عرض مشاركة واحدة
  #15  
قديم 26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 11:34 AM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي

سورة البقرة
[من الآية (44) إلى الآية (48) ]
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) }

قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)}

قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)}

قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)}

قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)}

قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (ولا يقبل منها شفاعةٌ)
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب (ولا تقبل) - بالتاء -، وروي عن عاصم مثل ذلك. وقرأ الباقون بالياء.
قال أبو منصور: من قرأ بالتاء فلتأنيث الشفاعة، ومن قرأ بالياء فلأن الشفاعة كالمصدر وإن كان لفظها مؤنثا، وهو كقول الله جلّ وعزّ: (وأخذت الذين ظلموا الصيحة)، وقال في موضع آخر: (وأخذ الذين ظلموا الصيحة)، لأن الصيحة وإن كان لفظها مؤنثا فهي مصدر، وكل ذلك جائز في كلام العرب). [معاني القراءات وعللها: 1/149]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في الياء والتاء من قوله تعالى: ولا تقبل منها شفاعة [البقرة/ 48].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: ولا تقبل بالتّاء. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائيّ: ولا يقبل بالياء. وروى يحيى بن آدم وابن أبي أميّة والكسائي وغيرهم عن أبي بكر وحفص عن عاصم بالياء. وروى الحسين الجعفيّ عن أبي بكر عن عاصم بالتاء.
[الحجة للقراء السبعة: 2/43]
قال أبو عليّ: المعنى في قوله: لا يقبل منها شفاعةٌ. لا يقبل فيه منها شفاعة، فمن ذهب إلى أن (فيه) محذوفة من قوله: واتّقوا يوماً لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ [البقرة/ 48] جعل (فيه) محذوفة بعد قوله: يقبل. ومن ذهب إلى أنه حذف الجارّ وأوصل الفعل إلى المفعول، ثم حذف الرّاجع من الصّفة. كما يحذف من الصّلة، كان مذهبه في قوله: لا يقبل أيضا مثله.
وحذف الهاء من الصفة يحسن، كما يحسن حذفها من الصلة، ألا ترى أن الفعل لا يتسلّط بحذف المفعول منه على الموصوف كما لا يتسلّط بذلك على الموصول؟
فممّا حذف منه الراجع من الصّفة قوله:
وما شيء حميت بمستباح وقول الأسود بن يعفر:
وفاقر مولاه أعارت رماحنا... سنانا كقلب الصّقر في الرّمح منجلا
[الحجة للقراء السبعة: 2/44]
فالهاء العائدة إلى المنكور الموصوف محذوفة، وهي المفعول الأوّل لأعارت. وموضع الجملة جرّ، كما أن موضع الجملة التي هي تقبل نصب بالعطف على الجملة التي هي وصف قبلها. ومن الحذف قوله:
تروّحي أجدر أن تقيلي... غدا بجنبي بارد ظليل
المعنى: تأتي مكانا أجدر أن تقيلي فيه. فحذف الجارّ، فوصل الفعل ثم حذف الضمير. وممّا لم يحذف فيه الرّاجع من الصفة قوله:
في ساعة يحبّها الطّعام وهذا في المعنى قريب من قوله: وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظّالمين من حميمٍ ولا شفيعٍ يطاع [المؤمن/ 18].
فالمعنى: ما للظالمين فيه من حميم ولا شفيع يطاع، وليست الجملة التي هي: ما للظّالمين من حميمٍ صفة كما
[الحجة للقراء السبعة: 2/45]
كانت في الآية الأخرى صفة. ومثل ذلك قوله: يوم لا يغني مولًى عن مولًى شيئاً ولا هم ينصرون إلّا من رحم اللّه [الدخان/ 41 - 42]. وقبول الشيء: هو تلقّيه والأخذ به
وخلاف الإعراض عنه، ومن ثم قيل لتجاه الشيء: قبالته، وقالوا: أقبلت المكواة الداء، أي: جعلتها قبالته. قال:
وأقبلت أفواه العروق المكاويا ويجوز أن يكون المخاطبون بذلك اليهود، لأنهم زعموا أن آباءها الأنبياء تشفع لها، فأويسوا من ذلك.
وقريب من هذا قوله: قل فلم يعذّبكم بذنوبكم [المائدة/ 18]. فأما الشفاعة فنراها من الشّفع الذي هو خلاف الوتر، قال:
وأخو الأباءة إذ رأى خلّانه... تلّى شفاعا حوله كالإذخر
فكأنه سؤال من الشفيع، يشفع سؤال المشفوع له.
