عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 25 محرم 1440هـ/5-10-2018م, 09:40 PM
جمهرة علوم القرآن جمهرة علوم القرآن غير متواجد حالياً
فريق الإشراف
 
تاريخ التسجيل: Oct 2017
المشاركات: 7,975
افتراضي سورة البقرة [من الآية (6) إلى الآية (10) ]

سورة البقرة
[من الآية (6) إلى الآية (10) ]

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) }

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وأما قول الله جلّ وعزّ: (أأنذرتهم أم لم تنذرهم) فالأصل فيه همزتان:
إحداهما: الألف، والأخرى ألف الاستفهام.
واختلف القراء فيه، فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب "آنذرتهم " بهمزة مطولة، وكذلك جميع ما أشبه هذا، نحو قوله:
[معاني القراءات وعللها: 1/129]
(آنت قلت للنّاس)، (آلد وأنا عجوزٌ).
وقرأ الباقون بهمزتين في كل هذا.
وكل ذلك عربي فصيح، فمن همز همزة مطولة فر من الجمع بين الهمزتين، ومن جمع بينهما فهو الأصل.
وكان أبو عمرو يخفف الهمزة الأولى، ويحقق الثانية.
وكان الخليل يحقق الأولى ويخفف الثانية، ونحويو أهل البصرة مالوا إلى قول الخليل، وكلهم أجاز ما اختاره أبو عمرو.
قال أبو منصور: ومن القراء القدماء من أدخل بين الهمزتين ألفا ساكنة فراراً من الجمع بينهما، فقرأ: (ءاأنذرتهم)، و: (ءاألد)، قال أبو حاتم: أخبرني الأصمعي أنه سمع نافعا يقرأ: (ءانّئكم لتشهدون)، أدخل بين الهمزتين ألفا.
قال الأصمعي: أنشدني أبو عمرو لمزرد:
تطاللت فاستشرفته فعرفته... فقلت له آأنت زيد الأرانب
[معاني القراءات وعللها: 1/130]
ومثله قول، ذي الرّمة:
أيا ظبية الوعساء بين جلاجلٍ... وبين النقا آأنت أم أمّ سالم
قال أبو حاتم: ويجوز تخفيف الهمزة الثانية التي بعد الألف الزائدة، وكان أبو عمرو ربما فعل ذلك.
قال أبو حاتم: ونحن نكره الجمع بين همزتين، قال: ومما يدلك على كراهية العرب اجتماع الهمزتين قول الله تبارك وتعالى: (ها أنتم).
قال أبو حاتم: قال الأخفش: إنما هو (ءاأتتنم)، أدخلوا بين الهمزتين ألفا استثقالا لهما، وأبدلوا من الهمزة الأولى هاء كما قالوا: (هرقت الماء) و(أرقت)، وقالوا: (هياك) بمعنى: إياك). [معاني القراءات وعللها: 1/131]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (4- قوله تعالى: {ءأنذرتهم}.
قرأ عاصم وحمزة والكسائي {ءأنذرتهم} بهمزتين على أصل الكلمة. فالهمزة الأولى ألف التسوية على لفظ الاستفهام، والألف الثانية ألف القطع.
وقرأ ابن عامر {آآنذرتهم} بهمزتين بينهما مدة كأنه كره أن يجمع بين همزتين وأن يحذف إحداهما
قال الشاعر شاهدًا لقراءة ابن عامر:
تطاللت فاستشرفته فعرفته = فقلت له آآنت زيد الأراقم
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/59]
وقرأ أبو عمرو ونافع وابن كثري {آنذرتهم} كرهوا الجمع بين همزتين فلينوا الثانية كما تقول: آمن، وآدم، وآزر غير أن ابن كثير أقصر مدًا من أبي عمرو ونافع، قال ذو الرمة:
آن توسمت من خرقاء منزلة = ماء الصبابة من عينيك مسجوم). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/60]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله جل وعز: أأنذرتهم [البقرة/ 6]
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: آأنذرتهم بهمزة مطولة، وكذلك ما أشبه ذلك في كل القرآن، مثل: أأنت قلت للنّاس [المائدة/ 116] وأ إلهٌ مع اللّه [النمل/ 60] وأ إنّكم وما كان مثله، وكذلك كانت قراءة الكسائي إذا خفف، غير أن مدّ أبي عمرو في أأنذرتهم أطول من مدّ ابن كثير، لأنّ من قوله أنّه يدخل بين الهمزتين ألفا وابن كثير لا يفعل ذلك.
واختلف عن نافع في إدخال الألف في الهمزتين. وأمّا عاصم وحمزة والكسائي- إذا حقق- وابن عامر فبالهمزتين أأنذرتهم وما كان مثله في القرآن من الهمزتين في الكلمة الواحدة فهو بتحقيق الهمزتين وبتخفيف إحداهما وبإدخال الألف بينهما.
إنّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون. [البقرة/ 6].
الكفر: خلاف الشكر، كما أن الذمّ خلاف الحمد.
فالكفر: ستر النعمة وإخفاؤها، والشكر: نشرها وإظهارها.
وفي التنزيل: واشكروا لي ولا تكفرون [البقرة/ 152] وفيه: لئن شكرتم لأزيدنّكم ولئن كفرتم إنّ عذابي لشديدٌ [إبراهيم/ 7] وقال:
في ليلة كفر النجوم غمامها
[الحجة للقراء السبعة: 1/244]
وقالوا: كفر كفرا وكفورا، كما قالوا: شكر شكرا وشكورا. وفي التنزيل: لمن أراد أن يذّكّر أو أراد شكوراً [الفرقان/ 62] [وقال] اعملوا آل داود شكراً [سبأ/ 13] وقال: فأبى أكثر النّاس إلّا كفوراً [الإسراء/ 89] وقالوا:
الكفران، وقال: فلا كفران لسعيه [الأنبياء/ 94] وقال الأعشى:
ولا بدّ من غزوة في الربيع... حجون تكلّ الوقاح الشّكورا
قال أحمد بن يحيى: الشّكور: السريع القبول للسّمن. قال أبو علي: فكأن سرعة قبوله لذلك إظهار للإحسان إليه والقيام عليه.
وقالوا: أشكر من بروقة.
وأمّا قوله: سواءٌ عليهم فإنّ السواء والعدل والوسط والقصد والنّصف ألفاظ يقرب بعضها من بعض في المعنى.
[الحجة للقراء السبعة: 1/245]
قالوا للعدل: السواء. قال زهير:
أرونا خطة لا خسف فيها... يسوّي بيننا فيها السّواء
وأنشد أبو زيد لعنترة:
أبينا فلا نعطي السّواء عدوّنا... قياما بأعضاد السّراء المعطف
والسواء: وسط الشيء. وفي التنزيل: فرآه في سواء الجحيم [الصافات/ 55] وقال عيسى بن عمر: ما زلت أكتب حتى انقطع سوائي. والسواء: ليلة النصف من الشهر.
وقالوا: سيّ بمعنى سواء، كما قالوا: قيّ وقواء، وقالوا:
سيان فثنّوا، كما قالوا: مثلان. وقال عز وجل: لو تسوّى بهم الأرض [النساء/ 42] فالمعنى: يودّون لو جعلوا والأرض سواء. كما قال: ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً [النبأ/ 40] وقال: فدمدم عليهم ربّهم بذنبهم فسوّاها [الشمس/ 14] أي: سوى بلادهم بالأرض، وقال: ونفسٍ وما سوّاها [الشمس/ 7] أي: ونفس وتسويتها أي: ورب تسويتها، أو
[الحجة للقراء السبعة: 1/246]
يكون: والذي سواها، أي: ونفس وخالقها، كما قال: ثمّ سوّاك رجلًا [الكهف/ 37] وقال: خلقك فسوّاك فعدلك [الانفطار/ 7] وقال: بلى قادرين على أن نسوّي بنانه [القيامة/ 4]، أي: نجعلها مع كفه صفحة مستوية لا شقوق فيها كخف البعير، ويعدم الارتفاق بالأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة والخرز والصياغة ونحو ذلك من لطيف الأعمال التي يستعان عليها بالأصابع.
قال أحمد بن يحيى: من أيمانهم: لا والذي شقّهن خمسا من واحدة. يريدون الأصابع من الكف.
وقيل في: نسوّي بنانه: نردّها كما كانت. قالوا: وذكرت البنان لأنّه قد ذكرت اليدان فاختص منها ألطفها. وقالوا: قوم أسواء، أي: مستوون وأنشد أبو زيد:
هلّا كوصل ابن عمّار تواصلني... ليس الرّجال وإن سوّوا بأسواء
فأسواء ليس يخلو من أن يكون جمع سي أو سواء، فإن كان جمع سي فهو مثل: مثل وأمثال، ونقض وأنقاض، وجلف وأجلاف. وإن كان جمع سواء فهو مثل ما حكاه أبو زيد من قولهم جواد وأجواد. وحكى أيضا في الاسم: حياء الناقة وأحياء، ولا يمتنع جمعه وإن كانوا لم يثنوه كما لم يمتنعوا
[الحجة للقراء السبعة: 1/247]
من جمعه على سواسية. فأمّا قوله: ولا أنت مكاناً سوىً [طه/ 58] فقال أبو عبيدة: يضم أولها ويكسر، مثل: طوى وطوى، قال: وهو المكان النّصف فيما بين الفريقين وأنشد لموسى بن جابر الحنفي:
وإنّ أبانا كان حلّ ببلدة... سوى بين قيس قيس عيلان والفزر
قال: الفزر: سعد بن زيد مناة بن تميم.
ومثل سوى في أنّه فعل جاء وصفا قولهم: قوم عدى للغرباء. فأمّا عدى للأعداء فزعم أحمد بن يحيى وغيره أنّهم يقولون فيه: عدى وعدى. فهذا مثل سوى وسوى في وصف المكان.
وقال أبو الحسن في قوله: (مكانا سوى): إنّها قد تضم في هذا المعنى. قال: والممدودتان في ذا المعنى أيضا.
يريد بالممدودتين ما يذكره من أن في سوى وسواء أربع لغات، منهم من يفتح أوله ويمده، ومنهم من يكسر أوله ويقصره.
قال: وهاتان لغتان معروفتان. قال: ومنهم من يكسر أوله ويمده، ومنهم من يضم أوله ويقصره. وهاتان اللغتان أقل من تينك، والمضمومة الأولى أعرفهما، وقال: مكانا سوى أي عدل، وأنشد:
[الحجة للقراء السبعة: 1/248]
وإنّ أبانا كان حلّ ببلدة... سوى بين قيس قيس عيلان والفزر
يقول: عدل، وقال في قول الشاعر:
لو تمنّت حليلتي ما عدتني... أو تمنّيت ما عدوت سواها
يقول: ما عدوت قصدها، قال: والقصد والعدل مشتبهان. وأنشد:
ولأصرفنّ سوى حذيفة مدحتي... لفتى العشيّ وفارس الأجراف
قال: يريد لأصرفنّ قصده، أي عن قصده أو لأصرفنّ إلى غيره، ولأنّ سواه غيره كما قال حسان:
أتانا فلم نعدل سواه بغيره... نبي أتى من عند ذي العرش هاديا
قال: يقول: لم نعدل سوى النبي صلّى الله عليه وسلّم بغير سواه، وغير
[الحجة للقراء السبعة: 1/249]
سواه هو هو. فأمّا قوله:
وما قصدت من أهلها لسوائكا
فإنّه عدّى قصدت باللام، وإن كان يعدّى بإلى، كما عدّوا أوحيت وهديت بهما في نحو: وأوحى ربّك إلى النّحل [النحل/ 68]، وفي أخرى: بأنّ ربّك أوحى لها [الزلزلة/ 5] وقال: ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً [النساء/ 175] والحمد للّه الّذي هدانا لهذا [الأعراف/ 43].
فأمّا سواء فإنّها تستعمل ظرفا، تقول: إنّ سواءك زيدا كما تقول: إن عندك زيدا، فجعله الشاعر اسما في قوله، لسوائكا، وجعله بمنزلة غير إذ كانت بمعناها، وإذا كانت كذلك أجمع عامة العرب فيما زعم أبو الحسن أنّهم يستعملونه ظرفا ولا يستعملونه اسما.
ومثل ذلك قولهم: وسط- الساكن الأوسط- هي تستعمل ظرفا، فإذا اضطر الشاعر استعمله اسما كقوله الفرزدق:
صلاءة ورس وسطها قد تفلّقا
وقول القتّال الكلابي:
[الحجة للقراء السبعة: 1/250]
من وسط جمع بني قريظ بعد ما... هتفت ربيعة يا بني جوّاب
فكذلك سواء، ولذلك شبهه بالظرف في قولهم: أتاني القوم سواءك فقال: كأنه قال: أتاني القوم مكانك. واستدل على كونه ظرفا بوصلهم الذي بها في نحو: أتاني الذي سواؤك. [قال أبو علي: سواك أشبه]. وزعم أبو الحسن أن هذا الذي استعمل ظرفا إذا تكلم به من يجعله ظرفا في موضع رفع نصبوه استنكارا منهم لرفعه، لأنه إنما يقع في كلامهم ظرفا، فيقولون: جاءني سواؤك، وفي الدار سواؤك. وفي كتاب الله [تعالى]: وأنّا منّا الصّالحون ومنّا دون ذلك [الجن/ 11] وقال: منهم الصّالحون ومنهم دون ذلك [الأعراف/ 168]، وقال: لقد تقطّع بينكم [الأنعام/ 94] وقال: يوم القيامة يفصل بينكم. قال: وتقول معي فوق الخماسي ودون السداسي، ولك السداسي وفوقه، وجئتك بسداسي أو فوقه، وهو بالبصرة أو دونها، فكل ذلك نصب.
قال أبو الحسن وأخبرني بعض النحويين أنّه سمع العرب يقولون: ارقبني في سوائه، فأجراه مجرى (غير) وجعله اسما.
[الحجة للقراء السبعة: 1/251]
قال أبو علي: ولو تأول متأول ما حكاه أبو الحسن من قولهم: ارقبني في سوائه على «سواء» الذي هو الوسط، لا التي بمعنى غير- كما جاء في التنزيل: في سواء الجحيم [الصافات/ 55]- لكان مذهبا. فيجوز على ما تأوله أبو الحسن في الآي وفي سواء- في قول الشاعر:
فلم يبق منها سوى هامد... وسفع الخدود، وغير النّئيّ
أن يكون سوى في موضع نصب، وإن كان فاعلا، لأنّه ظرف. ويجوز أن يكون لما جعله اسما للضرورة رفعه كما رفع وسطا في قولهم:
وسطها قد تفلّقا
وجعله بمنزلة «غير» لما كان بمعناها، ألا ترى أنّه جعلها بمنزلة غير في عطفها عليها في قوله: وغير النّئيّ. كأنّه قال:
فلم يبق غير هامد وغير النّئي.
وقولهم في الاسم العلم: سواءة ليس من هذا الباب.
ألا ترى أن اللام منه همزة وليست منقلبه بدلالة قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 1/252]
فأبلغ إيادا إن عرضت وطيّئا... وأبلغ حليفينا، ومن قد تسوّءا
وأما الإنذار فإعلام معه تخويف، فكل منذر معلم، وليس كل معلم منذرا، ولم يمتنع أن يوصف [به] القديم سبحانه في نحو قوله: إنّا أنذرناكم عذاباً قريباً [النبأ/ 40] لأن الإعلام على الانفراد قد جاز وصفه به. والتخويف أيضا كذلك في قوله: ذلك يخوّف اللّه به عباده [الزمر/ 16].
فإذا جاز الوصف بكل واحد منهما على الانفراد لم يمتنع إذا دلّ لفظ على المعنيين اللذين جاز الوصف بكل واحد منهما منفردا أن يوصف سبحانه به.
وأنذرت: فعل يتعدى إلى مفعولين، يدلك على ذلك قوله: فقل أنذرتكم صاعقةً مثل صاعقة عادٍ وثمود [فصلت/ 13] وقال: إنّا أنذرناكم عذاباً قريباً [النبأ/ 40]، وقال تعالى:
قل إنّما أنذركم بالوحي [الأنبياء/ 45] فتعديته بالباء يحتمل أمرين: يجوز أن يكون لما دل على التخويف أجري مجراه:
فقلت أنذرته بكذا كما تقول: خوفته بكذا، ولذلك نظائر.
ويجوز أن يكون لما لم يتعد إلى مفعولين، الثاني فيه الأول عدي إلى مفعول واحد كما عدي علمت الذي بمعنى عرفت إلى مفعول واحد، فلما أريد تعديته إلى مفعولين، زيدت الباء لأنّ بناء الفعل على أفعل، فلا يجوز أن تدخل عليه همزة
[الحجة للقراء السبعة: 1/253]
أخرى للثقل، كما أنّه إذا أريد تعدية علمت الذي بمعنى عرفت إلى مفعولين زيدت عليه الهمزة أو ضعفت العين. فإذا حذفت الباء تعدى الفعل إلى المفعول الآخر، كما تعدى: أمرتك الخير واخترتك الرجال.
فأمّا قوله تعالى: قل إنّما أنذركم بالوحي [الأنبياء/ 45] فيحتمل أمرين: يجوز أن يكون الوحي الموحى، فسمّي بالمصدر مثل الخلق والصيد، والوحي: هو العذاب، فيكون كقوله: إنّا أنذرناكم عذاباً قريباً [النبأ/ 40]، ويجوز أن يكون الوحي يراد به الملك؛ فيكون التقدير في قوله تعالى: إنّما أنذركم بالوحي [الأنبياء/ 45]: أنذركم بإنذار الملك أو بإخباره. وقوله تعالى: إنّما أنت منذر من يخشاها [النازعات/ 45] مثل إنّما أنت معطي زيد، إذا أردت بالإضافة الانفصال، أي منذر من يخشى الساعة كما قال: وهم من السّاعة مشفقون [الأنبياء/ 49].
وقالوا: النذير والنّذر، كما قالوا: النكير والنكر، فجاء المصدر على فعيل وعلى فعل. وفي التنزيل: فكيف كان نكير، وفيه: فكيف كان عذابي ونذر. فأمّا قوله تعالى: نذيراً للبشر [المدثر/ 36] فقد قيل فيه قولان:
[الحجة للقراء السبعة: 1/254]
أحدهما: أن يكون حالا من (قم) المذكورة في أول السورة.
والآخر: أن يكون حالا من قوله: إنّها لإحدى الكبر [المدثر/ 35] فإذا جعل نذيرا حالا مما في قم، فإن النذير اسم فاعل بمعنى المنذر، كما أن السميع كالمسمع والأليم كالمؤلم.
وإن جعلته حالا من قوله: (لإحدى الكبر) فليس يخلو الحال من أن يكون من المضاف أو من المضاف إليه، فإن كان من المضاف كان العامل ما في إحدى من معنى التفرد.
وإن جعلت الحال من المضاف إليه كان العامل فيها ما في الكبر من معنى الفعل. وفي كلا الوجهين ينبغي أن يكون نذيرا مصدرا، لأنّ الأول المضاف مؤنث والمضاف إليه مؤنث مجموع، والمصدر قد يكون حالا من الجميع كما يكون حالا من المفرد. تقول: جاءوا ركضا، كما تقول: جاء ركضا.
وأما قوله تعالى: وجاءكم النّذير [فاطر/ 37] فمن قال: إن النذير النبي صلّى الله عليه وسلّم كان اسم فاعل كالمنذر، ومن قال: إنه الشيب كان الأولى أن يكون مصدرا كالإنذار.
وقال أبو زيد: نذر ينذر نذرا، ووفّى بنذره، وأوفى نذره.
وقال أبو الحسن: العرب تقول: نذر ينذر على نفسه نذرا، ونذرت مالي فأنا أنذره. أخبرنا بذلك يونس عن العرب. قال:
[الحجة للقراء السبعة: 1/255]
وفي كتاب الله تعالى إنّي نذرت لك ما في بطني محرّراً [آل عمران/ 39] وقال الشاعر:
هم ينذرون دمي وأنـ ... ـذر إن لقيت بأن أشدّا
وقال عنترة:
الشاتمي عرضي ولم أشتمهما... والناذرين إذا لم القهما دمي
ومثل الإنذار في أنّه ضرب من العلم قولهم: اليقين، فكل يقين علم، وليس كل علم يقينا، وذلك أنّ اليقين كأنّه علم يحصل بعد استدلال ونظر، لغموض المعلوم المنظور فيه، أو لإشكال ذلك على الناظر.
