عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 15 جمادى الآخرة 1435هـ/15-04-2014م, 07:18 PM
محمد أبو زيد محمد أبو زيد غير متواجد حالياً
إدارة الجمهرة
 
تاريخ التسجيل: Nov 2008
المشاركات: 25,303
افتراضي

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : (وقوله: {ومن يهاجر في سبيل اللّه يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا وسعةً} هذا تحريض على الهجرة، وترغيبٌ في مفارقة المشركين، وأنّ المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحةً وملجأً يتحصّن فيه، و "المراغم" مصدرٌ، تقول العرب: راغم فلان قومه مراغمًا ومراغمةً، قال نابغة بني جعدة.
كطودٍ يلاذ بأركانه = عزيز المراغم والمهرب
وقال ابن عبّاسٍ: "المراغم": التّحوّل من أرضٍ إلى أرضٍ. وكذا روي عن الضّحّاك والرّبيع بن أنسٍ، الثّوريّ، وقال مجاهدٌ: {مراغمًا كثيرًا} يعني: متزحزحًا عمّا يكره. وقال سفيان بن عيينة: {مراغمًا كثيرًا} يعني: بروجًا.
والظّاهر -واللّه أعلم-أنّه التّمنّع الّذي يتحصّن به، ويراغم به الأعداء.
قوله: {وسعةً} يعني: الرّزق. قاله غير واحدٍ، منهم: قتادة، حيث قال في قوله: {يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا وسعةً} إي، واللّه، من الضّلالة إلى الهدى، ومن القلّة إلى الغنى.
وقوله: {ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى اللّه ورسوله ثمّ يدركه الموت فقد وقع أجره على اللّه} أي: ومن خرج من منزله بنيّة الهجرة، فمات في أثناء الطّريق، فقد حصل له من اللّه ثواب من هاجر، كما ثبت في الصّحيحين وغيرهما من الصّحاح والمسانيد والسّنن، من طريق يحيى بن سعيدٍ الأنصاريّ عن محمّد بن إبراهيم التّيميّ، عن علقمة بن وقّاص اللّيثيّ، عن عمر بن الخطّاب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنّيّات، وإنّما لكلّ امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى اللّه ورسوله، فهجرته إلى اللّه ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأةٍ يتزوّجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه".
وهذا عامٌّ في الهجرة وفي كلّ الأعمال. ومنه الحديث الثّابت في الصّحيحين في الرّجل الّذي قتل تسعةً وتسعين نفسًا. ثمّ أكمل بذلك العابد المائة، ثمّ سأل عالمًا: هل له من توبةٍ؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التّوبة؟ ثمّ أرشده إلى أن يتحوّل من بلده إلى بلدٍ آخر يعبد اللّه فيه، فلمّا ارتحل من بلده مهاجرًا إلى البلد الآخر، أدركه الموت في أثناء الطّريق، فاختصمت فيه ملائكة الرّحمة وملائكة العذاب، فقال هؤلاء: إنّه جاء تائبًا. وقال هؤلاء: إنّه لم يصل بعد. فأمروا أنّ يقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيّتهما كان أقرب كان منها، فأمر اللّه هذه أن يقرب من هذه، وهذه أن تبعد فوجدوه أقرب إلى الأرض الّتي هاجر إليها بشبر، فقبضته ملائكة الرّحمة. وفي روايةٍ: أنّه لمّا جاءه الموت ناء بصدره إلى الأرض الّتي هاجر إليها.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا يزيد بن هارون، حدّثنا محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن إبراهيم، عن محمّد بن عبد اللّه بن عتيك، عن أبيه عبد اللّه بن عتيك قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: " من خرج من بيته مهاجرًا في سبيل اللّه-ثمّ قال بأصابعه هؤلاء الثّلاث: الوسطى والسّبّابة والإبهام، فجمعهنّ وقال: وأين المجاهدون-؟ فخرّ عن دابّته فمات فقد وقع أجره على اللّه، أو لدغته دابّةٌ فمات، فقد وقع أجره على اللّه أو مات حتف أنفه، فقد وقع أجره على اللّه -واللّه! إنّها لكلمةٌ ما سمعتها من أحدٍ من العرب قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم-ومن قتل قعصًا فقد استوجب المآب.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا أبو زرعة، حدّثنا عبد الرّحمن بن عبد الملك بن شيبة الحزاميّ حدّثني عبد الرّحمن بن المغيرة الحزاميّ عن المنذر بن عبد اللّه، عن هشام بن عروة، عن أبيه؛ أنّ الزّبير بن العوّام قال: هاجر خالد بن حزام إلى أرض الحبشة، فنهشته حيّةٌ في الطّريق فمات، فنزلت فيه: {ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى اللّه ورسوله ثمّ يدركه الموت فقد وقع أجره على اللّه وكان اللّه غفورًا رحيمًا} قال الزّبير: فكنت أتوقّعه وأنتظر قدومه وأنا بأرض الحبشة، فما أحزنني شيءٌ حزن وفاته حين بلغني؛ لأنّه قلّ أحدٌ ممّن هاجر من قريشٍ إلّا معه بعض أهله، أو ذوي رحمه، ولم يكن معي أحدٌ من بني أسد بن عبد العزّى، ولا أرجو غيره.
وهذا الأثر غريبٌ جدًّا فإنّ هذه القصّة مكّيّةٌ، ونزول هذه الآية مدنيّةٌ، فلعلّه أراد أنّها أنزلت تعمّ حكمه مع غيره، وإن لم يكن ذلك سبب النّزول، واللّه أعلم.
وقال ابن أبي حاتمٍ: حدّثنا سليمان بن داود مولى عبد اللّه بن جعفرٍ، حدّثنا سهل بن عثمان، حدّثنا عبد الرّحمن بن سليمان، عن الأشعث -هو ابن سوّار-عن عكرمة، عن ابن عبّاسٍ قال: خرج ضمرة بن جندب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمات في الطّريق قبل أن يصل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فنزلت: {ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى اللّه ورسوله [ثمّ يدركه الموت فقد وقع أجره على اللّه وكان اللّه غفورًا رحيمًا]}.
وحدّثنا أبي، حدّثنا عبد اللّه بن رجاء، أنبأنا إسرائيل، عن سالمٍ، عن سعيد بن جبيرٍ عن أبي ضمرة بن العيص الزّرقي، الّذي كان مصاب البصر، وكان بمكّة فلمّا نزلت: {إلا المستضعفين من الرّجال والنّساء والولدان لا يستطيعون حيلةً} فقلت: إنّي لغنيٌّ، وإنّي لذو حيلةٍ، [قال] فتجهّز يريد النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فأدركه الموت بالتّنعيم، فنزلت هذه الآية: {ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى اللّه ورسوله ثمّ يدركه الموت [فقد وقع أجره على اللّه وكان اللّه غفورًا رحيمًا]}
قال الحافظ أبو يعلى: حدّثنا إبراهيم بن زيادٍ سبلان، حدّثنا أبو معاوية، حدّثنا محمّد بن إسحاق، عن حميد بن أبي حميدٍ، عن عطاء بن يزيد اللّيثيّ، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: "من خرج حاجًّا فمات، كتب له أجر الحاجّ إلى يوم القيامة، ومن خرج معتمرًا فمات، كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة، ومن خرج غازيًا في سبيل اللّه فمات، كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة".
وهذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه). [تفسير القرآن العظيم: 2/390-393]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصّلاة إن خفتم أن يفتنكم الّذين كفروا إنّ الكافرين كانوا لكم عدوًّا مبينًا (101)}
يقول تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض} أي: سافرتم في البلاد، كما قال تعالى: {علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله [وآخرون يقاتلون في سبيل الله]} الآية [المزّمّل: 20].