وليس معنى لا تقبل منها شفاعة أنّ هناك شفاعة لا تقبل، ألا
[الحجة للقراء السبعة: 2/46]
ترى أن في قوله: ولا يشفعون إلّا لمن، ارتضى [الأنبياء/ 28] انتفاء الشفاعة عمن سوى المرتضين، فإذا كان كذلك، كان المعنى لا تكون شفاعة فيكون لها قبول، كما أن قوله: لا يسئلون النّاس إلحافاً [البقرة/ 273] معناه: لا يكون منهم سؤال فيكون منهم إلحاف، كقوله:
على لا حب لا يهتدى لمناره... إذا سافه العود الدّيافيّ جرجرا
وقوله:
لا يفزع الأرنب أهوالها... ولا ترى الضبّ بها ينجحر
[الحجة للقراء السبعة: 2/47]
فأما قوله: وكم من ملكٍ في السّماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلّا من بعد أن يأذن اللّه لمن يشاء ويرضى [النجم/ 26] فالمعنى: لا تغني شفاعتهم أن لو شفعوا، ليس أنّ هناك شفاعة مثبتة، ومثله: ولا تنفع الشّفاعة عنده إلّا لمن أذن له [سبأ/ 23] ومثله: يومئذٍ لا تنفع الشّفاعة إلّا من أذن له الرّحمن ورضي له قولًا [طه/ 109] فأطلق على المعنى الاسم، وإن لم يحدث كما قال:
لما تذكّرت بالدّيرين أرّقني... صوت الدّجاج وقرع بالنّواقيس
والمعنى: انتظار أصواتها، فأوقع عليه الاسم، ولمّا يكن. فإضافة الشفاعة إليهم كإضافة الصوت إليها. ويدلك على أن المعنى في قوله: لا تغني شفاعتهم ما ذكرنا، الآية التي تقدم ذكرها. وقوله: يوم يقوم الرّوح والملائكة صفًّا لا يتكلّمون إلّا من أذن له الرّحمن [النبأ/ 38] والشفاعة: كلام.
فأما قوله: إلّا من بعد أن يأذن اللّه لمن يشاء ويرضى [النجم/ 26] فالمعنى: لمن يشاء شفاعته على إضافة المصدر إلى المفعول به، الذي هو مشفوع له، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، فصار اللفظ: لمن يشاؤه. أي يشاء شفاعته، ثم حذف الهاء من الصلة. فأما قوله: ويرضى.
فتقديره: يرضاه، كما أنّ قوله: ولا يشفعون إلّا لمن ارتضى [الأنبياء/ 28] العائد منه إلى الموصول محذوف،
[الحجة للقراء السبعة: 2/48]
فكذلك العائد من يرضى. وأما قوله: ويعبدون من دون اللّه ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه [يونس/ 18] فإنما يعنون بقولهم: عند الله، في البعث. لأن منهم من قد كان معترفا بالبعث والنشور كالأعشى في قوله:
بأعظم منك تقى للحساب... إذا النّسمات نفضن الغبارا
وقول زهير:
يؤخّر فيوضع في كتاب فيدّخر... ليوم الحساب أو يعجّل فينقم
وقد كذّبهم الله في قولهم ذلك بقوله: قل أتنبّئون اللّه بما لا يعلم في السّماوات ولا في الأرض [يونس/ 18] وقوله: وإذا حشر النّاس كانوا لهم أعداءً وكانوا بعبادتهم كافرين [الأحقاف/ 60]. فالمصدر مضاف إلى الفاعلين، والمعنى: كانوا بعبادتهم إياها كافرين. ومثل هذا قوله:
وقال شركاؤهم ما كنتم إيّانا تعبدون [يونس/ 28] فالشركاء في هذه الآية هم الآلهة التي كانوا يعبدونها. وكذلك في قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/49]
وإذا رأى الّذين أشركوا شركاءهم، قالوا ربّنا هؤلاء شركاؤنا الّذين كنّا ندعوا من دونك [النحل/ 86] فإنما أضيف الشركاء إلى الذين أثبتوهم شركاء لادّعائهم شركتهم للقديم سبحانه وتعالى عن ذلك. وقد جاء إضافة هؤلاء الشركاء أيضا إلى الله تعالى في قوله: ويوم يناديهم أين شركائي [فصلت/ 47] فهذا لم يثبت به شركاء الله تعالى، وإنما أضافهم إليه على حسب ما كانوا يضيفونهم إليه، فحكى ذلك.