يقوي ذلك قوله عز وجل: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السّماوات والأرض وليكون من الموقنين [الأنعام/ 75] ثم ذكر بعد ما كان من نظره واستدلاله، ولذلك لم يجز أن يوصف القديم سبحانه به، فليس كل علم يقينا لأنّ من المعلومات ما يعلم من غير أن يعترض فيه توقف أو موضع نظر، نحو ما يعلم ببدائه العقول والحواس، ويؤكد ما ذكرنا من ذلك قول رؤبة:
[الحجة للقراء السبعة: 1/256]
يا دار عفراء ودار البخدن
أما جزاء العارف المستيقن
[عندك إلا حاجة التفكّن]
فوصفه العالم بالمستيقن يقوي أنّه غيره.
ومما يبين ذلك ما تراه في أشعارهم من توقفهم عند الوقوف في الديار لطول العهد وتعفي الرسوم ودروسها حتى يثبتوها بالتأمل لها والاستدلال عليها، كقوله:
وقفت بها من بعد عشرين حجة... فلأيا عرفت الدار بعد توهم
وقال:
توهّمت آيات لها فعرفتها
وقال:
أم هل عرفت الدار بعد توهّم
قال محمد بن السري قالوا في قوله بعد توهم: توهمت الشيء: أنكرته. وعند التباس الأمر وإشكاله يفزع إلى النظر،
[الحجة للقراء السبعة: 1/257]
ويرجع إلى الدليل، فكذلك قول رؤبة:
أما جزاء العارف المستيقن
أي: المتوقف المتبين لآثارك ورسومك إلى أن يثبتك، كقول عنترة في ذلك.
ومن ذلك الدراية، هي مثل ما تقدم في أنّها ضرب من العلم مخصوص، وكأنّه من التلطف والاحتيال في تفهم الشيء. أنشد أبو زيد:
فإنّ غزالك الذي كنت تدّري... إذا شئت ليث خادر بين أشبل
قال أبو زيد: تدّري: تختل. وقال آخر:
فإن كنت لا أدري الظباء فإنّني... أدسّ لها تحت التراب الدواهيا
وأنشد أحمد بن يحيى:
إما تريني أذّري وأدّري... غرّات جمل وتدرّى غرري
[الحجة للقراء السبعة: 1/258]
واختلفوا في الدّرية، وهو البعير الذي يستتر به الصائد من الوحش حتى يمكنه رميها.
فقال أبو زيد فيما حكى عنه: هي مهموزة لأنّها تدرأ نحو الوحش، أي تدفع، فأمّا من لم يهمز فإنّه يمكن أن يكون من الدرء الذي هو الدفع فخفف.
ويمكن أن يكون من الادّراء الذي هو الختل، لأنّ معنى الختل لها والاحتيال عليها في الاستتار به عنها حتى يرمي ظاهرا.
فأمّا الدريئة للحلقة التي يتعلّم عليها الطعان، فرواها السكري مهموزة فيما أنشده عن أبي زيد:
كأنّ دريئة لمّا التقينا... بنصل السيف مجتمع الصّداع
[بخط السكري: الدريئة: الحلقة يتعلم عليها الطعن،
[الحجة للقراء السبعة: 1/259]
ومجتمع الصداع: الرأس] [كذا رواها السكري في نوادر أبي زيد عن الرياشي. روى ابن دريد فكان دريئة] وكذلك قول الجهنية صاحبة المرثية أنشده [السكري عن أبي حاتم]:
أجعلت أسعد للرماح دريئة... هبلتك أمّك أيّ جرد ترقع
بخطه: الجرد: الثياب الخلقان [ضربه مثلا].
ويقال: دريت الشيء ودريت به قال سيبويه: وتعديه بحرف الجر أكثر في كلامهم، وأنشد أبو زيد:
أصبح من أسماء قيس كقابض... على الماء لا يدري بما هو قابض
فإذا قال: دريت الشيء، فكأنّ المعنى على ما عليه هذا الباب: تأتيت لفهمه وتلطفت، وهذا المعنى لا يجوز على العالم بنفسه. وقد أجاز أحد أهل النظر ذلك، واستشهد عليه بقول بعضهم:
لا همّ لا أدري وأنت الدّاري
[الحجة للقراء السبعة: 1/260]
وهذا لا ثبت فيه، لأنّه يجوز أن يكون من غلط الأعراب، فكأنّه سمع دريت وعلمت يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر كثيرا، فظنّ أنّهما في كل المواضع كذلك. ومثل هذا من جفاء الأعراب ما أنشده بعض البغداديين:
لا همّ إن كنت الذي بعهدي... ولم تغيّرك الأمور بعدي
وقول العجّاج:
فارتاح ربّي وأراد رحمتي
وقول الآخر:
يا فقعسيّ لم أكلته لمه... لو خافك الله عليه حرّمه
وقال أوس:
[الحجة للقراء السبعة: 1/261]
أبني لبينى لا أحبّكم... وجد الإله بكم كما أجد
وقالت امرأة من أسد:
أشار لها آمر فوقه... هلمّ فأمّ إلى ما أشارا
تعني الله سبحانه. فأمّا شعرت فمصدره شعرة بكسر الأول، كالفطنة والدرية. وقالوا: ليت شعري، فحذفوا التاء مع الإضافة للكثرة. وقد قالوا: ذهب بعذرتها، وهو أبو عذرها.
ويروى أنّ عليا، عليه السلام، لما قال له عديّ بن حاتم: ما الذي لا ينسى؟ قال: المرأة لا تنسى أبا عذرها، ولا قاتل واحدها. وكأنّ شعرت مأخوذ من الشعار، وهو ما يلي الجسد.
فكأنّ شعرت به علمته علم حسّ. وقال الفرزدق:
لبسن الفرند الخسروانيّ فوقه... مشاعر من خزّ العراق المفوّف
[الحجة للقراء السبعة: 1/262]
وفي الحديث: «أشعرنها إياه»، أي: اجعلنها الشعار الذي يلي الجسد، كما أن المعنى في البيت: لبسن الفرند الخسرواني مشاعر، فوقه المفوف من خزّ العراق، أي:
جعلنها الشعار.
فقولهم: شعرت ضرب من العلم مخصوص. فكل مشعور به معلوم، وليس كل معلوم مشعورا به. ولهذا لم يجز في وصف الله تعالى كما لم يجز في وصفه درى، وكان قول الله تعالى في وصف الكفار: ولكن لا يشعرون [البقرة/ 12] أبلغ في الذم للبعد عن الفهم من وصفهم بأنهم، لا يعلمون لأنّ البهيمة قد تشعر من حيث كانت تحسّ. فكأنّهم وصفوا بنهاية الذهاب عن الفهم.
وعلى هذا قال سبحانه: ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل اللّه أمواتٌ بل أحياءٌ ولكن لا تشعرون
[الحجة للقراء السبعة: 1/263]
[البقرة/ 154] فقال: (ولكن لا تشعرون) ولم يقل ولكن لا تعلمون، لأنّ المؤمنين إذا أخبرهم الله تعالى بأنّهم أحياء علموا أنّهم أحياء، فلا يجوز أن ينفي الله تعالى العلم عنهم بحياتهم، إذ كانوا قد علموا ذلك بإخباره إيّاهم وتيقّنوه، ولكن يجوز أن يقال: ولكن لا تشعرون، لأنّهم ليس كل ما علموه يشعرونه، كما أنه ليس كل ما علموه يحسّونه بحواسّهم، فلمّا كانوا لا يعلمون بحواسّهم حياتهم، وإن كانوا قد علموه بإخبار الله إيّاهم، وجب أن يقال: لا تشعرون، ولم يجز أن يقال: ولكن لا تعلمون على هذا الحدّ.
ومن ذلك النقه. قال أبو زيد: نقه عنّي القول نقها ونقوها: إذا فهم عنك القول، قال: وتقول: نقه الرجل من مرضه ينقه نقوها إذا برأ.. وهذا لا يجوز في وصف القديم كما أن الفهم الذي فسّر أبو زيد به النقه لا يجوز في وصفه.
[بسم الله]
الإعراب
قوله تعالى: سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم [البقرة/ 6] لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الخبر، ومثل ذلك قولهم: ما أبالي أشهدت أم غبت، وما أدري أأقبلت أم أدبرت. وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام وإن كان خبرا لأن فيه
[الحجة للقراء السبعة: 1/264]
التسوية التي في الاستفهام، ألا ترى إذا استفهمت فقلت:
أخرج زيد أم أقام؟ فقد استوى الأمران عندك في الاستفهام، وعدم علم أحدهما بعينه، كما أنّك إذا أخبرت فقلت: سواء عليّ أقعدت أم ذهبت، فقد سويت الأمرين عليك، فلمّا عمّتهما التسوية، جرى على هذا الخبر لفظ الاستفهام، لمشاركته له في الإبهام. فكلّ استفهام تسوية، وإن لم يكن كل تسوية استفهاما.
ومثل التسوية- في هذا- الاختصاص في نحو: أنا أفعل كذا أيّها الرجل، واللهم اغفر لنا أيّتها العصابة، لمّا كنت مختصّا نفسك والعصابة في هذا الكلام جرى عليه لفظ النداء من حيث أردت الاختصاص الذي أردته في النداء، كما جرى الاستفهام على التسوية فمن ثمّ صار كل منادى مختصّا، وإن لم يكن كل مختص منادى.
ولا يجوز في هذا الموضع (أو) مكان (أم)، لأن المعنى: سواء عليّ هذان، ألا ترى أنك لو قلت: سواء عليّ القيام والقعود، لم يجز إلّا الواو.
وكذلك لو أظهرت المصدرين اللذين دلّ عليهما لفظ الفعلين المذكورين في قوله تعالى: اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواءٌ عليكم [الطور/ 16] لقلت: سواء عليكم الجزع والصبر، ولم تقله بأو، كما قال تعالى:
[الحجة للقراء السبعة: 1/265]
سواءً العاكف فيه والباد [الحج/ 25] ولو قلت: سواء عليّ العاكف أو البادي، أو سواء عليّ الجزع أو الصبر، لكان المعنى سواء عليّ أحدهما، وسواء عليّ أحدهما كلام محال، لأن التسوية لا تكون إلا بين شيئين فصاعدا.
فإن قلت: فقد قال أبو عمرو: إن الأصمعي أنشدهم لرجل من هذيل:
وكان سيان ألّا يسرحوا نعما... أو يسرحوه بها واغبرّت السّوح
فأنشدهموه بأو، وسيّان مثل سواء، ألا ترى أنه لا يستقيم زيد أو عمرو سيان [كما لا يستقيم مع سواء ولا تكون أو بمنزلة الواو. فالقول في ذلك أن هذا على ظاهر الاستحالة التي ذكرنا، وإنما استجاز هذا الكلام بأو لأنّه يراه يقول: جالس الحسن أو ابن سيرين، فيجوز له أن يجالسهما ويسمع: ولا تطع منهم آثما أو كفورا [الإنسان/ 24] فلا يطيعهما، كما أنه إذا قيل له ذلك بالواو كان كذلك. فلما رآها
[الحجة للقراء السبعة: 1/266]
تجري مجرى الواو في نحو هذه المواضع أجراها مجراها مع سواء وسيّان. فهذا كلام حقيقته ما ذكرنا، والذي سوّغه عند قائله ما وصفنا. وكذلك قول المحدث:
سيّان كسر رغيفه... أو كسر عظم من عظامه
فأمّا قوله: مررت برجل سواء درهمه، وهذا درهم سواء، فمعناه تامّ فهذا يجوز الاقتصار به على اسم مفرد] وكذلك قوله تعالى: ولمّا بلغ أشدّه واستوى [القصص/ 14] أي: كمل وتمّ. فهذا الفعل مثل هذا الاسم، ولو كان من التسوية بين الشيئين لم يستغن بفاعل كما لم يستغن سواء عن اثنين في نحو: سواءً العاكف فيه والباد [الحج/ 25].
فأمّا قوله تعالى: ذو مرّةٍ فاستوى وهو بالأفق الأعلى [النجم/ 6] فمعناه: استقام، كقوله: بلغ أشدّه واستوى [القصص/ 64]. ولا تكون المقتضية لفاعلين، لأن الضمير المرفوع لم يؤكد في الآية. فقوله: وهو بالأفق الأعلى جملة
[الحجة للقراء السبعة: 1/267]
في موضع الحال. ولم يثنّ سواء كما ثني سيّان، وإن كانوا قد كسّروه في قولهم: سواسية.
وحكى السكري عن أبي حاتم إجازة تثنية سواء، ولم يصب ابن السجستاني في ذلك، لأنّ أبا الحسن وأبا عمر زعما أن ذلك لا يثنى، كأنّهم استغنوا بتثنية سيّ عن تثنية سواء، كما استغنوا عن ودع بترك. وعلى ما قالا جاء التنزيل في قوله: سواءً العاكف فيه والباد [الحج/ 25] وقوله: اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواءٌ عليكم [الطور/ 16] فسواء في الآية مرتفع بالابتداء، وما بعده مما دخل عليه حرف الاستفهام في موضع الخبر، وبالجملة في موضع رفع بأنّها خبر إنّ.
فأمّا قوله: (لا يؤمنون) فيستقيم أن يكون استئنافا، ويستقيم أن يكون حالا من الضمير المنصوب على حدّ: معه صقر صائدا به غدا وبالغ الكعبة [المائدة/ 95] ويستقيم أن تجعله خبر إنّ، فيكون في موضع رفع، ولا يكون لقوله: (سواء عليهم) وما بعده موضع من الإعراب، كما حكمنا على موضعه بالرفع فيما تقدم، لأنّه الآن يصير اعتراضا بين الخبر والاسم، ألا ترى أنه [مما] يؤكد امتناعهم من الإيمان. وهذه الآية ينبغي أن تكون خاصّة لقوم بعينهم، لأن كثيرا من الكفّار قد آمنوا.
فإن قلت: لم زعمتم أن (سواء) يرتفع بالابتداء على ما عليه التلاوة، وأنت إذا قدّرت هذا الكلام على ما عليه
[الحجة للقراء السبعة: 1/268]
المعنى فقلت: سواء عليهم الإنذار وتركه كان (سواء) خبر ابتداء مقدّما، فهلا قلت فيها ذلك أيضا قبل تقدير الكلام بالمعنى؟.
فالقول في هذا أن (سواء) يرتفع حيث ذكرنا بالابتداء، وإن كان في قوله: سواء عليهم الإنذار وتركه يرتفع بأنّه خبر مقدم. وذلك أنه لا يخلو في قولك: سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم [البقرة/ 6] من أن يرتفع بأنه مبتدأ أو خبر مبتدأ.
فإن رفعته بأنه خبر لم يجز، لأنّه ليس في الكلام مخبر عنه، فإذا لم يكن مخبر عنه بطل أن يكون خبرا، لأنّ الخبر إنّما يكون عن مخبر عنه. فإذا فسد ذلك ثبت أنّه مبتدأ.
وأيضا فإنّه لا يجوز أن يكون خبرا، لأنّه قبل الاستفهام، وما قبل الاستفهام لا يكون داخلا في حيّز الاستفهام، فلا يجوز إذن أن يكون الخبر عمّا في الاستفهام متقدّما على الاستفهام.
فإن قلت: كيف جاز أن تكون الجملة التي ذكرتها من الاستفهام خبرا عن المبتدأ وليست هي هو ولا له ذكر فيها؟
فالقول في ذلك: أنّه كما جاز أن يحمل المبتدأ على المعنى فيجعل خبره ما لا يكون إيّاه في المعنى، ولا له فيه ذكر، كذلك جاز في الخبر لأنّ كلّ واحد منها يحتاج أن يكون صاحبه في المعنى. فما جاز في أحدهما من خلاف ذلك جاز في الآخر، وذلك قولهم: «تسمع بالمعيدي خير من أن
[الحجة للقراء السبعة: 1/269]
تراه». ألا ترى أن خيرا خبر عن تسمع، وكما أخبر عنه كذلك عطف عليه في قولهم: تسمع بالمعيدي لا أن تراه، والفعل لا يعطف عليه الاسم كما لا يخبر عنه، إلّا أنّ المعنى لمّا كان على الاسم استجيز فيه الإخبار عنه والعطف عليه، وجاز دخول لا على الاسم من غير تكرير، كما جاز في قولهم: هذان لا سواء، لأن الخبر لم يظهر في الموضعين جميعا.
ونظير ما في الآية من أن خبر المبتدأ ليس المبتدأ ولا له فيه ذكر ما أنشده أبو زيد:
فإنّ حراما لا أرى الدّهر باكيا... على شجوه إلّا بكيت على عمرو
فإن قلت: أيجوز أن توقع الجملة التي من الابتداء والخبر موقع التي من الفعل والفاعل في نحو: سواء عليّ أقمت أم قعدت، فتقول: سواء علي أدرهم مالك أم دينار، وما أبالي أقائم أنت أم قاعد؟
فالقول في ذلك أنّ أبا الحسن يزعم أنّ ذلك لا يحسن.
قال: وكذلك لو قلت: ما أبالي أتقوم أم تقعد؟ لم يحسن، لأنّه
[الحجة للقراء السبعة: 1/270]
ليس معه الحرف الذي يجزم.
ومما يدلّ على ما قال أن ما جاء في التنزيل من هذا النحو جاء مع المثال الماضي، كقوله تعالى: سواءٌ علينا أجزعنا أم صبرنا [إبراهيم/ 21] وقوله: سواءٌ عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم [المنافقون/ 6] وسواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم [البقرة/ 6] وقال:
سواء عليك اليوم أنصاعت النّوى... بخرقاء أم أنحى لك السيف ذابح
وقال:
ما أبالي أنبّ بالحزن تيس... أم لحاني بظهر غيب لئيم
فهذا الكلام، وإن كان قد جرى عليه حرف الاستفهام
[الحجة للقراء السبعة: 1/271]
للتسوية فهو خبر، فلمّا كانوا قد حذفوا حرف الجزاء واستمرّ حذفه لطول الكلام حيث لو أظهر لم يمتنع- وذلك نحو لأضربنّه ذهب أو مكث- لزم حذف الحرف هنا لإغناء حرف الاستفهام عنه لمقاربة الشرط الاستفهام في اجتماعهما في أنّهما ليسا بخبر، وأنّهما يقتضيان الجواب، وبعض الحروف قد يغني عن بعض، ألا ترى أنّ أن لم تظهر في قولهم: ما كان زيد ليقوم، وأنّ أن قد أغنى عن اللام الجارة في نحو: أتيتك أن احتزّ مودة زيد، ونحو ذلك، وكذلك حروف العطف إذا نصب بها، فكذلك حروف المجازاة لمّا كانوا قد حذفوه في قولهم: لأضربنّه ذهب أو مكث، واستمرّ حذفه مع أنّه [لا حرف] يكون بدلا منه كان حذفه في باب: سواء وما أبالي، للزوم ما ذكرنا من الحرف له أولى.
ولم يجز أن يقع موقع التي من الفعل والفاعل التي من الابتداء والخبر، كما لم يجز ذلك في قوله: لأضربنّه ذهب أو مكث، وغير ذلك من المواضع التي يراد فيها الجزاء، ولم يقع إلّا التي من الفعل والفاعل، لتدلّ على الجزاء، كما لم تقع إلّا التي من الفعل والفاعل في نحو: عسى زيد أن يقوم، وكاد يذهب، وبابهما. ولم يستعملوا المصدر ليجري ذكر المثال الذي يدل على الزمان في الكلام لما أرادوا من تقريبه، وإن كان المصدر غير ممتنع استعماله هاهنا، كما قالوا:
[الحجة للقراء السبعة: 1/272]
«عسى الغوير أبؤسا»
فإذا كانوا قد امتنعوا من استعمال الاسم والمصدر هنا، مع أن المعنى في استعماله غير فاسد، فألّا يستعمل حيث معناه الجزاء ولا يصح المعنى في غير الفعل أجدر.