وقوله: {فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصّلاة} أي: تخفّفوا فيها، إمّا من كمّيّتها بأن تجعل الرّباعيّة ثنائيّةً، كما فهمه الجمهور من هذه الآية، واستدلّوا بها على قصر الصّلاة في السّفر، على اختلافهم في ذلك: فمن قائلٍ لا بدّ أن يكون سفر طاعةٍ، من جهادٍ، أو حجٍّ، أو عمرةٍ، أو طلب علمٍ، أو زيارةٍ، وغير ذلك، كما هو مرويٌّ عن ابن عمر وعطاءٍ، ويحكى عن مالكٍ في روايةٍ عنه نحوه، لظاهر قوله: {إن خفتم أن يفتنكم الّذين كفروا}
ومن قائلٍ لا يشترط سفر القربة، بل لا بدّ أن يكون مباحًا، لقوله: {فمن اضطرّ في مخمصةٍ غير متجانفٍ لإثمٍ [فإنّ اللّه غفورٌ رحيمٌ]} [المائدة: 3] أباح له تناول الميتة مع اضطراره إلّا بشرط ألّا يكون عاصيًا بسفره. وهذا قول الشّافعيّ وأحمد وغيرهما من الأئمّة.
وقد قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدّثنا وكيع، حدّثنا الأعمش، عن إبراهيم قال: جاء رجلٌ فقال: يا رسول اللّه، إنّي رجلٌ تاجرٌ، أختلف إلى البحرين "فأمره أن يصلّي ركعتين" وهذا مرسلٌ.
ومن قائلٍ: يكفي مطلق السّفر، سواءٌ كان مباحًا أو محظورًا، حتّى لو خرج لقطع الطّريق وإخافة السّبيل، ترخّص، لوجود مطلق السّفر. وهذا قول أبي حنيفة، رحمه الله، والثوري وداود، لعموم الآية وخالفهم الجمهور. وأمّا قوله: {إن خفتم أن يفتنكم الّذين كفروا} فقد يكون هذا خرّج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية، فإنّ في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفةً، بل ما كانوا ينهضون إلّا إلى غزوٍ عامٍّ، أو في سرية خاصة، وسائر الأحيان حرب الإسلام وأهله، والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب أو على حادثةٍ فلا مفهوم له، كقوله {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصّنًا} [النّور: 33]، وكقوله: {وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم} الآية [النّساء: 23].
وقال الإمام أحمد: حدّثنا ابن إدريس، حدّثنا ابن جريج، عن ابن أبي عمّارٍ، عن عبد اللّه بن بابيه، عن يعلى بن أميّة قال: سألت عمر بن الخطّاب قلت: {ليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصّلاة إن خفتم أن يفتنكم الّذين كفروا} وقد أمّن اللّه النّاس ؟ فقال لي عمر: عجبت ممّا عجبت منه، فسألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن ذلك، فقال: "صدقةٌ تصدّق اللّه بها عليكم، فاقبلوا صدقته".
وهكذا رواه مسلمٌ وأهل السّنن، من حديث ابن جريجٍ، عن عبد الرّحمن بن عبد اللّه بن أبي عمّارٍ، به. وقال التّرمذيّ: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وقال عليّ بن المدينيّ: هذا حديثٌ صحيحٌ من حديث عمر، ولا يحفظ إلّا من هذا الوجه، ورجاله معروفون وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدّثنا أبو نعيمٍ، حدّثنا مالك بن مغول، عن أبي حنظلة الحذّاء قال: سألت ابن عمر عن صلاة السّفر فقال: ركعتان. فقلت: أين قوله تعالى: {إن خفتم أن يفتنكم الّذين كفروا} ونحن آمنون؟ فقال: سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
وقال ابن مردويه: حدّثنا عبد اللّه بن محمّد بن عيسى، حدّثنا عليّ بن محمّد بن سعيدٍ، حدّثنا منجاب، حدّثنا شريك، عن قيس بن وهبٍ، عن أبي الودّاك: سألت ابن عمر عن ركعتين في السّفر؟ فقال: هي رخصةٌ، نزلت من السّماء، فإن شئتم فردّوها.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدّثنا يزيد بن هارون، حدّثنا ابن عون، عن ابن سيرين، عن ابن عبّاسٍ قال: صلّينا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بين مكّة والمدينة، ونحن آمنون، لا نخاف بينهما، ركعتين ركعتين.