وعلى هذا قوله: وقالوا يا أيّها السّاحر ادع لنا ربّك [الزخرف/ 49] وهذا مما يعلم به أنّ المضاف إذا كان له ضرب من الملابسة بالمضاف إليه، جازت إضافته إليه، وعلى هذا قوله:
لتغني عنّي ذا إنائك أجمعا فأضاف الإناء إلى الشارب لشربه منه وإن كان ملكا للمشروب لبنه، أو في يده على غير وجه الملك.
[الحجة للقراء السبعة: 2/50]
ومن ذلك قوله: أم اتّخذوا من دون اللّه شفعاء، قل أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون، قل للّه الشّفاعة جميعاً [الزمر/ 43 - 44] فهذا مثل قوله: ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه [يونس/ 18]. وقوله: قل للّه الشّفاعة جميعاً معناه: في الآخرة. وإنما نسبت الشفاعة إليه سبحانه إبطالا لشفاعة من ادّعيت شفاعتهم لهم من الآلهة، ونفيا لها، وإعلاما أن الملائكة في الآخرة لا يشفعون إلا لمن أذن لهم في الشفاعة له، فنسبت الشفاعة إلى الله لمّا لم تكن إلا بأمره وإذنه فيها، وإن كانت الملائكة فاعليها في الحقيقة، فأما في الدنيا فقد تكون الشفاعة لغير الله. والضمير في (منها) من قوله: ولا تقبل منها عائد إلى نفس على اللفظ، وفي قوله: ولا هم ينصرون على المعنى، لأنه ليس المراد المفرد فلذلك جمع.
فأما حجة من قال: ولا تقبل فألحق علامة التأنيث، فهي أنّ الاسم الذي أسند إليه هذا الفعل مؤنّث، فيلزم أن يلحق المسند أيضا علامة التأنيث، ليؤذن لحاق العلامة بتأنيث
الاسم، كما ألحق الفصل حيث ألحق، ليؤذن بأنّ الخبر معرفة أو قريب من المعرفة.
ومما يقوي ذلك أن كثيرا من العرب إذا أسندوا الفعل إلى المثنى أو المجموع، ألحقوه علامة التثنية أو الجمع كقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/51]
ألفيتا عيناك....
وقوله:... يعصرن السّليط أقاربه فكما ألحقوا هاتين العلامتين لتؤذنا بالتثنية والجمع، كذلك ألحقت علامة التأنيث الفعل ليؤذن بما في الاسم منه، وكانت هذه العلامة أولى من لحاق علامتي التثنية والجمع، للزوم علامة التأنيث الاسم، وانتفاء لزوم هاتين العلامتين الاسم، وبحسب لزوم المعنى تلزم علامته، ألا ترى أن ما لا يلزم في كلامهم قد لا يعتدّ به اعتداد اللازم، كالواو الثانية في قوله: (ووري) فبحسب لزوم علامة التأنيث الاسم يحسن إلحاقه الفعل، وقد قال: فأخذتهم الصّيحة مشرقين [الحجر/ 73]. فأخذتهم الصّيحة بالحقّ [المؤمنون/ 41].
فكما تثبت العلامة في هذا النحو، كذلك ينبغي أن تثبت في نحو قوله: تقبّل.
ومن حجة من لم يلحق: أن التأنيث في الاسم ليس بحقيقي، وإذا كان كذلك حمل على المعنى فذكّر، ألا ترى أن الشفاعة والتشفّع بمنزلة، كما أن الوعظ والموعظة، والصيحة والصوت كذلك، وقد قال: فمن جاءه موعظةٌ من ربّه [البقرة/ 275] وأخذ الّذين ظلموا الصّيحة [هود/ 67].
فكما لم تلحق العلامة هنا، كذلك يحسن أن لا تلحق في
[الحجة للقراء السبعة: 2/52]
قوله: ولا تقبل لاتفاق الجميع في أن ذلك تأنيث غير حقيقي. وكلا الأمرين قد جاء به التنزيل كما رأيت.
ومما يقوّي التّذكير أنه قد فصل بين الفعل والفاعل بقوله: منها. والتذكير يحسن مع الفصل، كما حكي من قولهم: حضر القاضي اليوم امرأة. فإذا جاء التذكير في الحقيقي مع الفصل فغيره أجدر بذلك. فأما ما قاله أحمد بن يحيى: من أن التذكير أجود لقول ابن مسعود: «ذكّروا القرآن» فإنّ قول ابن مسعود لا يخلو من أن يريد به التذكير الذي هو خلاف التأنيث، أو يريد به معنى غير ذلك. فإن أراد به خلاف التأنيث، فليس يخلو من أن يريد: ذكّروا فيه التأنيث الذي هو غير حقيقي، أو التأنيث الذي هو حقيقي، فلا يجوز أن يريد التأنيث الذي هو غير حقيقيّ لأن ذلك قد جاء منه في القرآن ما يكاد لا يحصى كثرة، كقوله: وللدّار الآخرة [الأنعام/ 32] وكقوله: النّار وعدها اللّه [الحج/ 72] وقوله: والتفّت السّاق بالسّاق [القيامة/ 29] و: قالت رسلهم [إبراهيم/ 10] و: كأنّهم أعجاز نخلٍ خاويةٍ [الحاقة/ 7] والنّخل باسقاتٍ [ق/ 10] وشجرةً تخرج من طور سيناء [المؤمنون/ 20] ينشئ السّحاب الثّقال [الرعد/ 12].
