ح) لِتَحْوِيلِ السَّنَدِ كما مَرَّ (وَقَالَ اللَّيْثُ) بْنُ سَعْدٍ فيما وَصَلَهُ الْمُؤَلِّفُ في بَدْءِ الْوَحْيِ: (حَدَّثَنِي) بالإفْرَادِ (عُقَيْلٌ) بِضَمِّ الْعَيْنِ ابْنُ خَالِدٍ (قَالَ مُحَمَّدٌ) هُوَ ابْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ: (أَخْبَرَنِي) بالإفرادِ (عُرْوَةُ) بْنُ الزُّبَيْرِ (عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا) أَنَّهَا قَالَتْ: (أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ) بالقافِ ولم يَقُلْ هنا: في النَّوْمِ، ثُمَّ (جَاءَهُ الْمَلَكُ) جِبْرِيلُ (فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}) الْحَدِيثَ، اخْتَصَرَهُ هُنَا). [إرشاد الساري: 7 / 428-429]

قال محمدُ بنُ إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريُّ (ت: 256هـ) : (حَدَّثَنَا عبدُ اللهِ بنُ يُوسُفَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عن عَقِيلٍ، عنِ ابنِ شهابٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُرْوَةَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عنها: فَرَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَليَهِ وسَلَّمَ إلى خَدِيجَةَ، فقالَ: ((زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي)). فذَكَرَ الحديثَ). [صحيح البخاري: 6 / 174]
- قال أحمدُ بنُ عَلَيِّ بنِ حجرٍ العَسْقَلانيُّ (ت: 852هـ) : (قولُهُ: (بَابٌ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) كذا لأبِي ذَرٍّ، وسَقَطَتِ التَّرجَمَةُ لغيرِهِ، وأَوْرَدَ طَرَفًا مِن حَدِيثِ بَدْءِ الوَحْيِ عن عبدِ اللهِ بنِ يُوسُفَ عنِ الليثِ مُقْتَصِرًا منه على قولِهِ: فَرَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَليَهِ وسَلَّمَ إلى خَدِيجَةَ فقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلونِي، فذَكَرَ الحديثَ، كذا فيه، وقَدْ ذَكَرَ مِنَ الْحَدِيثِ في ذِكْرِ المَلائِكَةِ مِنْ بَدْءِ الخَلْقِ حَدِيثَ جَابِرٍ مُقْتَصِرًا عليه). [فتح الباري: 8 / 723]
- قال محمودُ بنُ أحمدَ بنِ موسى العَيْنِيُّ (ت: 855هـ) : (بَابٌ {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}
أَيْ: هَذَا بَابٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} وَهَذِهِ التَّرْجَمَةُ لأَبِي ذَرٍّ وَحْدَهُ.
قَوْلُهُ: {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} أَيْ: عَلَّمَ الْخَطَّ وَالْكِتَابَةَ بِالْقَلَمِ.
ـ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُرْوَةَ قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: فَرَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إِلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَهَذَا أيضاً طَرَفٌ مِنْ حَدِيثِ بَدْءِ الْوَحْيِ، وَالْكَلاَمُ فِي إِرْسَالِ هَذَا قَدْ مَرَّ عَنْ قَرِيبٍ). [عمدة القاري: 19 / 307-308]
- قال أحمدُ بنُ محمدِ بن أبي بكرٍ القَسْطَلاَّنيُّ (ت: 923هـ) : (هذا (بَابٌ) بِالتَّنْوِينِ أي في قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} ثَبَتَ هذا لأَبِي ذَرٍّ. وبه قَالَ: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ) التِّنِّيسِيُّ قَالَ: (حَدَّثَتَا اللَّيْثُ) بْنُ سَعْدٍ الإمَامُ (عَنْ عُقَيْلٍ) هُوَ ابْنُ خَالِدٍ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزُّهْرِيِّ أنَّه (قَالَ: سَمِعْتُ عُرْوَةَ) بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: (قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَرَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللََّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي) مَرَّتَيْنِ (فَذَكَرَ الْحَدِيثَ) كَمَا سَبَقَ). [إرشاد الساري: 7 / 428-429]

(*) كذا بالأصل ولعلها: سأبني بمعنى خنقني.


رد مع اقتباس