وكذا رواه النّسائيّ، عن محمّد بن عبد الأعلى، عن خالدٍ الحذّاء عن عبد اللّه بن عونٍ، به قال أبو عمر بن عبد البر: وهكذا رواه أيوب، وهشام، ويزيد بن إبراهيم التّستري، عن محمّد بن سيرين، عن ابن عبّاسٍ، رضي اللّه عنهما، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، مثله.
قلت: وهكذا رواه التّرمذيّ والنّسائيّ جميعًا، عن قتيبة، عن هشيم، عن منصور بن زاذان، عن محمّد بن سيرين، عن ابن عبّاسٍ، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خرج من المدينة إلى مكّة، لا يخاف إلّا ربّ العالمين، فصلّى ركعتين، ثمّ قال التّرمذيّ: صحيحٌ.
وقال البخاريّ: حدّثنا أبو معمر، حدّثنا عبد الوارث، حدّثنا يحيى بن أبي إسحاق قال: سمعت أنسًا يقول: خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من المدينة إلى مكّة، فكان يصلّي ركعتين ركعتين، حتّى رجعنا إلى المدينة. قلت: أقمتم بمكّة شيئًا؟ قال: أقمنا بها عشرًا.
وهكذا أخرجه بقيّة الجماعة من طرقٍ عن يحيى بن أبي إسحاق الحضرميّ، به.
وقال الإمام أحمد: حدّثنا وكيع، حدّثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن وهبٍ الخزاعي قال: صلّيت مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم الظّهر والعصر بمنًى -أكثر ما كان النّاس وآمنه -ركعتين.
ورواه الجماعة سوى ابن ماجه من طرقٍ، عن أبي إسحاق السّبيعي، عنه، به ولفظ البخاريّ: حدّثنا أبو الوليد، حدّثنا شعبة، أنبأنا أبو إسحاق، سمعت حارثة بن وهبٍ قال: صلّى بنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم آمن ما كان بمنى ركعتين.
وقال البخاريّ: حدّثنا مسدّد، حدّثنا يحيى، حدّثنا عبيد اللّه، أخبرنا نافعٌ، عن عبد اللّه بن عمر قال: صلّيت مع النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ركعتين، وأبي بكرٍ وعمر، ومع عثمان صدرًا من إمارته، ثمّ أتمّها.
وكذا رواه مسلمٌ من حديث يحيى بن سعيدٍ القطّان [الأنصاريّ] به.
وقال البخاريّ: حدّثنا قتيبة، حدّثنا عبد الواحد، عن الأعمش، حدّثنا إبراهيم، سمعت عبد الرّحمن بن يزيد يقول: صلّى بنا عثمان بن عفّان، رضي اللّه عنه، بمنًى أربع ركعاتٍ، فقيل في ذلك لعبد اللّه بن مسعودٍ فاسترجع، ثمّ قال: صلّيت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بمنًى ركعتين، وصلّيت مع أبي بكرٍ بمنى ركعتين، وصلّيت مع عمر بن الخطّاب بمنًى ركعتين، فليت حظّي مع أربع ركعاتٍ ركعتان متقبّلتان.
ورواه البخاريّ أيضًا من حديث الثّوريّ، عن الأعمش، به. وأخرجه مسلمٌ من طرقٍ، عنه. منها عن قتيبة كما تقدّم.