فأمّا قوله: سواءٌ عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون [الأعراف/ 193] فإنّما وقع أم أنتم صامتون في موضع: أم صمتّم: وجاز ذلك هنا لتقدم التي من الفعل والفاعل، فحسن لتقدّمها أن توقع بعدها التي من الفعل والفاعل، فحسن لتقدّمها أن توقع بعدها التي من الابتداء والخبر، كما جاز ذلك في الجزاء، لأنّها هنا بعد حرف، كما أنّه ثمّ بعد الفاء أو إذا. ولو لم يتقدم «أدعوتموهم» كما أنّه لو لم يتقدم الشرط في نحو: إن تأتني فلك درهم، أو: فعمرو مكرم، ونحو ذلك لم يجز وقوع التي من الابتداء والخبر موقع التي من الفعل والفاعل.
ومثل ذلك في وقوع التي من اسمين موقع الفعل والفاعل
[الحجة للقراء السبعة: 1/273]
قوله: هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواءٌ [الروم/ 28] فقوله: فأنتم فيه سواءٌ واقعة موقع التي من الفعل والفاعل، كأنّه قال: هل لكم مما ملكت أيمانكم شركاء فيساووكم، أي: فكما لا يساويكم مماليككم في أموالكم فيكونون فيها أمثالكم، كذلك لا تسوّوا ما اتخذتموه آلهة بمن يملكهم، وبمن خلقهم وبرأهم. وجاز ذلك لوقوعها بعد الحرف، وأنّ تقدم الاستفهام في قوله: «هل لكم» يضارع تقدم الشرط، فلذلك جاز هذا. وإذا كان الموضع موضع جزاء، ثبت أنّ وقوع المضارع لا يحسن في نحو: سواء عليّ أتقوم أم تذهب، كما لا يحسن في قوله: لأضربنه يمكث أو يذهب، على حدّ لأضربنه ذهب أو مكث.
وأمّا التقاء الهمزتين في: أأنذرتهم وتحقيقهما: فمن حجّة من حقّقهما أن يقول: إن الهمزة حرف من حروف الحلق، فكما اجتمع المثل مع مثله مع سائر حروف الحلق، نحو فهّ وفههت وكعّ وكععت، كذلك حكم الهمزة.
وممّا يجوّز ذلك ويسوّغه أن سيبويه زعم أن ابن أبي إسحاق كان يحقق الهمزتين وأناس معه. قال سيبويه: وقد تتكلم ببعضه العرب وهو رديء.
[الحجة للقراء السبعة: 1/274]
ومما يقوّي ذلك من استعمالهم له قولهم: رأّس وسآل وتذأّبت الريح ورأّيت الرجل. فكما جمع الجميع بينهما إذا كانتا عينين، كذلك يجوز الجمع بينهما في غير هذا الموضع.
وممّا يقوي ذلك أنّهم قد أبدلوا منها غيرها في نحو: يهريق وهيّاك، كما أبدلوها من غيرها في نحو رأيت رجلأ وهذه حبلأ في الوقف. فكما جرت مجرى سائر الحروف المعجمة في إبدالها من غيرها وإبدال غيرها منها، كذلك تكون سبيلها في اجتماعها مع مثلها، كما اجتمع سائر الحروف مع أمثالها.
والحجّة لمن قال: (أانذرتهم)، فلم يجمع بين الهمزتين وخفّف الثانية أن يقول: إن العرب قد رفضت جمعهما في مواضع من كلامهم. من ذلك أنّهم لمّا اجتمعتا في آدم وآدر
[الحجة للقراء السبعة: 1/275]
وآخر، ألزموا جميعا الثانية البدل، ولم يحقّقوا الثانية، ولما كسّروا وحقّروا جعلوا هذه المبدلة بمنزلة ما لا أصل له في الهمز فقالوا: أواخر وأويخر، فأبدلوا منها الواو، كما أبدلوها ممّا هو ألف لا يناسب الهمزة، نحو: ضوارب وضويرب. ففي هذا دلالة بيّنة على رفضهم اجتماعهما. ألا ترى أنهم لم يرجعوها في التحقير والتكسير كما رجعوا الواو في ميقات وميعاد والياء من موسر في قولهم: مواقيت ومياسير. ففي ذلك دلالة بيّنة على رفضهم لجمعهما.
ومن ذلك أنّا لم نجد كلمة عينها همزة ولامها كذلك، كما وجدنا ذلك في سائر أخوات الهمزة من الحلقية، كقولهم: مهاه وفهّ ويدعّ اليتيم ومحّ وألحّ وضغيغة ومخّ. فأن لم يجمعوا بين الهمزتين في الموضع الذي جمع فيه بين أخواتها، وكرّرت، دلالة على رفضهم لجمعهما. وإذا لم يتوال ذلك في بنات الثلاثة، فألّا يتوالى ذلك في بنات الأربعة أولى.
فأمّا نحو: نأنأ وطأطأ وبأبأ الصبيّ أباه، فقد حجز الحرف بينهما، وإنّما الذي ينكر تواليهما من غير أن يحجز بينهما شيء. ومن ثم قال أبو الحسن في بناء مثل قمطر من
[الحجة للقراء السبعة: 1/276]
قرأت: قرأي، فلم يكرّر الهمزة، كما تكرّر سائر اللامات، نحو جلبب وقعدد وعوطط. ومن ذلك أنهم ألزموا باب رزيئة وخطيئة عمّا يؤدي إلى اجتماع همزتين فيه، فقالوا: خطايا ورزايا. فلو كان لاجتماعهما عندهم مساغ ما رفضوا ذلك الأصل، كما أنّه لو كان لتحرك العينات في نحو: قال وباع مجاز ما ألزموهما القلب.
فإن قال: فقد حكي عن بعضهم: خطائىء، بتحقيق الهمزتين فذلك يجري مجرى الأصول المرفوضة، نحو:
.... ضننوا
..... والأظلل
[الحجة للقراء السبعة: 1/277]
ولو جاز الاعتداد بذلك وبما أشبهه لجاز أن يقال في تكسير مطية: مطائي لقول بعضهم سماء، فإذا كانوا قد رفضوا ذلك في حال السعة والاختيار- مع أنّه أسهل من اجتماع الهمزتين- فأن يرفض اجتماع الهمزتين أجدر.
ومن ذلك أنهم إذا بنوا اسم فاعل من ناء وساء وشاء وجاء قالوا: شاء وناء، فرفضوا الجمع بينهما في هذا الطرف- كما رفضوه أولا في آدم وآخر- إما بالإبدال وإما بالقلب كما يقوله الخليل، وأخذوا- على قول النحويين غير الخليل - بما رفضوه في غيره من توالي الإعلالين. فلولا أنّ اجتماعهما عندهم أبعد من توالي الإعلالين لم يأخذوا بتواليهما المرفوض من كلامهم في هذا الموضع، كما أن إخلاء الفعل من الفاعل لولا أنّه أبعد عندهم من الإضمار قبل الذكر لم يأخذوا بالإضمار قبل الذكر في مثل: نعم رجلا، وضربني وضربت زيدا لمّا كان يلزمهم في هذه المواضع إخلاء الفعل من الفاعل.
ومن ذلك أن من قال: هذا فرجّ وهو يجعلّ، فضاعف
[الحجة للقراء السبعة: 1/278]
في الوقف حرصا على البيان لم يضاعف نحو النبأ والرشإ، لكنه رفض هذا الضرب من الوقف وما كان يحرص عليه من البيان، لمّا كان يلزمه الأخذ بما تركوه، والاستعمال لما رفضوه: من اجتماع الهمزتين.
ومن ذلك أنّ الهمزة إذا كانت مفردة غير متكررة كرهها أهل التخفيف حتى قلبوها أو حذفوها، لئلا يلزمهم تحقيقها، وقد وافقهم في بعض ذلك أهل التحقيق، كموافقتهم لهم في يرى. فلمّا كرهوا ذلك في الإفراد وجب إذا تكررتا ألا يجوز إلا التغيير، ألا ترى أنّ الواو المفردة المضمومة لمّا كنت مخيّرا في تصحيحها وقلبها، ثم انضم إليها أخرى، لزم قلبها وامتنع تصحيحها الذي كان يجوز فيها قبل التكرر، فكذلك الهمزة إذا انضمت إليها أخرى، لزم رفضهما وامتنع جمعهما، كما كان ذلك في الواوين. فكما لم يجمع أحد بين هاتين الواوين كذلك يجب ألا يجمع بين الهمزتين.
ومن ذلك أنّ ناسا- إذا اجتمعتا من كلمتين- فصلوا بينهما بالألف في نحو:
أاأنت زيد الأرانب
كما فصلوا بين النونات في نحو اخشينانّ. فكما ألزموا الفصل بين النونات بالألف، كذلك يلزم في آأنت لئلا تجتمع
[الحجة للقراء السبعة: 1/279]
الهمزتان. بل ذلك في الهمزتين ينبغي أن يكون ألزم، لما قدّمنا لرفضهم لهما وجمعهم في التضعيف بين أكثر من حرفين نحو ردّد وشدّد. فإذا كانوا قد ألزموا النون في اخشينان [الفصل] بين ما يجتمع مثله فأن يلزموها بين ما رفضوا الجمع بينهما أجدر.
فهذه الأشياء تدلّ على رفض اجتماع الهمزتين في كلامهم.
فأمّا جمعهما وتحقيقهما في (أأنذرتهم) فهو أقبح من تحقيقهما من كلمتين منفصلتين، نحو قرأ أبوك ورشأ أخيك، لأنّ الهمزة الأولى من (أأنذرتهم) تنزّل منزلة ما هو من الكلمة نفسها، لكونها على حرف مفرد، ألا ترى أنّهم قالوا: لهو وفهو، ولهو خير الرّازقين [الحج/ 58] ولهي، فخفّفوا ذلك كله، كما خفّفوا عضدا فقالوا: عضد، فكذلك الأولى في (أأنذرتهم) لمّا لم تنفصل من الكلمة صارت بمنزلة التي في آخر، كما نزّلت الحروف المفردة التي ذكرتها منزلة فاء الفعل في عضد وفخذ.
فأمّا إذا كانتا من كلمتين فاجتماعهما في القياس أحسن من هذا، ألا ترى أن المثلين إذا كانا في كلمة نحو: يردّ ويعضّ، لا يكون فيهما إلا الإدغام؟ ولو كانا منفصلين نحو: يد داود لكنت في الإدغام والبيان بالخيار. فعلى هذا تحقيق
[الحجة للقراء السبعة: 1/280]
الهمزتين في (أأنذرتهم) وما أشبهه أبعد منه في الكلمتين المنفصلتين.
وممّا يقوّي ترك الجمع بين الهمزتين أنّهم قد قالوا في جمع ذؤابة: ذوائب، فأبدلوا من الهمزة التي هي عين واوا في التكسير كراهة للهمزتين مع فصل حرف بينهما.
فإذا كرهوهما مع فصل حرف بينهما حتى أبدلوا الأولى منهما فأن يكرهوهما مجتمعتين غير مفصول بينهما بشيء أجدر. وإذا كان الجمع بينهما في: (أأنذرتهم) من البعد ما أريتك فالجمع بينهما في أئمة أبعد، لأنّ الهمزتين لا تفارقان الكلمة، وهمزة الاستفهام قد تسقط في الإخبار وغيره. فكلّما كانتا أشد لزوما للكلمة كان التحقيق منهما أبعد.
وممّا يدلّ على ضعف جمع الهمزتين وأن مذهب الجمهور من العرب رفضه عزّتها في باب أجأ وآءة وإنّما قلّ ذلك من حيث لم يستجيزوا اجتماع الهمزتين فأجروا نحو أجأ ذلك المجرى، لمّا كان الفصل بحرف واحد قد جرى في كلامهم مجرى غير الفصل. وذلك نحو قولهم هو ابن عمي دنيا وقنية وعلية وعليان، وهما من علوت. وكذلك رفضوا افعل من حيث رفضوا فعل، وإن كان الفصل في افعل قد وقع بالحرف، فلما لم يعتد بالحرف الفاصل وقلبت الكسرة الواو
[الحجة للقراء السبعة: 1/281]
ياء، كما قلبته في ثيرة وسياط، ولم يكن بالفصل اعتداد، كذلك لم يكن الفصل بالحرف في نحو أجأ فصلا، فرفض ذلك كما رفض التحقيق في جاء ونحوه.
فأمّا تحرك الجيم في أجأ وسكون الحرف في دنيا فإن الحركة في هذا النحو قد لا يعتدّ بها لقلّتها، ألا ترى استجازتهم لحذفها في الزحاف؟.
ومثل دنيا في أن الحرف الفاصل لم يعتدّ به قولهم:
معديّ في معدوّ، ومرضيّ ومسنيّة. ومثله: صيّم وقيّل. ونحو ذلك، ومثله: قائل وبائع، جعل الحرفان كأنّهما وقعا طرفا حيث كان الفاصل بينهما وبين الطرف حرفا. ومثله: أوليّاء أوقعت الألف التي آخرا قبل الآخر بحرف لمّا كان الفاصل بينه وبين الطرف حرفا واحدا. ومثله: أوائل وعيائل، ولو كان الفاصل حرفين كطواويس لم يعلّ. فكما أنّ الحرف المفرد في هذه المواضع لم يفصل، كذلك في باب أجأ لم يفصل، فقلّ ذلك لمّا كان الحرف المفرد في هذه المواضع غير معتدّ به. وإذا لم يعتدّ به صارت الهمزتان كأنّهما قد التقيا، والتقاؤهما ممّا قد رفضوه، فكذلك رفضوا ما كان في حكم التقائهما.
[الحجة للقراء السبعة: 1/282]
فإن قلت: إن سيبويه قد ذهب في ألاءة وأشاءة ونحوهما إلى أن اللام يجوز أن تكون همزة، وقد جاء من ذلك حروف. قيل: لم يكن هذا مثل أجأ، للفصل بالزيادة، ألا ترى أنّ الفاصل الذي لم يعتدّ في أوائل لمّا انضم إليه حرف آخر في طواويس اعتدّ به فصلا، وإن كان زائدا فلم يعلّ الحرف، فكذلك الفصل هاهنا لمّا وقع بالزيادة لم يمتنع الحكم عنده بأن اللام همزة، كما امتنع حيث كان الفصل حرفا واحدا. وقد وجدت الزيادة تسوّغ في تألف الحروف ما لولا مكانها لم يسغ.
ألا ترى أنّه ليس مثل قنر بلا فاصل بين النون والراء وقد قالوا: شنّير وقالوا: الشّنار، وقالوا: سنّور وسنوّر فائتلف لفصل الزيادة ما لم يكن يأتلف لولا فصلها؟ فكذلك فصل الزيادة بين الهمزتين في ألاءة وأشاءة فيما ذهب إليه.
وجاء ذلك في طأطأ ونأنأ ودأدأ للفصل الواقع بينهما، ولأنّ ما يعرض في الثلاثة من كثرة التصرّف لا يعرض في هذا الباب.
[الحجة للقراء السبعة: 1/283]
واعلم أن قول سيبويه: ليس من كلام العرب أن تلتقي همزتان فتحقّقا، وقوله في باب الإدغام: إن ابن أبي إسحاق وناسا معه يحقّقون الهمزتين وقد تكلّم ببعضه العرب وهو رديء، ليس على التدافع ولكن لأنّه لم يعتدّ بالرديء، أو يكون لم يعتد بالتقاء المحقّقتين لقلّة ذلك بالإضافة إلى ما خفّف إذا اجتمعا. وقد عمل ذلك في أشياء نحو انقحل فعلى هذا يحمل ذلك أيضا من قوله.
قالوا: فلمّا رأيناهم قد رفضوا اجتماع الهمزتين في هذه المواضع، لم نجمع بينهما وخفّفنا الثانية، لأنّ في تخفيفها تقريبا من الألف، ألا ترى أنّ الهمزة إذا كانت مبتدأة لم تخفف لأنّ في تخفيفها تقريبا من الساكن؟ فكما أن الساكن لا يبتدأ به كذلك ما قرب من الساكن. فكما جرت مجرى الساكن في تقريبهم إيّاها منه، كذلك تجرى مجراه إذا خففنا الثانية، فتصير بعد الأولى كالألف بعدها. فكما لم تكره الألف بعدها في نحو أادم وأاخر، كذلك المخفّفة بعدها في: (أانذرتهم) لا تكره بعدها، كما تكره إذا حقّقت لما أرينا، مما دلّ على رفض العرب الجمع بينهما محقّقتين.
وحجة من فصل بين الهمزتين بألف وخفّف الهمزة الثانية
[الحجة للقراء السبعة: 1/284]
مع الفصل بينهما بالألف. وهو الثّبت عن أبي عمرو عندنا، لأن سيبويه زعم أن ذلك هو الذي يختاره أبو عمرو.
وقد قال أحمد بن موسى: إن خلفا روى عن أبي زيد ذلك في اختلاف الهمزتين، نحو (آينّكم) و (آنزل) أنّه بألف بين الهمزتين وتليين الثانية ولم يفصل سيبويه في حكايته عن أبي عمرو بين المتفقتين والمختلفتين، ألا ترى أنّه قال: وأما أهل الحجاز فمنهم من يقول آئنك وآأنت [المائدة/ 116]، ثم قال: وهي التي يختار أبو عمرو، فلم يفصل بينهما. وسيبويه وأبو زيد أضبط لمثل هذا من غيرهما.
من حجّته أن يقول: إنّي أدخلت الألف بينهما وإن جعلت الثاني بين بين، لأنّها إذا كانت على هذه الصفة فهي في حكم المتحرك، وتخفيفي إياها بأن جعلتها بين الألف والهمزة ليس يخرجها عن أن تكون همزة متحركة، وإن كان الصوت بها أضعف، ألا ترى أنّها إذا كانت مخفّفة في الوزن مثلها إذا كانت محققة؟ ولولا ذلك لم يتّزن قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 1/285]
أأن رأت رجلا أعشى
لأنّه كان يجتمع فيه ساكنان وكذلك قول الآخر:
كل غراء إذا ما برزت
ويدلّ على أنّ المخفّفة من الهمزتين في حكم المحقّقة عند العرب أنّهم أبدلوا الهمزة الثانية إبدالا في المواضع التي اجتمعت فيها همزتان في كلمة واحدة ولم يخفّفوا الثانية. وذلك نحو: آدم، وجاء، وخطايا. ألا ترى أن آدم لو كان قلبها فيه على حدّ القلب في رأس وفأس ورأي لكنت إذا كسّرته رددت الهمزة في التكسير، كما أنّك لو كسّرت فاسا وراسا ورايا لقلت: أرؤس وأرآء. فلو كنت في راي إذا خفّفت إنّما خففت على حد التخفيف في آدم لقلبت الهمزة في التكسير ياء أو واوا، فقلت: أرواء أو أرياء، ولكنت تقول إذا جمعت رايا على فعول رييّ فتقلبها ياء، كما قلبوها في أيمّة ياء لمّا تحركت
[الحجة للقراء السبعة: 1/286]
بالكسر، ألا ترى أنّك إذا قلبتها في ذئب وبئر ياء للكسرة التي قبلها، فكذلك تقلبها ياء في أيمّة للكسرة التي عليها. وقال أبو زيد في جمع رأي أرآء ورئيّ بتحقيق الهمز فيهما وأنشد غيره:
ولا يشارك في أرآئه أحدا
وقال الراعي في جمع نؤي:
وأنآء حيّ تحت عين مطيرة... عظام القباب ينزلون الروابيا
وكذلك الهمزة في رأيت جائيا لم تقلبها كما تقلبها في تخفيف المئر إذا قلت: مير، وإن اتفق اللفظتان كما اتفق اللفظ في بريّة وخطيّة، وإن كان بريّة قلبها للإبدال غير التخفيف، وقلب خطيّة للتخفيف، كما كان لفظها في رال وباس إذا خففت كلفظها في آدم، فكذلك قولك: رأيت جائيا وشائيا وسائيا ونائيا، لا يكون القلب فيه على حدّ مير وذيب. ولو كان كذلك لجعلتها بين بين إذا قلت مررت بجاء، كما أنّك لو قلت: مررت برجل جئز لجعلتها بين
[الحجة للقراء السبعة: 1/287]
بين، وجعلتها كذلك في موضع الرفع إذا قلت: هذا جاء في قول سيبويه الذي زعم أنّه قول العرب، والخليل، وقلبتها ياء في قول أبي الحسن، فقلت: جائي، فتحرّك الياء بالضمّ ولا تحذفها. فلمّا لم يكن على واحد من هذين الأمرين علمت أنّهم قلبوها قلبا. فلمّا لم يخفّفوا الهمزة في هذه المواضع التي ألزمت القلب فيها لاجتماع الهمزتين، ولكن قلبوها قلبا، علمنا أن المخفّفة التخفيف القياسي في حكم المحقّقة عندهم إذ رفضوا المخفّفة التي بين بين في المواضع التي أرينا، مع المحقّقة، كما رفضوا المحقّقتين. فإذا رفضوها رفضها لم يجز أن يجتمعا، كما لم يجز أن يجتمع المحقّقتان، وإذا لم يجز اجتماعهما مخفّفة الآخر منهما كما لم يجز اجتماعهما محقّقتين في (أأنذرتهم) لزم ألّا يجمع بينهما، ولا سبيل إلى ترك الجمع بينهما إلّا بأن تحذف إحداهما أو تقلب أو يفصل بينهما بالحاجز الذي هو الألف.