فإذا ثبت هذا النحو في القرآن على الكثرة التي تراها، لم يجز أن يريد هذا. وإذا لم يجز أن يريد ذلك، كان إرادته به
[الحجة للقراء السبعة: 2/53]
التأنيث الحقيقيّ أبعد، كقوله: إذ قالت امرأت عمران [آل عمران/ 35] وقوله: ومريم ابنت عمران الّتي أحصنت [التحريم/ 12] وكانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما [التحريم/ 10] وقالت لأخته قصّيه فبصرت به عن جنبٍ [القصص/ 11].
فإن قلت: إنّما يريد: إذا احتمل الشيء التأنيث والتذكير، فاستعملوا التذكير وغلّبوه. قيل: هذا أيضا لا يستقيم، ألا ترى أن فيما تلونا: والنّخل باسقاتٍ وكأنّهم أعجاز نخلٍ خاويةٍ فأنّث مع جواز التذكير فيه، يدلك على ذلك قوله في الأخرى: أعجاز نخلٍ منقعرٍ [القمر/ 20] وقوله: من الشّجر الأخضر ناراً [يس/ 80] ولم يقل: الخضر ولا الخضراء، وقوله: السّحاب الثّقال ولم يقل: الثقيل، كما قال: منقعرٍ. فهذه المواضع يعلم منها أنّ ما ذكرت ليس بمراد ولا بمذهب. فإذا لا يصحّ أن يريد بقوله: «ذكّروا القرآن». التذكير الذي هو خلاف التأنيث، وإذا لم يرد ذلك، كان معنى غيره. فممّا يجوز أن يصرف إليه قول ابن مسعود، أنه يريد به الموعظة والدعاء إليه، كما قال: فذكر بالقرآن من يخاف وعيدى [ق/ 45] إلا أنّه حذف الجار، وإن كان قد ثبت في الآية، وفي قوله: وذكّرهم بأيّام اللّه [إبراهيم/ 5] على القياس الذي ينبغي أن يكون عليه، ألا ترى أنك تقول:
ذكر زيد العذاب والنار. فإذا ضعّفت العين، قلت: ذكّرت زيدا
[الحجة للقراء السبعة: 2/54]
العذاب، وذكّرته النار. فإذا ألحقت الجارّ كان كقوله: ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة [البقرة/ 195] وإذا حذف كان كقوله: وألقى في الأرض رواسي [النحل/ 15] فمما جاء بغير الجار قولها:
يذكّرني طلوع الشّمس صخرا... وأذكره لكلّ غروب شمس
ومما يدل على صحة ما ذكرنا من أن الأصل أن لا يلحق الجار، أن النسيان الذي هو خلاف الذكر، لمّا نقل بالهمزة التي هي في حكم تضعيف العين، لم تلحق الباء المفعول الثاني، وذلك قوله: وما أنسانيه إلّا الشّيطان أن أذكره [الكهف/ 62] ويمكن أن يكون معنى قوله: «ذكّروا القرآن» أي: لا تجحدوه ولا تنكروه، كما أنكره من قال فيه:
أساطير الأوّلين [النحل/ 24] لإطلاقهم عليه لفظ التأنيث، فهؤلاء لم يذكّروه، لكنّهم أنّثوه بإطلاقهم التأنيث على ما كان مؤنث اللفظ، كقوله: إن يدعون من دونه إلّا إناثاً [النساء/ 117] فإناث جمع أنثى، وإنما يعني به ما اتخذوه آلهة، كقوله: أفرأيتم اللّات والعزّى. ومناة الثّالثة الأخرى [النجم/ 19، 20]. وقال العجّاج في صفة المنجنيق:
أورد حذّا تسبق الأبصارا وكلّ أنثى حملت أحجارا
[الحجة للقراء السبعة: 2/55]
فسمّاها أنثى، لتأنيثهم للفظها، وكذلك قول الفرزدق:
وكنّا إذا الجبّار صعّر خدّه... ضربناه تحت الأنثيين على الكرد
والأنثيان يريد بهما: الأذنين، وهذا النحو كثير في كلامهم). [الحجة للقراء السبعة: 2/56]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({ولا يقبل منها شفاعة}
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ولا تقبل منها بالتّاء وقرأ الباقون بالياء من قرأ بالتّاء فلتأنيث الشّفاعة وسقط السّؤال فصار كقوله {وأخذت الّذين ظلموا الصّيحة}
وحجّة من قرأ بالياء هي أن تأنيث الشّفاعة ليست حقيقيّة فلك في لفظه في الفعل التّذكير والتأنيث تقول قد قبل منك الشّفاعة وقبلت منك وكذلك {فمن جاءه موعظة} لأن معنى موعظة ووعظ وشفاعة وتشفع واحد فلذلك جاز التّذكير والتأنيث على اللّفظ والمعنى
[حجة القراءات: 95]
وحجّة أخرى لما فصل بين اسم المؤنّث وفعله بفاصل ذكر الفعل لأن الفاصل صار كالعوض منه ومثله {لئلّا يكون للنّاس عليكم حجّة} ). [حجة القراءات: 96]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (23- قوله: «ولا يُقبل» قرأه ابن كثير وأبو عمرو بالتاء، وقرأه الباقون بالياء.