فهذه الأحاديث دالّةٌ صريحًا على أنّ القصر ليس من شرطه وجود الخوف؛ ولهذا قال من قال من العلماء: إنّ المراد من القصر هاهنا إنّما هو قصر الكيفيّة لا الكمّيّة. وهو قول مجاهدٍ، والضّحّاك، والسّدّيّ كما سيأتي بيانه، واعتضدوا أيضًا بما رواه الإمام مالكٌ، عن صالح بن كيسان، عن عروة بن الزّبير، عن عائشة، رضي اللّه عنها، أنّها قالت: فرضت الصّلاة ركعتين ركعتين في السّفر والحضر، فأقرّت صلاة السّفر؛ وزيد في صلاة الحضر.
وقد روى هذا الحديث البخاريّ عن عبد اللّه بن يوسف التنّيسي، ومسلمٌ عن يحيى بن يحيى، وأبو داود عن القعنبي، والنّسائي عن قتيبة، أربعتهم عن مالكٍ، به.
قالوا: فإذا كان أصل الصّلاة في السّفر هي الثّنتين، فكيف يكون المراد بالقصر هاهنا قصر الكمّيّة؛ لأنّ ما هو الأصل لا يقال فيه: {فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصّلاة}؟
وأصرح من ذلك دلالةً على هذا، ما رواه الإمام أحمد: حدّثنا وكيع، حدّثنا سفيان -وعبد الرّحمن حدّثنا سفيان -عن زبيد الياميّ، عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى، عن عمر، رضي اللّه عنه، قال: صلاة السّفر ركعتان، وصلاة الأضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، تمامٌ غير قصرٍ، على لسان محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم.
وهكذا رواه النّسائيّ وابن ماجه، وابن حبّان في صحيحه، من طرقٍ عن زبيد الياميّ به.
وهذا إسنادٌ على شرط مسلمٍ. وقد حكم مسلمٌ في مقدّمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى، عن عمر. وقد جاء مصرّحًا به في هذا الحديث وفي غيره، وهو الصّواب إن شاء اللّه. وإن كان يحيى بن معين، وأبو حاتمٍ، والنّسائيّ قد قالوا: إنّه لم يسمع منه. وعلى هذا أيضًا، فقد وقع في بعض طرق أبي يعلى الموصلي، من طريق الثّوريّ، عن زبيد، عن عبد الرّحمن [بن أبي ليلى] عن الثّقة، عن عمر فذكره، وعند ابن ماجه من طريق يزيد بن أبي زياد بن أبي الجعد، عن زبيدٍ، عن عبد الرّحمن، عن كعب بن عجرة، عن عمر، به.، فاللّه أعلم.
وقد روى مسلمٌ في صحيحه، وأبو داود، والنّسائيّ، وابن ماجه، من حديث أبي عوانة الوضّاح بن عبد اللّه اليشكري -زاد مسلمٌ والنّسائيّ: وأيّوب بن عائدٍ -كلاهما عن بكير بن الأخنس، عن مجاهدٍ، عن عبد اللّه بن عبّاسٍ قال: فرض اللّه الصّلاة على لسان نبيّكم في الحضر أربعًا، وفي السّفر ركعتين وفي الخوف ركعةً، [هكذا رواه وكيعٌ وروح بن عبادة عن أسامة بن زيدٍ اللّيثيّ: حدّثني الحسن بن مسلم بن يساف عن طاوسٍ عن ابن عبّاسٍ قال: فرض اللّه ورسوله صلّى اللّه عليه وسلّم الصّلاة في الحضر أربعًا وفي السّفر ركعتين] فكما يصلّى في الحضر قبلها وبعدها، فكذلك يصلّى في السّفر.
ورواه ابن ماجه من حديث أسامة بن زيدٍ، عن طاوسٍ نفسه.
فهذا ثابتٌ عن ابن عبّاسٍ، رضي اللّه عنهما ولا ينافي ما تقدّم عن عائشة لأنّها أخبرت أنّ أصل الصّلاة ركعتان، ولكن زيد في صلاة الحضر، فلمّا استقرّ ذلك صحّ أن يقال: إنّ فرض صلاة الحضر أربعٌ، كما قاله ابن عبّاسٍ، واللّه أعلم. لكن اتّفق حديث ابن عبّاسٍ وعائشة على أنّ صلاة السّفر ركعتان، وأنّها تامّةٌ غير مقصورةٍ، كما هو مصرّحٌ به في حديث عمر، رضي اللّه عنه، وإذا كان كذلك، فيكون المراد بقوله تعالى: {فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصّلاة} قصر الكيفيّة كما في صلاة الخوف؛ ولهذا قال: {إن خفتم أن يفتنكم الّذين كفروا [إنّ الكافرين كانوا لكم عدوًّا مبينًا]}.
ولهذا قال بعدها: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصّلاة [فلتقم طائفةٌ منهم معك]} الآية فبيّن المقصود من القصر هاهنا وذكر صفته وكيفيته؛ ولهذا لما اعتضد البخاريّ
"كتاب صلاة الخوف" صدّره بقوله تعالى: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصّلاة} إلى قوله: {إنّ اللّه أعدّ للكافرين عذابًا مهينًا}
وهكذا قال جويبر، عن الضّحّاك في قوله: {فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصّلاة} قال: ذاك عند القتال، يصلّي الرّجل الرّاكب تكبيرتين حيث كان وجهه.
وقال أسباطٌ، عن السّدّيّ في قوله: {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصّلاة إن خفتم} الآية: إنّ الصّلاة إذا صلّيت ركعتين في السّفر فهي تمامٌ، التّقصير لا يحلّ، إلّا أن تخاف من الّذين كفروا أن يفتنوك عن الصّلاة، فالتّقصير ركعةٌ.
وقال ابن أبي نجيح، عن مجاهدٍ: {فليس عليكم جناحٌ أن تقصروا من الصّلاة} يوم كان النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنان، فتوافقوا، فصلّى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بأصحابه صلاة الظّهر أربع ركعاتٍ، بركوعهم وسجودهم وقيامهم معًا جميعًا، فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم.
روى ذلك ابن أبي حاتمٍ. ورواه ابن جريرٍ، عن مجاهدٍ والسّدّيّ، وعن جابرٍ وابن عمر، واختار ذلك أيضًا، فإنّه قال بعد ما حكاه من الأقوال في ذلك: وهو الصّواب. وقال ابن جريرٍ: حدّثني محمّد بن عبد اللّه بن عبد الحكم، حدّثنا ابن أبي فديك، حدّثنا ابن أبي ذئبٍ، عن ابن شهابٍ، عن أميّة بن عبد اللّه بن خالد بن أسيدٍ: أنّه قال لعبد اللّه بن عمر: إنّا نجد في كتاب اللّه قصر صلاة الخوف، ولا نجد قصر صلاة المسافر؟ فقال عبد اللّه: إنّا وجدنا نبيّنا صلّى اللّه عليه وسلّم يعمل عملًا عملنا به.
فقد سمّى صلاة الخوف مقصورةً، وحمل الآية عليها، لا على قصر صلاة المسافر، وأقرّه ابن عمر على ذلك، واحتجّ على قصر الصّلاة في السّفر بفعل الشّارع لا بنصّ القرآن.
وأصرح من هذا ما رواه ابن جريرٍ أيضًا: حدّثني أحمد بن الوليد القرشيّ، حدّثنا محمّد بن جعفرٍ، حدّثنا شعبة، عن سماك الحنفيّ: سألت ابن عمر عن صلاة السّفر، فقال: ركعتان تمام غير قصرٍ، إنّما القصر صلاة المخافة. فقلت: وما صلاة المخافة؟ فقال: يصلّي الإمام بطائفةٍ ركعةً، ثمّ يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء، ويجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء، فيصلّي بهم ركعةً، فيكون للإمام ركعتان، ولكلّ طائفةٍ ركعةٌ ركعةٌ). [تفسير القرآن العظيم: 2/393-398]

رد مع اقتباس