فلما لم يجز الحذف في واحد منهما ولا القلب لأنّه ليس من المواضع التي تقلب فيها الهمزة، ثبت وجوب الفصل بينهما بالألف، ووجب إلزام الفصل بينهما بها، إذ كان الجميع قد ألزموا الفصل بها بين الأمثال في قولهم: اخشينانّ، مع أن هذه الأمثال قد جمعوا بينهن في ردّد وشدّد وقضّض، وما أشبه ذلك.
[الحجة للقراء السبعة: 1/288]
فإذا ألزموا الفصل بها بين الأمثال التي لم يرفضوا الجمع بينها في نحو: ما ذكرنا فأن يلزموا الفصل بها بين ما رفضوا الجمع بينه من الهمزتين والهمزات أولى. وإذا كان كذلك ثبت أن أولى هذه الوجوه وأصحّها في مقاييس العربية الفصل بينهما بالألف. وإذا لزم الفصل ففصل خفّف الثانية على لغة أهل الحجاز، كما خفّفوها في نحو: هباءة وقراءة، ألا ترى أن الألف التي للفصل بمنزلة التي في هباءة، وأنّهم خفّفوا الهمزة المفتوحة بعدها، كما خفّفوا المكسورة والمضمومة بعدها في نحو المسائل وهذا جزاء زيد؟ وما رواه أبو زيد وسيبويه والعباس بن الفضل عن أبي عمرو من إلحاق الألف للفصل بين الهمزتين المختلفة حركتاهما، نحو: آأنزل وآألقى، كإلحاقه إياها بين الهمزتين المتّفقة حركتاهما؛ نحو (آأنذرتهم) أثبت في القياس من رواية من حكى عنه الفصل، ألا ترى أن هذه الألف إنما فصل بها كراهة لاجتماع الهمزتين، وأنّ الحركة الفاصلة بينهما، وهي حركة الهمزة الأولى سواء كان فتحة أو ضمة أو كسرة. فأمّا حركة الهمزة الثانية فبعد التقاء الهمزتين. فإذا كان كذلك فلا فصل بين (أأنذرتهم) وأ ألقي الذّكر [القمر/ 25] وأ إنّكم لتشهدون [الأنعام/ 19] من طريق القياس.
وإذا اختلفت الرواية وكان أحد الفريقين أضبط، وعضد الضبط والثبت القياس، وموافقة الأشباه، كان الأخذ بما جمع
[الحجة للقراء السبعة: 1/289]
هذين الوصفين أولى وأرجح. وما روي عن أبي عمرو من قوله: (آأنذرتهم) إنّما هو عندنا على الاستئناف دون الدرج.
ولو أدرج القراءة فقال: (سواء عليهم أأنذرتهم) لوجب في قياس قول أبي عمرو الذي حكاه عنه سيبويه أن يحذف الهمزة الأولى من (أأنذرتهم) لسكون ما قبلها، ويلقي حركتها على الميم، فإذا فعل ذلك لزم أن يحذف الألف التي كانت مجتلبة للفصل، ويخفّف الثانية، كما كان خفّفها وقد فصل بينها وبين الأولى بالألف، فيجعلها بين بين فيقول: (عليهم أأنذرتهم).
وكذلك قياس قوله في: (أإنّكم لتشهدون) أن يقول:
قل أإنكم لتشهدون [الأنعام/ 19] ألا ترى أنّك لو حذفت النون الأولى من اخشينانّ فقلت: اخشينّ يا هذه أو اخشينّ يا هذا لحذفت الألف، لزوال ما أردت الفصل بها بين النونات؟
فإن قلت: فكيف يستقيم له أن يحذف حرفا قد كان أثبته، فإنّ ذلك لا يمتنع فيما يلزم من حكم الوصل والوقف، ألا ترى أنّك إذا وصلت قوله فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته قلت: (فليؤد الذيتمن أمانته)؟ وإن شئت همزت فحذفت الياء من الذي وهمزة الوصل، وقلبت الواو التي كانت في قولك:
[الحجة للقراء السبعة: 1/290]
اؤتمن ياء أو همزة فهذا أكثر في التغيّر مما ذكرت لك من حذف الألف المجتلبة للفصل ولا خلاف في ذلك بين الناس، فكذلك حكم حذف الألف المجتلبة للفصل بين النونات إذا وصلت الهمزة الأولى بما قبلها من الساكن). [الحجة للقراء السبعة: 1/291]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (من ذلك قراءة [أَنْذَرْتَهُم] بهمزة واحدة من غير مدٍّ.
قال أبو الفتح: هذا مما لَا بُدَّ فيه أن يكون تقديره: {أأَنْذَرْتَهُم}، ثم حذف همزة الاستفهام تخفيفًا؛ لكراهة الهمزتين، ولأن قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} لَا بُدَّ أن يكون التسوية فيه بين شيئين أو أكثر من ذلك، ولمجيء "أم" من بعد ذلك أيضًا، وقد حُذفت هذه الهمزة في غير موضع من هذا الضرب، قال:
فأصبحتُ فيهم آمنًا لا كمعشرٍ ... أتوني فقالوا: مِن ربيعة أم مضر؟
فيمن قال: أم؛ أي: أمن ربيعة أم مضر؟
ومن أبيات الكتاب:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا ... شعيثُ ابن سهم أم شعيث ابن مِنْقَر
وقال الكميت:
طربتُ وما شوقًا إلى البِيض أطرب ... ولا لَعِبًا مني وذو الشيب يلعب؟
قيل: أراد: أوذو الشيب يلعب؟
وقالوا في قول الله سبحانه: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ} أراد: أوتلك نعمة؟ وقال:
لعمرك ما أدري وإن كنتُ داريا ... بسبع رَمين الجمر أم بثمان؟
[المحتسب: 1/50]
يريد: أبسبع؟
وعلى كل حال فأخبرنا أبو علي قال: قال أبو بكر: حذف الحرف ليس بقياس؛ وذلك أن الحرف نائب عن الفعل وفاعله، ألا ترى أنك إذا قلت: ما قام زيد، فقد نابت "ما" عن "أَنفي"، كما نابت "إلا" عن "أَستثني"، وكما نابت الهمزة وهل عن أَستفهم، وكما نابت حروف العطف عن أَعطف، ونحو ذلك.
فلو ذهبتَ تحذف الحرف لكان ذلك اختصارًا، واختصار المختصر إجحاف به، إلا أنه إذا صح التوجه إليه جاز في بعض الأحوال حذفه؛ لقوة الدلالة عليه.
فإن قيل: فلعله حَذَف همزة [أَنْذَرْتَهُمْ] لمجيء همزة الاستفهام، فكان الحكم الطارئ على ما يشبه هذا من تعاقب ما لا يجمع بينه.
قيل: قد ثبت جواز حذف همزة الاستفهام على ما أرينا في غير هذا، فيجب أن يحمل هذا عليه أيضًا.
وأما همزة أفعل في الماضي، فما أبعد حذفها! فليكن العمل على ما تقدم بإذن الله). [المحتسب: 1/51]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون}
قرأ نافع وأبو عمرو آنذرتهم آنت يهمزان ثمّ يمدان بعد الهمزة وتقدير هذا أن تدخل بين ألف الاستفهام وبين الهمزة الّتي بعدها ألفا ليبعد المثل عن المثل ويزول الاجتماع فيخف اللّفظ والأصل {أأنذرتهم} ثمّ تلين الهمزة في أنذرتهم
وحجتهما في ذلك أن العرب تستثقل الهمزة الواحدة فتخففها في أخف أحوالها وهي ساكنة نحو كاس فإذا كانت تخفف وهي وحدها فإن تخفف ومعها مثلها أولى
وقرأ ابن كثير أنذرتهم بهمزة واحدة غير مطوّلة ومذهبه أن يحقّق الأولى ويخفف الثّانية وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة {أأنذرتهم} أأنت بهمزتين وحجتهم في ذلك أن الهمزة حرف من حروف المعجم كغيره من سائر الحروف صحا بالجمع بينهما نحو ما يجتمع في الكلمة حرفان مثلان فيؤتى بكل واحد منهما صحيحا على جهته من غير تغيير كقوله {أتمدونن بمال} و{لعلّكم تتفكرون} ونظائر ذلك فلا يستثقل اجتماعهما بل يؤتى بكل واحد منهما فجعل الهمزتين كغيرها من سائر الحروف
[حجة القراءات: 86]
قرأ أبو عمرو والكسائيّ وورش على ابصارهم وقنطار ودينار بإمالة الألف وحجتهم في ذلك أن انتقال اللّسان من الألف إلى الكسرة بمنزلة النّازل من علو إلى هبوط فقربوا الألف فإمالتهم إيّاها من الكسر ليكون عمل اللّسان من جهة واحدة وقرأ الباقون أبصارهم بغير إمالة وحجتهم في ذلك أن باب الألف هو الفتح دون غيره وأن ما قبل الألف لا يكون أبدا إلّا مفتوحًا لأنّه تابع لها فتركوها على بابها من غير تغيير). [حجة القراءات: 87]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (3- {أَأَنْذَرْتَهُمْ} [آية/ 6].
قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب ح- بهمزتين من غير مدٍّ؛ لأن الأولى همزة [التسوية] والثانية همزة أفعل فقد جاء على الأصل. وإن استثقل اجتماع الهمزتين فإن المثل قد جاء مع مثله في حروف الحلق نحو: فههت وكععت، وقد استعمل في الهمزة نفسها ذلك نحو: رأس وسأل وإن كان قليلًا.
ويحسن هذه القراءة أن الهمزة الأولى غير لازمة للكلمة؛ لأنها همزة [التسوية]، وما لا يلزم الكلمة فهو بمنزلة ما لا يعتد به.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو و- يس- عن يعقوب بهمزةٍ واحدةٍ ممدودة.
وذلك أنهم خففوا الهمزة الثانية لاجتماع الهمزتين؛ لأن اجتماعهما مرفوضٌ في كثير من كلام العرب، ألا ترى أن: آدم، وآخر، وألزموا الثانية منهما البدل ألبتة، وجعلوا الكلمة كأنها لا أًل لها في الهمزة حيث جمعوها
[الموضح: 241]
على: أواخر، وحقروها على: أويخر، ولم يعيدوها إلى الأصل في الجمع والتحقير، كما أعادوا فيهما غيرها إلى الأصل نحو: ميقات ومواقيت ومويقيت.
وفي ذلك دليلٌ على رفضهم اجتماع الهمزتين.
وفي تخفيف الهمزة الثانية تقريبٌ لها من الساكن؛ لأن المخففة هاهنا تجري مجرى الألف، فكام لا يُكره الألف بعد الهمزة في نحو: آدم فكذلك المخفف.
ابن مجاهد عن أبي عمرو، و- ش- عن نافع، بإدخال ألفٍ بين الهمزتين وإن خففت الثانية؛ لأن الهمزة وإن كانت مخففة فهي في حكم المتحركة؛ لأن تخفيفها هو جعلها بين الألف والهمزة وليس يخرجها ذلك من أن تكون همزة متحركة، وإن كان الصوت بها أضعف، فكما أدخل الألف للفضل بين المثلين أو الأمثال نحو قوله:
4- هيا ظبية الوعساء بين جلاجلٍ = وبين النقا آأنت أم أمُّ سالم
[الموضح: 242]
وقولهم: اخشينا ونحوهما، فكذلك هاهنا بعد التخفيف). [الموضح: 243]

قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقول الله جلّ وعزّ: (وعلى أبصارهم غشاوةٌ)
اتفق القراء على "غشاوة" بالرفع، إلا ما روى الفضل عن عاصم (غشاوةً" نصبا.
قال أبو منصور: الرفع هي القراءة المختارة، ومن نصب فعلى إضمار فعل، كأنه قال: وجعل على أبصارهم غشاوةً، كما قال الشاعر:
[معاني القراءات وعللها: 1/131]
يا ليت زوجك قد غدا... متقلّداً سيفاً ورمحا
أراد: متقلدا سيفا وحاملا رمحا.
وأنشد الفراء:
علفتها تبناً وماءً بارداً... حتى شتت همّالةً عيناها
أراد: وسقيتها ماء باردا، يعني: فرسه.
وأما قول الله جلّ وعزّ في سورة الجاثية: (وجعل على بصره غشاوةً)
فإن حمزة والكسائي قرآ (غشوةً) بغير ألف مع فتح الغين، وقرأ الباقون: (غشاوةً) بألف مع كسر الغين، وكل ذلك جائز، والمعنى واحد، وهو: ما يغشى البصر من الظلمة). [معاني القراءات وعللها: 1/132]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (5- وقوله تعالى: {وعلى أبصارهم غشاوة}
قرأ أبو عمرو: {وعلى أبصارهم} ممالة، ونحوه إذا كان في موضع الجر نحو القنطار والدينار والأبرار والفجار والنار؛ وذلك أن الكسرة في آخر الاسم منخفضة والألف مستعلية فأمال أول الكلمة ليكون كآخرها.
وقرأ الباقون بالفتح على أصل الكلمة.
وقد تابعه الكسائي في (الأشرار) و(الأبرار) وما تكررت فيه الراء.
فإن سأل سائل: لم أمال أبو عمرو {أصحاب النار} ولم يُمل
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/60]
{الجار الجنب} وألفهما منقلبتان من الواو ووزنهما سيان، والأصل فيهما نور، جور فقلبوا من الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها؟
فالجواب في ذلك أن النار كثر دورها في القرآن فأماله تخفيفًا، والجار لما قل دوره في القرآن تركه على أصله، والدليل على ذلك أن أبا عمرو يميل {الكافرين} في موضع الجر والنصب لكثرة دوره في القرآن ولا يميل {الجبرين} في موضع النصب؛ لأنه في القرآن في موضعين {إن فيها قوما جبارين} {وإذا بطشتم بطشتم جبارين}.

6- وقوله تعالى {غشاوة}.
قرأ عاصم في رواية المفضل {وعلى أبصارهم غشاوة} بالنصب وقرأ الباقون {غشاوة} بالرفع، فمن نصب أضمر فعلا، والتقدير: ختم الله على قلوبهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، كما قال الله تعالى في (الجاثية): {وجعل على بصره غشاوة} والعرب تضمر الفعل إذا كان في الكلام دليل، قال الشاعر:
سقوا جارك الغيمان لما جفوته = وقلص عن برد الشراب مشافره
سنامًا ومحضا أنبتا اللحم فاكتست = عظام أمرئ ما كان يشبع طائره
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/61]
فالتقدير: سقوا جارك لبنًا وأطعموه سنامًا؛ لأن السنام لا يُسقى، وقال آخر:
ورأيت زوجك في الوغى = متقلدا سيفا ورمحا
معناه: حاملاً رمحًا؛ لأن الرمح لا يتقلد، قال الله تعالى: {يا جبال أوبي معه والطير} بالنصب كذلك قرأ الأعرج على تقدير: وسخرنا الطير.
ومن رفع {غشاوة} فجعله ابتداء و{على} خبره والتقدير: غشاوة على أبصارهم: كقولك: زيد في الدار، وعلى أبيك ثوب، وثوب على أبيك. والغشاوة: الغطاء قال الشاعر:
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/62]
تبعتك إذ عيني عليها غشاوة = فلما انجلت قطعت نفسي ألومها). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/63]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (بسم الله
قوله تبارك وتعالى: غشاوةٌ في سورة البقرة. [الآية/ 7]
قرءوا كلهم رفعا، إلّا أنّ المفضل الضبيّ روى عن عاصم (وعلى أبصارهم غشاوة) بالنصب.
قال أبو علي: قالوا: ختم على كذا يختم، قال تعالى: فإن يشإ اللّه يختم على قلبك [الشورى/ 24] وقال: اليوم نختم على أفواههم [يس/ 65] والمصدر الختم. وقالوا طبع عليه بمعنى ختم عليه. وقد قالوا: طبعه فعدّي بلا حرف. ولا يمتنع ذلك في القياس في ختم، قال:
كأنّ قرادي زوره طبعتهما... بطين من الجولان كتّاب أعجما
وقد روي عن الحسن في قوله تعالى:
[الحجة للقراء السبعة: 1/291]
من رحيقٍ مختومٍ ختامه مسكٌ [المطففين/ 25]. أنّه قال مقطعه مسك.
وأظنّ أبا عبيدة اعتبر ما روي عن الحسن في تفسير الآية، لأنّه قال في قوله: يسقون من رحيقٍ مختومٍ: له ختام، أي: عاقبة ختامه مسك، أي: عاقبته، وأنشد لابن مقبل:
مما يفتّق في الحانوت ناطفها... بالفلفل الجون والرمان مختوم
فتأوّل الختام على العاقبة ليس على الختم الذي هو الطبع. وهذا قول الحسن: مقطعه مسك.
ولا يستقيم أن يتأوّل المختوم في الآية في صفة الرحيق على معنى الختم الذي هو الطبع لقوله: وأنهارٌ من خمرٍ لذّةٍ للشّاربين [محمد/ 15] وقال: يطوف عليهم ولدانٌ مخلّدون بأكوابٍ وأباريق وكأسٍ من معينٍ [الواقعة/ 17] وقال: يطاف عليهم بكأسٍ من معينٍ بيضاء لذّةٍ للشّاربين [الصافات/ 46] فقوله: (بيضاء) مثل قوله: قواريرا قواريرا من فضة [الإنسان/ 15 - 16] أي: قوارير كأنّها في بياضها من
[الحجة للقراء السبعة: 1/292]
فضة. فهذا على التشبيه لا على أن القوارير من فضة قال:
حلبانة ركبانة صفوف... تخلط بين وبر وصوف
أي: كأن يديها في إسراعها في السير يدا خالطة وبرا بصوف، فالمعنى على التشبيه وإن لم يذكر حرفه.
وقال:
فهنّ إضاء صافيات الغلائل
ومثل قوله تعالى: ختامه مسكٌ [المطففين/ 26] قوله تعالى: كان مزاجها كافوراً [الإنسان/ 5] المعنى فيها أنّها في طيب الرائحة وسطوعها، وأرجها كأرج المسك والكافور.
[الحجة للقراء السبعة: 1/293]
فأمّا قوله: كان مزاجها زنجبيلًا [الإنسان/ 17] فإنّه يدلّ على لذاذة المطعم، لأنّ الزنجبيل يحذي اللسان.
وزعموا: أنّ ذلك من أجود الأوصاف للخمر عند العرب، قال الأعشى:
معتقة قهوة مزّة
ومثل تشبيهها بالزنجبيل في الآية للذاذة المطعم قوله:
كأن القرنفل والزنجبي... ل باتا بفيها وأريا مشورا
فهذا يريد به طيب الطعم، لذكره مع ما يطعم، ويدلّ على أنّهم يقصدون ما يحذي اللسان بالوصف بطيب الطعم قول ابن مقبل:
........ ناطفها... بالفلفل الجون والرّمان مختوم
فأمّا قوله تعالى: ولكن رسول اللّه وخاتم النّبيّين [الأحزاب/ 40] فخاتم اسم فاعل من ختمهم أي صار آخرهم.
والأحسن أن تجعله اسم فاعل ماض ليكون معرفة، لأن قبله
[الحجة للقراء السبعة: 1/294]
معرفة، وحكم المعطوف أن يكون مشاكلا للمعطوف عليه.
وقد يجوز أن ينوى بالانفصال، وإن كان ذلك فيما مضى، على أن يحكى الحال التي كان عليها، وإن كانت القصّة فيما مضى؛ كقوله تعالى: وكلبهم باسطٌ ذراعيه بالوصيد [الكهف/ 18] فحكى ما كان. وروي أن الحسن قرأ:
(وخاتم النبيين) كأنّه جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي ختم به. فأمّا قول الشاعر:
إذا فضّت خواتمها وفكّت... يقال لها دم الودج الذبيح
فليس تخلو الخواتم من أحد أمرين، إما أن تكون جمع الخاتم الملبوس، أو تكون جمع المصدر. فإن كان جمع الملبوس فقد حذف المضاف من الكلام، والتقدير: إذا فض ختم خواتمها، وأضيفت الخواتم إليها لما كان من الختم عليها بها، ولحقت علامة التأنيث لأنّ القصد، وإن كان للختم في المعنى، فقد جرى في اللفظ على الخواتم، فلحقت العلامة لذلك.
وإن كان جمع المصدر فليس يخلو من أن يكون للختم أو للختام. فإن كان جمعا للختام كان بمنزلة قولهم للجزاء الجوازي، قال الحطيئة:
[الحجة للقراء السبعة: 1/295]
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه... لا يذهب العرف بين الله والناس
وقالوا في جمع اليعار: اليواعر قال:
لها بين جرس الراعيين يواعر
وفي جمع الدخان: الدواخن، فكذلك تكون الخواتم إذا كان جمع الختام. وإن كان جمع ختم فقد قالوا: حرّة وحرائر، وكنّة وكنائن. وقالوا: مشابه في جمع شبه، وملامح في جمع لمحة. فجمع ختم على خواتم أسهل، لأن فواعل إنما هو جمع فاعل، وفاعل قد جاء في المصادر، مثل العاقبة والعافية وما باليت به بالة، والفالج، وفي حروف أخر.
فإن كان الخواتم جمع المصدر كان الكلام على ظاهره، وكان المفضوض هو الخواتم أنفسها، من حيث كان جمع ختم، لا المضاف المحذوف.
[الحجة للقراء السبعة: 1/296]
فأمّا قوله:
يقال لها دم الودج الذبيح
فوصف الدم بالذبيح، فليس يريد بالذبيح المذبوح الذي تفرى أوداجه وينهر دمه، وإنما أراد بالذبيح: المذبوح، أي المشقوق، كما قال:
نام الخليّ وبتّ الليل مشتجرا... كأنّ عينيّ فيها الصّاب مذبوح
أي: مشقوق.
وكذلك قول الآخر:
فارة مسك ذبحت في سكّ
أي: شقّت وقالوا: أخذه الذّباح، وهو- فيما زعموا- تشقّق يكون في أظفار الأحداث أو أصابعهم. فالذبح: الشقّ.
وقيل لما يذكي الذبيحة: ذبح، لأنّه ضرب من الشقّ، فقالوا:
[الحجة للقراء السبعة: 1/297]
ذبحت الشاة. وذبحت البقرة. وقالوا في الإبل: نحرت، لمّا كانت توجأ في نحورها. فوصف الدم بأنّه ذبيح، والمعنى أن الدم مذبوح له، كما أن قوله: بدمٍ كذبٍ [يوسف/ 18] معناه: مكذوب فيه، وليل نائم أي: ينام فيه، وكذلك نهار صائم. فأمّا قول الفرزدق:
فبتن بجانبيّ مصرّعات... وبتّ أفض أغلاق الختام
فكأنه من المقلوب، أي: أفض ختام الأغلاق، ألا ترى أنّ الأغلاق والأقفال المختوم عليها إنّما يفضّ الختم الذي عليها، والفضّ إنّما هو تفريق أجزاء الختم، وتفريق غيره، وفي التنزيل: حتّى ينفضّوا [المنافقون/ 7] أي يتفرقوا فيبقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلا أنصار ولا أتباع.
والختام في بيت الفرزدق لا يخلو من أن يكون واحدا أو جمعا. فأمّا الذي في الآية فقد تأوله أبو عبيدة على أنه واحد.
فإن قلت: إنه في البيت جمع ختم، لأن لكل غلق ختما فجمع الختم، فهو قول، لأن المصادر قد تجمع، كقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 1/298]
هل من حلوم لأقوام فتنذرهم
وتقول إن الختام الذي تأوله أبو عبيدة على أنه مفرد إنّما هو في خاتمة الشيء الذي هو آخره وخلاف فاتحته، والختم الذي يعني به الطبع معنى غيره، فليس يلزم إذا أفرد ذاك أن يفرد هذا أيضا. وقال الأعشى:
وتترك أموال عليها الخواتم هو على ضربين يجوز أن يكون عليها نقش الخواتم فحذف، ويمكن أن يكون جمع ختما على الخواتم، كما جمع الهجر على الهواجر وقال:
مقيم على قول الخنا والهواجر
[الحجة للقراء السبعة: 1/299]
وأما الغشاوة فلم أسمع منه فعلا مصرّفا بالواو. فإذا لم نعلم منه ذلك وكان معناها معنى ما اللام منه الياء من غشي يغشى بدلالة قولهم: الغشيان. ومعناه ما غطّى الشيء وعلاه فغمره وستره، كقوله تعالى، فغشيهم من اليمّ ما غشيهم [طه/ 78] وإذ يغشّيكم النّعاس [الأنفال/ 11] وو استغشوا ثيابهم [نوح/ 7] والمؤتفكة أهوى، فغشّاها ما غشّى [النجم/ 53، 54]. وقال الأعشى:
وولّى عمير وهو كاب كأنّما... يطلّى بورس أو يغشّى بعظلم
فالغشاوة من الغشيان كالجباوة من جبيت في أنّ الواو كأنّها بدل من الياء، إذ لم يصرّف منه فعل، كما لم يصرّف من الجباوة.
[الحجة للقراء السبعة: 1/300]
قال سيبويه قالوا: غشيته غشيانا كالحرمان. وإن شئت قلت: إن غشي يغشى مثل رضي يرضى، ولام الكلمة الواو بدلالة غشاوة وغشوة. ويكون الغشيان كعليان ودنيا ونحو ذلك.
وقوله تعالى: وعلى أبصارهم غشاوةٌ [البقرة/ 7] في المعنى مثل: صمٌّ بكمٌ عميٌ [البقرة/ 18] وكذلك قوله تعالى:
صمٌّ وبكمٌ في الظّلمات [الأنعام/ 39] لأنّ وصف البصر بالكون في الظلمات بمنزلة الوصف بالعمى. وكذلك، وصفه بكون الغشاوة عليه، لأنّه في هذه الأحوال كلّها لا يصحّ به إبصار. فقوله: في الظلمات متعلق بمحذوف.
وروي لنا عن الكسائي: غشاوة وغشاوة وغشاوة، وعن غيره.
ويذهب قوم من المتأوّلين إلى أنّ معنى: ختم اللّه على قلوبهم [البقرة/ 7] ختم عليها بأن طبع عليها ووسمها سمة تدل على أن فيها الكفر، ليعرفهم من يشاهدهم من الملائكة بهذه السمة، ويفرقوا بينهم وبين المؤمنين الذين في قلوبهم الشّرح والطمأنينة اللذان وصفوا بهما في قوله تعالى: أفمن شرح اللّه صدره للإسلام [الزمر/ 22]. وقوله: الّذين آمنوا وتطمئنّ قلوبهم بذكر اللّه [الرعد/ 28].
والختم والطبع واحد، وهما سمة وعلامة في قلب المطبوع على قلبه. وكما ختم على قلب الكافر وطبع فوسم بسمة تعرف بها الملائكة كفره كذلك وسم قلوب المؤمنين
[الحجة للقراء السبعة: 1/301]
بسمات تعرفهم الملائكة بها كما عرفوا بها الكافر. ومن ثمّ قال بعض المتأوّلين في قوله تعالى: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا [الكهف/ 28] أي: لم نسم قلبه بما نسم به قلوب الذاكرين لله، لأنّ الله تعالى وسم قلوب الذاكرين بسمات تبيّن لمن شاهدها من الملائكة أنّهم مؤمنون، كما قال: أولئك كتب في قلوبهم الإيمان [المجادلة/ 22] أي علامته، فإذا لم يسمهم بهذه السّمة فقد أغفلهم.
ومثل ما تأولوا في هذا من أنّه علامة يعرف بها الكافر من المؤمن مناولة الكتاب باليمين وبالشّمال، في أنّ المناولة باليمين علامة أن المناول باليمين من أهل الجنة،
والمناول بالشّمال من أهل النار. وقوله: بل طبع اللّه عليها بكفرهم [النساء/ 155] يحتمل أمرين أي طبع عليها وختم جزاء للكفر وعقوبة عليه، كقوله:
نزائع مقذوفا على سرواتها... بما لم تخالسها الغزاة وتركب
وكقولهم: «بما لا أخشى بالذئب» فيمكن أن يكون
[الحجة للقراء السبعة: 1/302]
قوله: بل طبع الله عليها بكفرهم، أي طبع عليها بعلامة كفرهم، كما تقول: طبع عليه بالطين، وختم عليه بالشمع.
ويجوز أن يكون قوله تعالى: ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةٌ [البقرة/ 7] وصفا للذي ذمّ بهذا الكلام بأن قلبه ضاق عن قبول الحكمة والإسلام والاستدلال على توحيد الله تعالى وقبول شرائع أنبيائه عليهم السلام فلم ينشرح له ولم يتّسع لقبوله، فهو خلاف من ذكر في قوله تعالى: أفمن شرح اللّه صدره للإسلام فهو على نورٍ من ربّه [الزمر/ 22].
ومثل ذلك قوله تعالى: أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها [محمد/ 24] ومثله: وقالوا قلوبنا في أكنّةٍ ممّا تدعونا إليه وفي آذاننا وقرٌ ومن بيننا وبينك حجابٌ [فصلت/ 5] ومن ذلك قوله: وقالوا قلوبنا غلفٌ [البقرة/ 88] إنّما هو جمع أغلف، أي في غلاف كقوله: قلوبنا في أكنّةٍ، ولقد ذرأنا لجهنّم كثيراً من الجنّ والإنس لهم قلوبٌ [الأعراف/ 179] ويقوّي ذلك أن المطبوع على قلبه وصف بقلة الفهم بما يسمع من أجل الطبع، فقال: بل طبع اللّه عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلّا قليلًا [النساء/ 155] وقال: وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون [التوبة/ 87].
ومما يبيّن ذلك قوله تعالى: قل أرأيتم إن أخذ اللّه سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم [الأنعام/ 46] فعدل الختم على
[الحجة للقراء السبعة: 1/303]
القلوب بأخذه السمع والبصر، فدلّ هذا على أنّ الختم على القلب هو أن يصير على وصف لا ينتفع به فيما يحتاج فيه إليه، كما لا ينتفع بالسمع والبصر مع أخذهما، وإنّما يكون ضيقه بألّا يتّسع لما يحتاج إليه من النظر والاستدلال الفاصل بين الحقّ والباطل. ومن ذلك قوله تعالى: ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً كأنّما يصّعّد في السّماء [الأنعام/ 125] فهذا كلام كالمثل، أي: من يستحقّ الإضلال عن الثواب يجعل صدره ضيّقا في نهاية الضيق لما كان القلب محلا للعلوم والاعتقادات بدلالة قوله تعالى: لهم قلوبٌ لا يفقهون بها [الأعراف/ 179] [فوصفه] بالضيق وأنّه على خلاف الشرح والانفساح دلّ أنّه لا يعي علما ولا يستدلّ على ما أريد له ودعي إليه، كما وصف الجبان بأنّه لا قلب له، لمّا أريد به المبالغة في وصفه بالجبن، لأنّ الشجاعة محلها القلب، فإذا لم يكن القلب الذي يكون محلّ الشجاعة لو كانت فألّا تكون الشجاعة أولى.
ومن ثمّ قالوا في النعامة: جؤجؤه هواء، أي ذو هواء، فهو فارغ من القلب، فهذا كما وصفوها بالشّراد لجبنها فقال:
[الحجة للقراء السبعة: 1/304]
وأشرد بالوقيط من النّعام وقال:
أسد عليّ وفي الحروب نعامة... ربداء تجفل من صفير الصافر
وقال:
فالهبيت لا فؤاد له... والثّبيت ثبته فهمه
وأنشد أبو زيد:
لقد أعجبتموني من جسوم... وأسلحة ولكن لا فؤادا
[الحجة للقراء السبعة: 1/305]
وقال:
حار بن كعب ألا أحلام تزجركم... عنّا وأنتم من الجوف الجماخير
وأنشد أبو زيد:
ولا وقّافة والخيل تردي... ولا خال كأنبوب اليراع
وقال الراعي:
وغدوا بصكهم وأحدب أسأرت... منه السياط يراعة إجفيلا
[الحجة للقراء السبعة: 1/306]
فكما وصف الجبان بأنّه لا قلب له، وأنّه مجوّف وأنّه يراعة، لأنّه إذا كان كذلك بعد من الشجاعة، ومن الفهم لعدمه القلب، كذلك وصف من بعد عن قبول الإسلام بعد الدعاء إليه وإقامة الحجّة عليه بأنّه مطبوع على قلبه، وضيّق صدره، وقلبه في كنان، وفي غلاف.
قال أبو زيد: قالوا: رجل مفئود للجبان، وخلاف ما ذكره أبو زيد: رجل مشيّع للشجاع. فهذا إمّا أن يكون أريد:
يشيّع قلبه، أي: ليس بمصاب في فؤاده، وإمّا أن يكون معه من نفسه شيعة يثبّتونه.
وأمّا قوله تعالى: كأنّما يصّعّد في السّماء [الأنعام/ 125] فالمعنى: أن هذا الضيّق الصدر عن الإسلام نهاية الضيق إذا دعي إلى الإسلام، من ضيق صدره منه ونفوره عنه، وعن استماع الحكمة، كأنّه يراد على ما لا يقدر عليه من مصعد في السماء، أو حمل على ما يشبهه من الامتناع.
وروي عن ابن مسعود
أنّه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل
[الحجة للقراء السبعة: 1/307]
ينشرح الصدر؟ قال: نعم، يدخل القلب النور. فقال ابن مسعود: وهل لذلك علامة؟ قال: نعم. التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل الموت»
فقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لابن مسعود: يدخله النور كما في الآية من قوله تعالى: أفمن شرح اللّه صدره للإسلام فهو على نورٍ من ربّه [الزمر/ 22].
وقد روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: اللّه نور السّماوات والأرض مثل نوره [النور/ 35] قال: مثل نوره الذي أعطاه المؤمن كمشكاة، والمشكاة كوّة فيها مصباح. وقوله: نورٌ على نورٍ [النور/ 35]
[الحجة للقراء السبعة: 1/308]
قال: مثل قلب المؤمن نور على نور يشرح صدره للإسلام.
وقال أبو الحسن: ختم اللّه على قلوبهم لأنّ ذلك كان لعصيانهم الله تعالى، فجاز ذلك اللفظ، كما يقال: أهلكته فلانة إذا أعجب بها وهي لا تفعل به شيئا، لأنّه هلك في
اتباعها، أو يكون ختم: حكم أنّها مختوم عليها. وكذلك فزادهم اللّه مرضاً [البقرة/ 10] على ذا التفسير والله أعلم.
الإعراب
حجّة من رفع فقال: وعلى أبصارهم غشاوة: أنّه رأى الغشاوة لم تحمل على (ختم) ألا ترى أنّه قد جاء في الأخرى:
وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوةً [الجاثية/ 23] فكما لم تحمل في هذه على (ختم) كذلك لا تحمل في هذه التي في مسألتنا. فإذا لم يحملها على (ختم) قطعها عنه، وإذا قطعها عن (ختم) كانت مرفوعة إمّا بالظرف، وإمّا بالابتداء.
وأمّا إذا نصب فلا يخلو في نصبها من أن يحملها على (ختم) هذا الظاهر، أو على فعل آخر غيره. فإن قال:
أحملها على الظاهر كأني قلت: وختم على قلبه غشاوة، أي بغشاوة، فلمّا حذف الحرف وصل الفعل، ومعنى: ختم عليه بغشاوة مثل: جعل على بصره غشاوة، ألا ترى أنّه إذا ختمها بالغشاوة فقد جعلها فيها. واستدلّ على جواز حمل غشاوة على (ختم) هذا الظاهر، بقوله تعالى:
[الحجة للقراء السبعة: 1/309]
أولئك الّذين طبع اللّه على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم [النحل/ 108] فقال: طبع في المعنى كختم، وقد حملت الأبصار على (طبع) فكذلك تحمل على ختم.
قيل: لا يحسن ذلك، لأنّك تفصل بين حرف العطف والمعطوف به، وهذا عندنا إنّما يجوز في الشعر، ولا يختلفون أنّ ذلك في المعطوف على المجرور قبيح، والمنصوب والمرفوع بمنزلته في القياس، ألا ترى أنّ حرف العطف في المجرور ليس هو الجارّ، إنّما هو يشرك فيه، وكذلك في المرفوع والمنصوب ليس هو الرافع ولا الناصب، إنّما يشرك فيهما. فإنّما قبح الفصل فيهما لأنّ ما يقوم مقامهما لا يتّسع فيه الاتساع الذي في الأصل، ألا ترى أنهم لم يتّسعوا في إنّ وأخواتها اتساعهم في الفعل، ولم يتّسع في الظروف، ولا في الأسماء المسمّى بها الأفعال اتساعهم في الفعل، ولا في الصفات المشبّهة بأسماء الفاعلين اتّساعهم في أسماء الفاعلين، ولا في عشرين اتّساعهم في ضاربين وحسنين، فكذلك لا يتّسع في حرف العطف الذي يشرك فيما يعطف عليه اتّساعهم في نفس المعطوف عليه.
وقد ذهب إلى التسوية بين الجارّ وبين الناصب والرافع في العطف الكسائيّ والفراء. وقد جاء هذا الفصل في الشعر، أنشد أبو زيد:
[الحجة للقراء السبعة: 1/310]
أتعرف أم لا رسم دار معطّلا... من العام تغشاه ومن عام أوّلا
قطار وتارات خريق كأنّها... مضلّة بوّ في رعيل تعجّلا
وقال:
... وآونة أثالا فإن قال: لا أعطفه على هذا الفعل الظاهر الذي هو (ختم) ولكني أحمله على فعل أضمره، فأضمر: وجعل، ويكون ذلك بمنزلة الظاهر لدلالة ما تقدم عليه فإن هذا أيضا ليس بالسهل ألا ترى أن مثل:
متقلدا سيفا ورمحا
[الحجة للقراء السبعة: 1/311]
و: شرّاب ألبان وتمر وأقط و: علفتها تبنا وماء باردا لا تكاد تجده في حال سعة واختيار فإذا كان النصب تعترض فيه هذه الأشياء فلا نظر في أن الرفع أحسن والقراءة به أولى، وتكون الواو عاطفة جملة على جملة). [الحجة للقراء السبعة: 1/312]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({والّذين يؤمنون بما أنزل إليك} {وعلى أبصارهم غشاوة}
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (بما أنزل إليك) و(على أبصارهم) لا يمدون حرفا لحرف وهو أن تكون المدّة من كلمة والهمزة من أخرى وحجتهم في ذلك أنهم أرادوا الفرق بين ما المدّة فيه لازمة لا تزول بحال وبين ما هي فيه عارضة قد تزول في بعض الأحوال نحو بما أنزل إليك فإنّها تزول عند الوقف والّتي لا تزول نحو دعاء ونداء وبناء وسماء فجعلوا ذلك فرقا بينهما
وقرأ ابن عامر والكسائيّ مدا وسطا ومد حمزة وعاصم مدا
[حجة القراءات: 85]
مفرطا وحجتهم في ذلك أن المدّ إنّما وجب عند استقبال الهمزة سواء كانت الهمزة من نفس الكلمة أو من الأخرى إذا التقتا لأنّه لا فرق في اللّفظ بينهما). [حجة القراءات: 86] (م)
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (4- {غِشَاوَةً} [آية/ 7]:
اتفق القراء على الرفع من "غشاوة"، وروى المفضل الضبي عن عاصم بالنصب.
فالرفع على أن الكلمة مقطوعة عن الفعل المتقدم الذي هو: {خَتَمَ} ومرفوعة بالابتداء، وخبرُها ما تقدم عليها من الجار والمجرور وهو قوله: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ}، ويجوز أن يكون مرتفعًا بالجار والمجرور على مذهب الأخفش كأنه قال: وعلى أبصارهم استقرّ غشاوة.
وأما النصب فيه فيجوز أن يكون لكونه محمولًا على {خَتَمَ} مع تقدير حرف الجر كأنه قال: وختم على أبصارهم غشاوة أي بغشاوة، فحذف الجار وأوصل الفعل بنفسه، وهذا فيه قبحٌ؛ لأنك تفصل بين حرف العطف والمعطوف به، ويجوز أن يكون محمولًا على فعلٍ مضمرٍ يدلّ عليه الفعل
[الموضح: 243]
المتقدم وهو "خَتَمَ" فيكون تقديره: خَتَمَ الله على قلوبهم وعلى سمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة، كما قال القائل:
5- يا ليت زوجك قد غدا = متقلدًا سيفًا ورُمحا
وقال آخر:
6- شراب ألبانٍ وتمر وأقط
وهذا فيه أيضًا ضعف؛ لقلته في حال السعة؛ ولأن أكثر ما يجيء من ذلك إنما هو في الشعر، فلهذا كان الرفع أقوى). [الموضح: 244]

قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (7- قوله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله}.
قرأ حمزة والكسائي {من يقول} بإدغام النون في الياء من غير غنة.
والباقون يدغمون بغنة، وذلك أن النون الخفيفة الساكنة والتنوين تظهران عند ستة أحرف، ويدغمان عند ستة، ويخفيان عند باقي حروف المعجم. فالأحرف الستة اللواتي تظر «ن» عندهن هي حروف الحلق: الهمزة والهاء والعين والحاء والخاء والغين، واللواتي تدغمان عندهن الياء، وقد ذكرته واللام بغير غنة نحو: {هدى للمتقين} والراء بغير غنة نحو: {من ربهم} والواو بغير غنة في قراءة حمزة وحده، والباقون بغنة نحو {غشاوة ولهم} و{مالهم من دونه من وال} وعند الميم بغنة لا غير نحو {عم يتساءلون} وعند النون مثلها بغنة لاغ نحو: {خلقتين من نار} {فما له من نور} ). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/63]

قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله تعالى: (يخادعون اللّه والّذين آمنوا وما يخدعون إلّا أنفسهم)
لم يختلف القراء في الأولى إنه بألف.
واختلفوا في الثانية فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: (ما يخادعون) بألف. وقرأ الباقون: (وما يخدعون) بغير ألف، مع فتح الياء.
قال أبو منصور: من قرأ: (وما يخادعون إلا أنفسهم) جعل الخداع من واحد وإن كان على (مفاعلة)، ومثله قولهم: (عاقبت اللص) و(عافاه الله) و(طارقت النغل) و(قاتله الله)، في حروف كثيرة جاءت للواحد.
ومن قرأ: (وما يخادعون) فلا سؤال فيه.
وقال شمر في قول الشاعر:
وخالف المجد أقوامٌ لهم ورقٌ... راح العضاة به والعرق مدخول
قال: معنى خادع المجد: تركه). [معاني القراءات وعللها: 1/133]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (8- وقوله تعالى: {وما يخدعون إلا أنفسهم}.
قرأ نافع وابن كثير، وأبو عمرو: {يخادعون} بالألف. وقرأ الباقون بغير الألف.
وحدثني أبو بكر بن الأعرابي قال: حدثنا المبرد رحمه الله قال: يخدعون
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/63]
ويخادعون المعنيان متقاربان، غير أن يخادعون بالألف الاختيار؛ لتُعطف لفظة على شكلها.
واختلف الناس في {يخادعون} فقال أبو عبيدة: يفاعلون وفاعلت فعل من اثنين. وربما جاء الواحد كقولهم: طارقت النعل وعافاك الله من ذاك، ومن ذلك: قاتلهم الله أي: قتلهم الله، ويخادعون بمعنى: يخدعون. وقال أكثر أهل النحو: فاعلت لا يكون إلا من اثنين، فمخادعة الله إياهم أن يجازيهم جزاء خدعهم كما قال: {نسوا الله فنسيهم}.
حدثني أبو بكر بن الأعرابي، عن المبرد رضي الله عنهما أن مؤرقا العجلي قرأ: {وما يخدعون إلا أنفسهم} وكان مورق أسد الناس.
حدثنا ابن عرفة قال: حدثني محمد بن يونس عن سعيد بن عامر قال: حدثنا موسى الخلقاني قال: كان مؤرق العجلي يجيء بالصرة إلى الرجل فيقول: إذا نفدت أمددناك، وكان يودع الصرة الإنسان ثم يجيء فقول: أنت في حل.
ويقال: خدعت العين: نامت، و«بين يدي الدجال سنون خداعة» أي: ناقصة النماء والزكاء. وخدع الريق: نقص وتغير، وذلك أنه إذا نقص خثر؛ أي: غلظ، وإذا خثر جف وتغير، وبذلك يخلف فم الصائم، قال سويد:
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/64]
أبيض اللون لذيذًا طعمه = طيب الريح إذا الريق خدع). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/65]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (بسم الله
اختلفوا في ضم الياء وفتحها وإدخال الألف في قوله جلّ وعزّ: يخادعون [البقرة/ 9].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (يخادعون... وما يخادعون) بالألف فيهما.
[الحجة للقراء السبعة: 1/312]
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائيّ (يخادعون...
وما يخدعون) بفتح الياء بغير ألف.
قال أبو علي: قال أبو زيد: خدعت الرجل أخدعه خدعا، الخاء كسر، وخديعة. قال: وقالوا: «إنك لأخدع من ضبّ حرشته»..
وقال أبو زيد أيضا يقال: «لأنا أخدع من ضبّ حرشته»، وقد حرش الرجل الضبّ يحرشه حرشا: إذا مسح بيده على فم جحره يتسمّع الصوت، فربما أقبل وهو يرى أنّ ذلك حية، وربّما أروح ريح الإنسان، فخدع في جحره يخدع خدعا: إذا رجع في الجحر فذهب ولم يخرج.
وقال أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابيّ: الخادع: الفاسد من الطعام ومن كلّ شيء، وأنشد:
أبيض اللون لذيذ طعمه... طيّب الريق إذا الريق خدع
[الحجة للقراء السبعة: 1/313]
خدع: فسد وتغيّر.
وقال أبو عبيدة: يخادعون اللّه [البقرة/ 9] يخدعون، وأنشد أبو زيد:
وخادعت المنيّة عنك سرّا... فلا جزع الأوان ولا رواعا
وقال أبو عبيدة أيضا: يخادعون الله والذين آمنوا فيما يظهرون: مما يستخفون خلافه.
قال الله تعالى: وما يخادعون إلا أنفسهم [البقرة/ 9] إنما تقع الخديعة بهم والهلكة.
والعرب تقول: خادعت فلانا إذا كنت تخادعه، وخدعته إذا ظفرت به.
قال بعض المتأولين أظنّه الحسن قال: (يخادعون الله) وإن خادعوا نبيه لأن الله تعالى بعث نبيّه بدينه، فمن أطاعه فقد أطاع الله (تعالى) كما قال: من يطع الرّسول فقد أطاع اللّه [النساء/ 80]
[الحجة للقراء السبعة: 1/314]
وقال: إنّ الّذين يبايعونك إنّما يبايعون اللّه [الفتح/ 10] فعلى هذا من خادعه فقد خادع الله.
فقد ذهب هذا المتأوّل إلى أن معنى يخادعون الله:
يخادعون نبيّه صلّى الله عليه وسلّم وفي تأويله تقوية لقول أبي عبيدة:
يخادعون: يخدعون، ألا ترى أنه قد جاء في الأخرى: وإن يريدوا أن يخدعوك فإنّ حسبك اللّه [الأنفال/ 62] فجاء المثال على يفعل.
ومثل قوله: (يخادعون اللّه) في إرادة مضاف محذوف على قول من ذكرناه قوله تعالى: إنّ الّذين يؤذون اللّه ورسوله [الأحزاب/ 57] التقدير يؤذون أولياء الله، لأنّ الأذى لا يصل إلى الله (سبحانه) كما أن الخداع لا يجوز عليه، فهي مثل قوله: والّذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا [الأحزاب/ 58] وفيما أنشده أبو زيد دلالة على صحة تفسير أبي عبيدة أنّ يخادعون: يخدعون، ألا ترى أنّ المنية لا يكون منها خداع كما لا يكون من الله- سبحانه- ولا من رسوله؟ فكذلك قوله: وما يخادعون إلا أنفسهم [البقرة/ 9] يكون على لفظ فاعل وإن لم يكن الفعل إلا من واحد كما كان الأول كذلك. وإذا كانوا قد استجازوا لتشاكل الألفاظ وتشابهها أن يجروا
[الحجة للقراء السبعة: 1/315]
على الثاني طلبا للتشاكل ما لا يصح في المعنى على الحقيقة، فأن يلزم ذلك ويحافظ عليه فيما يصح في المعنى أجدر وأولى، وذلك نحو قوله:
ألا لا يجهلن أحد علينا... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وفي التنزيل: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم [البقرة/ 194] والثاني قصاص وليس بعدوان، وكذلك وجزاء سيّئةٍ سيّئةٌ مثلها [الشورى/ 40] وقوله:
فيسخرون منهم سخر اللّه منهم [التوبة/ 79] ونحو ذلك. فأن يلزم التشاكل في اللفظ مع صحة المعنى أولى.
ومما يؤكد ذلك قوله:
من العين الحير وقول أمّ تأبّط شرا: ليس بعلفوف تلفّه هوف.
وقد جاء هذا المثال للفاعل الواحد نحو: عاقبت اللص، وطارقت النعل، وعافاه الله.
[الحجة للقراء السبعة: 1/316]
وحجة من قرأ: (يخدعون) أن فاعل هنا بمعنى فعل فيما فسره أهل اللغة، فإذا كانا جميعا بمعنى، وكان فعل أولى بفعل الواحد من فاعل من حيث كان أخص به، كان الأولى أليق بالموضع من فاعل الذي هو في أكثر الأمر أن يكون لفاعلين إذ كانوا قد استعملوهما جميعا، ولم يكن خادع بمنزلة عاقبت اللص الذي لم يستعمل فيه إلا فاعل ورفض معه فعل.
ويدل على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى في الآية الأخرى في صفة المنافقين أيضا: يخادعون اللّه وهو خادعهم [النساء/ 142]، فكما وقع الاتفاق هنا على فاعل الجاري على فعل كذلك يكون في قوله تعالى: وما يخدعون إلّا أنفسهم.
ولمن قرأ (يخادعون) وجه آخر، وهو أن ينزل ما يخطر بباله ويهجس في نفسه من الخدع منزلة آخر يجازيه ذلك ويقاوضه إياه، فعلى هذا يكون الفعل كأنّه من اثنين، فيلزم أن يقول: فاعل، وهذا في كلامهم غير ضيق، ألا ترى الكميت أو غيره قال في ذكره حمارا أراد الورود:
تذكّر من أنّى ومن أين شربه... يؤامر نفسيه كذي الهجمة الأبل
[الحجة للقراء السبعة: 1/317]
فجعل ما يكون منه من وروده الماء أو ترك الورود والتمثيل بينهما بمنزلة نفسين.
وعلى هذا قوله:
وهل تطيق وداعا أيّها الرّجل؟ وقولهم: أنا أفعل كذا وكذا أيها الرجل.
وعلى هذا المذهب قرأ من قرأ: قال أعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ [البقرة/ 259]، فنزّل نفسه- عند الخاطر الذي يخطر له عند نظره- منزلة مناظر له غيره. وأنشد الطوسي عن ابن الأعرابي.
لم تدر ما لا ولست قائلها... عمرك ما عشت آخر الأبد
[الحجة للقراء السبعة: 1/318]
ولم تؤامر نفسيك ممتريا... فيها وفي أختها ولم تكد
وأنشد بعض البصريين لرجل من فزارة:
يؤامر نفسيه وفي العيش فسحة... أيستربع الذوبان أم لا يطورها
قال: الذوبان: الأعداء.
وأنشد أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي:
وكنت كذات الطّنء لم تدر إذ بغت... تؤامر نفسيها أتسرق أم تزني
فهذه في المعنى كقوله:
أنخت قلوصي واكتلأت بعينها... وآمرت نفسي أيّ أمريّ أفعل
إلّا أنّ من ثنّى النفس، جعل ما يهجس في نفسه من الشيء وخلافه نفسين، ونزّل الهاجس منزلة من يخاطبه وينازله في ذلك، فكذلك يكون قوله: (وما يخادعون) على هذا). [الحجة للقراء السبعة: 1/319]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة أبي طالوت عبد السلام بن شداد، والجارود ابن أبي سبرة: [وَمَا يُخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ] بضم الياء وفتح الدال.
قال أبو الفتح: هذا على قولك: خدعتُ زيدًا نفسَه؛ ومعناه عن نفسه، فإن شئت قلت على هذا: حُذف حرف الجر، فوصل الفعل؛ كقوله عز اسمه: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} أي: من قومه، وقوله:
أمرتك الخيرَ
[المحتسب: 1/51]
أي: بالخير. وإن شئت قلت: حمله على المعنى فأضمر له ما ينصبه، وذلك أن قولك: خدعتُ زيدًا عن نفسه، يدخله معنى: انتقصتُه نفسَه، وملكتُ عليه نفسَه، وهذا من أَسَدِّ وأَدمث مذاهب العربية، وذلك أنه موضع يملك فيه المعنى عِنَان الكلام فيأخذه إليه، ويصرِّفه بحسب ما يؤثره عليه.
وجملته: أنه متى كان فعل من الأفعال في معنى فعل آخر، فكثيرًا ما يُجْرَى أحدهما مجرى صاحبه، فيُعْدَلُ في الاستعمال به إليه، ويُحتذى في تصرفه حذو صاحبه، وإن كان طريق الاستعمال والعرف ضد مأخذه، ألا ترى إلى قوله الله جل اسمه: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} ؟ وأنت إنما تقول: هل لك في كذا؟ لكنه لما دخله معنى: أَجْذِبك إلى كذا وأدعوك إليه، قال: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} ؟ وعليه قول الفرزدق:
كيف تراني قاليا مِجَنِّي ... قد قتل الله زياداً عني
فاستعمل "عن" هاهنا لما دخله من معنى قد صرفه الله عني؛ لأنه إذا قتله فقد صُرف عنه.
وعليه قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}، وأنت لا تقول: رفثتُ إلى المرأة، وإنما تقول: رفثت بها ومعها، لما كان الرفث بمعنى الإفضاء عُدي بإلى كما يُعدَّى أفضيت بإلى، نحو قولك: أفضيت إلى المرأة، وهو باب واسع ومنقاد، وقد تقصيناه في كتابنا "الخصائص"، فكذلك قوله عز وجل: [وَمَا يُخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ] جاء على خَدعْتُه نفسَه، لما كان معناه معنى: انتقصتُه نفسَه، أو تخوَّنتُه نفسَه.
ورأيتُ أبا علي -رحمه الله- يذهب إلى استحسان مذهب الكسائي في قوله:
إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشَيْر ... لعمر الله أعجنبي رضاها
[المحتسب: 1/52]
لأنه قال: عدى رضيت بعلى، كما يُعدى نقيضها وهي سخطت به، وكان قياسه: رضيت عني، وإذا جاز أن يجري الشيء مجرى نقيضه فإجراؤه مجرى نظيره أسوغ.
فهذا مذهب الكسائي، وما أحسنه! وفيه غيره على سمت ما كنا بصدده، وذلك أنه إذا رضي عنه فقد أقبل عليه، فكأنه قال: إذا أقبلَتْ عليَّ بنو قشير، وهو غور من أنحاء العربية طريف ولطيف ومصون وبَطين). [المحتسب: 1/53]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وما يخدعون إلّا أنفسهم}
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {وما يخدعون إلّا أنفسهم} بالألف واحتج أبو عمرو بأن قال إن الرجل يخادع نفسه ولا يخدعها قال الأصمعي ليس أحد يخدع نفسه إنّما يخادعها
وقرأ أهل الشّام والكوفة {وما يخدعون} بغير ألف وحجتهم في ذلك أن الله أخبر عن هؤلاء المنافقين أنهم يخادعون الله والّذين آمنوا بقولهم {آمنا باللّه وباليوم الآخر} فأثبت لهم مخادعتهم الله والمؤمنين ثمّ يخبر عنهم عقيب ذلك أنهم لا يخادعونه ولا يخادعون إلّا أنفسهم فيكون قد نفى عنهم في آخر الكلام ما أثبته لهم في أوله ولكنه أخبر أن المخادعة من فعلهم ثمّ إن الخدع إنّما يحيق بهم خاصّة دونه). [حجة القراءات: 87]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (1- قوله: {وما يخدعون} قرأ الكوفيون وابن عامر بفتح الياء وإسكان الخاء، من غير ألف، وقرأ الباقون بضم الياء، وبألف بعد الخاء، وكسر الدال.
2- وعلة من قرأه بغير ألف أن أهل اللغة حكوا: خادع وخدع بمعنى واحد، والمفاعلة قد تكون من واحد كقولهم: داويت العليل، وعاقبت اللص، فلما كان «خادع وخدع» بمعنى واحد اختار «خدع» فحمله على معنى الأول، لأنه بمعنى: «يخدعون»، ولم يحمله على اللفظ، فبين على أن الأول محمول على «يخدعون»، ولم يحمله على اللفظ، فبين على أن الأول محمول على «يخدعون»، وأيضًا فإن «فعل» أخص بالواحد من فاعل إذ فاعل أكثر ما يكون من اثنين، ويقوي هذا المعنى أن مخادعتهم، إنما كانت للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، ولم يكن من النبي والمؤمنين لهم مخادعة، فدل على أن الأول من واحد بمعنى «يخدعون»،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/224]
فجرى الثاني على معنى الأول، ويدل على ذلك قوله لنبيه عليه السلام: {وإن يريدوا أن يخدعوك} «الأنفال 62» فالخداع منهم خاصة كان، وقد أجمعوا على: {وهو خادعهم} «النساء 142» من «خدع»، وأيضًا فإن الإخبار جرى عنهم في صدر الآية بالمخادعة لله، فيبعد أن تنفي عنهم تلك المخادعة التي أوجها لهم، وأخبرنا عنهم بالمخادعة في صدر الآية، ومعنى «يخادعون الله» أي: أولياء الله وأنبياء الله، ومعنى الخداع إظهار خلاف ما في النفس، والنبي والمؤمنون لا يفعلون معهم هذا.
3- وعلة من قرأه بألف إنما لما كان «يخادعون ويخدعون» في اللغة بمعنى واحد أجرى الثاني على لفظ الأول إذ معناهما «يخدعون أولياء الله»، فذلك أحسن في المطابقة والمشاكلة بين الكلمتين أن تكونا بلفظ واحد، وأيضًا فإن المبرد قال: معناه «وما يخادعون بتلك المخادعة المذكورة أولا إلا أنفسهم، إذ وبالها راجع عليهم» فوجب ألا يختلف اللفظ، لأن الثاني هو الأول، وقد قال أبو عمرو: ليس أحد يخدع نفسه، وإنما يخادعها، فوجب أن يقرأ: {وما يخدعون إلا أنفسهم} إذ لا يخدعون أنفسهم إنما يخادعونها.
قال أبو محمد: وقراءة من قرأ بغير ألف أقوى في نفسي، لأن الخداع فعل
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/225]
قد يقع وقد لا يقع، والخدع فعل وقع بلا شك، فإذا قرأت: {وما يخدعون} أخبرت عن فعل وقع بهم بلا شك، وكذلك هو إذا قرأت: «وما يخادعون» جاز أن يكون لم تقع بهم المخادعة، وأن تكون قد وقعت، فـ «يخدعون» أمكن في المعنى، وبغير ألف قرأ الحسن وأبو جعفر ومورق وقتادة وأبو عبد الرحمن السلمي وطلحة وابن أبي ليلى وابن أبي إسحاق والجحدري والسختياني وعيسى بن عمر وابن إلياس وعمرو بن عبيد قال أبو
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/226]
حاتم: العامة عندنا على «وما يخدعون» وهي على قراءة يحيى بن وثاب والأعمش، وهي اختيار أبي عبيد وأبي طاهر وغيرهما.
قال أبو محمد: والقراءة الأخرى حسنة ويقويها اتفاق أهل المدينة ومكة عليها، وهي قراءة الأعرج وابن جندب وشيبة وابن أبي الزناد ومجاهد وابن محيصن وشبل.
قال أبو محمد: وحمل القراءتين على معنى واحد أحسن، وهو أن «خادع وخدع» بمعنى واحد في اللغة، فيكون «وما يخادعون وما يخدعون» بمعنى واحد من فاعل واحد). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/227]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (5- {وَمَا يُخْادَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [آية/ 9]:-
بالألف وضمٌ الياء، قرأها ابن كثير ونافع وأبو عمرو.
لأن (يُخادِعُونَ) هاهنا بمعنى: يخدعون، فإن فاعل قد جاء والفعل فيه
[الموضح: 244]
من واحد، كعاقبت اللص، وطارقت النعل، وإنما جاء هاهنا فاعل بمعنى فعل ليشاكل لفظه لفظ الأول وإن كان المعنى غير الأول طلبًا لمزاوجة اللفظ.
وقرأ الباقون "يخدعون" مفتوحة الياء من غير ألفٍ.
لأن فاعل في القراءة الأولى بمعنى فعل أيضًا، فإذا كان كذلك ففعل الذي هو الأصل أولى؛ لأنه أخصّ بفعل الواحد من فاعل الذي هو في غالب الأمر من اثنين، ويقوِّيه قوله تعالى في الآية الأخرى {يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} ). [الموضح: 245]

قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فزادهم اللّه مرضًا)
كسر حمزة الزاي من "فزادهم). وكذلك قرأ ابن عامر.
وفتح الباقون الزاي وما أشبهها.
غير أن نافعا يلفظ بها بين الفتح والكسر، وهو إلى الفتح أقرب.
[معاني القراءات وعللها: 1/133]
وأخبرني المنذري عن أبي العباس أنه احتج لحمزة وكسرة الزاي لقولك: (زدت) فتكسر الزاي،
وقوله: (في قلوبهم مرضٌ).
اتفقوا كلهم على فتح الراء من (مرض).
وروى ابن دريد عن أبي حاتم عن الأصمعي عن أبي عمرو أنه قرأ: (في قلوبهم مرضٌ) ساكنة الراء.
قال أبو منصور: ولا يعرج على رواية ابن دريد، فإنه غير ثقة والقراءة (مرض) لا غير.
قوله جلّ وعزّ: (بما كانوا يكذبون).
قرأ عاصم وحمزة والكسائي (يكذبون) خفيفا وقرأ الباقون: (يكذّبون) مشددا.
فمن قرأ: (يكذبون) فمعناه: بكذبهم.
ومن قرأ: (يكذّبون) فمعناه: بتكذيبهم الأنبياء، و(ما) في الفعلين (ما) المصدر، المعنى: بكذبهم، أو: بتكذيبهم). [معاني القراءات وعللها: 1/134]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (9- وقوله تعالى: {فزادهم الله مرضا}
قرأ حمزة وابن عامر برواية ابن ذكوان {فزادهم الله} بالإمالة، وكذلك شاء وجاء وفتح الباقي. وقرأ الباقون كلهم بفتح ذلك كله.
فمن كسر فحجته أن عين الفعل منها مكسورة، وإذا ردها المتكلم إلى نفسه كانت ألفًا مكسورة نحو: زاد وزدت، وطاب وطبت وشاء وشئت، فلهذه العلة قرأ حمزة {فلما زاغوا أزاغ الله قلوهم} بالإمالة {أزاغ الله} بالفتح، لأنك تقول زغت وأزغت، وكذلك {فأجآها المخاض} ولم يقرأ {فأجاها} بالإمالة؛ لأنك تقول: أجأت.
ومن فتح أوائلها فإنه أتى بالكلمة على أصلها، وأصل كل فعل إذا كان ثلاثيًا أن يكون أوله مفتوحًا.
ومن كسر بعضًا وفتح بعضًا فإنه أتى باللغتين ليعلم أن هذا جائز، وأن لا يخرج القارئ إذا قرأ بأحدهما أو بهما، كما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ملك يوم الدين} و{مالك يوم الدين}.

10- وقوله تعالى {بما كانوا يكذبون}.
قرأ أبو عمرو ونافع وابن كثير وابن عامر {يكذبون} مشددة.
وقرا الباقون {يكذبون}
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/65]
قال أبو عبد الله رضي الله عنه سمعت ابن مجاهد يقول: معنى القراءتين متقارب؛ لأن من كذب بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد كذب غيره؛ لأن كذب فعل لازم يقال: كذب زيد في نفسه، وكذب وأكذب غيره، وفرق الكسائي بين كذب وأكذب فقال: يقال: أكذبت فلانًا إذا أخبرت أن الذي جاء به كذب وإن كان صادقًا في نفسه، وكان يقرأ: {فإنهم لا يكذبونك}.
وقال الآخرون: كذب زيد في نفسه وكذب غيره وأكذبه: إذا صادفه كاذبًا كما يقال: أحمقت زيدًا، أي صادفته أحمق، وكذلك أحمدته أي أصبته محمودًا، كما قال القائل للنبي صلى الله عليه وسلم: «لقد سألناكم فما أبخلناكم، وقاتلناكم فما أجبناكم» أي: ما صادفناكم بخلاء جبناء ممدودان. والصواب: أن عمرو بن معد يكرب قال لقوم من العرب هذا.
أخبرنا ابن دريد، عن أبي عثمان عن التوزي، عن أبي عبيدة أن عمرو بن معد يكرب أتى مجاشع بن مسعود بالبصرة يسأله الصلة فقال: اذكر حاجتك.
فقال: حاجتي صلة مثلي، فأعطاه عشرين ألفًا، وفرسًا من بنات الغمراء
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/66]
وسيفًا قياميًا، وغلامًا خبازًا. فلما خرج من عنده قال له أهل المجلس: كيف وجدت صاحبك؟
قال: لله در بني سليم ا أشد في الهيجاء قتالها، وأكرم في اللزبات عطاءها، وأثبت في المكرمات بناءها، والله لقد قاتلتها فما أجبنتها، وسألتها فما أبخلتها وهاجيتها فما أفحشتها. فأما قول الشاعر:
لست أبالي أن أكون محمقه
إذا رأيت خصية معلقه
فإنه يُقال: أحمقت المرأة: إذا ولدت الحمقى، فتقول هذه المرأة: لست أبالي إذا ولدت ذكرًا أن يكون أحمق). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/67]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (بسم الله...
قوله، عزّ وجلّ: فزادهم اللّه مرضاً [البقرة/ 10].
قرأ حمزة فزادهم اللّه مرضاً بكسر الزاي. وكذلك شاء وجاء وطاب وخاف وضاق وضاقت، وفتح الزاي من:
زاغت الأبصار [الأحزاب/ 10] وكسر الزاي من قوله: فلمّا زاغوا [الصف/ 5] وفتح الزاي في أزاغ اللّه قلوبهم [الصف/ 5] وكسر الراء من: بل ران على قلوبهم [المطففين/ 14] وفتح الجيم من فأجاءها [مريم/ 23].
وكان ابن عامر يكسر من ذلك كلّه ثلاثة أحرف:
(فزادهم، وشاء وجاء).
وكان نافع يشمّ الزاي من (فزادهم) الإضجاع في رواية خلف عن إسحاق وابن جماز وإسماعيل بن جعفر عنه، وكذلك أخوات (فزادهم) لا مفتوح ولا مكسور.
قال ابن سعدان عن إسحاق: كل ذلك بالفتح.
قال ابن سعدان. وكان إسحق إذا لفظ «فزادهم» كأنه
[الحجة للقراء السبعة: 1/320]
يشير إلى الكسر قليلا، فإذا قلت له: إنك تشير إلى الكسر، قال: لا، ويأبى إلا الفتح.
وقال ابن جماز: كان نافع يضجع من ذلك كله قوله:
خاب [طه/ 61].
حدثنا ابن مجاهد قال: أخبرني عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبي موسى الهروي، عن عباس، عن خارجة، عن نافع، مكسورة يعني (خاب).
وقال خلف وابن سعدان عن إسحاق عن نافع: (بل ران)، الراء بين الفتح والكسر.
قال محمد بن إسحاق عن أبيه عن نافع: (بل ران) مفتوحة الراء.
وكان عاصم لا يميل شيئا من ذلك إلّا قوله: بل ران على قلوبهم في رواية أبي بكر عنه، وروى عنه حفص الفتح.
وكان الكسائي يقول في ذلك كلّه كقول عاصم ويميل (بل ران).
[الحجة للقراء السبعة: 1/321]
وروى أبو عبيد عن الكسائي في: شاء [البقرة/ 20] وجاء [النساء/ 43] بين الفتح والكسر.
وقال نصير بن يوسف وغيره عنه: إنّه فتحها.
وكان ابن كثير وأبو عمرو يفتحان ذلك كلّه.
قوله تعالى: في قلوبهم مرضٌ فزادهم اللّه مرضاً [البقرة/ 10].
قالوا: زاد يزيد زيادة وزيدا، وفي التنزيل: للّذين أحسنوا الحسنى وزيادةٌ [يونس/ 26].
وقالوا: زيدا، أنشد أبو زيد:
كذلك زيد المرء ثم انتقاصه وزدت فعل يتعدى إلى مفعولين؛ قال: وزدناهم هدىً [الكهف/ 13] وقال: زدناهم عذاباً فوق العذاب [النحل/ 88]، وقال: وزاده بسطةً في العلم والجسم [البقرة/ 247].
وأما قوله: فزادهم إيماناً [آل عمران/ 173]
[الحجة للقراء السبعة: 1/322]
فالمعنى: زادهم قول الناس لهم إيمانا، أضمر المصدر في الفعل وأسند الفعل إليه، وكذلك قوله: فلمّا جاءهم نذيرٌ ما زادهم إلّا نفوراً [فاطر/ 42]، أي: ما زادهم مجيء النذير، وقال:
وصدق اللّه ورسوله وما زادهم إلّا إيماناً [الأحزاب/ 22] أي: ما زادهم نظرهم إليهم أو رؤيتهم لهم إلّا إيمانا.
ومثل ذلك من إضمار المصدر في الفعل لدلالة الفعل عليه قوله تعالى: والّذين كفروا بعضهم أولياء بعضٍ إلّا تفعلوه [الأنفال/ 73] أي: إلا تفعلوا هذه الموالاة.
ومثل ذلك كثير في التنزيل وغيره.
وقال: ولبثوا في كهفهم ثلاث مائةٍ سنين وازدادوا تسعاً [الكهف/ 25] أي: ازدادوا لبث تسع، فحذف المصدر وأقيم المضاف إليه مقامه، فانتصاب تسع على هذا انتصاب المفعول به لا انتصاب الظرف، كما أن المضاف لو ظهر وأضيف إلى التسع كان كذلك.
وأما المرض فقال أبو عبيدة في تأويله: شك ونفاق، كأنه جعل ما في قلوب المنافقين من ذلك خلاف ما في قلوب المؤمنين من اليقين والإيمان.
وقيل: إن قوله: فيطمع الّذي في قلبه مرضٌ [الأحزاب/ 32] أي فجور.
[الحجة للقراء السبعة: 1/323]
وقال سيبويه: أمرضته: جعلته مريضا، ومرّضته: قمت عليه ووليته.
وقال السدي: فزادهم الله مرضا، أي زادهم عداوة الله مرضا. وهذا في حذف المضاف كقول من قال في (يخادعون اللّه): إنّ المعنى يخادعون رسول الله، ومثله في حذف المضاف قوله: فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذكر اللّه [الزمر/ 22] المعنى من ترك ذكر الله، كما قال في صفة المنافقين: يراؤن النّاس ولا يذكرون اللّه إلّا قليلًا [النساء/ 142].
ويجوز أن يكون المعنى أنّهم إذا ذكر الله قست قلوبهم خلاف المؤمنين الذين قيل فيهم: إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم [الأنفال/ 2].
الإعراب
قال: زادهم، فلم ينقل حركة العين التي هي الكسرة التي نقلت فتحة العين من زاد إليها إلى الفاء كما نقلت في زدت، وشذ ذلك في الاستعمال والقياس، لما كان يؤدي إليه من التباس فعل بفعل، ولأنّ الألف إذا ثبتت في زاد وباع- والذي يوجب قلبها ألفا هو تقدير الحركة فيها- صارت الحركة بانقلاب الحرف إلى الألف بمنزلة الثابتة في الحرف، فلما كان
[الحجة للقراء السبعة: 1/324]
كذلك، وكان الحرف الذي هو متحرك بها ثابتا غير محذوف لم ينقل عنه، ولذلك لم تنقل الحركة التي تجب للّام في مصطفون والأعلون ونحوهما إلى ما قبلها، كما نقل في قاضون وغازون ورامون. وعلى هذا لم يقدّر حذف الحركة من الألف فيمن روى:
كأن لم تري قبلي أسيرا يمانيا وقوله:
ولا ترضّاها ولا تملّق ونحو ذلك، كما قدرنا حذفها من قوله:
ألم يأتيك والأنباء تنمي و: لم تهجو ولم تدع لأن الياء قد جاء متحركا في نحو:
غير ماضي
[الحجة للقراء السبعة: 1/325]
وليس الألف كذلك، لأنّه في ثباتها ألفا كأن الحركة ثابتة فيها، فلا يصح نقلها إلى غيرها من الحروف مع ثباتها في الموضع الذي هي ثابتة فيه. وليس كذلك: بعت وقلت وخفت، لأنّك في هذه المواضع قد حذفت الحروف، والحروف إذا حذفت قد تنقل حركاتها إلى ما قبلها. ألا ترى الخب في التخفيف، وضوا، ومولة، وجيل، ونحو ذلك.
وقد تنقل حركة الحرف المتحرك إلى ما قبله والحرف ثابت غير محذوف، نحو قول من قال: قتّل في اقتتل، فإذا حذف كان نقل حركته إلى ما قبله أولى ليدل على المحذوف كما أجمع على ذلك في حذف الهمز في التخفيف.
فأمّا وجه قول من أمال الألف في زاد، فهو أنّه أراد أن يدل بالإمالة على أن العين ياء، كما أميلت الألف في حبالى، ليعلم أن الواحد من هذا الجمع قد كانت الإمالة جائزة فيه،
[الحجة للقراء السبعة: 1/326]
وكما أبدلت الواو من الهمزة المنقلبة عن الحرف الزائد في هراءى وأداءى وعلاءى، ليعلم أن الواو كانت ظاهرة في الواحد، ورفضوا أن يبدلوا منها الياء كما أبدلت منها في خطايا ومطايا ليعلم أن الواو كانت ثابتة في آحاد هذه الجموع.
وكما صحّحوا الواو في مقاتوه ليعلموا أن الواو في واحده، وهو مقتوي، قد صحت.
وكذلك صحّحوا الواو في سواسوة فيما حكاه أبو عمر وأبو عثمان عن أبي عبيدة ليعلم أنّه من مضاعف الأربعة، فكما حافظوا على هذه الحروف في هذه المواضع فألزموها ما يدل عليها، كذلك أمال من أمال الألف ليحافظ على الحرف الذي هو الأصل.
ومما يقوّي قول من أمال (زاد) ونحوه ليدل بالإمالة على الياء أن الجميع أبدلوا من الضمة كسرة في بيض وعين وجيد جمع أبيض وأعين وجيداء لتصح الياء، ولا تنقلب إلى الواو.
فكما حوفظ على تصحيح الياء في هذه الأشياء كذلك حوفظ عليها بإمالة الألف نحوها، لتدلّ عليها. يدلك على ذلك أنّ الذين أمالوا نحو: «زاد، وباع، وناب، وعاب»، لم يميلوا نحو: عاذ، وعاد، ولا بابا، ومالا، ولا ما أشبه ذلك مما العين
[الحجة للقراء السبعة: 1/327]
منه واو حيث لم تكن في الكلمة ياء ولا كسرة فتنحى الألف بالإمالة نحوهما.
ومما يقوي الإمالة في زاد ونحوه: أنّه اجتمع فيه أمران كل واحد منهما يوجب الإمالة: وهو لحاق الكسرة أول فعلت، والآخر: أن تمال الألف ليعلم أنّها من الياء. فإذا كان كل واحدة من هاتين الخلتين على الانفراد توجب الإمالة في هذا النحو، فإذا اجتمعتا كان أجدر أن توجباها وتجلباها.
ومما يقوّي الإمالة في: زاد وباع وكال ونحو ذلك، أنّ الحروف المستعلية والراء إذا كانت مفتوحة تمنعان الإمالة، ألا ترى أنّ من أمال نحو: عالم، وسائل، لم يمل نحو ظالم، وغانم، وراشد، ولم يمل، رابيا في قوله:
فاحتمل السّيل زبداً رابياً [الرعد/ 17] لمكان المستعلي والراء المفتوحة، ولم يجعلوهما في هذا الموضع تمنعان الإمالة كما منعتا في غيره. فلولا تأكد الإمالة في ألفات هذه الأفعال لما أمالوها مع ما يمنع من الإمالة في غير هذا الموضع.
قال سيبويه: بلغنا عن ابن أبي إسحاق أنّه سمع كثير عزة يقول: صار مكان كذا. وإذا لم يمنع المستعلي أولا في
[الحجة للقراء السبعة: 1/328]
صار لم يمتنع آخرا في زاغ، وإذا لم يمنعها المستعلي لم تمنع الراء في نحو: بل ران على قلوبهم [المطففين/ 14].
بسم الله: اختلفوا في ضمّ الياء والتشديد وفتحها والتخفيف في قوله تعالى: بما كانوا يكذبون [البقرة/ 10].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: بما كانوا يكذبون، بضم الياء وتشديد الذال.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: (يكذبون) بفتح الياء وتخفيف الذال.
قال أبو علي: كذب يكذب كذبا وكذابا. قال: أفترى على اللّه كذباً [سبأ/ 8].
وقال الأعشى:
والمرء ينفعه كذابه فالكذب كالضحك واللعب.
[الحجة للقراء السبعة: 1/329]
قال سيبويه: والكذاب كالكتاب والحجاب. وفي التنزيل: وكذّبوا بآياتنا كذّاباً [النبأ/ 28]، فالكذّاب على وزن الإكرام، ولم يجيء المصدر كمصادر دحرج وصعرر ليعلم أن الفعل ليس للإلحاق، كما لم يجيء أصمّ وأعدّ على وزن قردد وجلبب.
وحكى أبو زيد بيتا ذكر أنه لجريبة بن الأشيم، جاهلي وهو:
فإذا سمعت بأنّني قد بعته... بوصال غانية فقل كذّبذب
قال أبو زيد: كذّبذب: كاذب، وحكي عن أبي عمر في تفسيره: كذب.
فالكلمة على تفسير أبي زيد صفة وعلى ما حكي من تفسير أبي عمر اسم، فيكون المبتدأ المضمر: القائل ذلك كاذب، وعلى القول الآخر ما سمعت كذب.
وهذه الكلمة تحكى فيما شذ عن سيبويه من الأبنية.
[الحجة للقراء السبعة: 1/330]
ولولا ثقة أبي زيد وسكون النفس إلى ما يرويه لكان ردها مذهبا، لكونه على ما لا نظير له، ألا ترى أن العين إذا تكرر مع اللام في نحو صمحمح وجلعلع لا يكرر إلا مرتين، وقد تكررت في هذه ثلاث مرات. ومع ذلك فقد قالوا:
مرمريس، فتكررت الفاء مع العين فيها ولم تتكرر في غيرها، ولم يلزم من أجل ذلك أن يردّ ولا يقبل، فكذلك ما رواه أبو زيد من هذه الكلمة.
والكذب: ضرب من القول، وهو نطق، كما أن القول نطق.
فإذا جاز في القول الذي الكذب ضرب منه أن يتسع فيه فيجعل غير نطق في نحو:
قد قالت الأنساع للبطن الحق ونحو قوله في وصف الثور:
فكرّ ثم قال في التفكير
[الحجة للقراء السبعة: 1/331]
وجاز أن يجعل في هذه المواضع وغيرها غير نطق، فكذلك يجوز في الكذب أن يجعل غير نطق في نحو قوله:
... كذب القراطف والقروف فيكون في ذلك انتفاء لها، كما أنّه أخبر عن الشيء على خلاف ما هو به كان انتفاء للصدق فيه. وكذلك قول الآخر:
إذا المعسيات كذبن الصّبو... ح خبّ جريّك بالمحصن
أي: إذا انتفى الصبوح منهن، فلم يوجد فيهن، أطعمت من مدّخر الطعام وغير ألبان هذه الإبل التي يظن أن فيهن الصبوح، فجعل كون الشيء على خلاف ما يظنّ كذبا وإن لم يكن قولا، فعلى هذا قالوا: «كذب القراطف»، أي: هو منتف
[الحجة للقراء السبعة: 1/332]
ليس له وجود، كما أن كذب في الخبر على ذلك، فكذلك كذب الصبوح، أي: ليس يوجد، وكذب القراطف أي فأوجدوها بالغارة، وكذلك كذب عليكم العسل، وحمل فلم يكذّب، [أي: لم يجعل الحملة في حكم غير الحملة، ولكنه أوجدها وأوقعها]، وقالوا: حمل عليه ثم أكذب، يعنون كذب، وعلى هذا قالوا: حملة صادقة، وصدق القوم القتال.
وقال:
فإن يك ظني صادقي وهو صادقي فكما وصفوه بالكذب وصفوه بخلافه الذي هو الصدق، وكذلك قوله: ليس لوقعتها كاذبةٌ [الواقعة/ 2] أي: هي الواقعة وغير منتف كونها.
والكاذبة يشبه أن يكون مصدرا، كالعاقبة والعافية ونحو ذلك. فالفعل الذي هو كذب في هذا النحو ينبغي أن يكون الفاعل مسندا إليه، وعليك: معلّقة به.
فأمّا ما روي من قول من نظر إلى بعير نضو فقال لصاحبه: «كذب، عليك البزر والنّوى» بنصب البزر، فإن عليك فيه لا يتعلق بكذب، ولكنه يكون اسم الفعل، وفيه ضمير
المخاطب، فأما كذب ففيه ضمير الفاعل كأنه قال: كذب السّمن، أي: انتفى من بعيرك فأوجده بالبزر والنّوى، وهما مفعولا عليك وأضمر السّمن لدلالة الحال عليه من مشاهدة عدمه.
[الحجة للقراء السبعة: 1/333]
فأمّا قوله:
كذبت عليكم أوعدوني وعلّلوا... بي الأرض والأقوام قردان موظبا
فإنّ معنى (كذبت عليكم): لست لكم، وإذا لم أكن لكم ولم أعنكم كنت منابذا لكم ومنتفية نصرتي عنكم، ففي ذلك إغراء منه لهم به، فهو مثل: كذب القراطف.
وقال أبو زيد: قد كعّ الرجل عن الأمر فهو يكع، إذا أراد أمرا ثم كفّ عنه مكذّبا عند قتال أو غيره. قال: وتقول:
احرنجم الرجل فهو محرنجم، وهو الذي يريد الأمر ثم يكذّب فيرجع، فقد استعمل أبو زيد هذه اللفظة كما ترى في الموضع الذي ينتفي فيه ما كان أريد فلم يوقع، وكذلك قول أبي دواد:
قلت لمّا فصلا من قنّة... كذب العير وإن كان برح
يقول: لما فصل الفرس والحمار أخذ الحمار على يمين الفارس، وذاك أنّه يصعب الطعن من ناحية يمين الفارس،
[الحجة للقراء السبعة: 1/334]
فقال: كذب العير، فإنّه يطعن وإن برح، فجعل تقديره انتفاء الطعن عنه كذبا منه، فهذا الأصل في هذه الكلمة، وليس كما ذكر بعض رواة اللغة أنّ كذّب يجيء زيادة في الحديث.
فأمّا قول عنترة:
كذب العتيق وماء شن بارد... إن كنت سائلتي غبوقا فاذهبي
فإن شئت قلت فيه: إن المعنى في «كذب» أنّه لا وجود للعتيق الذي هو التمر، فاطلبيه، وإذا لم تجدي التمر فكيف تجدين الغبوق؟
وإن شئت قلت: إن الكلمة لما كثر استعمالها في الإغراء بالشيء والبعث على طلبه وإيجاده صار كأنّه قال بقوله لها:
عليك العتيق، أي: الزميه، ولا يريد بها نفيه، ولكن إضرابها عما عداه، فيكون العتيق في المعنى مفعولا به، وإن كان لفظه مرفوعا مثل: سلام عليك ونحوه مما يراد به الدعاء، واللفظ على الرفع.
وحكى محمد بن السريّ عن بعض أهل اللغة- في كذب العتيق- أنّ مضر تنصب به. وأن اليمن ترفع به، وقد تقدم ذكر وجه ذلك.
ومن الكذب الذي ليس في الإخبار كقوله: كذب
[الحجة للقراء السبعة: 1/335]
القراطف- قول ذي الرّمّة:
وللشول أتباع مقاحيم برّحت... به وامتحان المبرقات الكواذب
فالكواذب: النوق التي تظهر أنها قد لقحن وليس كذاك، فيردهن الفحل إلى الطّروقة. وقريب من ذلك قوله:
إذا قلت عاج أو تغنّيت أبرقت... بمثل الخوافي لاقحا أو تلقّح
فالمتلقّح: التي تري أن بها لقاحا، وليست كذلك، فهي مثل الكواذب في بيته الآخر.
[الحجة للقراء السبعة: 1/336]
ومما يبيّن أن الكذب في هذه الأشياء التي ليست من القول على ما تأولنا قول الأعشى:
إذا ما الآثمات ونين حطّت... على العلّات تجتزع الإكاما
قالوا: الآثمات: البطاء اللواتي لا يصدقن في السير، فهذا يدلك على صحة ما ذكرناه في قولهم: حمل فلم يكذّب، وكذب عليك الحجّ، وكذب عليكم العسل، ألا ترى أن الإثم كالكذب كما أن البر كالصدق؟
قال أبو علي: حجة من قال: يكذبون [البقرة/ 10]- بفتح الياء وتخفيف الذال، أن يقول: إن ذلك أشبه بما قبل الكلمة وبما بعدها، فالذي قبلها مما يدل على الكذب ويكذبون- قوله تعالى: ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين [البقرة/ 8].
فقولهم: آمنا بالله كذب منهم، فلهم عذاب أليم بكذبهم.
هذا الذي تقدم قولهم له وحكايته عنهم.
وما بعدها قوله تعالى: وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنّما نحن مستهزؤن [البقرة/ 14].
فقولهم- إذا خلوا إلى شياطينهم- إنا معكم دلالة على
[الحجة للقراء السبعة: 1/337]
كذبهم فيما ادعوه من إيمانهم، وإذا كان أشبه بما قبله وما بعده كان أولى.
ومما يدل على ترجيح ذلك أن يقال: إن قوله: ولهم عذابٌ أليمٌ بما كانوا يكذبون لا يخلو من أن يراد به المنافقون أو المشركون أو الفريقان جميعا.
فإن كان المعنيّون بذلك المنافقين فقد قال الله فيهم:
واللّه يشهد إنّ المنافقين لكاذبون [المنافقون/ 1].
وإن كانوا المشركين فقد قال: وإنّهم لكاذبون ما اتّخذ اللّه من ولدٍ [المؤمنون/ 90، 91] وقال: وإنّهم لكاذبون. أصطفى البنات على البنين [الصافات/ 152، 153].
وإن كان الذين عنوا به الفريقين فقد أخبر عنهم جميعا بالكذب الذي يلزم أن يكون فعله يكذبون دون يكذّبون.
وحجة من قال: (يكذّبون) أن يقول: يدل على التثقيل قوله تعالى: ولقد كذّبت رسلٌ من قبلك فصبروا على ما كذّبوا [الأنعام/ 34].
وقوله تعالى: بل كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه [يونس/ 39] وإن كذّبوك فقل لي عملي ولكم عملكم
[الحجة للقراء السبعة: 1/338]
[يونس/ 41] وإن يكذّبوك فقد كذّبت رسلٌ من قبلك [فاطر/ 41] والّذين كفروا وكذّبوا [البقرة/ 39] ونحو ذلك من الآي.
فإن قلت: فكيف جاء: فإنهم لا يكذبونك، والمعنى لا يجدونك كاذبا، لأنّهم قد عرفوا أمانتك وصدقك، وعرفت بذلك فيهم. قال أبو طالب:
إنّ ابن آمنة الأمين محمّدا يؤكد ذلك قوله: ولكنّ الظّالمين بآيات اللّه يجحدون [الأنعام/ 33] أي بردّ آيات الله، أو إنكار آيات الله يجحدون، أي: يجحدون ما عرفوه من صدقك وأمانتك.
ومثل ذلك قوله تعالى: وآتينا ثمود النّاقة مبصرةً فظلموا بها [الاسراء/ 59]، أي: ظلموا بردها أو الكفر بها، فكما أن الجارّ في قوله:
(فظلموا بها) من صلة (ظلموا) كذلك يكون من صلة الظلم في قوله: ولكنّ الظّالمين بآيات اللّه يجحدون [الأنعام/ 33].
ويجحدون محذوف المفعول للدلالة عليه والتكذيب أكبر من الكذب، لأنّ كلّ من كذّب صادقا فقد كذب، وليس كلّ من كذب كان مكذّبا لغيره). [الحجة للقراء السبعة: 1/339]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قال ابن دريد عن أبي حاتم عن الأصمعي عن أبي عمرو: [فِي قُلُوبِهِمْ مَرْضٌ] ساكنة.
قال أبو الفتح: لا يحوز أن يكون [مَرْض] مخففًا من مَرَض؛ لأن المفتوح لا يخفف؛ وإنما ذلك في المكسور والمضموم كإِبِل وفَخِذ، وطُنُب وعَضُد، وما جاء عنهم من ذلك في المفتوح فشاذ لا يقاس عليه، نحو قوله:
وما كل مبتاع ولو سَلْف صفقُه ... يراجع ما قد فاته برِداد
يريد: سَلَف، فأسكن مضطرًّا، وعلى أننا قد ذكرنا هذا في كتابنا الموسوم "بالمنصف"، وهو شرح تصريف أبي عثمان، وهذا ونحوه قد جاء في الضرورة، والقرآن يُتخير له ولا يتخير عليه.
[المحتسب: 1/53]
وينبغي أن يكون [مَرْض] هذا الساكن لغة في "مرَض" المتحرك؛ كالحلْب والحلَب، والطرْد والطرَد، والشل والشلل، والعيب والعاب، والذَّيم والذَّام. وقد دللنا في كتابنا الخصائص على تقاود الفتح والسكون، ولأنهما يكادان يجريان مجرى واحدًا في عدة أماكن.
منها أن كل واحد منهما قد يُفْزَع ويُسْتَروح إليه من الضمة والكسرة، ألا تراهم قالوا في غُرُفات ونحوها تارة: غُرَفَات بالفتح، وأخرى: غُرْفَات بالسكون، كما قالوا في سِدِرات تارة: سِدَرات بالفتح، وأخرى: سِدْرات بالسكون.
وأجرَوْا أيضًا الياء المفتوحة في اقتضائها الإمالة مجرى الياء الساكنة، فأمالوا نحو: السَّيَال والصِّيَاح، كما أمالوا نحو: شَيْبان وقيس عَيْلان، وقالوا: ضرب يدها، فأمالوا فتحة الدال للياء المفتوحة، وقالوا أيضًا في تكسير جواد: جياد، فأعلُّوا العين كما أعلوها في ثوب وثياب، فأجروا "واو" جواد مجرى "واو" ثوب، وقالوا: مرِض مَرْضًا فهو مارض، كما قالوا: حَرِد حَرْدًا فهو حارد، والفعل كالأصل في مصادر الثلاثية لا سيما في المتعدي منها، والمتعدي أكثر من غير المتعدي؛ فلذلك ساغ فيها فَعْل.
وإنما كان المتعدي أكثر من غيره من قِبَل أن الفعل قد يكون حديثًا عن المفعول به، نحو: ضُرب زيدٌ، كما يكون حديثًا عن الفاعل، نحو: قام زيد. فكما لَا بُدَّ للفعل من الفاعل، فكذلك كثر المتعدي؛ لأن في ذلك تسبُّبًا إلى أن يكون الفعل حديثًا عن المفعول). [المحتسب: 1/54]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون}
[حجة القراءات: 87]
قرأ حمزة فزادهم الله بالإمالة وكذلك جاء وشاء وخاب وحاق وخاف وطاب وضاق وزاغ ودخل ابن عامر معه في جاء وشاء و{فزادهم الله} وحجتهما في ذلك أن فاء الفعل منها مكسورة إذا ردها المتكلّم إلى نفسه نحو زدت وجئت وطبت ولهذا قرأ حمزة {فلمّا زاغوا} بالإمالة أزاع الله بالفتح لأن فاء الفعل مفتوحة تقول أزغت وكذلك فأجاءها المخاض بغير إمالة لأنّك تقول أجأت وقرأ الباقون جميع ذلك بغير إمالة على أصل الكلمة وحجتهم في ذلك أن أصل كل فعل إذا كان ثلاثيا أن يكون أوله مفتوحًا
قرأ عاصم وحمزة والكسائيّ {بما كانوا يكذبون} بالتّخفيف وقرأ الباقون بالتّشديد من كذب يكذب تكذيبًا أي إنّهم يكذبون النّبي صلى الله عليه وسلم والقرآن وحجتهم ما روي عن ابن عبّاس قال إنّما عوتبوا على التّكذيب لا على الكذب وفي التّنزيل ما يدل
[حجة القراءات: 88]
على التثقيل {ولقد كذبت رسل من قبلك}
وحجّة أخرى أن وصفهم بالتكذيب أبلغ في الذّم من وصفهم بالكذب لأن كل مكذب كاذب وليس كل كاذب مكذبا
وحجّة التّخفيف أن ذلك أشبه ما قبل الكلمة وما بعدها فالّذي قبلها ممّا يدل على الكذب {ومن النّاس من يقول آمنا باللّه وباليوم الآخر} وقال الله {ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون} وما بعدها قوله {وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم} فقوله {وإذا خلوا إلى شياطينهم} دلالة على كذبهم فيما ادعوه من إيمانهم وإذا كان أشبه بما قبله وما بعده فهو أولى). [حجة القراءات: 89]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (4- قوله: {بما كانوا يكذبون} قرأه الكوفيون بفتح الياء مخففًا، وقرأه الباقون بضم الياء مشددًا.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/227]
5- وعلة من خفف أنه حمله على ما قبله؛ لأنه قال تعالى: {وما هم بمؤمنين} «8» فأخبرهم أنهم كاذبون في قوله: آمنا بالله وباليوم الآخر فقال: وما هم بمؤمنين، أي: ما هم بصادقين في قولهم، ثم قال: {ولهم عذابٌ أليم بما كانوا يكذبون} أي بكذبهم في قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وأيضًا فإن التخفيف محمول على ما بعده؛ لأنه قال تعالى ذكره بعد ذلك: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنما نحن مستهزئون} «14» فقولهم لشياطينهم إنا معكم، دليل على كذبهم في قولهم للمؤمنين: آمنا، فحسنت القراءة بالتخفيف، ليكون الكلام على نظام واحد، مطابق لما قبله ولما بعده، وأيضًا فلابد أن يراد بالآية المنافقون أو الكافرون، أو هما جميعًا، فإن أراد المنافقين فقد قال فيهم: {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} «المنافقون 1» وإن أراد المشركين فقد قال فيهم: {وإنهم لكاذبون. ما اتخذ الله من ولد} «المؤمنون 90، 91» وإن أرادهما جميعًا فقد أخبرنا عنهم في هذين الموضعين بالكذب، فالكذب أولى بالآية، وبالتخفيف قرأ الحسن وأبو عبد الرحمن، وقتادة، وطلحة، وابن أبي ليلى، والأعمش، وعيسى ابن عمر، وهو اختيار أبي عبيد وأبي طاهر وغيرهما.
6- وعلة من شدده أنه حمله أيضًا على ما قبله، وذلك أن الله جل ذكره قال عنهم: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضًا}، والمرض الشك، ومن شك في شيء فلم يتقينه، ولا أقر بصحته، ومن لا يقر بالشيء، ولا آمن بصحته، فقد كذب به وجحده، فهم مكذبون لا كاذبون، وأيضًا فإن التكذيب أعم من الكذب، وذلك أن كل من كذب صادقًا فقد كذب في فعله، وليس كل من كذب
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/228]
مكذبًا لغيره، فحمل اللفظ، على ما يعم المعنيين، أولى من حمله على ما يخص أحد المعنيين، وقد قال أبو عمرو: إنما عوقبوا على التكذيب للنبي وما جاءوا به، لم يعاقبوا على الكذب، وروي نحوه عن ابن عباس، وبالتشديد قرأ الأعرج وأبو جعفر يزيد وشيبة ومجاهد وأبو رجاء وشبل، وهو اختيار أبي حاتم، وقال أبو حاتم: قراءة العامة عندنا بالتشديد، قال: والتثقيل أحب إلي، مع ما أنها قراءة أهل المدينة ومكة، قال أبو محمد: والقراءتان متداخلتان ترجع إلى معنى واحد، لأن من كذب رسالة الرسل وحجة النبوة فهو كاذب على الله، ومن كذب على الله وجحد تنزيله فهو مكذب بما أنزل الله، قال أبو محمد: والتشديد أقوى في نفسي لأنه يتضمن معنى التخفيف، والتخفيف لا يتضمن معنى التشديد ولأنها قراءة أهل المدينة ومكة). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/229]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (6- {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} [آية/ 10]:-
بإمالة الزاي، قرأها حمزة، وكذلك: جاء، وشاء، وطاب، وحاق، وخاف، وخاب، وضاقت.
لأنه أراد أن يدل بالإمالة على أن عين الكلمة ياءٌ، كما ألزموا في مُضارع فعل من هذا الباب يفعل بالكسر، ليدلّوا به على أن العين ياءٌ، ويقوي الإمالة في زاد ونحوه أنه اجتمع هاهنا شيآن كلاهما يجلب الإمالة، أحدهما: كسرة أول فعلت نحو: زدت وطبت، وعلى هذا إمالة خاف، والثاني: كون العين ياء، وكل واحدٍمن هذين السببين جالبٌ للإمالة على الانفراد، فإذا اجتمعا كان أولى بذلك.
[الموضح: 245]
ونافع يشم الإمالة في ذلك كلّه، إعلامًا بحُسن الإمالة فيه، وكون الفتح أصلًا.
وابن عامر يميل ثلاثة أحرف منها: جاء وشاء وزاد، ويفح الباقي؛ لأنه يريد الأخذ باللغتين من الإمالة والفتح، إذ الإمالة جائزة، والفتح هو الأصل، والتمسك بكل واحدٍ منهما حسن، ثم إنه يتبع في ذلك الأثر؛ إذ القراءة سنة.
وابن كثير وأبو عمرو وعاصم والكسائي ويعقوب يفتحون جميع ذلك، ولا يميلون واحدًا منه؛ لأن الفتح هو الأصل، والإمالة داخلة عليه، وهي حكمٌ جائزٌ، وليس بحكم واجبٍ، وكثيرٌ من العرب لا يميلون شيئًا). [الموضح: 246]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (7- {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [آية/ 10]:-
بفتح الياء وتخفيف الذال، قرأها عاصمٌ وحمزة والكسائي.
و {ما} هاهنا مصدرية، وذاك أن تكون مع الفعل في معنى المصدر، والتقدير: يكذبهم، وهذه القراءة أشبه بما قبلها وهو قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِالله وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}، لأن قولهم هذا كذب، وهي أليق بما بعدها أيضًا وهو {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا}
[الموضح: 246]
فقولهم أيضًا كذبٌ، لقولهم لرؤسائهم {إنّا مَعَكُمْ}، ففي هاتين الآيتين دلالة على قوة قراءة من قرأ {يكذبون} بالتخفيف من الكذب.
وقرأ الباقون (يُكذِّبُونَ) بضم الياء وتشديد الذال، من التكذيب، وهو نسبةُ الغير إلى الكذب؛ لأن أولئك كانوا يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم، إذ تركوا الإيمان به، كما قال تعالى: {الذين كفروا وكذبوا بآياتنا} فكثيرٌ من القرآن يتضمن ذكر التكذيب، ثم إن التكذيب أكثر من الكذب؛ إذ كل من كذب صادقًا فهو كاذب، وليس كل من كذب فهو مكذب، و{ما} أيضًا في هذه القراءة مصدريةٌ، والتقدير بكذيبهم). [الموضح: 247]


روابط مهمة:
- أقوال المفسرين


رد مع اقتباس