وعلة من قرأه بالتاء أنه أتت لتأنيث لفظ الشفاعة، فهو ظاهر التلاوة، وبه قرأ الأعرج وابن محيصن وأهل مكة، وهو الأصل.
24- وعلة من قرأه بالياء أنه ذكر لأربع علل: الأولى أنه لما فرّق بين المؤنث وفعله، قام التفريق مقام التأنيث، وحسن التذكير، والثانية أنه لما كان تأنيث الشفاعة غير حقيقي، إذ لا ذكر لهما من لفظها ذكر؛ لأن التذكير هو الأصل، والتأنيث داخل عليه أبدًا، والثالثة أنه لما كان الشفاعة والشفيع بمعنى واحد، حمل التذكير على الشفيع، والرابعة أن ابن مسعود وابن عباس قالا: إذا اختلفتم في الياء والتاء فاجعلوها ياء، وذكر أبو عبيد عن ابن مسعود أنه قال: ذكروا القرآن، وإذا اختلفتم في الياء والتاء فاجعلوها ياء، فإنه أكثر ما جاء في القرآن، وإذا اختلفتم في الياء والتاء من القراء، قال الله جل ذكره: {قد كان لكم آية} «آل عمران 13» وقال:
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/238]
{قد جاءكم بينة} «الأنعام 153» وقال: {وأخذ الذين ظلموا الصيحة} «هود 67» وقال: {لولا أن تداركه نعمة} «القلم 49» وهو كثير، أتى على التذكير إجماع، فكان حمل هذا على ما أجمعوا عليه أولى، ويقوى التذكير إجماع القراء على تذكير الفعل مع ملاصقته للمؤنث في قوله: {وقال نسوة} «يوسف 30» وقوله: {وإن كان طائفة} «الأعراف 87» فإذا جاء التذكير بغير حائل فهو مع الحائل أجود وأقوى، والاختيار الياء، لما ذكرنا من العلة، ولأن به قرأ أكثر القراء، وذلك حجة، وكل ما وقع مثل هذا في التأنيث والتذكير أقول: علته كعلة {ولا يقبل}، فيستغنى عن إعادة هذه العلل وتكريرها، فاعلم ذلك). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/239]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (18- {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [آية/ 48]:-
بالتاء، قرأها ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب.
لأن الشفاعة مؤنثة لمكان التاء، فينبغي أن يكون في الفعل المسند إليها علامة التأنيث؛ لتكون العلامة مؤذنة بأن الفاعل مؤنث، وهذا هو القياس في جميع الكلام.
وقرأ الباقون {يُقْبَلُ} بالياء.
ووجه ذلك أن تأنيث الشفاعة ليس بحقيقي؛ لأنها مصدر، فهي بمنزلة
[الموضح: 273]
التشفع كالموعظة في قوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ} إذ هي في معنى الوعظ، وكالصيحة في قوله تعالى: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} إذ هي في معنى الصوت.
ثم إنه فصل بين الشفاعة وبين فعلها بقوله {مِنْها} فازداد التذكير حسنًا، إذ جاء التذكير مع الفصل في الحقيقي نحو: حضر القاضي اليوم امرأة، فلأن يجيء في غير الحقيق أولى). [الموضح: 274]


روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس